الفصل الخامس..الجريمة و العقاب

5.1K 151 37
                                    

في مكتبه الخاص في القصر..جلس ياغيز أمام حاسوبه يراقب حركة الأموال في البورصة..يملك بعض الأسهم هنا و هناك في أشهر الشركات العالمية في مختلف الدول الأوروبية..هكذا يصرف أمواله الطائلة لكي لا يلفت الانتباه اليها..يحرص دائما على البقاء متيقظا و حذرا لكي لا يقع في فخ الأخطاء التي لا تغتفر و التي تؤدي الى نهاية محتومة و مدوية لا محالة..نزع نظاراته الطبية التي كان يرتديها ثم وقف و هو يحمل فنجان الشاي الأخضر بالقرفة في يده..خرج الى الشرفة العالية التي تطل على الحديقة..اتكأ على الحاجز الحجري و رفع عيونه نحو السماء الملبدة بغيوم سوداء تنبئ بنزول المطر هذه الليلة..سمع فجأة صوتا رقيقا يصدح بأعذب الأنغام..التفت يمنة و يسرة عله يرى مصدره لكنه لم يرى أحدا..انحنى بجسده الى الأمام أكثر و نظر الى الأسفل فرأى هزان جالسة على عشب الحديقة الأخضر و تمد ساقيها الحافية أمامها و تغني أغنية حزينة تلامس وتين القلب..عبث الهواء البارد بخصلات شعرها القصير و حركها ذات اليمين و ذات الشمال..لم يزعجها ذلك..بل على العكس..كانت ترفع رأسها الى الأعلى لكي تسمح للنسمات العليلة بمداعبة شعرها..تسمر ياغيز في مكانه يتأمل تلك الفتاة التي قادتها الصدفة الى الالتقاء به و التعرف عليه..فتاة جميلة و مثيرة..بوجهها الطفولي البريء و جسمها الممشوق الرشيق..بعيونها السوداء الواسعة و شفاهها الممتلئة الرائعة..بصوتها العذب الجميل الذي يعجز عن اخفاء رنة الحزن و الشجن التي تميزه و تشد الأذن اليه..هاهي تغني عن الوحدة و عن الليل الحزين الذي يعصف بوجهها و يتعب قلبها..أرهف ياغيز سمعه و كأنه لا يريد أن يسمع سوى هذا الصوت المميز الذي تشدو به هزان..توقفت هي عن الغناء عندما اختنق صوتها بعبراتها التي غلبتها و هزمتها..أخفت وجهها بين كفيها و راحت تبكي بكاءا مكتوما..لمعت عيونه التي كانت تراقبها بلمعة غريبة سارع الى اخفاءها و تحرك عائدا الى الداخل..سمع صوت طرقات على الباب فقال بصوت جهوري" تفضل" أطل جان برأسه و اقترب من سيده و هو يقول"سيدي..لقد حللت موضوع مسعود..لن يكون مصدرا للازعاج بعد هذه الليلة..كن مطمئنا" هز ياغيز برأسه و رد" تمام..احرص على ألا يحصل أي خطأ في الموضوع..الضابط ينتظر مني أية هفوة توقعني في فخه..كن حذرا انت و رجالك..لا أريد أية أخطاء" قال جان" لا تقلق سيدي..سيكون كل شيء على ما يرام" صمت ياغيز قليلا ثم أضاف" سأذهب الى المكان المعتاد الليلة..كن جاهزا لمرافقتي" رفع جان حاجبه استغرابا و سأل" الليلة؟ غريب..لست متعودا على الذهاب الى هناك ما عدا ليلة الأربعاء..مالأمر سيدي؟ هل هناك ما يزعجك أو يضايقك؟" رمقه ياغيز بنظرة حادة و زجره قائلا" و منذ متى أناقش تصرفاتي معك؟ جان..الزم حدك و لا تتدخل فيما لا يعنيك..نفذ أوامري فقط..هل هذا واضح؟" طأطأ جان رأسه خجلا و تمتم" نعم سيدي..أنا آسف" أشاره له سيده بيده أن يخرج و يتركه لوحده..لن يستطيع لا هو و لا غيره أن يفهم ما يمر به و ما يخطر على باله من أفكار و ما يشعر به من مشاعر..لذلك سيذهب الى أكثر مكان يجد فيه الراحة و المتعة..لعله يهدأ قليلا و يرتاح..بقي يذرع غرفة المكتب للحظات جيئة و ذهابا و عيونه معلقة على الشرفة..يحاول اقناع نفسه بعدم الخروج اليها و مراقبة هزان من جديد..لكنه فشل..و وجد نفسه في النهاية يفتح الباب و يخرج و يطل نحو الأسفل حيث كانت هي جالسة..لكنها لم تكن هناك..لقد ذهبت ..سحب سيجارة من علبته و أشعلها على الفور و راح ينفث دخانها بعصبية في الهواء..
في قاعة الجلوس..وجدت هزان مكتبة تعج بشتى أنواع الكتب و الروايات فانتقت رواية للكاتب الروسي دوستيوفسكي بعنوان الجريمة و العقاب و جلست تطالعها..كانت تعشق المطالعة و قراءة الكتب و تقضي أغلب وقت فراغها في القراءة..و عندما تمسك الرواية بين يديها تنسى نفسها و ما حولها و تنصهر بين الصفحات و الكلمات و الأحرف و تعيش صحبة الأبطال كل مشاعرهم و حكاياتهم و مشاكلهم..انهمكت في القراءة بعمق و لم تنتبه الى وقوف ياغيز بالباب يراقبها و هو يعقد يديه على صدره..انتظر أن تتحرك او أن ترفع عيونها لكنها كانت في عالم آخر..تنحنح بخفة لكي يلفت انتباهها الى وجوده فأغلقت هزان الرواية على عجل و انتفضت واقفة..ابتسم ياغيز و اقترب منها و هو يقول" لم أقصد اخافتك..لكنك كنت منهمكة في القراءة الى درجة منعتك من ملاحظة وجودي..اجلسي" عادت هزان للجلوس و جلس هو قبالتها ثم سأل" ماذا تقرئين؟" اجابت"انه..كتاب..وجدته..في..المكتبة..آسفة..أخذته دون اذن..لم.." قاطعها و هو يضحك بطريقة ساحرة" اهدإي..لا مانع لدي ان أخذت كتابا من مكتبتي..خذي ما تريدين متى ما شئت..اريدك فقط أن تجيبيني..ماذا تقرئين؟" كانت المرة الأولى التي تراه فيها يضحك بتلك الطريقة..دون ارادة منها تعلقت عيونها بفمه الرقيق و بأسنانه البيضاء..بوجهه الذي زينت الابتسامة ملامحه و بدا أجمل و أكثر براءة..انتبهت الى نفسها و هي تطيل النظر اليه فهربت بعيونها منه و اجابت" اقرأ كتاب الجريمة و العقاب لدوستيوفسكي" انفجر ياغيز ضاحكا هذه المرة بقوة ثم قال بنبرة ساخرة" يبدو أنك دخلت في صلب الموضوع مباشرة..و تريدين معاقبة هذا المجرم الذي يقف أمامك الآن..معك حق..لكن لتكوني منصفة في عقابك لي على الأقل..فأنا لست بهذا السوء..أليس كذلك؟" لم تجبه هزان و لم ترفع نظرها نحوه فوقف و اقترب منها..وضع يده تحت مرفقها و جذبها نحوه لتقف و هو يسأل من جديد" قولي..اجيبي..لو كنت قاضية ..مالعقاب الذي كنت ستختارينه لي؟" حاولت هزان الهرب من نظراته المتسائلة لكنه وضع يده تحت ذقنها و رفع وجهها نحوه مجبرا اياها على النظر اليه..ثم حرك رأسه بطريقة ملحة تنتظر اجابتها فلم تجد مفرا من اجابته..تمتمت بصوت مرتبك" لا أعلم..أنا لست قاضية و لا يحق لي معاقبة أحد" شدها نحوه أكثر حتى صارت قادرة على استنشاق رائحة عطره الفواح المختلطة برائحة جسده الرجولي المثير و صار هو قادرا على الغرق في عيونها الجميلة و على تأمل شفاهها التي تعد بقبلة تذهب العقل من رأسه..تكلم بعد صمت"هذه ليست اجابة..أنت تهربين فقط..أنا أريد أن أسمع اجابتك دون لف أو دوران..لو كان الأمر متروكا لك فمالعقاب الذي تختارينه لي..أجيبي لو سمحت" قطبت هزان جبينها و عضت شفتها السفلى فلمعت عيونه البلورية بنظرة برية متوحشة تهدد بالانقضاض على ذلك الفم تقبيلا و عضعضة حتى يتحطم..قالت هزان و هي تحاول ألا تظهر تأثرها باقترابه المربك" أظن بأنني كنت سأختار عقوبة تليق بإجرامك..فأنت عرّاب مافيا تهريب الألماس..و لا أعلم ان كنت تتاجر في أمور أخرى كالسلاح أو المخدرات و غيرها..و لا أعلم ان كنت قد قتلت أناسا في حياتك..لذلك لا تتوقع مني أن أكون رحيمة في حكمي عليك..هذه اجابتي التي أردت سماعها..و التي أعلم جيدا بأنها لن تروق لك و لن تعجبك..آسفة..لكن أنت من أصر على ذلك" هز ياغيز برأسه و قال" نعم..معك حق..أنا من أصر على ذلك..لكنني أحتاج أن تجيبيني بطريقة أكثر دقة..مالعقاب الذي ستختارينه لي؟ سجن مؤبد؟ أم اعدام؟ أجيبي..أريد أن تحاكميني أنت" رفعت هزان حاجبها استغرابا و سألت" و لم كل هذا الاصرار؟ أخبرتك بأنني لست قاضية..و لا أعلم شيئا عن جرائمك التي ارتكبتها..و سيكون ظلما لي و لك أن أصدر حكما كهذا" حاولت أن تتخلص من قبضته المحكمة و أن تهرب منه لكنه لف ذراعه حول خصرها و منعها من التحرك و هو يسأل من جديد " ألا تكرهينني؟ ألست أنا من احتجزك هنا و أجبرك على العمل عنده في تجارة الممنوعات؟ ألست أنا سبب كوابيسك و بكاءك؟ افعلي اذا بضمير مرتاح..و اصدري حكمك بحقي..هيا..افعلي" قالت بصوت مرتعش و قد صار جسدها لصق جسده و صارت تشعر بالدماء تغلي في عروقها و اصبحت انفاسها متسارعة و لاهثة" اتركني لو سمحت..دعني أذهب" هز رأسه بالنفي و نظر اليها بإصرار..فردت لكي تتخلص منه" تمام..سأحاكمك..انت تستحق السجن المؤبد..هذا طبعا ان لم تكن متورطا في جرائم قتل..أما ان كنت قاتلا فسيكون الاعدام حكما عادلا بحقك..هل ارتحت الآن؟ دعني لو سمحت" ابتسم ياغيز بخفة و قرب فمه من أذنها و همس بصوت خافت" شكرا لك على صراحتك آنسة هزان..لحسن حظي و حظك بأنك لست قاضية..فتخلصك مني لن يكون بالسهولة التي تتخيلينها" جمدت هزان في مكانها و هي تسمع همسه في أذنها..انتظرت أن يبتعد بسرعة و أن يطلق سراحها لكنه لم يفعل..أنفه سحب رائحة عطرها عميقا الى صدره..شفاهه لامست جلدها بخفة قبل أن يتراجع الى الخلف بمجرد سماع صوت خطوات تقترب من غرفة الجلوس..انها فكرت التي قالت" سيدي..العشاء جاهز..تفضلا الى غرفة الطعام" هز ياغيز برأسه و تحرك خارجا تاركا هزان وراءه جامدة في مكانها بجسد مختلج و قلب جُنّت نبضاته..
على مائدة الطعام..جلست هزان على يمين ياغيز و هي تلعب بالملعقة في صحنها..لم تكن لديها شهية للأكل خاصة و هو يتأملها و يرمقها بنظرات غريبة..سألت فكرت بقلق و هي ترى عزوف هزان عن الأكل" مالأمر يا آنسة؟ ألم يعجبك طعامي؟ هل تريدين شيئا آخرا؟" ابتسمت هزان ابتسامة مجاملة للمرأة و ردت" انه لذيذ..شكرا لك..أنا فقط ..لا شهية لي..سآكل عندما أشعر بالجوع" نظرت فكرت الى ياغيز و قالت" و أنت سيدي..هل تريد حلوى بعد الأكل أم ستشرب القهوة كعادتك؟" مسح ياغيز فمه بالمنديل ثم أجاب و هو ينظر الى هزان" لا هذا و لا ذاك..لدي موعد في الخارج..و لن أعود الليلة ايضا..سأبيت في الخارج" وقف و هو يرى علامات الاستغراب التي ارتسمت على وجه فكرت..مر بجانب كرسي هزان و لامس كتفها بيده و هو يضيف" اعتني بضيفتي جيدا يا فكرت..لا أريدها أن تشتكي من شيء و الا عاقبتكم جميعا..هل هذا واضح؟" ردت فكرت" تمام سيدي..لا تقلق" خرج ياغيز تحت أنظار هزان التي لم تفهم شيئا من كلامه فالتفتت الى فكرت و سألتها" الى أين يذهب؟ " هزت فكرت كتفيها و قالت" موعد خاص..هذا كل ما أستطيع قوله لك..و لا يحق لي أن أتكلم عن حياة سيدي الخاصة..اعذريني" رفعت هزان يديها باستسلام و قالت" تمام..فهمت..لا عليك" ..
بعد حوالي ربع ساعة..ترجل ياغيز من سيارته المرسيدس السوداء و دخل الى مبنى كبير كتب عليه بالأحرف الكبيرة " كازينو السلام" ..اعترضه الخادم و أخذ معطفه و هو يقول" مرحبا بكم سيدي..لحظات و توافيكم السيدة بيلين الى طاولتكم المعتادة" وضع ياغيز بعض المال في جيب الشاب و واصل طريقه الى الداخل مرفوقا بجان..هنا..عالم آخر..عالم الأموال و القمار و السهرات الطويلة..تنتشر الطاولات هنا و هناك..أرقام مختلفة تارة تكون أرقام حظ تجعلك تربح أموال طائلة..و أخرى تكبدك خسارة فادحة..بجانب الطاولات..تقف الفتيات الجميلات في انتظار اشارة من هذا الرجل أو ذاك..في الطرف المقابل..توجد طاولات البلياردو و طاولات الورق..مشى ياغيز باتجاه مقصورته الخاصة و جلس براحة كبرى..اقترب منه النادل و احضر له كأس الويسكي خاصته..نظر ياغيز الى جان و أمره بأن يذهب و يأخذ نصيبه من اللعب عندما رأى تلك المرأة الشقراء تقترب منه..امرأة في أول الثلاثينات من عمرها..شعرها ذهبي طويل..عيونها خضراء..و قوامها رشيق..انها بيلين جانان( ايدا ايجه) أرملة رجل الأعمال المعروف نديم جانان..توفي زوجها منذ سنة تقريبا بعد زواجها منه ببضعة أشهر في حادث سيارة..و ورثت هي كل ثروته و أمواله..و هذا الكازينو الكبير..تمايلت بدلال في فستانها الأحمر ذي الكتفين المكشوفين ..اقتربت من ياغيز و طبعت على خده قبلة رقيقة قبل أن تجلس بجانبه و هي تضع ساقا على ساق كاشفة عن فخذها الأبيض المثير الذي شف عنه شق فستانها..قالت بدلال" مرحبا حياتي..آه لو تعلم كم أسعدتني زيارتك المفاجئة هذه..ترى الى ماذا ندين بها؟" مرر ياغيز أنامله خلال خصلات شعره الكثيف و رد" لا شيء..مجرد ضجر و تعب من العمل و المشاغل..أتيت لكي أريح رأسي هنا..عندك" اقتربت منه و وضعت رأسها على كتفه و همست بصوت خافت" بابي مفتوح لك دائما..و أنت تعلم هذا جيدا..هل ستلعب الورق مع رفاقك أم تفضل أن نصعد الى الأعلى؟" شرد ياغيز للحظات و هو يستحضر في خياله شخصا آخرا..امرأة أخرى نجحت في ارباكه و في السيطرة على افكاره في وقت قياسي..ثم نظر الى بيلين و اجاب" بل أفضل أن نصعد الى الأعلى..أنا أحتاجك كثيرا هذه الليلة" و وقف و مد يده نحوها فشبكت أصابعها بأصابعه و تبعته نحو الأعلى..نحو تلك الغرفة الخاصة التي تعودت أن تجمعهما..في ليالي طويلة يقضيانها معا..

في قبضة العرّاب Where stories live. Discover now