الفصل العشرون ..قلب محطم خلف القضبان

3.4K 103 105
                                    

نظر ياغيز الى وجه باريش المبتهج و سأل بقلق" عفوا..و ما تهمتي؟" ابتسم باريش بسعادة و رد" ليست تهمة واحدة..بل مجموعة تهم..و قبل هذا سنقوم بتفتيش المنزل..و لا تقلق..لدينا إذن من النائب العام بقلب قصرك رأسا على عقب..رافق العناصر الى السيارة لو سمحت" قطب ياغيز جبينه و قال" أريد أن أغير ملابسي..هل لي بذلك؟" اجاب باريش" طبعا..بكل تأكيد..لكن إياك أن تحاول الهرب..لأن ذلك سيزيد من تعقيد وضعيتك..سيرافقك العناصر الى الأعلى..أما نحن فسننطلق في التفتيش" تحرك ياغيز و عيونه نحو جان الذي كان مصدوما مما يحدث..اقترب جان من سيده و سأل بصوت خافت" سيدي..أتراه بخصوص خليل؟ ان كان الأمر كذلك فسأفعل أنا اللازم..سأتحمل أنا وزر ذلك..لن أسمح لهم بوضعك في السجن" مرر ياغيز أصابعه على جبينه و التوتر واضح على وجهه ثم تمتم" أعتقد بأن الأمر أكبر من هذا..أتمنى بألا يحصل ما أخشاه لأن البضاعة ما تزال هنا" ارتسم القلق جليا على ملامح جان و سأل بعصبية" و مالحل الآن؟" صمت ياغيز و كأنه لم يجد كلاما يقوله ثم قال" اتصل بالسيد مدحت المحامي..يبدو أنني سأحتاجه" ..كان قد وصل الى باب غرفته فإستأذن العناصر في الدخول لكي يغير ملابسه فظلوا واقفين هناك فيما انزوى هو بنفسه في الداخل..اخذ هاتفه و أرسل رسالة نصية قصيرة الى ديمتري كتب فيها" انذار أحمر..الصقر على وشك الوقوع في المصيدة" ثم ارتدى ملابسه و خرج ليجد العناصر في انتظاره

فقال بنبرة هادئة" أنا جاهز" فتحرك معهم بإتجاه الردهة و هموا بالنزول الى الطابق السفلي لكن صوت باريش القادم من ناحية المكتب استوقفهم بقوله" سيد ياغيز

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.

فقال بنبرة هادئة" أنا جاهز" فتحرك معهم بإتجاه الردهة و هموا بالنزول الى الطابق السفلي لكن صوت باريش القادم من ناحية المكتب استوقفهم بقوله" سيد ياغيز..أحتاجك هنا لو سمحت" ارتبك ياغيز و تسارعت أنفاسه و هو يفكر في السبب الوحيد الذي يجعل باريش يريده هناك في المكتب..تحرك بخطى متثاقلة و ما ان وصل الى الباب و دخل الى الداخل حتى انفتحت عيونه على آخرها و اضطربت دقات قلبه..كان باريش يقف أمام الخزنة السرية التي تخفيها اللوحة الكبيرة..انه يعرف بأمرها..نظر باريش اليه نظرات انتصار واضحة فسأله ياغيز" سيادة الضابط..ما هذا؟ ألا تعلم بأن هذه الخزنة ممتلكات خاصة و يمنع منعا باتا الاقتراب منها..أي جرأة هذه؟" اقترب منه باريش و استظهر بورقة في يده يريها له و هو يجيب" سيد ياغيز..وفر هذه المراوغات للتحقيق و للمحاكمة..هذا إذن خاص من النائب العام لتفتيش الممتلكات الخاصة أيضا..و لا تقلق..سيحدث هذا بوجودك..لن نلمس شيئا من ممتلكاتك ان لم تكن أنت موجودا..تفضل افتح الخزنة لو سمحت" ثم قرب باريش فمه من أذن ياغيز و همس بصوت خافت" ان كنت واثقا من براءتك و من خلو الخزنة من أي ممنوعات فافعل..أعلم جيدا بأنك رجل شجاع و جريء..أليس كذلك؟" رمقه ياغيز بنظرات باردة و أجاب" سأفعل..سأفتحها" اقترب ياغيز من الخزنة و نقر عليها اسم هزان فانفتحت..تقدم باريش نحو الخزنة و بحث فيها فعثر على بعض الأوراق و الملفات و المجوهرات..ثم أخرج كيسا أسودا صغيرا فتحه فإذا فيه حبات ألماسية لامعة..ضحك باريش بسعادة و قال" من الأفضل لك أن تتصل بمحاميك سيد ياغيز" ثم التفت الى العناصر و اضاف" خذوه الى السيارة" مشى ياغيز مع عناصر الشرطة و عقله يكاد يتوقف من التفكير..في الأمر اخبارية وصلت بطريقة دقيقة و مضمونة الوصول الى الشرطة ..من شخص يريد أن يؤذيه و أن ينهي أمره..أيعقل أن يكون خليل هو الفاعل؟ فبالنهاية هو من وضع جهاز تنصت في المكتب و نقل الأخبار الى جواد..و جواد هو أكثر شخص يكرهه و يرغب في إيذائه..هو المخطئ..هو من لم يحسب حسابا للخيانة الداخلية..هو من استخف بجواد و بما هو قادر على فعله..لقد تحدث أكثر من مرة عبر الهاتف دون أن يأخذ احتياطاته..هو من تلقى اتصالات بحث فيها طريقة ايصال البضاعة و شحنها و تصريفها..و ماهيتها حتى..لم يكن في السابق بهذا الاستهتار و الاستخفاف بالأشياء او بالأعداء..كان في السابق أكثر حذرا و انتباها..و كان حتى اذا اتصل به أحد الزبائن او الشركاء يستخدم رموزا و كلاما مشفرا لكي لا يفهم أحد كلامه..لكنه تغير كثيرا..منذ أن وقع في الحب..منذ أن دخلت هزان الى حياته..صار مشتتا و عقله مشغولا بها..صارت هي الحائزة على كل اهتمامه و أفكاره و مخططاته..صارت لديه نقطة ضعف يستطيع أعداءه استغلالها و محاربته عن طريقها..لقد أخطئ خطئا فادحا هذه المرة..و هذا الخطأ سيكون نهاية هذه الامبراطورية التي دفع حياته و براءته و طفولته ثمنا لتواصلها و لتوسعتها..هل انتهى كل شيء هكذا بهذه البساطة؟ هل وقع في الفخ و انتهت  حياته الآن؟ هل سيقبل الهزيمة بهذه السهولة؟ هل سيستسلم هكذا؟ لا..لن يفعل..سيفعل كل ما يلزم لكي يخرج من هذا المأزق كالشعرة من العجين..مازالت هناك حياة تنتظره مع المرأة الوحيدة التي عشقها من كل قلبه..مازالت هناك أحلام يريد أن يحققها و يده في يدها..مازال هناك أعداء و خونة يجب أن يعطيهم درسا لن ينسوه..لكي يتذكروا من يكون العراب..و لكي يعلموا بأنه ليس من السهل انهاءه..حرك ياغيز يديه المكبلتين بالأصفاد و وضع رأسه عليهما..ذلك الرأس الذي يكاد ينفجر من التفكير  و الذي يعجز عن إيجاد أجوبة لهذا الكم الهائل من الأسئلة التي تتواتر عليه الآن..توقفت السيارة أمام مخفر الشرطة فترجل ياغيز و رافق العناصر الى الداخل..في مكتبه..جلس باريش قبالة ياغيز و هو يقول" سيد ياغيز..سأنتظر وصول محاميك لكي أفتتح جلسة التحقيق معك..بإمكانك أن تستخدم الهاتف من أجل مكالمة واحدة..هل تريد ذلك؟" ذهب عقل ياغيز مباشرة بإتجاه هزان..فهز برأسه بالإيجاب..قرب منه باريش الهاتف و وقف بجانب النافذة ينتظر أن ينهي اتصاله..نقر ياغيز رقم هزان فرن الهاتف دون أن تجيب..أعاد ياغيز السماعة الى مكانها و وجهه متجهم و حزين..كان يتمنى أن يسمع صوتها لكي يشعر ببعض الارتياح لكنها لم ترد..ابتسم باريش بسخرية و هو يرى تلك الحال التي ياغيز عليها..و كان يدرك تماما بأن هزان هي سبب ما هو فيه بعد التقرير الذي قدمته ليلة البارحة..
في منزلها..كانت هزان جالسة على الأريكة و هي تضم ساقيها الى صدرها..ليلة البارحة كانت هي الليلة الحاسمة في مهمتها..فبعد عودتها من قصر الإيجمان..كانت منهارة و غاضبة و مصدومة..كانت قد رأت في ياغيز قاتلا بدم بارد..شخصا وحشيا و مخيفا..و صور لها عقلها بأن ذلك الرجل المقتول هو والدها..للحظة تغلب حقدها و انتقامها و عقلها على قلبها..للحظة صمت صوت حبها و مشاعرها ليعلو صوت العقل و الواجب..و كانت تلك اللحظة كافية بهدم المعبد على رأس من فيه..كانت تلك اللحظة كافية لجعلها تقدم تقريرا مفصلا عن ياغيز و عن أعماله و أسراره..هي من فضحت أمر مقتل خليل..و هي من بلغت عن الخزنة السرية و أعطت كلمة السر أيضا..هي من شرحت طريقة تهريب الألماس و السلاح عن طريق السيارات..فكان تقريرا يساوي حرية ياغيز و حياته كلها..كان يساوي حبسه خلف القضبان و خضوعه للمحاكمة التي ستكون قاسية و لا شك..كان يساوي خيانتها له و طعنها له في صميمه..كان يساوي نهاية ما بينهما من حب كانت مستعدة لوهلة أن تتخلى عن كل شيء لأجله..حتى عن مهمتها و انتقامها..هي الآن سبب ما هو فيه..دون أن يعلم هو بذلك..كانت تدرك جيدا بأنه يحبها بكل جوارحه..و بأن هذا الحب أعمى عيونه و جعله لا يرى حقيقتها..حب جعله يترك عقله و حذره و انتباهه و تيقظه عندما يكون معها..حب جعله يفتح لها أبواب عالمه المظلم ذاك و يشرح لها عن أسراره و متاهاته الخفية..دون أن يحذر منها أو أن يحسب حسابا لما هي قادرة على فعله..دون أن يدرك بأنها هي أكبر أعداءه و أخطرهم..حب جعله يتلقى منها طعنة في ظهره..طعنة كفيلة بإنهاء حياته و القضاء عليه..وضعت هزان رأسها على ركبتيها و هي تخفي وجهها لكي لا ترى ذلك الهاتف و هو يرن..لأنها تدرك جيدا بأنه هو المتصل..بأي صوت سترد عليه؟ بأي وجه ستتكلم معه؟ بأي قلب ستسمع صوته المكسور ذاك و هي تعلم جيدا بأنها سبب هزيمته تلك؟ ..لن تكون قادرة على مواجهته بعد ما فعلته به..لن تكون قادرة على التمثيل عليه بأنها مازالت تلك المرأة البريئة و النقية التي أحبها من كل قلبه..لن تكون قادرة على ايذائه و إيلامه أكثر من ذلك..كانت تحاول اقناع نفسها بأنه يستحق هذا المصير الذي آل إليه..لأنه في النهاية مجرم خارج عن القانون..كانت تحاول اخراس صوت قلبها الى الأبد و اعلاء صوت عقلها و اعطاءه كل الحق..ياغيز هو قاتل والدها..هو تاجر سلاح و ألماس..هو قاتل وحشي ..بلا رحمة أو ضمير..هذا ما كانت تحدث به نفسها لكي تبرر ما فعلته..لكنها عبثا كانت تحاول اخفاء ذلك الحزن الذي ألم بها..و اخفاء تلك الدموع التي تجمعت في عيونها و راحت تحرق مآقيها..عبثا حاولت أن تقنع نفسها بأنها سعيدة بقيامها بمهمتها كما ينبغي..و بأن هذا ما كان يجب أن يحدث..فقلبها يتمزق ألما عليه و على نفسها..و على هذا الحب الذي ضاع في متاهات الواجب و الانتقام و الحقد..أطلقت هذه المرة العنان لدموعها التي حبستها كثيرا..لعل بكاءها يخفف عنها قليلا و يتعبها فتنام لأنها لم تستطع أن تفعل ذلك طيلة الليل..
في المخفر..وصل السيد مدحت محامي ياغيز و طلب الاختلاء بموكله قبل انطلاق التحقيق..خرج باريش سامحا لهما بالحديث معا كما ينص عليه القانون..نظر مدحت الى ياغيز المتجهم الوجه و سأل بقلق" ياغيز..ماذا حدث؟ لماذا أنت هنا؟" تنهد ياغيز بعمق و أجاب" لقد وجدوا ألماسا بحوزتي..في خزنة منزلي السرية..و وجدوا أيضا جثة أحد رجالي الذي قتلته البارحة و دفنته في حديقة القصر..ما يجب أن تعرفه هو أن الوضع معقد جدا هذه المرة" قطب مدحت جبينه و قال" غريب..كيف تفعل هذا و أنت الرجل الذكي المتفطن الذي عجزت الشرطة عن ايقاعه رغم كل محاولاتها في السابق؟ كيف حدث هذا؟ هل هي خيانة و وشاية؟" هز ياغيز برأسه و رد" نعم..هي كذلك..البارحة اكتشفت خيانة أحد رجالي..اسمه خليل..كان جاسوسا لأحد أعدائي..و قام بزرع جهاز تنصت في مكتبي..و يبدو أنه عرف أكثر من اللازم..حاسبته و قطعت بطاقته الى العالم الآخر دون أن أحسب حساب ما سيحدث بعد ذلك..هل من حل؟" صمت مدحت قليلا قبل أن يجيب" بالنسبة للجثة سيتكفل احد رجالك بحمل قصة مقتله..أما الألماس فستنكر معرفتك به و سندعي بأن أحدهم قام بوضعه هناك لكي يورطك..ليس لديهم أي دليل أو شاهد..سنستمر في الانكار..هذا هو الحل الوحيد..لكن..أريدك أن تكون مستعدا للأسوأ..الوضع مختلف كثيرا هذه المرة" ربت مدحت على يد ياغيز ثم فتح الباب و نادى لباريش لكي يبدأ التحقيق..بعد ساعة..سأل باريش بنبرة هادئة" سيد ياغيز..هل تصر على انكارك التهم الموجهة اليك رغم وجود الجثة و الألماس في قصرك؟" اجاب ياغيز" نعم..ليس لي أية علاقة بالموجودات المذكورة..أنا مجرد تاجر أثاث بسيط و كل أعمالي قانونية و لا غبار عليها" ابتسم باريش بسخرية و سأل" هكذا اذا؟ و ما رأيك بوجود شاهد يثبت كل هذه الاتهامات الموجهة اليك؟ القتل و الاتجار بالألماس و الأسلحة و غيرها؟ ها؟ ماذا تقول؟" تبادل ياغيز و مدحت النظرات لوهلة ثم سأل ياغيز بقلق" و من يكون هذا الشاهد؟ هل لي بمعرفة اسمه؟" ابتسم باريش من جديد و قال" ستعرفه قريبا جدا..لأننا سنحتاج شهادته في المحكمة و أمام النائب العام..اسمه سيظل سريا الى حين انعقاد المحكمة..لكن تأكد بأنه سيكون مفاجأة صاعقة أشك بأنك ستكون قادرا على تحملها" سمع باريش صوت طرقات على الباب فقال" ادخل" دخل احد عناصر الشرطة و قال" سيدي..هناك رجل يريد أن يراك..يقول بأن لديه اعترافا يريد أن يقدمه لك" زم باريش شفتيه و أشار له بالدخول..كان هذا الرجل هو جان..تقدم من باريش و قال" سيادة الضابط..لقد طلبت لقاءك لكي أعترف بأنني قاتل خليل شاد أوغلو..و هذا هو سلاح الجريمة..و عليه بصماتي" ثم التفت الى ياغيز و أضاف" أنا آسف سيدي لأنني ورطتك في أمر كهذا..أتمنى أن تسامحني و تغفر لي هذه الخطيئة" انفجر باريش ضاحكا بطريقة استفزازية ثم علق ساخرا" هذا ما كنت أنتظر حدوثه ذاتا..الطريقة الكلاسيكية المعتادة..أحسنت جان..أعدك بأنك ستقضي أياما جميلة في السجن..لكنك لن تكون لوحدك..لأن سيدك العزيز سيكون معك..مسكين أنت..تظن بأنه هنا من أجل جريمة قتل خليل فقط..الأمر أكبر من ذلك بكثير..أيها الملازم..تعالى و خذه للحجز" ثم التفت الى ياغيز و أضاف" أما أنت فستبقى في ضيافتنا على ذمة التحقيق..و أتمنى بأن يكون لديك ما يكفي من التعقل فتعترف بجرائمك..قبل أن تعيش أكبر صدمة في حياتك أيها المسكين ياغيز ايجمان" شعر ياغيز بالدماء تغلي في عروقه و هو يسمع كلام باريش الساخر و يرى حركاته المستفزة لكن المحامي وضع يده على يده لكي يمنعه من القيام بأي حركة متهورة قد تزيد الوضع تعقيدا و تأزما..رافق مدحت ياغيز نحو غرفة الحجز فتمتم ياغيز قائلا" سيد مدحت..أريد منك أن تحاول بكل الطرق أن تعرف هوية الشاهد..أنا أفكر في سيبال..أعتقد بأنها هي من بلغت عن قصة تهريب الألماس عبر الرحلات الجوية..و الآن سيحضرونها لكي تشهد ضدي..استعن ببقية الرجال الذين ظلوا في الخارج و اعرف ان كانت هي الشاهد أم لا..في حال تأكدت أنها هي فأنت تعرف ما يجب أن يحدث..المهم ألا تنجح في القدوم الى المحكمة..هل هذا واضح؟" هز مدحت برأسه ثم ودع ياغيز بعد أن طمأنه بأنه سيأتي لرؤيته في المساء..نظر ياغيز الى الغرفة الصغيرة المحاطة بالقضبان الحديدية..في طرفها يوجد مقعد خشبي طويل..جلس ياغيز عليه و راح يفكر في المأزق الرهيب الذي وقع فيه..هنا هو فريسة سهلة..للحزن و للانكسار و قلة الحيلة..هنا سيكون كبش فداء يتحمل وزر حياة ظلامية سوداء كان والده السبب فيها..هنا سيكون لقمة سهلة بالنسبة لأعداءه..يشمتون و يستهزأون و ربما يحاولون التخلص منه أيضا..هنا يعود كما كان في السابق..وحيدا..بمفرده..مهزوما و مكسورا..لا يسمع سوى صوت ضميره الذي يصر بأنه ينال عقاب أفعاله التي ورثها عن أبيه..هو هنا لوحده..بعيدا عنها..بعيدا عن تلك المرأة التي ملكت قلبه و كل جوارحه..تلك التي يحتاج الى وجودها بجانبه ..الآن أكثر من أي وقت مضى..لكن أين هي؟ أتراها لم تعلم بما حصل له؟ أتراها ماتزال غاضبة منه بعد ما رأته منه ليلة البارحة..ما ان وصلت أفكار ياغيز الى هذه النقطة حتى انتفض واقفا و وجهه شاحب شحوب الموتى..قلبه يخفق بشدة و يكاد يغادر صدره..و عيونه الجاحظة تحملق في الفراغ..ماذا اذا كانت هزان هي الشاهد الذي تحدث عنه باريش؟ ماذا ان كانت هي سبب وجوده هنا؟ ماذا اذا كان دخولها في حياته و عملها معه و تقربها منه مجرد غطاء للإيقاع به و مخطط للزج به في السجن؟ لكن لماذا؟ مالذي قد يدفعها لفعل هذا؟ أي حقد تحمله في قلبها عليه لكي يجعلها تفعل هذا به؟ هو من قربها منه كثيرا و فتح لها أبواب قلبه و أطلعها على أسرار مهنته و أعماله لأنه وقع في حبها و لم يعد قادرا على الابتعاد عنها..هو من سلمها قلبه و استأمنها على حياته و على أسراره..أيعقل أن تخونه؟ أيعقل أن يكون حبها له مجرد كذب و تمثيل؟ لكنه رأى الحب في عينيها و في كل كلمة قالتها و في كل نفَسٍ تنفسته و هي بين أحضانه..لقد عاش معها الحب بتفاصيله و تطورت علاقتهما ليصبحا شخصا واحدا..و عرض عليها الزواج أيضا..لكنها لم تجبه..و لم تعطه ذلك الرد الذي كان ينتظره منها..و كانت تتهرب منه دائما في بداية علاقتهما..و تعبر في كل مناسبة عن امتعاضها من عمله الغير قانوني و تشجعه على تركه..أيعقل أن تكون هي من خانته و سلمته بيدها الى نهايته المحتومة؟ أيعقل أن تكون هي من أورثته هذه الطعنة العميقة في القلب؟ ..هز ياغيز رأسه بعنف محاولا طرد هذا الاحتمال الموجع من عقله..مجرد احتمال جعله يشعر بقلبه يتمزق الى قطع صغيرة و بأنفاسه تضيق و تحرق صدره و بالدموع تتجمع في عيونه غزيرة..فكيف ان كان هذا الاحتمال صحيحا؟ ..سأله جان الذي كان جالسا في الغرفة المجاورة له و لا يفصل بينهما سوى القضبان" سيدي..هل أنت بخير؟" مرر ياغيز أصابعه خلال خصلات شعره و أجاب" لا أعلم جان..لست بخير..و لن أكون قبل أن أغادر هذا المكان..أشعر بأنني سأجن و سأفقد عقلي ان بقيت هنا وقتا طويلا..أتعلم جان..لقد تحدث الضابط عن شاهد سري سيقدم شهادته ضدي..من ترجح بأن يكون؟" زم جان شفتيه و رد" لا أعلم..لكنني أرجح بأن تكون تلك مجرد حيلة منه لكي يضغط عليك و يجعلك تعترف..أنت تعلم جيدا بأنه سيفعل ما بوسعه لكي يبقيك هنا و يقدمك للمحاكمة..أعتقد بأنه يضغط عليك فقط" تنهد ياغيز بعمق و تمتم" أتمنى ذلك" ..مر الوقت بطيئا و ثقيلا على ياغيز الذي كان يشعر بأن جدران الغرفة تطبق على صدره و تحبس أنفاسه..فاتكأ على الكرسي الطويل و وضع يده تحت رأسه و أغمض عيونه لكي يرتاح قليلا من التفكير المتعب..هاهي أمامه الآن..يراها تقف بعيدا عنه..بشعرها الليلكي القصير و عيونها الواسعة و شفاهها الممتلئة..تنظر اليه بطريقة غريبة..يناديها فلا تجيبه..يقترب منها فتبتعد عنه..يمد يده نحوها لكنه لا يصل اليها..يصرخ بأعلى صوته" هزاااان...هزااان" لكنها تشيح بوجهها عنه و تمشي في الاتجاه المعاكس دون أن تلتفت اليه..يواصل ياغيز صراخه باسمها لكن دون جدوى..يستيقظ على صوت جان يخاطبه و يوقظه من ذلك الكابوس المزعج الذي كان يراه..يفتح عيونه و ينظر حوله فيرى تلك القضبان الحديدية البغيظة تحيط به من كل جانب..يمسح جبينه المتصبب عرقا و يجلس و هو يحاول السيطرة على أنفاسه المتسارعة..يسمع فجأة صوتا مزعجا زاد من توتره..انه جواد..اقترب من القضبان و هو يقول" انظروا من يوجد هنا..انه صديقي العزيز ياغيز ايجمان..أتعلم صديقي؟ لم أكن أتخيل بأن هذا المكان سيليق بك الى هذه الدرجة..يجب أن ألتقط صورة تذكارية لك تخلد هذه اللحظة التاريخية" رفع ياغيز عيونه المرهقة نحوه و سأله بنفاذ صبر" جواد..ماذا تريد؟ لست بحال يسمح لي بسماع سخافاتك" ضحك جواد بصوت عالي ثم قال" مسكين أنت ياغيز..أعلم جيدا بأنك لا تطيقني ..و هو شعور متبادل صراحة..لكنني لم آتي لكي اضايقك..بل أتيت لكي أوقظك من غفوتك..يؤلمني بأن أراك هنا بسبب أحبتك و أقرب الناس اليك..لقد كنت دائما محبوبا من قبل النساء..رغم أنني لا أفهم سبب ذلك..كنت مغرورا و متغطرسا و وقحا..لم تكن تعرف حدودك يوما..كنت تصر على دوس كل من يقف في طريقك دون رحمة..لم تعرف الحب يوما..حتى مع بيلين التي أحبتك من كل قلبها..كنت تستغلها من أجل رغباتك فقط..و عندما دق الحب باب قلبك..و أنت فتحت له الباب على مصراعيه..انظر ماذا حدث؟ هذا الحب العميق و الأعمى هو سبب وجودك هنا..أمر محزن صراحة" اقترب ياغيز من القضبان و راح يضربها بيديه بعصبية و يصيح" ماذا تقول يا هذا؟ عم تتحدث؟ قل ما تريد قوله بصراحة و دون ألغاز لأنني لم أعد قادرا على تحملك..هيا قل" رمقه جواد بنظرة شماتة خالصة و رد بنبرة باردة" أريد أن أقول بأنك أحمق و ساذج و غبي..لأنك أعطيت ثقتك لإمرأة دون أن تتأكد تماما من سجلها و من هويتها..لا يمكن لأي أحد أن يلومك لأنك وقعت في الحب..لكن ما ألومك عليه هو أن تعطيها كل أسرارك دفعة واحدة ..بلا حذر أو تعقل..هزان التي عشقتها و عرضت عليها الزواج هي سبب وجودك هنا..هي الشاهد السري الذي سيقدم شهادته ضدك في المحكمة..هزان عميلة سرية زرعتها الشرطة في طريقك و نجحت في الايقاع بك..انه نجاح مبهر صراحة..قد لا تصدقني..لكنك سترى بعينك غدا عندما تعرض على النائب العام..ستراها و هي تقدم شهادتها ضدك..كما يقتضيه واجبها و مهمتها..هل فهمت الآن ما أريد قوله سيد ايجمان..لن اخفيك سرا بأنه كان من دواعي سروري أن اراك هنا..في المكان الوحيد الذي يليق بك..الى اللقاء" جمد ياغيز في مكانه و أصابعه تضغط على القضبان الحديدية بكل قوتها..انها هي..آخر من شك فيه..و آخر احتمال وضعه..كان هو الحقيقة المرة..تلك الحقيقة التي انغرزت في قلبه كخنجر مسموم و قاتل..تلك الحقيقة التي حطمت قلبه و أحرقت روحه..تلك الحقيقة التي وضعته في مواجهة مريرة مع قلبه الذي سيطر عليه و جعل منه أحمقا يسهل التلاعب و الايقاع به..تجمعت الدموع في عيون ياغيز و ذهبت أنفاسه سدى و هو يشعر بأن الكون كله يتساقط من حوله و يقع على رأسه..

تجمعت الدموع في عيون ياغيز و ذهبت أنفاسه سدى و هو يشعر بأن الكون كله يتساقط من حوله و يقع على رأسه

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.
في قبضة العرّاب Where stories live. Discover now