الفصل الثالث والأربعون

Start from the beginning
                                    

❈-❈-❈

في رواق المشفى كان يدور حول نفسه بدون هوادة يجئ ويذهب، في انتظار خروج أحد ما يطمئنه على حالة أبيه التي اخذت كل هذا الوقت في الفحوصات وتناوب الأطباء على رعايته بداخل العناية المشددة، وفي الناحية الأخرى كانت لمياء منزوية على نفسها تبكي بصمت، تتاَكل داخلها من القلق على زوجها شريك عمرها الذي لم كادت أن تفقده بغباءها في لحظة تهور منها جعلتها تنطق بالكلمات المؤذية له،
إنتبهت على وجه ابنها الذي أشرق وعينيه تتلفت للبعيد خلفها، التفت هي الأخرى برأسها نحو ما ينظر إليه، فوجدتها تخطو بخطوات مسرعة نحوهم، ومعها سائقها العجوز.
- إيه اللي جابك بس يازهرة دلوقتِ في الوقت المتأخر ده؟
قالها جاسر وهو يتلقفها من وسط المسافة، أجابت بقلق وهي تلتفت نحوه ونحو الدته:
- مقدرتش استنى يا جاسر بعد من غير ما اطمن بعد ما عرفت من إمام، أخبار عمي عامر إيه دلوقتِ؟
تنهد يجيبها باستسلام ويده تسحبها معه :
- لساه في غرفة العناية يازهرة، والدكاترة بيقولوا إنه هايفضل تحت الملاحظة لحد ما يطمنوا عليه.
هتفت بحزن :
- لدرجادي هو حالته صعبة ياجاسر؟
أومأ له بعيناه وقربها من والدته، فتقدمت تصافحها بدعم قائلة بمواساة:
- عاملة إيه دلوقت يا ماما، ربنا يطمن قلبك ويطمنا معاكِ.
أومأت لها لمياء هي الأخرى، ولكن بدون صوت، فخاطبها جاسر، احنا ممكن نطول هنا جمبه على ما يفوق، يعني انتِ شوية كدة وتروحي،
نفت برأسها على الفور قائلة:
- لا طبعًا انا مش ماشية من هنا غير ورجلي على رجلك بعد ما نطمن على عمي .
- يا زهرة بلا..........
قاطعته بقوة وهي تجلس على أقرب المقاعد أمامه تردد:
- أنا قولت مش ماشية يعني مش ماشية .
زفر جاسر بيأس من عنادها، قبل أن يستسلم ويشاركها الجلسة بجوارها في انتظار الإطمئنان على أبيه.

طال الإنتظار وزهرة التي مُصرة على مرافقتهم، أصابها الوهن والتعب مع الجلسة المتعبة وعدم أخذ جسدها لقسطًا ولو قليلًا من الراحة والنوم، فغلبها النعاس على كتف زوجها الذي ظل جالسًا بجوارها ولم يطاوعه قلبه على إيقاظها، بل وخلع سترته ودثرها بها، حتى أشرق الصباح عليهم، لمياء والتي كانت مراقبة من الناحية الأخرى، تخلت عن كبريائها قليلًا تخاطبه بهدوء:
- بدل ما هي نايمة على كتفك كدة، خليها تروح وترتاح في بيتها أحسن..
رمق والدته بنظرة غير مفهومة ثم قال:
- ما انتِ شوفتي بنفسك، أنا حاولت معاها كتير، وهي مش راضية، أعمل إيه بقى في دماغها الناشفة؟ حتى وهي تعبانة مصممة تفضل جمبي.
وصلها مغزى كلماته على الفور، لتشيح بوجهها عنه مبتلعة الباقي من حديثها، أما هو فانتظر قليلًا متابعًا لها ليتأكد من فهمها للرسالة بهذا التوتر الذي اكتنفها، وبعد أكتفائها منها تركها ليعود لهذه الرقيقة التي أصابت كتفه بالتخدر من ثقل رأسها عليه، ابتسم بداخله وهو يربت على وجنتها برفق هاتفًا بهمس:
- زهرة، زهرة فوقي ياقلبي، زهرة فوقي بقى، كتفي وجعني بجد .
هممت قليلًا قبل أن ترفع رأسها إليه، وهي لم تعي بعد على وضعها:
- أيوة يا جاسر في حاجة؟
ابتسم بجانبية يشاكسها:
- لا قلبي مافيش، كتفي بس نمل وماعدتش حاسس بيه.
استفاقت شاهقة تبعد رأسها عنه على الفور قائلة باعتذار:
- أنا اَسفة يا جاسر، بس بجد والله ماحسيتش بنفسي.
رمقها بابتسامة مشبعة بعشقه وهو يقول:
- لا يا ستي ولا يهمك، فداك كتفي ودراعي كمان دا كفاية قعدتك جمبي يا شيخة..
شعرت بالخجل من كلماته حتى ابتسمت عفويًا وقضمت شفتها السفلى بدلالها اللطيف الذي كاد ان يذهب بعقله حتى أنساه وضعهم، انتقلت عيناها بغير قصد للجهة الأخرى فانتبهت على السهام الخصراء وهي تحدجهم بضيق، خبئت ابتسامتها على الفور بحرج وهي تعتدل بجلستها، وقد غفل جاسر عنها لرؤيته الطبيب المعالج لأبيه، اَتيًا نحوهم بابتسامة مبشرة يخاطبهم:
-  تقدروا تطمنوا يا جماعة، عامر باشا فاق والحمد لله

نعيمي وجحيمهاWhere stories live. Discover now