١٦؛ أنا؟

446 24 6
                                    


أنا،
لم أفكر في شيءٍ منذ البداية.
بدا المحيطُ أقرب قليلا الي من المعتاد. هذا كل شيء. ففي كلِّ لحظة، ارى موجًا يحلّق على طول الطريق، وحتى أراه مرتميًا على حافة، وحتى يسقط البحر أمامي مجددًا ومجددًا أو أسقط انا، على طول هذا الإمتداد.

كنت أحمل ورقة لأكتب لك، لأني لا أملك شيءً في هذه الدُنيا الآن غير كلماتي اللتي بدأت أجهلُ ما إن كانت تصلُ اليك ام تُرمى لدى بائع متجول، او قمامة مهجورة، او حتى في ايادٍ ليست أياديك. لأنه، قد مرَّت على رسالتك شهور يا وطني.

ولكني هُنا الان، لأنني لم أفكر في شيءٍ منذُ البداية.

أود أن أخبرك وبكلِّ أسف، بأنَّ هذه المرةُ الأخيرة اللتي سأكتب فيها اليك، ليس لأنني توقفت عن التفكير بك، أو تخطيتُك، أو ربما جلتُ ركضاً في حياتي وعرفت في نهاية الطريق من أنا ومن أكون. بلْ لأني امام البحر. ولأنَّ البحر يعني الموت إلي، او اليك. لا تخشَ كلماتي في هذه الرسالة، ولا تُفكر بها مطولًا، اريد أنا في هذه المرَّة فقط أن أعتذر اليك لأني أحرقت جميع الكُتب اللتي تخصُنا، ولأنني أحرقت معها جميع الصور، والرسائل، والأغطية، وجميع قمصانك الرثَّة، ومعها قلبي يا وطني. وعلى الرغم من كوني وعدتُك ألّا آتِ الى البحر بدونك.. الا انني قد أتيت. مرةً قبل هذه المرَّة. وحاولت قطعًا حينها ان اموت، لأني توقفت عن الشعور بأي شعور عدا الألم.

كنت حينها أشعر فقط بالألم، وكنت اسألُ نفسي مرارًا (أين أنا؟) ولا يجيُبني احد. حتى البحر اللذي أخبرتني بأنه يملك الجواب لكل شيء يجول في العقل والخاطر، بقى صامتًا، ورحت انا اغرق، واغرق، واغرق، حتى حين شعرت بأنَّ عظاميَ تُسحق، بقيت انا بلا حراكٍ أغرق الى حيث يغادرني هذا الشُعور. ولم يُغادرني. ولم تُغادرني. ولم أغادرني أنا.
لم أكن عالقا تحت أي شيء، كنت أتحرك، وكان بأمكاني الموت وحتى النجاة. لكنني اردت ان أغرق في تلك اللحظة يا وطني. اردت ان اهرب، ان لا أعود، أن أتخلى لمرّةٍ واحدة، ولم أستطع.
في تلك اللحظة سألت نفسي مجددًا (هل أنا تحت الماء؟) وأعتقدت انني اهذي، او انني قد أكون في حُلمٍ مثل كلِّ الأحلام اللتي استمريتُ فيها بالسقوط الى البحر.. ولكنه لم يُكن. ولم أكُن انا واعيًا لما أفعل. وكنت أغرق حقيقةً أمام الناس ولم ينقذني أحد.

أتعي يا وطني ما حصل؟
أتعي بأنه في تلك المرَّة، بقيت أفكر ما ان لم يكُن حلماً، فلابُد من إنني أموت. ولما أنا خائف؟ فأنا أردتُ الموت منذ اللحظة الأولى اللتي نعتّني بها بالخائن، وناكرُ الوعود. وبالغريب اللذي لم يعُد وطنًا، ولا أُهلًا، ولا حتى قريبًا قط. أردت أن أموت.. رغم ان الألم كان رهيبًا، وكنت أستطيع ان اشعر بي ارتطم بالبحر دون ان اكون ضدَ اي شيءٍ يُمسكُ بي. ولازلت اذكر جيدا ما شعرت به، وكيف تكرر في عقلي (كيف يمكن أن أموت؟) وانا اتذكر جميع اللحظات اللتي غدوت فيها سعيدا معك. وتلك اللتي تصوّرت فيها وجودك. والأخرى اللتي توهمّت يديك أمامي، وبين يدي. أحسست دون وعي بأنني لا أريد أن أموت في ذلك اليوم، ولابُد لي أن أحيا، ولأن لا أستسلم لكل هذه الفوضى المجهولة، ولماذا برأيك يا وطني؟

لأن روعة اللحاق بك أوقفتني. ولكي لا أهجرك هُنا وحدك، بلا وجودي أو رسائلي، أو حناني اللذي بقى يبحث عنك. خِلت ان محاولتان أُخرتان، أو رُبما ثلاث، ستُعيدك الي.. لكنك أصبحت بعيدا، وبدأت أنا أنسى من تكون، ومن أكون أنا.

لذلك يا وطني، لأجلك وحدك عشتُ حينئذ.
لكني لست متأكدًا من كوني سأعيش هذه المرة.
لم أُصلح نفسي، ولم أتغير، بقيت انا مشغولاً فيك كل تلك المدة، طوال أشهرٍ وأعوام، حتى بدأت أشعر مجددا بالألم. أنا أتألم كثيرًا يا وطني، على قدر ما أُريدكَ أن تعود ولكنك لا تأتي. ولا تراني، ولا تبحث عنّي. حتى لو كنت أنانيا، حتى لو أصبحت غريبا، لما لا تأتي اليّ هذه المرة؟

أردت ان اعتذر هذه المرّة ايضا لأنك أخبرتني بأن أكّف عمّا أفعل، ولأن أتوقف عن الكتابة واللحاق بك، ولأنك أخبرتني أيضا بأنك أستئصلت جميع الأشياء اللتي تخصني منك.. وبقيت أنا أفعلُ ما أفعل. ولكن ماذا عساي أن أفعل يا وطني؟ فأنا حقًا ليس بإمكاني أن أتوقف. قد حاولت مرارا وتكراراً الا ان كلَّ لقاء، وكل أنتظار، يعيدني اليك. فماذا عساي أن أفعل؟

(لو لم أكن جونقكوك؟)
هل عليَّ أن أعتذر عن كوني جونقكوك أيضًا يا وطني؟ وكيف تريدُ مني أن أحيا من دونك؟ فأنا أكاد أن أجهل معنى وجودي هُنا من دونك. وكيف لي ان أُكمل كل هذا الوجود. وكيف لي أن أحيا. استمريت في كتابة الرسائل اليك وأنهلت بما أشعر وبما لا أشعر، ومع ذلك، جميع الأشياء لم تكن ذي فائدة. وما زلت أنا هُنا، أحلمُ بقربي منك على الدوام ويأكُلني الندم. أودُ أن أعتذر لأني لم أكُن كافيًا لما تُريد، ولأنك أردت شخصًا غير جونقكوك، ولم يكن بإمكاني ان أُبدل ما عليه أنا. أردت أن أعتذر عن كل اللحظات اللتي خِلتني بها قد تخليت عنك، وتلك اللتي شعرت بها بأنك وحدك، وليس لديك أحد. وأردت أن أعتذر نيابةً عن أهلِك، ولأنني كذبت، ولأن الوقت لم يتوقف، ولأن الرسائل لازلت أرسلها اليك. أردت أن أعتذر لأني لا أملكُ أي محاولات لإتخاذ أي قرار، سِوى الهروب. قضيتُ سنينًا عدَّة لا يعلمُ بها أحد ما يجري في مخيلتي، وفي حياتي، واقعي ولا حتى مأساتي.

وأردت أن أعتذر لأني لم أكن شجاعًا في ذلك اليوم.

لطالما ظننتُ بأن الأمورَ ستعودُ الى مكانها. لكنها كلا، كانت تسقطُ فحسب. وتسقُطني معها في خرابٍ بعيد المدى. ولا محاولاتٍ تنفعْ، ولا إطراءات، ولا حتى ظنونٌ وإفتعالات. إنها مرحلة تشبهُ الصفْر.. لم تكُن يومًا بداية، ولم تكُن يومًا نهاية.

أخيرا يا وطني، أنا هُنا الآن، ورُبما لستُ غدًا.
لذا إن كنت تقرأ رسائلي أرجوك، لا تُبدي أي أنفعال. ولا تبحث عني بعد هذه الرسالة، ولا تُمسك قلماً، وقبِّل بدلًا عني أصابعك. وسامحني إن كُنت عاجزًا عن أن أصف اليك ما أشعر به.

أنا أُحبُكَ يا وطني.
كنت بالغَ الرقّة وفائق اللُطف دائمًا.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Dec 08, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

دُجنة أديبWhere stories live. Discover now