الفصل الثاني عشر

61.1K 1.5K 83
                                    

على الكرسي الجلدي الذي كانت جالسة عليه، تهزهز بأقدامها بعصبية، تنفخ دخان سيجارها الذي يخرج وكأنه حريق نابع من داخلها ، تهذي بالكلمات الساخطة بعدم تصديق :
- انا يامرفت ، انا مرفت يعمل فيا كدة ويخلي شكلي زبالة قدام صحابي ، بقى مريهاااان يتعمل فيها كدة يامرفت؟
لوت ثغرها الاَخرى وهي تجيبها :
- بصراحة انا مش عارفة اقولك ايه ؟ الموقف اللي حكتيه يثبت فعلًا انه موقف زبالة ، بس انا اللي مستغرباه هو بيعمل معاكي كدة ليه ؟ هو مش عارف ان انتوا مشهورين وموقف زي دي الناس ماهتصدق تحكي فيه، دا غير انه كدة بيحرجك فعلًا قدام صحابك .
ردت ميري من تحت أسنانها :
- إلا يحرجني ! دا الأوباش أخدوها فرصة عشان يتريقوا ويهزروا بسخافة عليا اناااا، الحيوانات .
- أديكي قولتي بنفسك ، أوباش وحيوانات كمان ، ايه بقى اللي مخليكي مستمرة معاهم ؟ ماتسبيهوم وافضي لجوزك دا اللي هايروح منك وكفاية بقى.
قالت مرفت بغضب ، قابلته الأخرى بضحكة ساخرة تردد :
- افضى لمين ياقلبي ؟ هههه ياحبيبتي جاسر الريان دا لو حتى عملتلوا أمينة وبقى هو سي السيد ، برضوا مش هايحن ، انا عارفاه هو بيعمل كدة قصد عشان أطلب الطلاق.
تسائلت الأخرى وهي تمط شفتاها بدهشة :
- معقوول؟! هي لدرجادي الأمور اتعقدت مابينكم ؟
- واكتر كمان من الدرجادي ياروحي .
اردفت ميري وهي تشعل سيجارة أخرى وتابعت :
- جاسر قلبه أسود ، من يوم الحادثة وهو مش راضي ينسالي اللي حصل.
- لما سبيته يتعالج في أوروبا لوحده ؟
قالت مرفت بتخمين ، ردت ميري بتشدق :
-  وافرض يعني سيبته؟ ماهو كان معاه والدته ، بصراحة انا كمان متحملتش عصبيته وجو الخنقة بتاع المستشفيات والقرف ، وانتِ عارفاني يامرفت بحب الحرية والأنطلاق ، ماليش بقى في الجو البلدي ده .
زفرت مرفت بملامح ممتعضة قبل أن ترد عليها:
- اهو الجو البلدي دا ياناصحة هو اللي خلاه قلب عليكي لما موفقتيش جمبه في شدته ، بس انا مازلت فاكرة يا ميري ، انتِ مش بس رجعتي مصر وسبتيه ، لا دي انتِ كنتِ عايزة تطلقي كمان .
ردت ميريهان بتوتر :
- مماهو بصراحة انا خوفت قوي لما الدكاترة خمنوا عدم وقوفه على رجله من تاتي ، دا غير كمان لما قالوا ان احتمال مايخلفش .
خرجت الاَخيرة بخزي وصوت خفيض ، اومأت مرفت برأسها وقد وصلها المعنى :
- اااه يبقى عشان كدة بقى ، ياخسارة ياميري ، كان لازم تصبري شوية وتفهمي من الأول ؛ ان واحد زي جاسر الريان ده لا يمكن هايتقبل الهزيمة ولا الضعف ، جاسر عنده ارادة حديدية مكنته انه يتخطى ويرجع أحسن من الأول كمان .
زفرت ميري تشيح بوجهها عنها لعدم تحملها الحقيقة قبل ان تردف :
- اهو اللي حصل بقى ، طلبت الطلاق ووالدي مرديش وبعدها صاحبنا دا رجع على رجله ،  حاولت كتير اتقرب وهو رفض، صبرت عليه وحطيت في بُقي جزمة قديمة لما خاني مع اشكال زبالة وانا مكانش بيقربلي وبرضوا لا حن ولا قدر حتى ، بس المدة طالت قوي ، وهو بيزيد في غباءه وعِنده معايا ، وانا هاموت والمسه وهو حرمني من قربه، بس زهقت بقى وقرفت .
- ميري ، بصيلي هنا وحطي في عينك في عيني .
اردفت مرفت وهي تمسك بأطراف أعصابها على ذقن ميري لتنظر اليها جيدًا وتابعت :
- انتِ عارفة كويس انه كان بيخونك عشان يردلك القلم ويثبت لنفسه انه تمام ، وانتِ اللي جبتيه لنفسك يبقى تصبري كمان وتحاولي تغيري من نفسك .
نزعت يدها عن ذقنها بعنف هاتفة :
- تاني انتِ كمان اغير من نفسي ، ابوس على ايده مثلًا عشان يرضى عني؟ دا قافل في وشي بالضبة والمفتاح، عالعموم انا بلغت والده عشان يشوفلي صرفة معاه ، ماهو الإهانة دي لا يمكن اعديها على خير .
برقت لها مرفت بعدم تصديق:
- يانهار ابيض، انتِ اشتكيتي لوالده ياميري وهو في المستشفى بيتعالج برا؟
اردفت الأخرى بعدم اكتراث :
- امال يعني عايزاني اسكت على كرامتي اللي اتهانت ؟ مش كفاية والدي اللي مرديش يسمعني اصلًا بحجة انه مشغول بأمور الوزارة والكلام الفارغ ده !
........................................
- بتقول إيه؟
هتف بها جاسر وهو يترجل من سيارته الى محدثه في الهاتف وأردف .
- هي البت دي معندهاش دم ولا إحساس ، بتتصل بيك وانت راجل تعبان بتتعالج في اَخر الدنيا على حاجة تافهة زي دي؟
وصل اليه صوت أبيه بضعف :
- يابني مهياش حاجة تافهة ، ثم كمان هي ماقلتس لحد غريب ، امال يعني عايزها تشتكي لوالدها بقى عشان يكبر الموضوع وتبقى حكاية .
صاح بغضب وهو يدلف لداخل منزله الكبير :
- ولا يقدر يعمل حاجة ، يتشطر الأول على بنته اللي داخلة ملهى ليلي الساعة ١٢ بعد نص الليل ، هو ليه عين يكلمني أساسًا !
وصل اليه صوت والدته التي تناولت الهاتف من زوجها وتدخلت بحديثهم :
- يابني ياحبيبي بلاش عصبيتك دي ، انا ميت مرة اقولك اتفاهم معاها ، انت بس اديها ريق حلو دي ماهتصدق ، انا بنت اختي بتحبك وهاتموت عليك .
اردف بضحكة متقطعة ساخرة :
- تاني برضوا ياماما بتحاولي معايا ، بعد ماورطتيني فيها بحجة انها بنت الغالية حبيبة قلبك ، اللي ماتت في عز شبابها واتحرمتي منها، اقنعتيني انها يتيمة ومحتاجة اللي يطبطب عليها عشان تتعدل ، وهي ضلع معوج بكتر الدلع وحب النفس والاَنانية ، انا معدتش جاسر بتاع زمان ياست الكل ولا انت نسيتي ؟
- يابني ياحبيبي....
معلش والنبي الله يخليكِ ياأمي ، اقفلي دلوقتي وبكرة الصبح هاتصل انا واطمن عليكم .
- ياجاسر.......
كان قد وصل الى غرفته وهو ينهي المكالمة بعد مقاطعة والدته ، رمى الهاتف وسلسلة المفاتيح على المقعد الوحيد الذي وجده أمامه قبل ان يسقط بظهره على التخت ، يتنفس بثقل ، وكل عضلة بجسده تأن من التعب ، بالإضافة تزاحم الأفكار السيئة بعقله بعد أن عادت اليه مشاهد الحادث القديمة، ومراحل العذاب في العلاج الشاق بعد ذلك حتى يستطيع الوقوف على أقدامه مرة أخرى ، وقد ظن عدم النجاة وانهيار عالمه، أغمض عيناه يستعيد وجهها الجميل بمخيلته ويتذكر مشاكسته لها منذ قليل وردودها العفوية التي تُسعده دائمًا، تنهد من العمق وهو يفتح أجفانه على رؤية الغرفة الكبيرة الخالية من الحياة ، لأول مرة منذ فترة طويلة يكره شعور الوحدة فيها ، بعد أن كييف نفسه عليها بل وكان يجد الراحة بها ، لكن كان هذا قبل أن يراها !
...............................................

نعيمي وجحيمهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن