الفصل الثلاثون..فرصة ثانية

4.8K 146 122
                                    

شعر ياغيز بأن قلبه يتمزق و ينسحق بين أضلعه بعد أن سمع كلام باريش و تأكد من براءة هزان..لقد ظلمها و أهانها و خسرها الى الأبد..لكنه ليس مستعدا للعيش دونها..لا حياة له ان لم تكن هي فيها معه..لا يستطيع أن يتخيل يوما يمر عليه دون أن يراها أو يسمع صوتها..ليس هذا بالأمر الذي يستطيع تحمله..لذلك يجب أن يفعل كل ما يلزم لكي يستعيدها من جديد..يجب أن ينسيها السيء الذي فعله معها و أن يستفز حبها الذي هو متأكد بأنه مازال موجودا في أعماق قلبها..نهض و صعد يجري كالمجنون نحو غرفتها..فتح الباب دون استئذان و دخل فوجدها تجمع ثيابها و تضعها في حقيبة..اقترب منها و أمسك يدها و قال بنبرة توسل واضحة" هزان..أرجوك..أتوسل اليك..لا تفعلي هذا..لا تذهبي و تتركيني..لا أستطيع أن أعيش من دونك" انتشلت هزان يدها من يده و صاحت به" لا تلمسني..لا تقترب مني..لا أريد أن أراك أو أن أسمع صوتك..لم أعد قادرة على العيش معك..يجب أن أذهب من هنا..دعني اذهب..اسمح لي بأن أعيش حياة طبيعية بعيدا عنك و عن حياتك المظلمة و المقرفة..أريد أن أتنفس..أريد أن أنام مرتاحة البال..أريد أن أبتعد عن كل هذا..أريد أن أعود الى حياتي الطبيعية و العادية..أريد أن أعمل و أن أعود الى شقتي الصغيرة و أحظى بنوم هادئ و بال مرتاح..لقد تعبت من كل هذا..من كل ما يحيط بك..تعبت منك أنت أيضا..لأنك لم تستطع أن تثق بي يوما..لم تستطع أن تترك شكوك و هواجسك جانبا و أن تمنحني الحياة الحلوة التي حلمت بها معك..أنا التي تخليت عن كل شيء لأجلك..و لأجل حب ظننت بأنه سيكون كافيا لكلينا..لكنه لم يكن كذلك أبدا..لقد وقعت في قبضتك مرتين..و زججت بي في سجنك مرتين..فأطلق سراحي هذه المرة..اسمح لي بالذهاب..و سيكون هذا آخر أمر أطلبه منك..لو سمحت" تقدم منها ياغيز فتراجعت الى الوراء..أغمض عيونه بشدة و همس بصوت مبحوح" أرجوك..لا تخافي مني..أنا لست وحشا..أنا لم أقصد أن أؤذيك..كانت لحظة غضب عاصفة لم أنجح في تلافيها..و حصل ما حصل..و أنا آسف من أعماق قلبي لذلك..لكن أرجوك هزان..اسمحي لي بأن أعوضك عن ذلك الأذى الذي تسببت به لك..امنحيني فرصة ثانية أصلح بها أخطائي و أبرهن لك عن هذا الحب الكبير الذي أكنه لك..أرجوك..أتوسل اليك..لا أريد لتلك الليلة المشؤومة أن تكون آخر ذكرى تجمعنا معا..لا أريد لها أن تكون نهاية علاقتنا معا..و نهاية حبنا..أنا أحبك أكثر من كل شيء و أكثر من كل شخص في هذه الحياة..أحبك أكثر من نفسي حتى..عاقبيني بالطريقة التي تناسبك..مالثمن الذي يجب أن أدفعه لكي أعوض عن خطئي؟ هل تريدين حياتي؟ أقسم لك بأنني مستعد أن أنهيها تحت قدميك الآن..قولي لي ماذا تريدين و أنا سأفعله دون أي تردد..المهم ألا تتركيني" هزت هزان رأسها و قالت" لا أريد منك شيئا..و لا أريدك أن تنهي حياتك بسببي..أريد فقط أن أنجو منك و من عُقدك و من جنونك..أريد أن اتخلص من هذه الحياة التي لم تعد تناسبني و لم أعد قادرة على تحملها..أريد أن أذهب من هنا..هذا هو الطلب الوحيد الذي أتمنى أن تحققه لي" اقترب منها ياغيز و تمتم" هزان..لماذا لا تفهمين؟ لا أستطيع حمايتك منهم اذا انفصلت عني و خرجت من القصر..انهم يتربصون بك و يريدون قتلك..ينتظرون خطأ واحدا منك لكي ينفذوا فيك حكمهم..اذا ذهبتي الآن فستثبتين لهم بأنك ارتكبت خطأ ما و بأنك خرجتي من حياتي و من دائرة حمايتي..أرجوك..لا أريدك سوى أن تفكري بنفسك أنت..خافي على نفسك و على حياتك و ابقي هنا..و أعدك بأنني لن أقترب منك أبدا..لا غاية لي سوى أن أحميك منهم" ابتسمت هزان بسخرية و سألت" و أنت؟ من سيحميني منك؟ من سيضمن لي بأنني اذا بقيت هنا انك لن تفقد عقلك مرة أخرى و لن تهينني و تخطئ في حقي مرة أخرى؟ أنا أخاف منك أنت أكثر منهم هم..هم سيأخذون حياتي بطلقة رصاص أو بحادث سيارة..أما أنت فستأخذ جسدي كلما حلى لك ذلك و ستعتدي علي كلما فقدت صوابك و جننت..لا يمكنني أن أتحمل ذلك..افهمني ياغيز" طأطأ ياغيز رأسه و همس بنبرة حزينة" ألهذه الدرجة صرت تخافين مني؟ هل صرت ترينني الآن رجلا بلا أخلاق لا تأمنين على نفسك ان بقيت بجانبه؟ لا ألومك..معك حق..لكنني أعدك بأن ذلك لن يتكرر أبدا..المهم ألا تغادري القصر..لن اجازف بخسارتك هزان..لن أكون قادرا على تحمل دفع هذا الثمن الباهظ..أعتذر لك من جديد عما فعلته بك..و لا أدري ان كان ما يزال لي في قلبك بعض حب أطمع أن يقنعونك بمسامحتي يوما ما..لكن تأكدي بأنني لن أدخر جهدا لكي أجعلك تسامحينني و تعطينني فرصة أخرى" نظرت اليه هزان لوهلة ثم واصلت وضع ثيابها في الحقيبة..مد هو يده و راح يخرج الملابس من الحقيبة و يعيدها الى الخزانة..صار الأمر عبارة عن لعبة عناد يلعبانها معا..هي تضع الملابس في الحقيبة و هو يخرجها..امسكته هزان من يده و قالت" ياغيز..توقف لو سمحت..يجب أن أذهب..أنا.." قطع كلامها صوت طرقات على الباب..قالت" تفضل" فأطل يمان برأسه و قال" سيدي..عذرا على المقاطعة..السيد جمال و ابنه هنا يريدان رؤيتك" تجهم وجه ياغيز و نظر الى هزان و همس" هزان..أرجوك..لا تذهبي الى أي مكان..عيونهم عليك..و بقاءك هنا يعني أمانك..اسمحي لي بأن أحميك..منهم..و مني أيضا..لا تذهبي..ان كان هناك بعض حب باقي لي في قلبك..فلا تذهبي" ثم خرج و تبع يمان أما هي فارتمت على السرير و قد ضاقت بها السبل و لم تعد تدري ماذا تفعل..
في غرفة الاستقبال..كان جمال و ابنه مارت جالسين و يتهامسان عندما دخل ياغيز مرحبا بصوت واثق" مرحبا بالكبار..أهلا و سهلا بكما" وقف الرجلان و تكلم جمال رادا عليه" أهلا بك أيها العراب..كيف حالك؟" صافحهما ياغيز ثم جلس قبالتهما و قال" أنا بخير سيادة الوزير..و أنتم؟" ابتسم جمال و أجاب" نحن بخير..أردت أن أهنئك على الخطوة الجريئة التي اتخذتها و وضعت الضابط المزعج باريش في السجن..لقد أزحت حملا ثقيلا من على كتفي..انها حركة تحسب لك" زم ياغيز شفتيه و قال" لا داعي لشكري..هذا ما كان يجب أن يحدث منذ زمن..لم ينفك باريش يزعجني و يعرقل عملي و عملنا معا..فكان التخلص منه أمرا مستعجلا و لا يحتمل التأخير" نظر اليه مارت و قال بنبرة شك واضحة" لكن التوقيت يدعو الى الاستغراب قليلا أليس كذلك؟ لماذا الآن بالذات؟ مالذي جعل أمر ايقاف باريش و التخلص منه أمرا مستعجلا فجأة؟ هل قام بمؤامرة جديدة لا علم لنا بها؟" رمقه ياغيز بنظرة باردة و رد بهدوءه المعهود" باريش يمثل ازعاجا متواصلا لنا و قد وردني تقرير عن خطة يحضرها للإيقاع بي و توريطي فسبقته و تغديت به قبل أن يتناولني هو على العشاء..الأمر بسيط جدا..و المهم أننا تخلصنا من عدو خطير..أليس كذلك سيادة الوزير؟" اومئ جمال برأسه و قال" نعم..معك حق..اعذر ابني..انه فقط حريص على معرفة التفاصيل للإطمئنان لا أكثر" ثم صمت قليلا قبل أن يسأل" أين السيدة ايجمان؟ هل هي بخير؟" ابتلع ياغيز ريقه بصعوبة قبل أن يجيب" نعم..انها بخير..انها فقط ترتاح قليلا في غرفتها" قال جمال بإصرار غريب" هلا استدعيتها؟ أريد أن أراها" رفع ياغيز حاجبه استغرابا و سأل بقلق" هل لي أن أعرف السبب؟" رد مارت بحدة" هو سؤال نريد أن نطرحه عليها و نود أن نسمع اجابته منها..لو سمحت" وقف ياغيز و استأذنهما ثم صعد الى الطابق العلوي و طرق باب غرفة هزان و ما ان سمحت له بالدخول حتى قال" لو سمحت هزان تعالي معي..انهم يريدون رؤيتك" سألت" و لماذا؟" هز كتفيه و رد" لا أعلم..لكن أرجوك..حاولي ألا تظهري لهم بأننا على خلاف معا..هذا لأجلك أنت فقط..و ليس من أجلي" حاولت هزان أن تعترض لكنه أقنعها فعدلت من هيأتها و رافقته الى الأسفل..دخلا معا و هو يمسك يدها و يقول" هاهي زوجتي سيد جمال..هلا أخبرتني ماذا تريدون منها؟" صافحها جمال اما مارت فرمقها بنظرة غريبة قبل أن يسألها" سيدة هزان..هلا اخبرتنا ماذا كنت تفعلين اليوم في المخفر؟ هل كنت تتفقين مع الضابط على تهريبه من السجن؟ أو ربما كنت تخططين معه لانهاء ما بدأه؟" رفع ياغيز اصبعه في وجه مارت في حركة تهديد واضحة و تكلم من بين أسنانه بعصبية" اسمع سيد مارت..لا أسمح لك بأن تتكلم مع زوجتي بهذه الطريقة أبدا..اياك أن تجرؤ على اتهامها مرة أخرى..زوجتي قطعت علاقتها بالماضي بصفة نهائية و لا يحق لأي شخص أن يشكك فيها" ابتسم مارت بسخرية و قال" ان كانت قد قطعت علاقتها بالماضي فلماذا ذهبت لزيارة الضابط في السجن؟ هذا ما أريد أن أفهمه فقط" همت هزان بالكلام لكن ياغيز سبقها قائلا" أنا من طلبت منها ذلك..كنت أريد أن أتأكد من بعض الأمور و أن أسمع اعتراف باريش بتخطيطه لمؤامرة جديدة في حقنا..هذا كل ما في الأمر" ربت جمال على كتفه و قال" ياغيز..بني..لا تغضب هكذا..أنت تعلم جيدا بأننا لا نثق في زوجتك و بأننا نتابع كل تحركاتها..لذلك أردنا أن نفهم سبب زيارتها لذلك الضابط..لا داعي لتوترك هذا..أخبرتك سابقا بأننا نثق فيك انت و بما أنها مازالت هنا الى جانبك فهذا يعني بأنها تحت حمايتك و لا يمكن لأي أحد بأن يتعرض لها..اطمئن" حدج ياغيز مارت بنظرة حادة و قال" قل هذا لابنك..لأنني لن أكون بهذا الهدوء و الاحترام ان قام بإتهام زوجتي بهذه الطريقة الوقحة مرة أخرى" سأل مارت باستفزاز" و ماذا ستفعل؟" و هم بالاقتراب من ياغيز لكن والده أوقفه و هو يقول" مارت..اخرج و انتظرني في السيارة..هيا" اندفع مارت خارجا و قد بدا الغضب على وجهه..اما جمال فأضاف" سيدة ايجمان..هلا سمحت لنا؟ هناك أمر يجب أن أتباحثه  مع زوجك على انفراد" هزت هزان برأسها و انسحبت الى غرفتها..في طريقها الى الطابق العلوي اعترضها مارت و جذبها من يدها بشيء من العنف الى زاوية قرب الدرج و قال" اسمعي هزان..اما أن يكون ياغيز عاشقا مغفلا و انت تتلاعبين به كما تريدين..أو أن يكون ذكيا و منتبها و يعلم بكل شيء لكنه يخير أن يحميك..أما أنا فأعلم بأنك تريدين التخلص منه و ربما تبحثين عن طريقة جديدة للايقاع به..فلماذا لا تضعين يدك في يدي و نتخلص منه معا..ما رأيك؟" انتشلت هزان يدها من يده و تمتمت بصوت خافت" ماذا تقول يا هذا؟ أنا لم أخن ياغيز أبدا..و لا أريد أن أتخلص منه..أنا أحبه..و لقد ذهبت للقاء باريش لكي أحصل له على التسجيل الذي يريده..ياغيز زوجي..و لن أؤذيه بأية طريقة كانت..هل فهمت هذا؟" ابتسم مارت و قال" خسارة..كنت أخطط لمستقبل يجمعنا معا..فلا أخفيك بأنك أعجبتني منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها..لكن يبدو بأنك مصرة على مرافقة الورقة الخاسرة التي تدعى ياغيز..لا أخفيك سرا بأن موعد سقوطه صار قريبا جدا..لقد سئمت من ثقة والدي به و من اعتماده عليه في كل أمر يقوم به..آن له أن ينزل عن عرشه و يدعه لغيره..لك الخيار عندئذ..اما أن ترافقي الملك الجديد..أو أن تقعي صحبة الملك المخلوع" رمقته هزان بنظرة احتقار واضحة و قالت" اذهب الى الجحيم يا هذا" ضحك مارت بصوت عالي و راقبها و هي تبتعد عنه و قال" لست انا من سأذهب الى الجحيم..انه زوجك العزيز أيتها القطة الشرسة" ثم اتجه نحو سيارة والده ينتظره هناك..
في الداخل..قال جمال" ياغيز..البضاعة الجديدة ستصل بعد أسبوع..أريدك أن تهتم أنت بتمريرها و تخزينها ثم توزيعها بمعرفتك..أنا لا أثق سوى بك أنت..و لطالما كنت على قدر المسؤولية..لذلك أريدك أن تشرف على كل شيء بنفسك..و أبقني على اطلاع بكل المستجدات" رد ياغيز" حسنا سيد جمال..سأستعمل نفس الطريقة..شحنة سيارات على متن باخرة نخفي فيها البضاعة ثم نستخرجها بمعرفتنا لاحقا..كن مطمئنا..سيكون كل شيء على ما يرام..لكن.." صمت ياغيز فسأل جمال" لكن ماذا ياغيز؟ قل" اجاب" هزان..لا أريد لأحد أن يقترب منها أو أن يؤذيها بأي شكل من الأشكال..لأنني عندها سأحرق الأخضر و اليابس و لن أرحم أحدا أبدا..هل هذا واضح؟" تجهم وجه جمال و رد" ياغيز..اهدأ..لا داعي لجنونك هذا..أنا أخبرتك بأنها طالما كانت تحت حمايتك فلن يتعرض لها أحد..لكن هذا لا ينفي بأنها تحت أعيننا و مراقبتنا على الدوام..و لنا الحق في ذلك" هز ياغيز برأسه و رافق جمال الى الخارج و هو يقول" حسنا..سأبقيكم على اطلاع بكل المستجدات..الى اللقاء سيادة الوزير" و صافحه مودعا ثم راقب انطلاقه بالسيارة صحبة ولده قبل أن يعود الى الداخل و يتجه الى مكتبه..هناك..كانت هزان بانتظاره..سألها بقلق و هو ينظر الى وجهها الشاحب" هزان..خيرا؟ لماذا تبدين شاحبة هكذا؟" تمتمت بصوت خافت" ياغيز..أنا خائفة" رد ياغيز بصوت حنون" لا تخافي حبيبتي..أنت بأمان هنا..و لن يستطيع أي أحد أن يؤذيك..لقد أخبرتك سابقا بأنني الوحيد القادر على حمايتك منهم..لذلك لا تقلقي..ما دمت معي فأنت بأمان" طأطأت هزان رأسها و همست" لست خائفة على نفسي..أنا خائفة عليك أنت" ابتسم ياغيز و شعر بالدفء اللذيذ يغمر قلبه و هو يسمع كلماتها ثم رد" خائفة علي أنا؟ مم؟" لم ترفع عيونها و لم تنظر اليه و هي تجيب" عندما خرجت اعترضني مارت و أخبرني بأنه يخطط لازاحتك عن طريقه و بأن نهايتك صارت وشيكة..انه يكرهك و يغار منك و من علاقتك الجيدة بوالده..يريد أن يأخذ مكانك و أن يحظى بثقة ابيه..كن حذرا منه ياغيز..لقد لمحت في عيونه شرا و كرها" جمع ياغيز قبضته بغضب و تمتم" حقير بائس..انه لا يعلم مع من يريد أن يعبث..ماذا قال لك أيضا؟ هل هددك أنت؟ هل تواقح معك؟" هزت هزان برأسها و اجابت" لا..لم يقل شيئا لي..يبدو أن همه معك أنت..احذر منه ياغيز..لست مطمئنة له أبدا" اقترب منها ياغيز و أمسك يدها و هو يهمس" لا تقلقي حبيبتي..سأكون بخير..سنكون بخير..لن يستطيعوا أن يؤذوننا ما دمنا معا..نحن أقوى و نحن معا..هل فهمت الآن لماذا كنت أرفض فكرة ذهابك من القصر؟" ابعدت هزان يده عنها و ردت" نعم..فهمت..لكن هذا لا يعني بأن بقائي هنا س.." قاطعها ياغيز بأن وضع اصبعه على شفتيها و قال" أعلم..لا اتوقع منك أن تسامحيني أو أن تنسي ما حصل بهذه السهولة..أقسم لك هزان بأن غايتي هي حمايتك من تلك الذئاب المتربصة بنا في الخارج..لست خائفا على نفسي..أنا خائف عليك أنت..لأنك أنت حبيبتي..و حياتي..و كل ما أملك في هذه الدنيا..خوفك هذا علي و تحذيرك لي من ذلك التافه يعني لي الكثير..اطمئني هزان..و كوني واثقة بأنني لن ألمسك أبدا و لن أقترب منك و لن أزعجك بأية طريقة كانت" سحب اصبعه عن شفتيها و تراجع الى الخلف و هو يضيف" اذهبي الى غرفتك و ارتاحي..و اخبريني ان احتجت أي شيء..و لن أتأخر في تلبية أي طلب تطلبينه" رمقته هزان بنظرة دافئة قبل أن تخرج مسرعة الى غرفتها..كانت تستغرب من نفسها..كيف لها أن تخاف عليه و أن تهتم لأمره بعد الأذى الذي عرضها له..كيف لها أن تحتفظ بكل هذا الحب له في قلبها في حين كان يجب عليها أن تكرهه و أن تحتقره بعد ما فعله بها..كيف لها أن تشعر بالأمان بوجوده معها و حواليها في حين يجب أن تخشى على نفسها منه بعد ليلة البارحة..كانت تعيش مشاعرا متضاربة تقسمها الى نصفين ..بين حبها له و غضبها منه..بين خوفها عليه و خوفها منه..بين شوقها اليه و نفورها منه..انزوت هي في غرفتها بقية النهار اما هو فظل في المكتب يبحث أمور العمل صحبة يمان..
في الكازينو..كانت قاعة اللعب تعج بالناس و بالشخصيات المعروفة و الثرية..و كانت بيلين تتجول بين الطاولات كعادتها..كانت ترتدي فستانا ورديا طويلا ينسدل على جسدها الممشوق مظهرا تفاصيله و كانت تطلق شعرها الذهبي على كتفيها..لمحت فجأة مارت و هو يدخل من البوابة فاندفعت مسرعة تستقبله و تقول" أهلا بالسيد الكبير..لقد شرفتم هذا المكان المتواضع بقدومكم" ابتسم مارت و رد" شكرا لك سيدة بيلين..في الواقع..لقد سمعت كثيرا عنك و عن الكازينو..و كنت متشوقا لرؤيتكما..و ها قد أتيت..و أتمنى بألا أندم على ذلك..و أرجو بأن يكون هذا المكان يجيد معاملة الكبار بما يليق بهم" اقتربت منه بيلين و همست" يكفي بأن تأمرنا..و سترى" مرر مارت يده على ظهرها العاري و رد" ما رأيك أن نبدأ بجلسة رائقة بيني و بينك..لوحدنا؟" أومأت بيلين برأسها و انحنت أمامه و هي تقول" أمركم سيدي..تفضل بمرافقتي الى الخلوة" تبعها مارت الى غرفة صغيرة تقع في الأعلى و تشرف منها على كل الطاولات في الأسفل..شبابيكها مغطاة بستائر أرجوانية مطرزة و بها أرائك فاخرة من نفس اللون..أشارت بيلين الى الخادم فاقترب منها فطلبت منه أن يجهز مشروبا و بعض المكسرات و الموالح ثم جلست و جلس مارت بجانبها..وضع الخادم ما طلبته سيدته على الطاولة و انصرف بعد أن أغلق الباب..مدت بيلين كأسا مملوءا بالنبيذ لمارت فأخذه و ارتشف منه رشفة قبل أن يقول" سيدة بيلين..علمت بأنك كنت عشيقة ياغيز ايجمان في وقت مضى و بأنه أذاك بطريقة سيئة كما اعتاد أن يفعل مع كل المقربين منه..هل هذا صحيح؟" احتست بيلين كأسها دفعة واحدة و ردت" نعم..هذا صحيح" اقترب منها مارت كثيرا حتى كادت وجوههما تتلامس و سأل مباشرة" ألا تريدين أن تنتقمي منه و تريه مذلولا أمامك؟" ردت" طبعا أريد..هذا حلمي" ابتسم مارت و لامس وجهها بأصابعه و هو يقول" يبدو بأننا سنتفق كثيرا أنا و أنت..تعجبني المرأة التي تعرف جيدا ماذا تريد" رمقته بيلين بنظرة ذات معنى و همست" و أنا أيضا يعجبني الرجل القوي مثلك..لكن هل أن أعرف فيم ازعجك ياغيز؟ لأن ما أعرفه بأن مصالحكما مشتركة" ضحك مارت و قال" نعم..مصالحنا مشتركة..لكن بقاءه في الأعلى يزعجني..وجوده يضايقني..و أرغب أن أستفرد بالمكان لنفسي..هل هذا كثير علي؟" هزت بيلين برأسها و أجابت" لا..هذا من حقك أيها الكبير" هم بالكلام لكن دخول جواد المترنح من شدة السكر قطع عليه ذلك..اقترب جواد من بيلين و جذبها من يدها نحوه و هو يقول بصوت غاضب" ماذا تفعلين هنا؟ هيا معي..انت لي وحدي..لا أسمح لك بأن تجالسي رجلا غيري..هيا" انتشلت بيلين يدها منه و صاحت به" اتركني ياهذا..ماذا تريد مني؟ هل يجب علي أن أحبك غصبا؟ انا لا أحبك و لا أريدك..متى ستفهم هذا؟" حاول جواد أن يجذبها من جديد لكن مارت دفعه بقوة بعيدا عنها فأسقطه أرضا و نادى رجاله الذين كانوا يقفون بالباب و أمرهم بالقاءه خارجا..اقترب مارت منها و سأل" هل انت بخير؟" اجابت" نعم..بفضلك..انه رجل مزعج..لا يتوقف عن ازعاجي و محاولة السيطرة علي و على حياتي بالرغم من أنني أخبرته ألف مرة بأنني لا أحبه..شكرا لك سيد مارت" وضع مارت يده على خصرها و اجلسها في حضنه و هو يقول" لا داعي لشكري..لقد أصبحت تحت حمايتي منذ اليوم..و لن يستطيع لا هو و لا غيره أن يقترب منك..المهم أن تكوني مطيعة و تنفذين كل ما آمرك به" ابتسمت بيلين و قربت وجهها من وجهه و همست بنبرة اغراء" أنا تحت أمركم سيدي" فما كان منه الا ان احتوى شفتيها بين شفتيه و راح يقبلها..
في القصر..كانت الساعة تشير الى الثامنة ليلا عندما فتحت هزان النافذة و سمعت صوت عزف رائع على البيانو..كانت تعلم جيدا بأن ياغيز هو من يعزف..لم تستطع مقاومة اغراء النظر اليه و هو متماهي مع آلته الموسيقية المفضلة و تائه في عالم السحر المغري..فنزلت الى الأسفل و اتجهت نحو الغرفة الخلفية و اطلت برأسها من الباب فرأته جالسا خلف البيانو و يرجع رأسه الى الخلف فيما تولت أصابعه مهمة مداعبة المفاتيح البيضاء و السوداء..كانت خصلات شعره مبعثرة و تتساقط على جبينه و عيونه مغمضة و كأنه مأخوذ بسخر الانغام المنبعثة من آلته الموسيقية..كانت ازرار قميصه الأسود العلوية مفتوحة و تشف عن عضلات صدره البارزة و عن عنقه..راقبته هزان بعيون لم تستطع أن تخفي عشقها و اعجابها لهذا الرجل الساحر الجالس هناك..كان جذابا و مغريا كالجحيم..كاللعنة التي لا خلاص منها..و كان بريئا براءة طفل صغير ترتسم على ملامحه تعابير طفولية طاهرة..أين هذا الرجل الجالس امامها الآن من ذاك الآخر الذي اعتدى عليها الليلة الماضية و الذي عاملها معاملة العاهرات..تجهم وجه هزان و لمعت عيونها بالدموع بمجرد أن استعادت ذاكرتها تفاصيل ما حدث..فانسحبت على مهل و عادت الى القصر..في طريقها الى غرفتها..اعترضها يمان و أخبرها بأن العم محمود هنا و يريد رؤيتها..استغربت هزان طلبه لكنها كانت تعلم جيدا بأنه الشخص الوحيد الذي له قيمة عند ياغيز لذلك لم ترفض لقاءه..وجدته واقفا في غرفة الاستقبال فتقدمت نحوه و صافحته قائلة" أهلا بالعم محمود..أهلا بالرجل الطيب" ابتسم الرجل و رد" شكرا لك يا ابنتي..أعلم بأنك تستغربين رغبتي في رؤيتك..لكنني أردت أن أتحدث اليك قليلا لو سمحت" اجابت هزان و هي تشير اليه بالجلوس و تجلس قبالته" طبعا..تفضل" صمت الرجل قليلا ثم قال" هزان..بنيتي..أعلم بأن علاقتك بياغيز تخصكما لوحدكما و لا يحق لأحد بأن يتدخل فيها..لكنني أعتبر نفسي بمثابة الوالد لياغيز..و اريد مصلحتك و مصلحته..ما اريده منك فقط هو أن تسمعيني و تسمحي لي بانهاء كلامي حتى و ان اعتبرت ما سأقوله وقاحة مني..ممكن؟" هزت هزان برأسها بالايجاب فواصل الرجل كلامه" شكرا لك بنيتي..بصراحة لقد رأيت في عيونك ما جرأني على الكلام معك..رأيت في عيونك حبا لياغيز..و صدقا و وفاء..رأيت في عيونك انتماء له و تعلقا به..و لهذا سأخبرك بتفاصيل عن ياغيز أنا متأكد بأنك لا تعلمين عنها شيئا..لقد عانى ياغيز في طفولته كثيرا..كان والده رجلا قاسيا و بلا قلب..و أنا كنت أعمل لديه و أرى كل شيء بعيوني..ما فعله ياغيز منذ طفولته كان مجبرا عليه..بسبب والده..تخيلي انه كان يعذبه و يضربه بالحزام على جسده عندما يرفض أن ينفذ له طلبا ما..كان يبث الرعب في قلبه و يربيه على القسوة و الظلم و القهر..مازلت أذكر ذلك اليوم الذي طلب فيه منه أن يقتل رجلا يدعى أمين..و كان ياغيز يومها يبلغ من العمر تسع سنوات فقط..تخيلي..حاولت أن امنعه لكنه ضربني و آذاني..و ضرب ياغيز كذلك الى أن فعل ما أراده منه" هنا حملقت هزان في وجه محمود و امتلأت عيونها بالدموع السخية و هي لا تكاد تصدق ما تسمعه..هذه الجريمة التي لامته عليها و حاولت الانتقام منه لأجلها حدثت رغما عنه و بتهديد و اجبار من والده المتوحش..صمت محمود قليلا ثم أضاف" كان ياغيز ولدا رقيقا و هادئا و يحب الموسيقى..كان بريئا و طاهرا..لكن والده كان السبب في تحول شخصيته و حياته بهذا الشكل المخيف..صار متورطا في عالم مظلم لا يقوى على الخروج منه..فلم يكن أمامه سوى أن يواصل فعل ما تعود فعله..و لعل ما بقي معه من تلك الأيام السيئة التي عاشها صحبة والده هي حالات هستيرية تصيبه من وقت لآخر..خاصة عندما يغضب بشدة..يفقد صوابه و يعجز عن السيطرة على نفسه فيحطم و يضرب و يقتل حتى..وصف له الطبيب بعض الحبوب المهدئة لكنها تعجز عن اعطاء مفعولها في أغلب الأحيان..اسمعي يا ابنتي..أعلم بأن ياغيز سيء الطباع أحيانا..و لا استغرب أن يكون قد آذاك بشكل او بآخر..لكنني أجزم لك بأنه لم يفعل ذلك متعمدا أو متقصدا..انه يعشقك من كل قلبه..لم يسبق لي أن رأيته ينظر الى امرأة كما ينظر اليك أنت..لم يسبق لي أن رأيته خائفا من خسارة شخصا ما كما رأيته مرعوبا من خسارته لك..انه يحبك جدا و لا يكتمل الا بك..أنت كل حياته و كل ما يملك..و أعلم جيدا بأنك تحبينه و تبادلينه نفس الشعور..لذلك حاولي أن تعذريه ان أخطأ معك أو آذاك بأية طريقة..و لا تتركي يده..فأنت أمله الوحيد نحو الصواب و النور..أنت من ستنتشله من هذا العالم المظلم و السيء..أنت فقط القادرة على استعادة ياغيز الطفل البريء الذي مازال موجودا في أعماقه..ارجوك يا ابنتي..لا تتخلي عنه و لا تتركي يده..هذا كل ما أردت أن أقوله لك..و آسف لأنني تحدثت معك في أمور خاصة لا يحق لي الحديث فيها..لكن حبي لكما و رغبتي في رؤيتكما سعيدين معا هو ما أعطاني الجرأة لفعل ذلك" و وقف و مد يده نحوها مصافحا و هو يقول" شكرا لك يا ابنتي لأنك سمعتني..ابلغي سلامي لياغيز ..و كونا بخير دائما..تصبحين على خير" ردت هزان بصوت مرتعش" تصبح على خير أيها العم الطيب" ..انصرف محمود و بقيت هزان في مكانها تستعيد الكلام الذي سمعته منه..

في قبضة العرّاب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن