المفقود

By tabola03

1.6M 124K 178K

المفقود حكاية عن ذلك الفتى الصغير الذي لطالما آمن بوجود دفء عائلتهِ إذا ما بحث عنه جيداً، إلّا أنّ الحياة تعل... More

01 أول ذكرى
02 مُشعْ
03 القدر
04 النّقاء
05 أمنيتي
06 هذا كافٍ
07 ألدورا
08 الهرب
09 منتصف الليل
10 قبو العاصمة
11 اللعبة
12 الغراب
13 العبيد
14 أب
15 في هيربا
16 في آلبينوس
17 في روبار
18 في بيردو
19 في لوسيدَمْ
20 الحلم
21 إخوتي
22 المهمة الأولى
23 إنعاش
24 أم
25 اليوم المشرق
26 ظلام الشرق
27 موطن أمي
28 نانا
29 آنسة لايتون
30 بداية الفوضى
31 اعتقال
32 القرار
33 الاتفاق
هام جداً
34 مجرد لوحة
35 آسف
36 كابوس
37 غناء
38 الشبيهة
39 الوصول
40 الإعلان
41 الحقيقة
42 الأمير
43 الحل
44 أحاديث
45 بحث
46 شمس وأزهار
47 قطرات
48 مطر
49 عودة
50 حكاية
51 بند
52 صخب
53 شبح
54 رواية
55 أسرار
56 المجلس
57 قمر
58 بيدق
59 مرافق
هام جداً
59.5 فارس النمل وعدوه
60 السُّلطة
61 اللورد
62 أمر
63 مهرجان
64 حالة
65 مهانة
66 تحقيق
67 زيارة
68 سيف
69 إصابة
70 صداع
71 إرث
72 التحرك
هام جداً
73 الإبحار
74 محيط
75 لقمة
76 صديقة
77 الجبهة
78 الجنوب
79 غُرز
80 منطق
81 الهجوم
82 لابسوس
83 دموع
84 أغنية
85 نجاة
86 أخ
87 ولاء
88 نور
89 وعاء
90 فراغ
91 سفاح
92 حرية
93 كون
94 فاكهة
95 اعتراف
96 احتفال
97 جواسيس
98 كونكا
99 أحضان
100 وعد
100.5 أشرار
101 القرية
103 سلام
104 زعيم
105 قوقعة
106 أميرة
107 تحالف
108 ألم
109 دفء
110 مواجهة
111 أنانيّاً
112 الوداع
113 الشرق
114 إيغا
115 عهد
116 أليكسا
117 ولادة
118 إمبراطورة

102 رومي كومو

8.2K 802 1.9K
By tabola03

كولِن

مرّت عدة أيام منذ رحلتنا الأولى إلى قرية شعب النهر قام الجميع خلالها بزيارات قصيرة كي لا يتغيبوا عن واجباتهم في المعسكر. كنت أتعذّر طوال الوقت كي لا أرافقهم، ولكن ماتيو أصرّ اليوم على تلبية دعوة ريادو لنا جميعاً لأخذ جولة على القارب، تتبع رحلة الأبطال الأسطوريين في النهر كما قال المعتوه. بحثتُ عن أخفّ ما أمتلك من ملابس، رفعت كُمّ سُترتي إلى أعلى كوعي، فتحتُ أول أربع أزرار أمامية، وارتديتُ نعليْن من القش جلبتهما لي رين من قريتهم كي لا تغرق قدمي في العرق. وقبل خروجي حشرتُ سلاح رومي الصغير في جيبي، لا أُطيق صبراً لإعادتهِ.

رأيتُ مايرون عند الشاطئ يُراقب البحر كما كان يفعل منذ عدة أيام، فتوجهتُ إليهِ بصدر ثقيل.

"ألم تدعوك رين للمجيء معنا اليوم؟"

"لقد رفضتْ"

"اسمع، إن لم تصلني الأخبار التي أُريدها خلال خمسة أيام كما حسبت، سوف ننفذ خطتك. ولكنني أُفضّل ألا نصدم ماتيو أمام الجميع، ويجب علينا أن نُفكّر ملياً إن كنا سنواجهها وحدها أولاً. قد لا يكون هذا مقنعاً كفاية لك ولكن نسبة أن يُصابا بمكروه ضئيلة جداً، لذلك تعال معنا اليوم، صدقني سوف يتخفف قلقك عند رؤية المغفلين وقد تحولوا إلى مجانين"

أطرق رأسه، ثم قال بعدما دفعني بعيداً: "توقف عن القلق عليّ هكذا وكأنني طفل. لقد وعدتُ العجوز باحتساء الشراب معه لذلك رفضت عرض الآنسة رين، واعتذرت إليها جيداً. سأواصل الثقة بحكمك، إنني غير معتاد على عدم وجودهما في الأنحاء لا أكثر"

لا تقلقا علينا ولا تتهورا إن صحّت تنبؤاتك، سوف نتدبر الأمر وإن اضطررنا لمحاربة الشياطين للعودة.

إيريك عقلاني إلى حد ما، ولكنني في نهاية المطاف لا أستطيع تجنب الشعور بالأسى من حال مايرون. كُنت سأنقلب متطرفاً ومتحيّزاً لإخوتي إن حُكرتُ هكذا ولن تهمني الأوامر. إنه بالغ، لأول مرة منذ التقينا أعترف بذلك.

لمحتُ الأميرة من البعيد تقف عند باب العيادة مُكفهرة الوجه، وكأنها أمام رقعة الشطرنج تُجهد نفسها بالتفكير. عندما اقتربت قليلاً وجدتُ حذاءها متسخاً بتربة مُشبّعة بالماء، وحُمرة إنهاك المشي مسافة طويلة تكتسح وجنتيْها. أذهبت إلى اجتماع سري مع ساي؟ ربما الفجر؟ إذن أوصلتها الأخبار؟ هل سأجد صدعاً في قناع الآنسة لايتون الذي تحترفهُ وأخيراً؟

ابتسمت: "صباح الخير يا حضرة اللورد، تبدو مستعداً جيداً لرحلة اليوم"

رددتُ الابتسامة: "صباح الخير آنسة لايتون، الاستعداد هكذا سيُريحني من إجهاد التنفس"

صمتنا، نُتابع التبّسم، ولا نتوقف عن فعل ذلك كلما تقابلت نظراتنا عندما اجتمع الجميع، وأثناء المشي المرهق في الغابة، وركوب القارب الكبير الذي جلبهُ ريادو لاستهلال الرحلة. إلا أنها جلست في المقدمة مع ماتيو ورين، بينما تمركزتُ في المؤخرة فما عُدنا قادرين على رؤية وجوه بعضنا واحتمال ادّعاء الغباء أمام الآخر. أحياناً، أحياناً فقط، أكره تمرّسي منذ الصغر على السياسة.

"لماذا تُجدّف نحو اليابسة ريادو؟"

"سوف نُقلّ رومي معنا"

سحقاً، هذا ما كان ينقصني، الفتاة المتحجّرة والفظّة دليلاً سياحياً لعيناً لنا.

رين

طوّقت رقبة رومي في حضن قسري بينما قامت هي بجرّي معها إلى منتصف القارب، ما عادت تقاومني بعدما جلبتُ لها الصداع بالتطفل في حياتها كل يوم، إلا أن اللعينة لم تُخبرني عن جدول تمارينها بعد. أخذتْ مجدافاً وبدأت في تحريك عضلاتها الرشيقة لينطلق القارب مع التيار الهادئ. لاحظتُ استياء كولِن المضاعف من وجودها، هذا الأمر غريب جداً، أعلم بأنه تناطح معها عندما تقابلا أول مرة، ولكنها ليست المرأة الأولى التي تتحدّاه، ولقد عامل باقي نساء القبيلة باحترام فلماذا كل هذا الامتعاض منها تحديداً؟ لحظة. بحسب خبرتي المتواضعة في المجتمع البشري، اكتشفت بأن الرجل عندما يُعامل فتاة ما باختلاف، سواء كان بشكل جيد أم سيء، فهذا لا يدل إلا على شيء واحد فقط. نعم، إنه الانجذاب الغير مريح من حقيقة كون الطرفين من جنسيْن مختلفين. هذا الخناق على الأنفاس، واختلاس النظرات، والأجواء الثقيلة لا يدلّون إلا على وجود شرارة بريئة إن قُدّمت لها المساعدة الصحيحة ستتحول إلى نار مخيم عظيمة.

سمعتُ داي يقول: "ما هذهِ الابتسامة المقرفة؟"

تجاهلته. نعم، فأنا، تماماً مثلما فعلتُ مع ماتيو، سوف أساندك يا أخي على جهلك برغباتك المشتعلة.

كولِن

لا أحب أبداً التّغني في جمال الطبيعة، فجميعها أراضي وسخة بالنسبة لي. ولكن الحق يُقال، هذا النهر المُتمايل، العميق والضحل في أحيان كثيرة، يبدو كدرب يُضفى إلى بوابة ما. بوابة أحلام ماتيو ربما. الأشجار تميل عليهِ وكأنها تنحني احتراماً لملك، تُخفي مكنونات الغابة عنه، والحشرات الطائرة تحلّق تنقلاً فوقهُ لتُضفي القليل من الألوان على اخضرارهِ المُمتزج مع بُنّي الأتربة.

توقف ريادو وأخته عن التجديف عندما أخذ النهر دفّة دفعنا بالكامل، ثم قال: "خرج الأبطال الأسطوريون من المدينة المقدسة بعدما انهالت على شعبنا الأوبئة والفيضانات القاتلة، واتخذوا هذا النهر مسيراً لهم لسحق الشياطين. كانت حرارة الرعد الجبّارة أسلحتهم التي نقّت لنا المنطقة من سوء فأل تواجدهم، وفي المقابل كان النهر هنا يزودهم بالماء والطعام اللازميْن لهذهِ الرحلة الشاقة"

أشار نحو مجموعة شلالات صغيرة جداً في الأمام: "أترون الأشكال الدائرية للمصب؟ إنه آخر العلامات الدالة على توقفهم هنا لطهي الطعام"

سأل ماتيو باهتمام: "من أين أتى هؤلاء الشياطين؟"

"إنهم بشر قد عماهم طمع إخضاع غابتنا لأنفسهم فمُسخوا لشياطين تجلب البؤس، أي شيء يحاول السيطرة على الطبيعة تجري دماؤهم في جسدهِ"

"لهاذا السبب أنتم تروْن قوى البرايمرد شيطانية، أصبح كل شيء منطقياً الآن"

همستُ لداي بجواري: "منطقياً؟ لا أعلم متى سيتوقف الأحمق عن تصغير نفسهِ أمامهم، كيف لإنسان عاقل أن يُصدّق هذا الهراء؟"

علا صوت رومي بدون الالتفات نحوي: "نحن على الأقل لا نؤمن بأن قطرة من الشمس ستلد بشراً"

إن كان شعبهم سيُصنف بين شياطين وأبطال، فأنا أُجزم بأنها زعيمة الشياطين.

ماتيو

"قوى البرايمرد لا شك من وجودها على الأقل، فأين الدليل الدامغ على صحة قصّتكم؟"

"قصفكم بالصواعق سيجعلك تُصدّقها على الفور"

"ها! أين هي إذن؟ هيّا إنني مستعد لأشوى حياً!"

استمر عراكهما إلى أن أدركنا الشلالات الصغيرة لنترجّل قليلاً فوق الصخور ونحرّك القارب بأنفسنا كي لا يعلق. سحقاً، لم أرى كولِن يرمق أحداً بحقد هكذا سوى أبراهامز. من الجيد بأن ريادو ليس متعصباً ولا أحمقاً كي لا يُدرك بأنهُ مجرّد جدال كبرياء. ولكن من أنا متعجّب منها هي رين التي تبتسم لهما بخبث، ألا يُفترض أن تبدأ بإلقاء تهديدات الأعشاب على وقاحة كولِن الفجّة؟

أثارت انتباهنا مجموعة صخور ملساء مصفوفة بجانب بعضها على الضفّة عليها رسومات حمراء، وكأنها دوامات هندسية متداخلة في بعضها، وكأنها وحوش، ومن بينهما استطعتُ اقتناص تشكيل غريب لرجل يوجّه رمحاً نحو الشمس.

عاد ريادو ورومي للتجديف بقوة فقلتُ لهما محتجاً: "لماذا العجلة؟ أُريد رؤية الآثار على مهل"

ردّت عليّ رومي بحدّة: "سوف نُصاب بسوء الفأل، هذهِ آخر آثار تواجد الشياطين هنا، ليس من الجيد البقاء طويلاً"

وافقها ريادو: "هذهِ ليست مجرد أصباغ، إنها دماؤهم"

قال كولِن مشمئزاً: "ولماذا بحق الجحيم توثقون الهزيمة بالدم؟ ألا تعلمون عن الورق والحبر؟"

نهضت رومي بعدما رمت المجداف لرين، ثم قالت مُزلزلةً القارب: "ما الذي أتى بك إن كنت لا تستطيع احتمال رؤية هذا القدر القليل من الدم أيها الأبيض المُدلل؟ ما الذي جعلك تخرج من قصرك؟؟ قانون الحياة هنا لا يحتمل الحسّاسين المُرفّهين أمثالك! هذهِ الغابة لم ولن تناسبكم أبداً فما رأيك أن تغادرونا إلى الأبد!!"

نهض كولِن بدورهِ مقترباً منها: "إنها أمنية حياتي أن أغادر جحيكم هذا! ولكنني لن أسمح لكِ بنعتي بالمدلل المرفّه، لستم الوحيدون الذين قاسو المعاناة في العالم!!"

ازدادا قُرباً كلما تعالت الشتائم واللعنات والإهانات العنصرية من كليهما، فاستنجدتُ بعيني نحو جيني كي تُنبّه رين لإيقافهما، ولكنها هي ذاتها ردّت لي النظرة المتعجبة من صمت الحُميراء وكأنها تستمتع. لا مفر، سوف أطرح كولِن مغشياً عليهِ وأرجعهُ برفقة ساي مع قرد وثعبان للحراسة إلى المعسكر، سوف يُفسد الرحلة وربما يُثني ريادو عن خطة السلام إن استمر الوضع هكذا.

لوّحت لي رين قبل أن أنهض، قائلة بصوت خفيض جداً: "اترك أمرهما لي"

ما الذي تنوي عليهِ؟ وضعتُ يدي على قلبي عندما انتصبت وقوفاً أمامهما، وفي غمرة انشغالهما التام في تقليل شأن الآخر بلا دفاع، دفعتهما نحو الحافة ليترنحا بأيدي في الهواء. فقامت، وبقوة أكبر، بركل رومي في المياه وداي تبعها بركل كولِن ليسقط هذا الآخر معها في النهر، وأمام الصخور الدموية اللعينة. وثب الجميع نحو جهة سقوطهما مما جعل القارب يميل بخطر قليلاً، ولم نستطع رؤية أي شيء سوى فقاعات الهواء.

رفعتُ ذراعاي احتجاجاً أمامها: "لماذا فعلتي ذلك؟!"

هزّت كتفيها بعدما تصافحت مع داي مصافحة التفاهم التام: "ماذا؟ لقد كانا مزعجين"

فوجّهت لها جيني السؤال المستنكر: "وحلّكِ الوحيد هو بإغراقهما؟؟"

"توقفوا عن المبالغة، كلاهما يُجيدان السباحة ولا أعتقد بأن الشياطين ستأبه بشجار أطفال"

كنتُ على وشك خلع سُترتي مثلما فكّر ساي، ولكننا توقفنا عندما اضطرب الماء قليلاً لينبثق رأس رومي تُجاهد على أخذ أنفاس عميقة، زاغ رأسها في جميع الاتجاهات ثم صرخت: "ما الذي يفعله اللعين!!"، ملأت رئتيها بأكبر قدر من الهواء وغطست.

قال لي ريادو وهو يُنزل سُترتي: "أختي أفضل غطّاسة في القرية، لا تقلقا عليهِ"

رميتُ السترة على أية حال فالرطوبة تزداد ثقلاً، وآمنتُ بأنه كان محقاً عندما اضطرب الماء مُجدداً وظهر رأسيهما من الأعماق. كولِن يتّكئ عليها، يتنفس جيداً، وهي تسحبهُ نحونا بمهارة من أنقذ غيرهُ العشرات. ساعدناهما على الصعود ومنحناهما مساحة للاستلقاء فوق القارب.

وقبل أن يُعلّق أحدنا انفجرت رومي بجانبهِ: "ما الذي كنت تفعله؟! لقد رأيتك تغطس للعمق بنفسك"

أولاها الظهر ليُفرّغ ما ابتلعهُ من مياه: "ربما سحبتني شياطينكم..."

لم تُجب، بل نهضت لتجلس عند مقدمة القارب تُتمتم بهراء.

كولِن

صفقتُ البعوضة الثامنة اللعينة التي كادت تقرصني اليوم بنعلي، صدقاً، لا يمكن للمرء الاستلقاء براحة هنا. ركنّا القارب على الشاطئ بعد عشرين دقيقة لعينة من موقع الشياطين، للذهاب إلى موقع آلهتهم في عمق الغابة كما قال ريادو. ولكنني أبيتُ مرافقتهم، وفضّلتُ الانتظار هنا على القارب لاسترجاع بعض بقايا دماغي.

"بعوضنا يُفضّل قرص البشرة الشاحبة، سيتم نهشك إن لم ترتدي سترتك"

نهضتُ بعدما وضعتُ وجهاً مستاءً جداً من رجوعها: "لستُ في مزاج العراك الآن"

تجاوزتني لتجلس عند الضفّة، غمرت ساقيها في النهر، ثم قالت بصوت مكتوم: "أعتذر... لقد أنّبني أخي"

بالكاد استطعتُ سماع ذلك.

حملتُ نفسي لأقف بجوارها، ومددتُ لها سلاحها: "خُذي... أنا أيضاً بالعادة لا أكون أحمقاً هكذا إلا مع ماتيو"

استلمته مني، تأمّلته القليل من الوقت تسترجع أمر فقدانهِ ربما، ثم قالت وقد ارتفع حاجبيْها: "أهذا ما جعلك تغطس أكثر في النهر؟"

"قد لا أقدّر أساطيركم كما يجب، ولكنني أعلم جيداً قيمة الأسلحة لأصحابها، السيوف لدينا في الغرب يتم توارثها عبر الأجيال واحترامها واجب على الجميع"

"الأمر لا ينطبق علينا، هذا السلاح تم صنعه لرميه في وجه العدو، لدي العشرات منه"

"استلميهِ شاكرة على التوفير فقط"

هل أنا أتخيل، أم أنها ابتسمت قليلاً؟ أخفت السلاح أسفل تنورتها الملوّنة، ثم أخرجت منه خرقة صغيرة ملتفة على بعضها، وصُعقت عندما فتحتها لأرى إصبعين مُجففين، إصبعين لبشر.

"هذا ما استطعتُ حِفظهُ من بقايا والديّ بعدما تم رميهما مُقطّعين بالكامل مع آخرين عند جانبنا من النهر، كُنت ما أزال صغيرة على عكس ريادو الذي كان في مقتبل شبابهِ، فلم أستطع تقبّل الأمر، لم أستطع الموافقة على أن تضحيتهما ضرورية من أجل حمايتنا نحن الصغار. إنني أكره شعبكم، أكره جشعهم، أكره نظرتهم المتفوقة، أكره التسمية المقيتة التي ألصقوها علينا وكأن لوننا هو التعريف الوحيد لنا. إنني فقط أتمنى زوالكم بعيداً عن أراضينا، لا أُريد سلاماً، لا أُريد التعايش، فإلى الآن ما تزال الجثث المقطعة من تلك الليلة تُلاحقني في كوابيسي تُطالبني بالانتقام"

تربّعتُ الأرض بجانبها، ثم قُلت وأنا أحكّ رقبتي من قرصة بعوضة طازجة: "ستتحقق أمنيتكِ هذهِ، ماتيو لم يُعلن الأمر بعد، ولكن عقد السلام الحالي معكم مؤقت. بعد انتهاء حربنا مع الشرقيين سوف يُهجّر الغربيين أو ما تبقى منهم بالأصح، ويسوّي مدنهم بالأرض. لن تعودوا جزئاً من مملكتنا بعد ذلك. أيكفيكِ هذا أم تُريدين اقتلاع عيني الأخرى كي أعوّض موت والديك؟"

تطلعت إليّ بعينين مُعتدلتيْن في التفاجؤ، كيف ذلك؟ لا أعلم، وكأنها تُحافظ على كبرياء محاربة اعتادت سماع الأخبار المروعة. لم أرى ذلك على تعبير امرأة من قبل. الأمر ليس غريباً، الصدمات قد تُضعف البعض، ولكنها مع آخرين قد تصقلهم وتجعلهم لا مُبالين أمام مثيلاتها، رؤية الجحيم للمرة الثانية لن يُشكّل فرقاً.

"ما الذي حدث لعينك؟"

"يُمكنكِ القول بأنني دفعتُ ثمن سذاجتي الوحيدة، فقدانها ليست أكبر مصائبي على أية حال. إنني في واقع الأمر أحسدكِ على هاذيْن الإصبعين، فأنا لم أمتلك فرصة الاحتفاظ ببقاياها لأدفنها كما يليق بها"

"زوجتك؟"

"والدتي"

صمتنا قليلاً احتراماً لذكرى الأموات، ثم قامت رومي بإخفاء الإصبع الأطول في تنورتها، وطوت الإصبع الرشيق، الأصغر حجماً، في الخرقة وقدّمتهُ لي.

"ما الذي تفعلينه؟"

"ما عدتُ أهتم إن لم تحترم معتقدنا، سأجعلك أول رجل أبيض أتقبّله إن اعتنيْت بإصبع والدتي وكأنها والدتك"

أنا، كولِن لويس روزمان، أقوى لورد في المجلس سلطةً، المرافق الملكي، المخطط الحربي العبقري، أحمل بقايا هذهِ ال... سحقاً لي ولمناصبي. استلمتهُ بكياسة وحذر، ثم دسستهُ برفق في جيبي. إنه ساخن. إنه يتّقد. إنه يحمل روح أم حاربت دفاعاً عن صغارها.

انتصبت رومي بسرعة قائلة بصوت يرتجف قليلاً: "هيا بِنا، سوف أُثقفك قليلاً بحكاية رومي كومو إلى أن نصل إلى الشلالات المقدسة، لا يُمكنك تفويت رؤية ما نفتخر بهِ هكذا"

لم أكن مُنصتاً جيداً لقصة آلهتهم ورقصاتها التي جلبت الخير لهم، فقد كنتُ أمعن جيداً في تفاصيل هذهِ الفتاة التي لم أوليها الانتباه جيداً معمياً بكبريائي الغربي. لون بشرتها لا يمكن وصفها بالداكنة فقط وكأن جميع الملونين لا يختلفون عن بعضهم، فهي بنّية غامقة، دافئة الدرجة، تلمع، ويُمكنني القول بأنها ملساء جداً. الأصباغ الحمراء تليق بها. عينيها سوداء كالحبر، لا توجد مساحة لأي لون آخر في عمقها. وشعرها القصير يمتلك تسريحة غير متساوية وكأن طفلاً أخذ مقصّاً وعبث بهِ، يجعلها بطريقة ما أكثر برّية.

"ما الذي تنظر إليهِ؟"

"إنني فقط متعجب لأنني للتو أُدرك بأنكم لا تُشبهون الغربيين من الأصول الجنوبية لدينا في المملكة"

"لا تجمعنا في شكل واحد، قالت لي والدتي بأن هنالك شعوب لا يمتّون لنا بصلة في جزر أخرى. لستُ أعلم إن صمدوا في وجه الغزاة الجُدد، فنحنُ أفضل من استطاع التصدّي للغزو الأبيض قبل مئات السنوات، وفعلنا المثل ما إن ظهر هؤلاء الجدد أيضاً"

إنها ليست مُخطئة، عدد الجزر الجنوبية كبير جداً ومعظمها غير مأهولة بالسكان، خاصة البعيدة جداً ذات المناخ الأكثر جفافاً من هنا. لربما عاش فيها بشر في السابق ولكن وصول المستكشفين أدّى إلى مذابح جماعية، حرائق، تهجير، عبودية، صيد جائر... حسناً، لم أقل يوماً بأنني أفتخر بماضينا هنا، أنا فقط لا أحتمل الاهانات ضد البرايمرد. تنهدتُ بقوة عندما تذكرت بأن الملك السابع كاد يقضي على حياة كل من لا يمتلك بشرة بيضاء في المملكة.

لكزتني رومي على ساعدي لتنبّهني على دخول ممر صخري ضيّق بين الأدغال، تبعتها بلا شكوى إلى أن خرجنا نحو مساحة دائرية تحّوطها الأشجار والصخور، نصف جدارها يتكوّن من مجموعة شلالات هادئة تصبّ في جدول شفاف يعلوه قوس قزح رفيع شاحب. جميع الصخور قد نُقش عليها رسومات غريبة لبشر وأشكال متعرجة أخرى.

"هنا قامت رومي كومو بتعليم أجدادنا الرقص للطبيعة للمرة الأولى، الكون كلّهُ يتمثّل هنا، وجميع أراوحنا ستعود بجوارها هي أمنا الأولى بعد الزوال. أنظر إلى الأرض وستجد آثار أقدامها ما تزال مطبوعة، نستطيع أيضاً محاكاة رقصاتها. لقد علمتنا بأن الماضي ليس مجرد أوقات حدثت وانتهت، بل هو أساس وجودنا الحالي وفرصة لرؤية المستقبل بحكمة. وصاياها هي ما جعلت عيشنا في هذهِ الأرض الطيبة والغنية مُمكناً"

رومي.. رومي كومو ها.. ربما لأنها ما عادت تحاول استفزازي، أراها الآن رزينة بل وأكثر بهاءً في الهدوء من أي فتاة غربية قابلتها عندما تتحدث عن معتقدهم. إلا أن ضحكات رين المدوية على منظر ماتيو الغبي وهو يحاول جعل الأميرة ترقص معهُ عنوة في الجدول دمّر الأجواء المقدسة بالكامل.

قالت بعدما ضمّت ذراعاها في بعضها: "رين هذهِ تنشر القشعريرة في جسدي، إنها لا تتأثر مهما حاولتُ جعلها تكرهني، ولا أستطيع فهم لماذا ما تزال جيني هذهِ تتحدث معها بالرغم من أنني رأيتها توقعها في المشاكل مع أميركم عشرات المرات"

"بعض العلاقات تعمل بهذهِ الطريقة المعوّقة"

"إنها لا تكف عن سؤالي عن جدول تماريني، لا أمتلك شيئاً كهذا، عضلاتي تصقل نفسها من الصيد المتواصل"

لوّحت لنا بطلة حديثنا من البعيد: "هل اعتذرت بقبلة جيّدة كولِن؟"

ردّ داي بصوت لا يقل علوّاً: "لقد أخذا الكثير من الوقت فلا أعتقد بأنهُ توقف عند قبلة"

"أنتما آخر من يتحدث!"

...

ماتيو

قَدِم ريادو ورومي إلى المعسكر بصفتهما ممُثلي شعب النهر مع عدد من الرجال لاستعراض أنفسهم، كان الجميع في حالة توتر قصوى من رؤيتهم يدخلون مجلسي بأريحية، من رؤيتي أُرحب بهم بأريحية أكبر وكأننا أصدقاء قدامى، مما جعلهما في المقابل يشعران بتحسّن بيننا. كولِن على وجه الخصوص شدّد بأن من سيحاول تقليل شأنهم ولو بالنظرات سيتم طردهُ من القوات. نعم، من كان يتوقع. قرأنا اتفاقية السلام وبصمنا بعد تمريغ أصابعنا في الحبر، ختمتُ بختمي وتصافحنا رضًى في النهاية. توجهنا بعد ذلك إلى الملوكا لقراءة الاتفاقية على الكاهن العظيم، وهذهِ المرة رافقنا السافل والعم ونائب القائد وفرساني لطرد الملل كما يقولون. ونعم، لقد أجبرتهم على رمي ستراتهم والتمرّغ في الأصباغ الحمراء كما أفعل دائماً كلما أتيْت.

جلستُ أمام الكاهن العظيم بينما كان كولِن يقرأ الاتفاقية ببطء له، إلا أنني لا أعلم إن كان منصتاً من الأساس. أمر ما غريب يحدث مع هذا الرجل. لا أستطيع أبداً معرفة ما يعصف في رأسهِ، وعندما أمعن محاولاً قراءتهُ ينتابني شعور رؤيتهِ يُناضل شيئاً، وكأنه ليس جالساً في مقر مسالم. ربما بفعل تواصلهِ مع أجدادهم في الماضي؟ قد يكونون هم أيضاً اكتشفوا أسراراً لا نعلمها عن البشر مثل الملك الأول مكّنتهم من الترحال الزمني إلى الوراء مما يخلقُ الفوضى في جسدهِ. لا أتوقع بأن ذلك خيالي أو غير معقول، فقدراتي أكبر دليل على إمكانية حدوث أي شيء.

نطق بتصلّب بعد انتهاء كولِن قراءة الاتفاقية كاملة: "التشيجا، الياهي، والرقص لرومي كومو معهم جميعاً وإلا عُدنا لسفك دماء بعضنا"

تبادل ريادو ورومي نظرات تعجّب، ثم قال عندما طالبتهُ بتفسير: "التشيجا والياهي مشروبات روحية نحتسيها قبل طقوس الرقص، يبدو بأنه لن يقبل بالسلام إن لم نُشارككم في طقوس رومي كومو. ولكن جميعاً... لابد من أنه لا يستطيع أن يعي حجم جيشكم"

عقدتُ ذراعي أُفكّر، ثم قُلت مُصرّحاً بثقة: "لا بأس، نستطيع مساعدتكم في تحضير كميات تكفينا، ونستطيع إقامة الحفل في المعسكر مع الجميع، المشروبات الروحية من مُفضّلات الغربيين على أية حال ولا أعتقد بأن أحداً سيمانع احتساء نكهات جديدة عربوناً للصداقة، ألستُ محقاً أيها العم؟"

ضحك العم لومان موافقاً: "بالطبع يا سمو الأمير، ماذا عن الكوكا؟ سمعتُ بأنكم تبرعون في تجهيزها لتُلائم المزاج جيداً"

تدخل مايرون قلقاً بعض الشيء: "أليس تأثيرها أسوأ من الكحول؟"

"صدقني، الجنود يحتاجون إلى ما هو أسوأ من الكحول لينسوا كوابيسهم ليلة واحدة"

صرخ فُرساني الحُمر بإزعاج لا يليق بالمكان: "يحيا الأمير والمشروبات الروحية والكوكا!!"

ومن هنا، بدأنا بالتنقل ذهاباً وإياباً بين المعسكر والقرية، رجالنا يُساعدون رجالهم في جميع النباتات الروحية، ونساؤنا يُقدّمن العون لنسائهم في تحضير المشروبات للجميع. ما تزال تقارير الوفيّات تصلني يومياً، ولكنني أشعر باستقرار نفسي غريب والسلام المستحيل الذي تصوّرهُ الجميع ماثلً أمامي في تجهيز مهرجان آخر. إلا أنّ هنالك أمراً واحداً كاد يدعوني للجنون كلما دخلت القرية؛ جيني التي لا أعلم لماذا أصبحت تحمل الأطفال الرُضّع وتعتني بهم كلما سنحت لها الفرصة.

"ملاك! لا يمكن للمرء ألّا يراها ملاكاً وهي تحمل الأطفال هكذا"

ضربتني رين على رأسي ونحن نتلصّص عليها من وراء الخيم: "توقف عن الحديث مثل القائد، فتاة تحمل طفلاً ليس أمراً غريباً"

"كيف تقولين ذلك؟ ألا تستطيعين تخيلها..."

"تحمل طفلكما هكذا بين ذراعيها؟"

"أكاد أذوب من سعادة هذا التخيّل، جيني تحمل طفلي وتُقبّلهُ وتداعبهُ هكذا؟ الملك كريس حقاً محظوظ بزواجهِ فتاة أحلامهِ وإنجابهِ طفل منها، وإن كان قد فقد تعيس الحظ هذا بعد سنة واحدة"

"ماتيو ركّز معي قليلاً، الكوكا هذهِ ممنوعة عليكم، لا أهتم لما سيحدث للجيش، أما أنتم فلا، إنها مادة قوية جداً. إنني أتحرّى مع داي عن شراب الياهي أيضاً، إنهم يُعدّونهُ من نبتة لم نجد لها أي مراجع يُسمّونها هنا بالآياهوسكا، ما زلنا لا نعلم اسمها العلمي، إن كانت تؤثّر بقدر ما تفعلهُ الكوكا فلن أدعكم تحتسون قطرة من شرابها"

"حسناً.. حسناً.. كما تقولين ماما رين"

كنتُ سعيداً جداً بمراقبة ملاكي الحنون، لدرجة عدم إدراكي بأنني لربما أغضبتُ رين قليلاً، مما جعلها تركلني بقوّة لأقع في وسط دائرة لعب الأطفال. جيني تُبحلق بي بعجب، بالنظرة الكارثية من وجودي حولها دائماً.

"لقد تعثّرتُ بصخرة..."

"حسناً..."

جلستُ باعتدال بينهم ولا أعلم لماذا انفجر الطفل الذي تحملهُ بالبكاء وكأنني أتيت لإخافتهِ، اشكر رومي كومو جيداً على النوم في حضنها يا ناكر الجميل. لم تقدر على تهدئتهِ فخرجت والدتهُ من الخيمة لحملهِ، إنها ذاتها التي غفت عندها قبل أيام.

"هل أصبحتما صديقتين؟"

"نعم، السيدة أيوا الأكثر لطفاً هنا، لقد وجّهت جميع النساء القادمات من المعسكر لجعل الطقوس ناجحةً في الغد. إنني أمتلك تقديراً لا حدود له للأمهات العاملات، لمن حملن أطفالهن أشهراً متعبة ومريرة، ولم يتوانين عن التربية كما يجب، وفي الآن ذاتهِ يُحقّقن أهدافهن بدون أن ينعتن الأطفال بالعائق"

"سوف أكافئها لاحقاً على جهودها، بالرغم من أن لا أحد هنا يهمه الذهب والتقدير من أمثالي. أتعلمين، بدأتُ أُفكّر باختيار تاريخ الغد يوماً نحتفل فيهِ بالسلام الأول مع سكان الجزر كل سنة في المملكة، سأجعلهُ تقليداً دائماً كي يتذكر الغربيون أهميتهم بالنسبة للبرايمرد إذا ما ارتبط الأمر باسمي"

"خطوة ذكية جداً، لربما حينها يبحثون في تاريخهم الدموي هنا ليُدركوا أهمية التغيير وإصلاح بعض العقول الصغيرة قبل فوات الأوان. إنه أمر غريب إن أردت رأيي، أن يخشى أحدهم لوناً، وكأن دماءنا ليست حمراء ذاتها أسفل جلودنا جميعاً"

"يخشى؟ أنتِ محقة، إنه بالفعل خوف أسفل قناع السيطرة. إلا أنني لن أترك الأمر يمضي هكذا، إن كان هنالك تغيير فسيبدأ من عهدي ما دمتُ ما أزال لم أهرب من القصر"

لا أعلم لماذا وهنت ابتسامتها بعد كلماتي هذهِ، وكأنها تستعد لذرف الدموع.

لمستُ كتفها بخفة: "ما الخطب؟ أتتألمين في مكان ما؟ أخبريني وسوف أُزيلهُ على الفور"

هزّت رأسها لتعود باسمة: "إنه لا شيء"

صدح صوت كولِن صارخاً لي من البعيد: "ماتيو تعال إلى هنا بسرعة، لقد لدغت أفعى جندياً أبلهاً"

انتصبتُ على الفور ولكن جيني استوقفتني بقبض ذراعي من العدم لأتيبّس تماماً. كُنت في انتظار أن تقول شيئاً ولكنها ظلّت تُبحلق فيّ مُشكّكة، بل ومتفاجئة من نفسها.

نزلتُ أمامها: "أهناك ما تودين قوله؟"

تركتني تهزّ رأسها بلا، ثم توجهت نحو الخيمة لتقول من وراء الستار عندما أصبحتُ لا أراها: "اللورد روزمان أخبرني بأنهُ أرسل جاد وإيريك إلى جزيرة لابسوس عندما سألتهُ عنهما لتحرّي مناوشات حدثت بين الجنود هناك فلا تقلق عليهما، إنهما بخير وأمان تام"

"حقاً؟ وأنا الذي كنتُ أتساءل لماذا يتهرّب هو والسافل من سؤالي، لماذا لم يُجبني بصراحة؟"

"لأنهُ يعلم بأنك تثق بهِ يا سمو الأمير، الضغط أحياناً يجعلنا نفعل أموراً غريبة..."

لا أعلم لماذا ينتابني هذا الشعور، ولكنها لا تبدو على طبيعتها اليوم.

"ماتيو سوف يموت الرجل!!"

انطلقتُ بسرعة نحو الاتجاه الذي يُزمجر منه كولِن، ونزلتُ على ركبتي أمام الجندي، لقد تم ربطُ رجله بالخرق جيداً قبل انتشار السم. قمتُ على الفور بعملية التنقية محاولاً التركيز في ألّا يُصاب الكبد والكليتين بالأذى.

"لماذا لم تُخبرني بأنك أرسلت إيريك وجاد إلى لابسوس؟ أي مناوشات هذهِ التي تحدث هناك؟"

لم أسمع منهُ رداً فورياً فرفعتُ بصري نحوه لمدة ثانية لأجدهُ مصعوقاً بالخبر، ولكنه سرعان ما أجابني: "لقد نسيتُ إخبارك، الأمر لن يهمك الآن وأنت تعمل على الاحتفال، أستطيع انهاء الأمر بنفسي مثلما أفعل دائماً، ولكن من أخبرك عن ذلك؟"

"جيني للتو"

"أقالت أمراً آخر؟"

"بألا أقلق عليهما لأنهما بأمان وبخير. لم أكن لأفعل على أية حال فحن نتحدث عن إيريك وجاد، بالطبع لن يُصابا بأذى فهما أفضل من نينجا أودا إن عنى الأمر التحقيق"

"هكذا إذن..."

رفعتُ بصري ثانية أخرى نحوه فوجدتهُ، ويا للعجب، يبتسم متعرقاً بعض الشيء، ما خطبه هو الآخر؟

"ما رأيك أن نقوم بزيارة للسيدة الشرقية ودعوتها لحضور احتفال الغد هذهِ الليلة ماتيو؟ لقد تجاهلنا وجودها وقتاً طويلاً"

"سحقاً لقد نسيتُ أمرها بالكامل!"

...

جيني

رتّبت لي هيتومي شرائح الموز بعد تقطيعها على المائدة بمهارة، وحاولتْ تقديم الفراولة التي وصلت حديثاً مع التوت البري وأغذية أخرى من المملكة لتاكي، ولكنهُ أبى تناول ولو حتّى القليل.

مسحتْ على رأسهِ في حضني: "هذا ليس تاكي الذي أعرفهُ، أتعتقدين بأن حرارة الجو هي ما تُتعبهُ يا صغيرتي؟ فهو ينتمي لمناخ أكثر برودة"

"لقد أُصيب بصدمة جرّاء حادثة غير مقصودة، ومنذ حينها انخفض نشاطهُ وقلّت شهيّتهُ هكذا"

"كم هذا محزن، لقد كان حيوياً لدرجة اللحاق بكِ إلى نصف العالم الآخر. لطالما تشاطرتُ مع سيدتي أليكسا مشاعر التعجب منه، إنه فريد من نوعهِ وأذكى من أي حيوان رأيناه في حياتنا"

"الذكاء الزائد خطر، لو كان طبيعياً لعاش حياتهُ هنيئاً"

اقتنصت تجهمي اللحظي لتقول على الفور: "أهناك خطب ما صغيرتي؟"

"الإنهاك المُعتاد من التنقل بين مخيمات المرضى والقرية، سأقلل زياراتي إليهم بعد احتفال الغد، أأنتِ واثقة بأنكِ لا تودين الحضور؟"

"الحذر أفضل من التهور صغيرتي"

"الوضع ليس متوتراً مثلما تعتقدين فما عاد هناك حرس أمام الخيمة، صدقيني سمو الأمير سيسعد بتواجدكِ وسنظل معاً طوال الوقت"

"إنني لا أُشكك بنوايا سعادتهِ الطيبة، إلا أنني واثقة بأننا سنواجه المشاكل فليس الجميع متفهمين بقدرهِ، لا أود إفساد الأمر على سموّكِ"

"يُمكنكِ ترك التهذيب هنا، لقد كسرتُ القوانين عشرات المرات في الغرب ولستُ نادمة على ذلك"

مسحتْ على خدّي بإبهامها قائلة بنبرة تأنيب: "لقد أصبحتِ جانحة يا صغيرتي، أنظري إلى هذهِ الآثار التي لا تزول، وضع أصباغ غير معروفة قد يؤذي بشرتكِ"

"صدقيني الجنوح الحقيقي أبعد ما يكون عني إن رأيتِ ما فعلتهُ فتاة أخرى"

فضّلتُ ألا أفضح رين كي لا تتفاجأ من قربي من فتاة بهذا القدر من الجنون لا الجنوح فقط. يجب عليها أن تشكرني على مراعاتها، ولكنها لن تفعل ذلك، بل سوف تركل الناس وكأنهم أكياس بطاطا كما يحلو لها، رومي البريئة ذات القلب المضطرب في النهر، أنا البائسة أمام سموّهِ (المبلل جداً) في جدول الشلالات المقدسة، وهذا المسكين اليوم عند الأطفال. توقفت هيتومي فجأة عن تقطيع الموز، وارتبكتُ بدوري من سماع أصوات خطوات تقترب. ثم، وفي ثواني معدودة، قفزتُ لأختبئ أسفل السرير وأجرّ المفارش إلى الأرض بعدما تيقّنت بأن الأصوات تنتمي لسموّه واللورد.

"هل يُمكننا الدخول أيتها السيدة؟ اللورد روزمان يتحدث معكِ، برفقتي سمو الأمير وقائد فرسانهِ. نعتذر على القدوم في هذا الوقت من الليل ولكننا أردنا الحديث قليلاً عن الغد"

لماذا الآن بالتحديد؟ أيعقل بأنه...

"ت-تفضّلوا يا حضرة اللورد، أتشرف بزيارتكم"

"مساء الخير-ما الذي تفعلينه؟ لماذا تنتحين على الأرض! سحقاً ما الذي فعلتموه بها كولِن؟"

"لا شيء، إنها تنحني من داعي الاحترام، ألا تستطيع القول؟"

"توقفي هيا، لنجلس على المائدة، أكنتِ تقطعين الفواكه للعشاء؟"

"نعم يا سمو الأمير... أرجو أن تعذرني على استهلاك قدر من طعامكم"

"هراء، أنتِ ضيفتنا الثمينة، تستحقين تناول التوت البري واللحوم كل يوم"

سحقاً، لا أستطيع المجازفة بالنظر إليهم الآن، أرجو فقط أن ينتهوا من تحقيقهم بسرعة قبل أن يُلاحظ سمو الأمير شيئاً.

"هذهِ الرائحة... أكانت جيني هنا؟"

بهذهِ السرعة! أي أنف هذا؟!

"بالطبع هي ليست هنا، ربما تكون في الخيم الطبية تعتني بمرضاها"

رد للجميل أم تحدي؟

"توقفا عن الثرثرة المتواصلة، ألا ترون بأن السيدة في حالة رعب؟"

"اعذرينا على عدم الاطمئنان عليكِ كل هذا الوقت، لقد كنا ننشر السلام في العالم. ولذلك نُريدك في الغد أن تشهدي هذا الحدث المهم، سوف نقيم احتفالاً في منتصف المعسكر ولكِ حرية الحضور، سأقطع لسان أي من يحاول مضايقتكِ"

"شكراً لك يا سمو الأمير على لُطفك وعلى إنقاذ حياتي أيضاً، لم أكن أتوقع النجاة في ذلك اليوم"

"لقد أخبرتنا رين بأنكِ رفضتي التعريف عن نفسكِ. فلماذا ذلك؟ هل أنتِ خائفة؟ لا تقلقي فأنا لن أؤذيكِ على الإطلاق مهما كانت قناعاتكِ"

طال صمت هيتومي، وطال انتظارهم، أعتقد بأنها تحني رأسها اعتذاراً وسموّه يحاول قراءتها كما يفعل دائماً. من الجيد بأنهُ قدم مع اللورد، فقد لا يكون هذا الأخير متساهلاً معها إن أراد حقاً كشف صمتها.

قال القائد مايرون: "هذا يكفي أليس كذلك؟ لا يبدو لي بأنها ستتعاون على الإطلاق"

تعالى صوت خطوات أحدهم يمشي في الأرجاء، ومن ثم صدح صوت اللورد على مقربة مني: "لا بأس، ولكننا ما نزال مُصرّين على حضوركِ احتفال الغد، سوف يرقص الجميع للآلهة رومي كومو في طقوس مقدسة، وآمل بعد انتهائها أن نغدو أكثر صدقاً مع بعضنا. آه اعذريني لقد ثرثرتُ كثيراً... على أية حال، كيف هي الحياة هنا؟"

شعرتُ بارتباك هيتومي عندما أجابتهُ: "إنني حقاً مكتفية، بل وأشعر بالإحراج على الإثقال عليكم هكذا"

"هراء، أنتِ تستحقين العناية بعد الجحيم الذي واجهتيهِ، رين وجيني أفضل فتاتين في الوجود فلا تترد-سحقاً ما هذا؟ أنت! ما الذي تفعله هنا؟؟"

تاكي! سحقاً كان يجب عليّ القبض عليهِ بقوّة أكبر ولكن تكرار اسمي على لسان سموّهِ بهذهِ الأريحية أمام هيتومي حوّلني إلى قطعة توفو غائرة فأفلت من قبضتي بسهولة. ما الذي سأفعلهُ إن كُشفت؟ لا أستطيع الإتيان بأي عذر، ولماذا أسترجع مشاعر خوف الطرد من القصر الآن؟

سمعت خروج سيف تزامناً مع قول القائد بغضب: "سحقاً سوف أقتل هذا القارض، لماذا يهجم عليك دائماً؟"

"أبعد سيفك، اعتدتُ التعامل مع ناكر الجميل هذا، ولكن ما الذي يفعله هنا؟"

أستطيع تخمين كيف انقلب وجه هيتومي منصعقاً الآن. ولكن لماذا صمتوا؟ ما الذي حدث؟؟ لم أستطع الاحتمال فقمت برفع المفرش قليلاً بما يُناسب مجال رؤيتي لأجد تاكي في حضن هيتومي وهي معقودة اللسان لا تعلم كيف تُفسّر قفزهُ في حضنها. سحقاً، لقد نبّهتها ألا تكذب أمام سموّهِ، بأن تظل صامتة كي لا يكشفها فأرجو ألا تنهار من التوتر.

إلا أن اللورد روزمان قال ضاحكاً: "لابد من أن الآنسة لايتون نستهُ هنا، أو ربما هي تود من أحدهم الاعتناء بهِ ما دامت العيادة فارغة معظم الوقت الآن"

قال الأمير مُشككاً: "ألا يُهاجمكِ متحجّر القلب هذا؟"

"لا يا سمو الأمير، لطالما كان مسالماً منذ عرفته، والصغيرة لن تقلق عليهِ ما دام عندي، أعتذر على هذهِ المفاجأة"

إنه يبتسم لها، ينظر إليها وكأنها بالفعل شخص عزيز ومقرّب لي.

"إن كانت جيني تأمن جانبكِ إلى هذهِ الدرجة فلا داعي للقلق من طرفنا، فأنا أثق بكل من تثق بهِ وأعترف برجاحة حكمها أكثر من حكمي. يُمكنكِ دائماً الاعتماد عليها فهي صادقة النية، ومريحة الرفقة، وحنونة جداً، ولا تزدري الناس بسبب دمائهم، يُمكنكِ البوح لها بما تشائين كي لا تشعري بالوحدة"

فليتوقف... فليتوقف...!

قالت هيتومي محنية الرأس قليلاً: "إنها بالفعل كذلك يا سمو الأمير، ويُسعدني تلبية دعوتك في الغد كما تشاء"

"رائع!"

لم أستطيع الخروج على الفور ما إن رحلوا، فضّلتُ الاختباء، وعندما رفعت هيتومي المفارش، وجدتني قوقعة مغلقة. لم أتجرأ على النظر إليها. تركتُ مخبأي في نهاية المطاف لأنني شعرتُ بالسخف، ويا ليتني لم أفعل ما إن رأيتها تُبحلق بي بحاجبين لا يُخفيان مدى تعجّبها.

أخذتُ منها تاكي أتصنّع ضحكة: "من الجيد بأنهم كانوا لطفاء جداً..."

"إنهم شرفاء بالفعل"

"الأمير يبالغ في مدح الجميع، إنه هكذا مع الجميع، صدقيني إنهُ صديق الجميع"

أوتني في حضنها كما رضيعة، هامسة بحنان أمي: "لقد تغير عالمكِ كثيراً يا صغيرتي.. في الواقع، ما عدتُ صغيرة بعد الآن ولستُ واثقة من مشاعري اتجاه ذلك. أنتِ تعلمين بأن جلالة الامبراطور تِنجن المتوفى، والدكِ، كان متصلباً جداً في تصرفاتهِ وهيئتهِ. لقد وُلد في زمن بائس جداً بالنسبة للعائلة الإمبراطورية الشرقية، واختير بعدما قُتل أخيهِ الأمير الشرعي للقارة، لم يكن معترفاً بهِ كولي للعهد قبل ذلك. هجرهُ وزراؤهُ ومستشاروهُ، وأضحى قصرهُ يفتقر بهجة الموسيقى والقصائد، فأصبح فارغاً بلا حياة، وكأنهُ وُلد ليقاوم الغزو إلى أن يولد ولي عهد آخر لن يفعل شيئاً سوى المناضلة. فما الذي تعتقدين حدث له بعد رؤيتهِ السيدة أليكسا؟ لقد كانت عينيهِ تبرق، وكأنهُ بُعث من قبرهِ، وكأن الحياة ملأته. لن أنسى التغير الذي أحدثتهُ في وجدانهِ، ولم أرى الأمل في الحياة في أعين أي شخص آخر مثلما رأيتهُ في عينيهِ يوماً، إلا للتو عندما تحدث سمو الأمير عنكِ بسعادة وصدق"

"إنه مليء بالحياة ولا يحتاجني ليعيش. أرجوكِ، لا أُريد النقاش في الأمر"

"صغيرتي، أنتِ تحملين الكثير، مثل والديكِ أنتِ تحملين الكثير، ولستِ معتادة على الفتيان لا أكثر. أرجو فقط أن تتذكري بأنكِ ما تزالين يافعة في السابعة عشرة ولو كنتِ أكثر نُضجاً من الكثيرات. الاعتراف ولو لنفسكِ بما يعتمر في وجدانكِ سيُخفف عنكِ الرهاب من مشاعرهِ الواضحة. وسمو الأمير ماتيو ألطف من أن يتم تجاهله، لستُ أعلم كيف لفتى بهذا العمر والطيبة أن يُمثّل سلالة تخشاها أمّة كاملة. لقد أحببتهُ، وأحببتُ اهتمامهُ بكِ وخجلكِ الواضح من ذلك"

هيتومي أفضل أم لم تنجب طفلاً قط.

لقد فات الأوان يا أمي، قناعي بدأ يُخدش، ولستُ أعلم كيف النظر إليهم بوجهي الحقيقي. ألم تُدركي الأمر بعد؟ اللورد روزمان أتى مُعلناً نهاية لعبة التخفي بعد احتفال الغد.  

Continue Reading

You'll Also Like

38K 4.6K 8
-"جُثَةٌ شاحِبة تَستلقِي قُربكَ، شَراشِف بَيضاء تجمَعكُما، يَرتَدي كلاكُما سُترَةً حَمراءَ ثُم يَبدأُ الكَابُوس ." وَقعَت عَيناهَا عَلى ذَلِك المَق...
400K 25K 34
انا السَيدُ جُيون ، السَيد الذي اُئتُمِنَ عَلى حَريمِ مَولاهُ و غَضَّ عَلى بَصرِه عَنهُنَّ سِواك ~ آمنتُ بِمقولَةٍ حَللها عَقليَ قَبل القَلب { مَن خَ...
21.1K 3.3K 39
الحياة مقامرة! حتى تعيشها عليكَ أن تضع على طاولة الرهان أشياء كبيرة، ثم تلعب بحذر. عليك أن تتوقع الخسارة، ومن الصعب أن تفوز! قد ترمي رهاناً أكبر من...
89K 5.6K 32
مسابقة أسوة هي فرصةٌ عليكَ اغتنامها لتترجم أحلامك إلى واقع، ولتنهض بالأدب العربي إلى حيث نجد العظماء...