الفَصل الخامِس.

3.9K 355 79
                                    

حَـل مُنتصِف اللـيل، ولِـوي لا يشعُـر بالتحسُـن.
غرَز أظافـرَه بباطِن يدِيه حتَى شعـر بسَخونة جَرِيان الدَم موقِعَها. فورَة رأسِه كـانت لا تُطاق ورغَبـة الصُـراخ كقُنبلة موقوتَة تلِح علَيه ولكِنه كالمُلثِـم عاجِز عن تحَريـر آهـاته. ذهابًا وإيابًا كـان ينطَلِق عبَر غرَفة المكَتب التي بغَض كُل شبرٍ فيه، كُل لوحَة ثمَينة وكُل شمَعة مُضيئة إستَفزته بشَراسةٍ.

لشَخصٍ إعتـادَ على وضَع كُل الآمـور تحَت السَيطِرة، كان بحالَة مِن الفَوضِى العارِمة. كرَه إحتجازَه بجَسد رجُـل آخـر لدَرجةٍ دفَعته لفِقدان صوابَه، كـان يكَره الشعِور بالجَزع، بأنه ليَس المُتحكِم الوَحيـد، بأن ما يدَور بخُلدِه ليَست أفكـارَه، بأن ما يَتعذِب بـه ليلًا ونهارًا ليسَت ذِكـرياتَه. كـان مسجونًا بنُقطةٍ مُظلمةٍ يعجز عن رؤيـتِها للهـروب مِنها.

لا يذكُر آخِر مرَة نـام فِيها، لا يذكُر آخِر مرَة لم يكُن غاضِبًا، لا يذكَر آخِر مرَة شعَر بأي شَيءٍ سـوى بنيـران تشتَعِل بروحِه كجحَيم مُستعِر وفُتِح على مَصرعِيه. الطـاوَوس كـان منزعِجًا، الطـاوَوس كـان قلِقًا، الطـاوَوس كـان بأشَد حالاتِه وغـرًا.

"دائِمًـا الوَجه المُزمجِـر."

هَوت قدمُه فوَق الأرِض بثَباتٍ، الطَنين فِي أُذنِه كـان بشِعًا وقلبُه يصمُت مهـابةً بين ضلوعِه. ذاكَ الصـوت الرَخيـم جَعله يتـصَنم كالتِمثـال الإغرِيقـي، البِرودَة التي حلَقت بسَقِف الغُرفة سقَطت فوقَه كقِطع مِن الجَليدِ القاسَيةِ، بَينما يقوم بالإستِدارَة ببُطءٍ حتَى إصطَدمت عَيناه بمّا وقَف على بُعدِ أمتـارٍ.

مِرآة. كانت مِرآة مُزخِرفة أنيقـة وعَتيقة. إنعِكـاس شِمـوع اللَيـل علَيها كان مروِعًا وياقَوتتاه تعتِمان مخترِقتـان الظِل المُستقِر بداخِلها كالخِنجـر السـام؛ لأن ما رأه أمـامه لم يكُن نفسَه قَط، بـل كـان رجلٌ بوجِه رَزيـن، لمحَة الحِكمة فوَق وجهِه ملمَوسة، التـاج فوَق رأسِه لامِعًا، النظَرة في عَينِيه كافِيـة لتُعيـده أعوامًا وأعوامًا نحَو ذكرياتٍ دفَنها بأعمـاق ذاكرتِه.

فمّا كـان يرَى أمامه سِوى نسخَة للرجُـل الذي ملَك لوحَة فخَمـة، لافِتة للأنظـارِ، بالغُـرفةِ. كـان يـرَى والـدَه، المَلِك روبِـرت، يبتَسم بسُخريةٍ.

"دائِمًـا الذِهـن المُشِوش."

أشاحَ بعَينيه سريعًا، وكأنـما خشَى أن يرَ نظَرة الإضطِراب بينهَما، وكأنـما يترَقب ذهَاب السَراب الذي خرَج مِن فجَوة الماضِي وعانَق حاضِـرَه كالأفعِـى المُميتة.

"دائِمًـا العِنـد القاتِـل."

وكـأنه صَوت شَبِح مُرعِب عـاد إلَيه مِن جَديدٍ.
هَز رأسَه بقَسوةٍ، دلَك صدغَيه بشَدةٍ، علَم بأن إفتقارَه لساعاتِ النـومِ يؤذَيه، يضَعه بحـالة مُشتِتة وهو كرَه ألّا يكَون واعِيًـا طِوال الوَقت، لقَد كـان مِن النـاس التي يجِب أن تكُن يقِظة بغفوتِها. ولكِنه لم يألِف أبـدًا عواقِب تِلك العـادَة رغَم مِرور الأعِـوام.

Le Paon.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن