(متوقفة) vanilla scent

De TheHazan

260K 17.7K 13.1K

تعلق نظره في عمق عينيها ، وبدا كالمأسور المعرّض لخطر الغرق في مستنقعٍ أخضر، فاضطر لاغلاق عينيه لبضعةِ لحيظات... Mais

١
"الشخصيات"
٣
٤
٥
٦
٧
٨
٩
١٠
١١
١٢
١٣
١٤
١٥
١٦
١٧
١٨
١٩
٢٠
٢١
٢٢
٢٣
٢٤
٢٥
٢٦
٢٧
٢٨
٢٩
٣٠
٣١
٣٢
٣٣
٣٤
٣٥

٢

10.8K 621 293
De TheHazan

(لندن ، بريطانيا)

كان جون سالفاتور ذي الثالثة والعشرين من عمره يقود سيارته الموستنج الفضية فاخرة الطراز الى قصر آل سالفاتور الرئيسي حيث يقطن ، مستمتعًا بذلك الوقت من العام الذي يقرر فيه الطقس الإنجليزي اللئيم ان يدع اشعة الشمس تظهر دافئةً و مبهجة ، و راح البحر يلقي برذاذٍ لطيف حمله الهواء ليلامس بشرته ورقبته بعذوبه منعشة ، لكنه مع ذلك اضطر مكرهًا لأغلاق السقف المفتوح لكي لا تتضرر المسودة الورقيّة القابعة على المقعد بجواره والتي تحمل اسمًا لشخصٍ مجهول الهوية يدعى "ثيو كولفيلد"

مع بضعة ملفات مهمة اهملها فور استلامه لسيارته بعد خروجه من المطار مباشرةً ، فلقد كان في رحلة عمل كلفها به ابن عمته اليزابيث "ايفان ميلر" قبيل بضعة اشهرٍ قصار بما انه اصبح يعمل لديه منذ سنة تقريبًا وهذا بعد تخرجه من جامعة هارفرد مباشرةً ، الامر ان رحلته الى باريس و التي من المفترض ان تمتد لأسبوع فقط اخذت منعطفًا مختلفًا بقراره بالبقاء لشهرٍ اخر مع حقيبة ملابسه التي لا تحوي سوى بذلتين رسمية فقط وملابس أخرى ليست كذلك ، لا لشيءٍ سوى لأنه احتاج الى بعض الوقت مع نفسه ، و من جهةٍ لكي ينهي امر الصفقة برمتها في باريس ، ومن الأخرى ليفعل ما يعتقد انه يحبه دون ادنى ازعاج او تدخلات قد تشوش أفكاره ، المعضلة تكمن في انه اخذ وقتًا اكثر من اللازم بكثير .. فقد نسي ان زفاف أخيه الأكبر ديريك هو اليوم وهذا اودى به الى الهروع لأقرب طائرة وفتح هاتفه المقفل فيما يبدوا كأمدٍ طويل  ليتقبل الشتائم ويعطي مقابلًا لها الاعتذارات الطويلة والأعذار بالإضافة الى الوعود بأنه سيعود في الوقت المناسب تمامًا قبل الزفاف ، خلع نظارته الشمسية و القى بها بعشوائية كما فعل بالملفات قبلًا ثم انزل زجاج النافذة واتكئ على الحافة مبطئًا سرعة سيارته عندما وصل للمنعطف المقصود ، كان صف من السيارات الطويلة يقف امامه ممتدًا فيما يبدو كخط سيرٍ لا نهاية له . لكنه حينما اخرج رأسه من النافذة ادرك بأنها محض اربعِ سيارات لا غير

فأسند برأسه على الكرسي وشد شعر رأسه الأشقر في محاولةٍ لطرد الصداع ربما . بنظره خاطفة رمق المرآة الجانبية وادرك كم ان وجهه يبدو فضيعًا و ان لونًا اسود رسم خطًا موحشًا اسفل عينيه ، دعكهما بشدة وتثاءبَ بخمول .. عندما يصل وعد نفسه بأنه سيستحم أسفل رذاذٍ دافئ واذا حالفه الحظ قد يأخذ غفوة سريعة قبل ان يصل بقية الضيوف الذين دعتهم الجدة ميرديث للمكوث في القصر قبيل المراسم إضافة لعائلة 'السيدة سالفاتور المستقبلية' الذين هم بلا شك بالفعل هناك .

استفاق من شروده عندما رن هاتفه
فبحث عنه بعينه ليجده تمامًا بالمقعد المجاور وسط الملفات والمسودة ، تناول المسودة التي تحمل اسم ثلاثة درجات للأزرق الهادئ (٢) بقلم "ج . س . كولفيلد" ودفع بها الى داخل الدرج ، ثم التقط الهاتف ووجد رقم ابن عمته نايت ينير الشاشة ، اخذ نفسًا عميقًا ورد "ما مدى سوء الامر؟"

"لقد علم والدك لتو ويظهر انه حانقٌ لسببٍ ما ، العمة اجاثا و جدتي _كما هي عادتهما التي احسدك عليها _  تتوعدان في ايفان المتسبب بإرسالك بعيدًا ولم تقلا شيئًا بشأنك البتة غير انهما يريدان رؤيتك سالمًا معافى وقطعة كاملة ، انهما يعتقدان انك الضحية كما تعلم على اية حال ، اما بالنسبة لأخي الضحية الحقيقية هنا فانه يخبرك بانه لن يختلق الاعذار لك مجددًا ابدًا ليتحمل هو بالمقابل العواقب ، هذا فقط."

"اللهي .. اخبرهم انني امام الباب مباشرةً لكنني عالقٌ فيما يبدو كزحام ، من هؤلاء القوم على اية حال؟"

" ربما يكونون شركة التنظيم او شيءٌ ما كما اعتقد، على كلٍ اسرع."

اغلق الهاتف ولملم الأوراق بطريقة مرتبة قبل ان يضعها بين الحاجز الزجاجي والمقود امامه ثم انطلق مجددًا بعد ان فتحت البوابةُ أخيرًا ودخل صف السيارات تبعًا لبعضه ، هم اخذو منعطفًا في الحديقة يقود الى الباب الخلفي وهو تابع سيره ببطءٍ وقد اغلق نافذة السيارة عندما احس بالاشخاص الذين يجلسون في جزء مضلل من الحديقة يحدقون به بنظارات فضولية ازعجته ، ايقن بأنهم من ملابسهم الفاخرة والشامبانيا الغالية التي يحتسونها الضيوف المعنيون ذاتهم وقد توقفوا عمّا يفعلونه فقط لمراقبته ، تساءل في ذاته بقنوط يخشى أنه لا يمتلك سببًا مبررًا له : لماذا يجب على الناس ان يكونوا طفيليين إلى هذا الحد المقرف؟

اخفض نظره ليجد نفسه في جينزٍ باهتٍ وقميص أسود يرتدي فوقه سترة كاروهات حمراء وسوداء ، ليس شيئًا انيقًا يشي بأنه موشك على الدخول الى حقلٍ مشبع بالاغنياء المتكلفين ، مقارنة سريعة بينهم جعلته يطلق ضحكة قصيرة ناشزة تحمل سخريةٍ دفينة وقاسية وفي نفس الوقت مستمتعة ، رفع النظارة الشمسية الى شعرهِ وحرر جسده من حزام الآمان.

من باب القصر خرج نايت تتبعه الخادمة ويظهر في قميص رسمي بلا ربطة عنق او سترة و لا شك بأنه حسب معرفته به شعر بالانزعاج داخلها وقرر التخلص منها ، لمحمها من فوره ، و أوقف السيارة امام الباب ليترجل منها و يستقبل عناقًا حميمًا منه

"اوقعتنا في مصيبةٍ أيها الاحمق."

"اعلم وانا اسف .. اعدك بان اعوض عليكما انت وايفان."

"قد ينفع هذا معي ، لا مع ايفان."

"سيسعد بمجرد ان اخبره بانني ضمنت صفقة عظيمة و غير متوقعة البتة."

وهذا جعله يتحرر من العناق ليسحب رزمة الملفات بسعادة ويناولها الطرف الاخر الذي راح يتفحصها ،
فقال نايت مبتسمًا وهو يغلق الملف الاول بمجرد ان لمح نظرةً كافية عنه

"مجددًا اعتقد انك بطريقةٍ ما انقذت نفسك." واعاد الملفات اليه ،واردف نايت "احتاج الى الذهاب سريعًا الى مكانٍ ما ، خذ قسطًا من الراحة فأنت تبدو مريعًا بحق، حسنًا؟"

"شكرًا كما اعتقد .. بالمناسبة هل هناك احدٌ بالداخل قد يقودني سوء حظي لمقابلته؟ و اين ديريك لقد اقسم بأنه سوف يلكمني؟"

"حاليًا لا يوجد سوى مجرد عائلة من العجائز على علاقة قديمة حميمة بالعائلة لا اعرف منهم احدًا لكن لا اظن ان امرهم بهذا الجلل، لا تنسى ان تسلم علَى جدتيِّ من فورك ، ديريك خرج صباحًا ولا اعلم اذا عاد بعد."

"هكذا اذًا.  حسنًا انا فاعل اذا قابلتها لا استطيع ان اقحم نفسي اليها بمظهري هذا."

أحضر احد الحراس سيارة نايت الذي غادر من فوره بعد تلويحة سريعة و ركب الحارس نفسه سيارة جون بنية ان يركنها في مكانها المعتاد ، الا انه قبل ذلك اوقفه واخرج حقيبته ليحملها على كتفه وسحب معه هاتفه الذي نسيه ايضًا ثم دلف الى الداخل

أصوات عديدة من الصالون تسللت الى مسامعه تنتمي لعدة لأشخاصٍ لم يتعرف عليهم واصوات قليلة كانت كذلك، وبدوره أخذ يصعد الدرجات متسللًا هو الأخر ، لكنه فور ان حطت قدمه على الدرجة العاشرة من السلم المكون من ستٍ وخمسين درجة صدح صوتٌ مألوف ينتمي لأخر شخصٍ يرغب في مقابلته اليوم وغالبًا كل يوم

"جوناثان ، اين كنت؟."

مرر لسانه على شفته الجافة وهو موقنٌ بأن الامر لن يمر على خير ، لن يفعل ابدًا ، ثم استدار ببطءٍ ينزل الدرجات القليلة بسرعة عله بهذا يستطيع ان يكبح صوت ابيه من توبيخه بنبرةٍ عالية على مسامع ضيوفه الملاعين المزيفين ، وقف على ثالث درجة و أجابَ "كنت في رحلة عملٍ الى فرنسا."

"رحلة عملٍ تقول؟ الا تعلم بأن زفاف شقيقك اليوم؟."

"اجل ، لكن ماذا عساي افعل ، سرقني الوقت."

اسدل بلايك رموشه الكثيفة يتمالك البراكين التي تفور في داخله ، تلك البراكين التي لن يفهم ابدًا جون سبب فورانِها في كل مرةٍ يسافر فيها الى فرنسا ، الامر يحمل لغزًا يثير فيه الفضول والمقت في الان ذاته ،
لم يكن بوسع بلايك قول شيءٍ اراد قوله حينما حطت يدٌ دافئة ثقيلة على كتفه وقال صاحبها الرجل الطويل والعريض والذي يحمل بين شفتيه سيجارةً كوبية "ها انت ذا يا صديقي الطيب."

بطريقةٍ ما العبوس القبيح تلاشى تمامًا وابتسم بلايك بكل انسيابية

"روبرت! سعيدٌ برؤيتك. اقدم لك ابني الأصغر إن كنتَ مازلت تتذكره ، جوناثان ، جوناثان هذا روبرت ويليامز ، صديق قديم للعائلة وصاحب شركات ويليامز ، لقد تعاملتَ معهم قبلًا."

التفت كلا الرجلين الى بعضهما و لاح العجب على ملامح المدعو بروبرت قبل ان يهتف بنبرةٍ سعيدة "اللهي انظر اليك ، اخر مرةٍ رأيتك فيها كنت بالثالثة من عمرك."

ابتسم جون مرغمًا وبادله المصافحة ، ايًا كان الرجل فو قد انقذه من شجارٍ محتمل ، لكنه قطب حاجبه يفكر بوقع الأسم داخل رأسه. يبدو مألوفًا الى حدٍ ما

"قل لي هل تخرجت من الجامعة؟.اتعمل في شركة العائلة الآن؟"

"منذ سنةٍ تقريبًا ، ولا يا سيدي، انا الان اعمل في شركة ميلر."

"اه! يبدو انك ربيت شابًا كفوًا يا بلايك."

"هو بالفعل كذلك"

"انا استأذنكما ، احتاج لأن اغير ملابسي."

"اذنك معك."

****
(باريس، فرنسا)

ملأ عبير الورود محل الازهار ، وحين هب نسيم الخريف بين الأشجار بالخارج ، نفذ من الباب المفتوح عطر لعله عطر الليلج النفَّاذ أو النسرين المنعش ، كانت شمس الخريف الباريسي مشعةً ومبهجة في شارع دي فران بورجوا في صبيحةٍ شفيفة ومنعشةٍ بحد ذاتِها

حمل الهواء الساكن الرطب روائحًا مختلطةً للقهوة والفطائر والنكهةُ اللاذعة للسجائر قادمةً من مقهى الماركيز القابع في منتصف الشارع ، فتحت ايلا نافذة محل الأزهار سامحةً للهواء العذب بالدخول وبقيت في مكانها تراقب سيدةً أنيقة تجوِّلُ كلبها ، ثم جلست ونظرت بعينين نصف مغمضتين تجاه الشمس المنخفضة واستندت بمرفقها على طاولة الحِساب ، كان شعرها الأسود -مؤخرًا- بعد ان تخلصت من لونه الأحمر مجموعًا في ذيل حصان تناسب تمامًا و وجهها ، وأمامها احد روايات الأدب الكلاسيكي لتولستوي غلافها رديءٌ يشي بكثرةِ الإستخدام بجانب كوب قهوة مفروغ منه و قطعة كاراسون بالجبن قررت بأنها سوف تأكلها وتمضي بقية اليوم بالاستلقى بكسل بما ان الزبائن قلةٌ عكس التوقعات

هبت نسمةُ هواءٍ هادئةٌ ورطبة أخرى حركت ازهار البنفسج بنعومة ، و رنّ الجرس المعلق فوق الباب دلالةً على دخول أحدهم فرفعت رأسها تزامنًا مع دلُف رجل ببذلة يحمل حقيبة جلدية ، اعطى المحل نظرةً تقيميية حادّة لكن عملية وأصدر صوت همهماتٍ خفيضٍ فشلة تمامًا في ترجمةِ معناها

شق الرجل طريقة بين ازهار النرجس اليها وهتف بنبرة عملية ساكنة "صباح الخير."

فردت التحية بتهذيب تسوي نفسها بعجلٍ على الكرسي "صباح الخير سيدي ، كيف أُساعدك؟."

تفحص الرجل الغريب اوراقًا ناشزةً من شجرة صغيرة بدا وكأنه مهتمٌ بالعبث بها ليس الا ، ثم اعاد بنظرة اليها بابتسامة تعكس تهذيبًا و اردف "في الواقع لست هُنا لشراء الازهار بل لسببٍ أكثر رسمية إن كان بإمكانك القول، انا اسمي روبيرو بييّر اتيت لرؤية السيدة ماريّا آلبيّر."

"اه ، هكذا اذًا .. اعذرني سيد بييّر ان جدتي ذهبت في عطلة هذا الاسبوع لزيارة اقاربِها ، لكن هل بإمكاني ان اترك لها رسالةً لاجلك ربما؟"

نظر لها بفضول وردد متجاهلًا شطر جملتها الاخير "جدتك؟."

فوقفت على اصابع اقدامِها مستندةً اكثر على طاولة الحساب العالية وهزت رأسها ايجابًا ريثما تخرج رزمة اوراق الملاحظات من اسفل كتابتِها

لم يكن منه سوى الابتسام بلطافة وحدث نفسه بشيءٍ ما قبل ان يردف بصوتٍ اعلى "هكذا.. حسنًا ، شكرًا يا آنسة؟."

"ايلا.. اسمي ايلا."

"ايلا؟."

نظرت له بحيرة ونطقت اسمها كاملًا حينما فهمت ما يرمي اليه "ايلا آلبيّر."

فلاح التجهم على ملامحِ وجهه لكنه اختفى تمامًا بالسرعةِ ذاتِها التي ظهر فيها ، ومع ذلك بدا كمن يشغل نفسه عن الاعتراف بوجود فيلٍ في الغرفة

"شكرًا يا آنسة آلبير .. سأكون ممتنًا اذا تكرمتي وأعطيتني رقمها وأخبرتِها بأنني بالفعل قد أتيت لرؤيتها."

"حسنًا."

"اراكِ في وقتٍ لاحقٍ يا آنسة إيلا."

***

بدا الجوء غائمٌ في صبيحة اليوم التالي ، كان الخريف فصلًا رقيقًا باردًا تتبدل فيه الآلوان جميعًا وتجري في سكون يقود الى العدم  ، لكنه اليوم ذاتًا مناقضًا ما إعتيد عليه منه ، كان مشرقًا الى حدٍ ما رغم ان غشاوةً من الحزن قد خيمت في أجوأ المنزل ، كانت السيدة الخمسينية ذات الشعر الأصهب القصير الذي قد تخللته بضعُ شعيراتٍ بيضاء لم تفلح بأن تفقده رونقه تقف بمحاذاة مرآةٍ في منتصف الرواق تسوي قبعتها السوداء وتغرق في صمتٍ مقيت ، قاطعه صوت خطوات متسارعة على ارضية الحجرةِ العلوية مما جعلها تبتسم بتعب رغم كل ما تحس به من فراغ

بضع دقائق قصار ظهرت ايلا تنزل السلالم بعجلةٍ
"أنا جاهزةٌ يا أمي."

رفعت السيدة ماريّا رأسها ورسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها وهي تقيم فستان الواقفة امامها ، كان اسودًا ذي اكمام طويلة ويصل الى منتصف ساقها ، يحتضن جسدها بإنسيابية دون ان يتعمق بالوشاية بالكثير من تفاصيله ، حدٌ مناسبٌ تمامًا ولائق

"حسنًا هيا." اعطت موافقتها اخيرًا ومدت يدها لتمسكها الاخرى

لم تعتد إيلا ذات السبعة عشر عامًا على الهدوء في منزلها ، لكنها كانت تدرك جيدًا سبب هذا الهدوء فبعد كل شيءٍ انها الذكرى السنوية لموت أمها جوليا ، واللتي غادرتها وهي في عمر السابعة ، و مع ذلك لم تنسى وجهها ابدًا خصوصًا وانها تمتلك صورًا كثيرةً لها من مراحل عمرها المختلفة
وقد اعتادت منذ ما يقارب العشرة أعوامٍ الماضية ان تأخذها جدتها لذكرى السنوية لموت امها لزيارة قبرها ، كل سنةٍ يذهبان معًا ليتركا ازهارها البيضاء المفضلة هناك من المحل الذي يمتلكانه ويعملان فيه ، حملت ايلا هذه الأزهار برقة بالغة وكأنها تخاف من أن تؤذيها وربكت السيارة بجانب جدتها التي أدارت المذياع لتغلقه بإنزعاج قبيل أن ينطلقا

ظهر الطريق برتقاليًا وأصفر بسبب الاوراق المتساقطة من الاشجار ، وأبتدأ صوت الجلبة والضوضاء منبثقًا من السيّاح والسكان على حدٍ سوى في الشوارع

"أمي؟"

"همم.؟."

قلبت ايلا الياسمينة في حظنها واستندت على النافذة بكسلٍ وقالت
"نسيت إخبارك.. كان هنالك ذلك الرجل الذي يبدو مهمًا اتى الى المحل وسألني عنك ، نسيت اسمه لكنني كتبته فوق طاولة الحساب. واجل اعطتيه رقمك."

"اوه حبيبتي خيرًا فعلتي ، الا انني بالفعل اضعت هاتفي في مكانٍ ما."

كانت المقبرة التي دفِنت فيها جوليا آلبيّر -سالفاتور سابقًا- أكثر الأماكن الباعثة على الإحساس بالسكينة مناقضةً بهذا الحقائق المرتبطة بالمقابر بصفةٍ عامة.
كانت تمتاز بإخضرارِ أشجارها و عشبها الندي حتى رغم الجو الخريفيِّ الذي جعل كل شيءٍ يستحيل الى الأصفر الغَبِر والبرتقالي ، لكن ذلك لم يمنع وريقاتٍ من التساقط بنعومةٍ من فوق أشجارها في حركةٍ لولبية تابعةٍ للرياح ، سحقتها إيلا أسفل أقدامها دون ان تنتبه وهي تتبع جدتها بينما تتأمل بصمت زوج أحذيتها السوداء ، وبيدها تحمل الباقة البيضاء

كان القبر المعني لجوليا أسفل شجرة زيزفون مسنة ، سرَّ ايلا التفكير سرًا بوجود قبر أمها في مكانٍ مميزٍ كهذا ، فوقها الغيوم تسبح والريح تداعب الأوراق لجعلها تتراقص لها ، بينما هي في الأسفل تستضل بأوراق الشجرة العجوز وسط هذا الجمال تنتظر زياراتِها لها

الشيء الغريب هذه المرة انها استطاعت ان تلمح الرجل الذي زارها صباح أمس لأجل ان يقابل جدتها يحمل مظلةً يضلل بها رجلٍ ملامحه مبهمة لكنه يبدوا في هيئة عجوز و يجلس على مقعدٍ مدولب وينظران لهما من البعيد ، يظهر ان جدتها لم تنتبه لهم اذ انها كعادتِها انحنت نحو القبر تنزع نبتةً ضارّة صغيرة من أحد جوانبه ، وضعت ايلا الأزهار بصمتٍ ووقفت بجانب جدتها التي قررت أخيرًا ان تقاطع الصمت

"كانت تحبك أكثر من أي شيءٍ في هذا العالم ، وأشد مخاوفها .. بل خوفها الأعظم هو ان تتركيِها لأيٍّ كان أو لأي سبب."

"أعلم .. انا ايضًا أحبها واشتاق لها كثيرًا ، صدقيني أريد فعل اي شيءٍ في العالم إن أمكن لكي استطيع فقط رؤيتها من جديد ، لكن لا شيء من هذا سوف يحدث كما تعلمين، انا ا لدي الان انتِ وفقط انتِ ، الشخص الوحيد الحي الذي يكون بذاته ذكرى من أمي."

إحمرار انفها فضح رغبتها الدفينة في البكاء ، ففتحت ماريّا حضنها لتلقي ايلا نفسها فيه وتأخذ نفسًا عميقًا تستنشق فيه رائحة أمها المتجسدة في جدتها ، ام ان هذا محض خيالٍ ابتدعته لتواسي نفسها؟ لا تدري حقًا ، رغبتها محصورةً فقط في التمسك بالأشياء والشخص الوحيد الذي يشكل الذكرى المتبقية لأمها كما اعترفت في لحظة ضعف

جفلت ماريّا من جملتها الاخيرة ورقت ملامحها بشدة وهمست في اذنها
"كانت لتكون فخورةً بكِ اذا رأتك اليوم ، شابة جميلة طيبة وصالحة .. ابتسامتها كفيلةٌ بتبديد آلام العالم."

فابتسمت ايلا بخفةٍ وابتعدت وبحركةٍ سريعة مسحت الدموع العالقة في رموشها واعادة بنظرها الى القبر ، هذه هي الذكرى العاشرة لموت والدتها ، حدث هذا عندما كانت بالسابعة من عمرها ، طفلة صغيرة وبلهاء لا تدرك ما الذي يحدث حولها ولماذا أمها باردة وشاحبة في سريرها لا تتحرك
ظهر على وجه ماريّا معرفتها بما تفكر بهِ حفيدتها فلمست اصابع الاخرى بخفةٍ تداعبها وتمتمت متنهدةً تنظر الى الغيوم القليلة في السماء "هل نعود؟."

"اجل."

شدت على يد جدتها ونزلا معًا المنحدر يجوبان في الممر الضيق الذي يفصل جانب المقبرة الشرقي عن الغربي ، لحظتها انتبهت ايلا لوجود السيدان اذ ان الاخر الذي رأته قبلًا سلم المظلة لرجلٍ ثالث خرج من سيارةٍ سوداء مركونةٌ خلفهم ، وتقدم هو ناحيتهم بخطواتٍ متعجلة

ماريّا التي كانت تظنه محض زائرٍ للمقبرة ضلت شاردةً في نفسها تفكر بالكلام الذي قالته ايلا بعمق وحيرة ، ولم تدرك انه يمشي مقصدهم حتى مع وضوح ذلك ، ضغطت ايلا على يد جدتها منبهةً وقالت "امي .. انه الشخص الذي اخبرتك عنه ، يقول انه محامي او شيءٌ ما."

اجابت الاخرى بغير فهمٍ "عمن تتحدثين؟"

ووقف الرجل الطويل امامهم يسوي نظارته كما فعل في المرة الاولى التي اتى فيها الى المحل ، وقال وهو يمد يده
"السيدة آلبير؟ ماريا آلبير ، مساءً طيبًا سيدتي."

"اهلًا ايها السيد." القت بنظرة خاطفة على ايلا التي تراقب الموقف واعادة بنظرها الى الرجل "أعذرني لا اعتقد انني تعرفت عليك."

"في الواقع يا سيدتي لم يحصل شرف تعارُفِنا ، انما هذه اول مرةٍ للأسف .. اظن بان الانسة ايلا اخبرتك بزيارتي الى المحل واعطائي رقم هاتفك الشخصي."

"اجل هي بالفعل فعلت ، لكنني اسفًا نسيته عند اقاربي كما اخشى."

"اه مؤسف." سار الرجل بجوارهما وقد سمح لنفسه ان يرافقُهما خارج السياج الحجري الذي يحيط بالمقبرة ، ولم يظهر ان السيدة ماريّا تمانع حقًا هذا اذ انها لم تنتبه من الاساس ، كان يسعى لان يقودهم تحديدًا حيث السيارة التي بشكلٍ مفاجئ كان الرجل العجوز يقود مقعده الالكتروني إليهم

قال الرجل "انا ادعى روبيرو بييّر ، في الايام السابقة حاولت الاتصال بك كما افترض ان ابنتك الجميلة قد اخبرتك ، وكما يظهر لم افلح في ذلك رغم كل السبل التي اتبعتها، ويؤسفني ان نتقابل هكذا في مكانٍ كهذا ، انني محاميٍّ يا سيدتي ، محامي السيد آندريه مانويل ... زوجك."

توقفت كلتاهما ، ايلا وملامح من عدم الفهم مرتسمةٌ على وجهها ووقع كلمة "زوجك" تتردد في اذنها مرارًا وتكرارًا دون ان تفقهها ، ببطءٍ نظرت الى جدتها تستفهم منها ، لكنها وجدتها تنظر الى الرجل بالفعل بشفتين مزمومتين كخطٍ رفيعٍ وحازم
"عليه من الله اللعنة ، ايها السيد .. عملك ايًا كان قد انتهى ، إن فعلت و ازعجتني انا وابنتي ابدًا مجددًا او ذاك الحقير سوف اضطر للأسف لإتخاذِ إجراءتٍ قانونية ضدكما ولن اتهاون في ذلك."

"سيدة آلبير لطفًا."

"قلت ما لدي."

"امي ما الذي يحدث؟ عمّا يتحدث هذا الرجل؟."

"انه لا شيء ، هيا يا حبيبتي." امسكت بيدها تجرها عبر الدرجاتِ القصار المتبقية. ونظرت ايلا خلفها لتجد الرجل يهز رأسه متأسيًا لكنه عندما وجدها تنظر اليه دب فيه النشاط وهب يركض المسافة القصيرة يتبعهم

"سيدة ماريّا.. اعتقد انه يجدر بك ان تستمعي الي ، لا لأجلكِ فقط بل لأجلِ الآنسة ايلا."

"اعذرني ايها السيد، انا لم اجعل نفسي واضحةً بما فيه الكفاية.. المرة القادمة التي اراك فيها تجول حولنا .. سأفعل كل ما يلزم ليُكتب في حقك محظر يمنع اقترابك منّا."

"ماريّا .. ارجوك استمعي." صوتٌ قال مألوفٌ لها الى حدٍ ما .. ذات اللكنة الكورسية العاطفية التي امتاز بها رجال الساحل في الجزيرة كورسيكا ، نظرة واحدة الى وجه المتحدث كانت كفيله بأن توقد جمراتٍ بقيت في صدرِها مشتعلة كل هذه السنين ، وكان هذا جليًا على وجهها حتى رغم انه يبدو مثيرًا للشفقة وهو خانعٌ وضعيف ، يجلس على كرسيه الالكتروني ويحاول جاهدًا ان يبقي رأسه مرفوعًا ليستطيع مجابهة طولها ، له السحنت ذاتها لولا انها خضعت تمامًا لتغيراتٍ جذرية اجراها الزمن ، لا على وجهه فقط بل وجسده وكيانه ذاته ، زوجها السابق .. آندريه ، ما كان ليكون خاضعًا ذليلًا هكذا لأيّ سببٍ كان

ردد يوقف بحلقتها الصامتة فيه ، وكأنه مدرك للفكرة التي خطرت في بالها وجعلت منها تغير نظراتها الحاقدة الى اخرى خاوية لا مكترثة جعلت منه ينكس رأسه من مظهره الضعيف وكرامته المهانة

"ماريّا.. ارجوكِ"

هذه المرة حمل صوته تعبًا وندمًا تكدسا كل تنك السنين واظهراه هكذا ، حتى وهو يحاول مداواة كبرياءه المجروح جعل من نفسه سببًا للتأسي ، اقتربت ايلا من جدتها اكثر وامسكت بيدها تنظر بأشفاقٍ السه

فنظرت الاخرى اليها بطرفِ عينها و تنهدت تعيد بنظرها الى السماء ، اللهي؟ لماذا جعلتني امر في هذا الموقف امامها وهنا بالذات وفي هذا اليوم ، اي ذنبٍ هذا اقترفته في حقك ؟
اخفضت نظرها اليه تندب حالها على رِقّ قلبها له وقالت "ماذا تريد."

"اهذه ابنتها؟ ابنةُ جوليا العزيزة؟ سمعت ان لديها ابنين اخرين ، اين هما؟ وارجوك الا تنكري ، فأنا اعلم ابنتها .. يا اللهي انت ذات الوجه الرقيق والملامح العذبة ، كلتاهما تمتلكان تفاصيل وجهك."

جف فم ايلا ونظرت الى جدتها مجددًا "امي؟ اي ابنين هذين اللذين يتحدثُ عنهما؟ امي لديها ابناءٌ اخرون؟ انا... لدي اخوة؟ لماذا لم تخبراني بذلك؟"

"ايلا سأخبرك كل شيءٍ لاحقًا اعدك"

"لا انا اريد ان اعرف." اعادة بنظرها الى الرجل وقالت بحزم "اخبرني عماذا تتحدث."

"ياللعجب انا بالفعل ندمت لانني توقفت لاتحدث اليك ،اياك ان تقترب ابدًا من حفيدتي او تحاول ان تميلها بلسانك واكاذيبك ، ولا تتجرء و تتحدث عن ابنتي ابدًا ، كلاهما حقٌ تسببت لنفسك بفقدانه."

"ماريّا ، انا .. احتضر."

____
اوكي دوكي انا ميتة وانا اكتب وفي يوم قريب بأموت من تسوفي ، عمومًا ، كيف الاحداث؟ الوصف؟
والاهم توقعاتكم لشخصية البطل؟
جون؟
ايلا؟
بلايك؟

Continue lendo

Você também vai gostar

16M 779K 52
القصة حقيقية .. فتاة تقع في يد رجل ذو شخصية قوية وشجاعة، حيث أنه لا يهاب شيئًا سوى الله سبحانه وتعالى، فإذا أراد أن يحقق حلمًا يبذل ما بوسعه حتى يحق...
2.9M 166K 36
أَنْ تَكُونَ الطَّرَفَ الثَّالِتَ فِي العَلاَقَة حَقَا لَأَمْرٌ مُؤْذِي أَرَى تَمْجِيدَهُ وَهَوَسَهُ بِـإِمْرَأتٓه وَكَم أَنُهُ مُتَيَّم بِـهَا مَعَ...
5.6M 161K 106
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
953K 28K 41
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...