مريض نفسى بالفطرة

By Hader3112

725K 30.6K 9.8K

مريض حُكِمَ عليه بعيش الازدواجية فى كل شىء ، إلى أن قابلها، منحته قلبها رغم معاناتها السابقة ولكنه رفض البوح... More

اقتباس1( لست ليث،أنا غيث)
_١_ (صفعةُ تعارف)
_٢_ (جدى يريد عودتى)
_٣_(صدمةٌ مُبرمجةٌ )
_٤_ (أنا القاتل)
_٥_ (الإنفصالُ فرصة ثانية )
_٦_ (لا أريدك يا أمى )
_٧_ ( حب ناضج لمراهقة صغيرة )
_٨_(بيت جدى مجددًا)
_٩_( ما ذنبى إن كنت تحب فتاة تحبنى؟)
_١٠_( قامت بخيانتى)
التعريف بمرض غيث
_١١_ (نوبة غضب)
_١٢_(بقاءٌ قسرى)
_١٣_( أب برتبة عدو)
_١٥_ عشر(عائد لكِ يا حبيبتى)
التعريف بمرض الطبيبة منال
_١٤_( دماءُ زوجتى الراحلةُ )
_١٦_ (ذلك الوغد مجددًا)
_١٧_(لست ليث، أنا غيث)
التعريف بمرض ديما
_١٨_(حب من طرف واحد)
_١٩_(غارق فى دمائه)
_٢٠_( وحشتنى عنيكى )
_٢١_ (الكل عاشق )
_٢٢_(حقائق بالجملة)
_٢٣_(الانتقام الحلو)
_٢٤_(رصاصة خائنة)
_٢٥_( المواجهةالحاسمة)
التعريف بمرض مالك
_٢٦_(كان ضحية بالأمس)
_٢٧_ (وداعًا بيت جدى)
_٢٨_ ( تطاول بما فيه الكفاية)
_٢٩_ (الحقيقة المؤلمة)
_٣٠_(قابلها مجددًا)
_١_( الانطباع خاطىء)
_٢_(مشاغبة من الطرفين )
_٣_( غيث واحد لا يكفى)
_٤_ ( من المصاب ؟)
_٥_(الغيرة اللذيذة)
_٦_(باغتها بعقد القران)
_٧_(أشباح الماضى تطاردها)
_٨_(فارق الحياة )
_٩_( رفضها يصيبنى بالجنون)
_١٠_(فرصة ثانية للفؤاد)
_١١_( اكتئاب حاد )
_١٢_ (أحبك رغم أنف قبيلتى)
_١٣_(هل تقبلين الزواج بى؟)
_١٤_ (خطوبة و جثة )
التعريف بمرض مالك ٢
_١٥_( فليحترق العمل أمام حُسنكِ)
_١٦_ (حُلو مرى)
_١٧_ (أخوض لأجلكِ ألف حرب )
_١٨_(أقبلينى كما أنا )
_١٩_ (تطاول على صغيرتى أمام عينى )
التعريف بمرض محمد العدلى
_٢٠_ (أريدك رغم استحالة ذلك)
_٢١_ (زوجى السابق )
_٢٢_ (قُبلة و مجموعة جُثَثٌ)
_٢٣_ (الإختطاف السعيد)
_٢٤_ (باتت حلالى و كل حالى)
_٢٥_(معركة دموية)
_٢٦_(ليلة زفاف كارثية)
_٢٧_(ليلة عيد)
_٢٨_ (كان القبول طوق نجاة)
_٢٩_ (كلانا لدية تجربة سابقة)
_٣٠_ (العديدُ من المعاركِ)
_٣١_ (كُتِبَ علينا الفراق)
_٣٢_(أحدهم يبكى و الآخر يرفرف عاليًا )
اقتباس٥ ( فتاتى الصغيرة)
(التعريف بمرض مايا)
_٣٣_ (نتعايش أم نتداعش ؟!)
_٣٤_ (راقصة بمبادئ)
_٣٥_ ( قصيدةٌ جميلةٌ )
_٣٦_(الغضب الساطع آت)
_٣٧_(رفض من جميع الجهات)
_٣٨_(نَقَشَ فوق جسدها)
_٤٠_(مَلاَك مُحْتَجَز)
_٤١_(نُقُوشٌ مُتبادلةٌ)
_٤٢_(ثلاثة قُبْل فوق ضريح الصقيع)
اقتباس_٦_ (لحن النهاية)
_٤٣_(الفَرِيسَةُ و الصَّيَّادُ)
_٤٤_(ليلةٌ مُلطخةٌ بالماضى)
_٤٥_(اختطاف أرعن)
_٤٦_(جسدٌ مُدنسٌ وروحٌ مُفارقةٌ )

_٣٩_( لاجئ أم خائن ؟!)

7.2K 319 200
By Hader3112

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}
صَدَقَ اللهُ العَظيمُ

.....................................................
٢/١٢/٢٠٢٣
(لاجئ أم خائن ؟!)

منبوذٌ منذ نعومة أظافرى، لم يرد أحدًا اللعب معى، أو حتى إحتضانى و لو لبرهة من الزمن، اعتدت الرفض من الكل و لم أعد فى انتظار أى قبول من أحد، كانت حياتى تسير على هذا النهج لا مقابل، لا مقابل مهما كان العطاء غزيرًا، فالبشر بارعين فى الأخذ و صرت راهبًا أمامهم
كنت اقتات مشاعر الأمومة من الكل فى البداية حتى صرت ناقمًا على كل أم فى النهاية.
إلى أن حلت !
جعلت الأمل يتسرب لداخلى و أيقنت أن هناك امرأة قد تمنحنى الحب دون أى مقابل، أى حب لا مانع لدى، فقط شعور القبول الفطرى.
و رحت أنا أتفنن فى العطاء معها إلى أن صدمتنى فى النهاية، رفضتنى كالكل .
هى حقًا كغيرها، أم أن المعضلة بى أنا ؟!
_غيث سامح الحديدى

********************************

وقف بمكانه لا يعرف بما أخطأ حتى ؟!
لكن رفضها المتكرر له يلقيه بقاع معتم لا طريقة للهروب منه، كلما أحرز تقدمًا طفيفًا معها و ظن أن الحياة ستضحك له أخيرًا و تعوضه عن كل خيبات الأمس، تراجع للخلف عدة خطوات، يدرك أن هناك خطب بها، و لكنه سئم، حقًا سئم من هذا التباعد دون أى مسمى له، تمنحه العديد من الإشارات الخضراء و حين يتقدم لا يلقى سوى لوحة حمراء أمامه و بطاقة استبعاد نهائية لا رجوع بعدها.

كان يجاهد نفسه بشدة ألا ينجرف ناحية غرفتها، كى يطمأن عليها فقط، رغم ألمه بإبتعادها، خطوة للأمام و خطوة للخلف و بين كل تلك المعركة النفسية صدر صوت والدته من الخلف و هى تقول :
"رنا" مريضة، من وجهة نظرى أنها اتعرضت لتجربة سيئة و كونت عندها حاجز مرضى بينها و بين أى رجل عامة، الرفض مش ليك لوحدك، الرفض بشكل مطلق للكل، و دا هيخليك تفكر مليون مرة قبل ما تاخد خطوة واحدة ناحيتها

التفت لها سريعًا، لم يعرف كيف ؟!
و لكنها حقًا فهمت حالته، ذلك الرفض المقيت الذى يجتاحه كلما اقترب منها و ابتعدت عنه، أوشك على أن يهتف بسؤال مُلح بداخله لكنها كانت أسرع و قالت بحقارة:
نصيحة أبعد عنها، متستهلشى التعب، مرضها صعب و محتاجه معاملة خاصة و لا أنت هتعرف تتحمل و لا تتعامل بوضعك حتى، أنتم الاتنين مش مناسبين لبعض بأى شكل، واحدة زيها عايزه حد هادى مسالم، قادر ياخد و يدى بشكل سلس، مش زيك بتقلب فجأة و تتحول لوحش كاسر زى ما "سلمى" كانت بتقولك، أنت جنوب و هى شمال، فبلاش تعب، هختارلك أنا واحدة أحسن، صدقنى هتحبها و ترتاح معاها لكن دى لا، متعبة من غير أى مقابل مجزى حتى .

"زيها زي الأرض البور بالظبط "
قالت جملتها الأخيرة و راحت تسحب مقعدًا لها كى تجلس فوقه و لكنه كان أسرع منها و وصل لها، ركل ذلك المقعد بقوة و قال صارخا فى وجهها :
أنتِ قاسية أوى، كل مرة بتبهرينى بالمستوى اللى بتنزلى ليه، مش متخيل أن الكلام دا طالع من دكتورة نفسية مشهورة، بتتعاملى مع المرض و كأنه حاجه تتسلى بيها، مش تحسى بالناس أو تبصى ليهم برحمه على الأقل، أنتِ ما بتصدقى حد يقع تحت ايدك و تمارسى عليه دور الدكتورة السادية، زيك زى أبوكى
لم تتحمل طريقته و كلماته و رفعت يدها تصفعه بقوة و هى تمتم برفض قاطع :
اتكلم معايا بأدب
لكنه أمسك بكف يدها و قال بحدة و هو يضغط عليه دون أن يدرى حتى:
أنا مش لسه العيل الصغير اللى هتخوفيه و تقطعى رسوماته أو تحبسيه فى أوضه ضلمه و يقعد يعيط، أنا كبرت يا دكتورة، كبرت لدرجة أن ممكن أطردك من البيت حالًا من غير ما أندم حتى

ترك يدها و ابتعد مُتجهًا لغرفته لكنه توقف ما أن قالت بكبرياء مصطنع:
و أنا ماشية أساسًا، أنا جيت هنا غلط، خليك معاها لغاية ما ترجعلى ندمان و منهار، بس المرة دى مش هساعدك، مش هضحى بوقتى عشان أعالجك من غدرها أو موتها زى اللى قبلها

كانت تتجه للباب و لكن ما أن لمح ساعة الحائط و عرف التوقيت المتأخر قال سريعًا:
استنى
ابتلع غصة مريرة بحلقه، فرغم كل شىء تظل والدته، حتى و أن كان رافضًا لها و لوقع علاقته بها، لكن تظل رابطة الدم الفاسد بينهما
زمجر بصوت غاضب حاول به إظهار مدى مقته للتواجد معها تحت سقف واحد :
أنا اللى همشى مش طايق اقعدك معاكى فى مكان واحد، اتخنقت
تركها و دلف لغرفته كى يحضر بعض متعلقاته و يتركها، لكنها و كالعادة هدأت و راحت تتحدث و كأن شىء لم يكن :
على فكرة أنا أعرف حالتها كويس لو تحب أعالجها، أو أرشحلك دكتورة مناسبة ليها، الأمر سيان بالنسبالى، هى مريضة و لازم تتعالج سواء معايا أو مع غيرى، المهم تتعالج، بس دا برده مينفيش إنكم مش مناسبين لبعض.

لم يتحمل و راح يصرخ مجددًا بعد أن أزاح كل ما كان فوق مكتبه من غضبه :
أنا تعبت من جنانك، تعبت مبقتش أقادر اجاريه أو استحمله
اندفعت هى للخلف من هول اندفاعه ناحيتها، و وضعت يدها فوق وجهها سريعًا، خائفة من رد فعله و ذلك ما جعله يقف فى المنتصف لا يقوى على التقدم، هل وصل به الأمر لهذا الحد ؟! أبات يخيف النساء هو الآخر؟!
لتتكون فى تلك اللحظة صورة "محمد العدلى" أمامه، رآه يبتسم كما لو حقق غرضه الدنيء منذ بداية ساديته عليه، فبدأ يتراجع للخلف أكثر فأكثر و عقله و جسده يرفضان تلك الصورة، رفضًا لا قبول له .
و ما أن رأت نظرة الألم فى عينه و تأكدت أنه لن يقدم أبدًا على أذيتها، قالت :
أنت حر، كان ممكن اساعدها، خاصة أنى قابلت حالتها قبل كدا، و اتعاملت معاها

تركته و رحلت قبل أن تلقى باقى الحديث و تفضح ما لا يجب فضحه، و ظل هو لثوانى بمكانه لا يعرف لمَ عليه أن يكون ابنًا لتلك المرأة القاسية ؟ لمَ لا يحق للأبناء اختيار أبائهم أو شطب كنيتهم و الإكتفاء باسمائهم منفردةً ؟!

حمل أمتعته كى يرحل، لكنه دعس على دفتر له، سقط على الأرض بسبب غضبه حين كان يزيح كل ما يقابله، فهبط بجذعه و حمله كى يعيده لمكانه، لتأتى الرياح و تقلب صفحاته إلى أن وقف أمام إحدى الخواطر التى دونها لها، هدأ، نعم هدأ بفعل كلماته و دون أن يفكر قطع تلك الورقة و تحرك صوب غرفتها و ضعها أسفل عتبة بابها و رحل
رحل أملًا بأن تكون كلماته الصادقة مناسبة للتقليل من الألم الذى لا يعرف حقيقته و لا حتى مصدره!
يجهل كل شىء عنها و لا يريد أن يعرف سواها !

بعدة مدة انحت بجذعها و بدأت فى قراءة تلك الورقة و التى لم تكن سوى نار فوق جسدها

"يؤلمنى أن بداخلك شىء لا أعرفه، ينمو و ينمو و يزال جهلى يقابله، غير متعمد و لكنه واقع مرير فرض علينا قبل أن تتقاطع دروبنا حتى!
و مهما حاولت التسلل أجد الرفض ملصق فوق جبهتى
يتفاقم إلى درجة مميتة، كقبض الروح من الجسد!
فيراه الكل سواكِ، و من لى من الدنيا سواكِ؟!

لا تبكى، مها حدث لا تمنحى الحزن فرصة ليزور مقلتاكِ
و يعبث بأكثر ما يضعفنى
فدموعك المنهمرة تنهش بجسدى، تؤلمه كألف سوط حاد يسقط على جذعى العارى، و يستمر نبذى فى العراء لأيام و ليالى
فقط اسمحى لى بالمرسى، كى لا يغدو المرء غريبًا بعدما وصل لضفتكِ!
لم أمل و لن أمل، لكن امنحينى بصيص أمل على الأقل، سأحارب به كل وحوشك الضارية، سأقتلع رؤسهم حتى، و أبدد عتمتك بأضواء جديدة تنير للأبد، لن ينطفىء بهم مصباح ما دومت على قد الحياة .
و لكن امنحينى فرصة واحدة يا صغيرتى.
امنحى الغيث فرصةً، ألم يكن طقسك المفضل ؟!"

أنهت قراءتها و الرفض و الضيق يجتاجها، فلمن الرفض و لمَ ؟!
لمَ و كلماته صادقة للغاية ؟!
من هى ؟!

....................................................................

انتهى الليل بأحزانه و تناقضه و حل الصباح بوجع جديد، لا يقارن حتى برتوش البارحة
لم تذهب "وعد" للعمل و طلبت من شقيقتها أن تغطى على غيابها، حيث سلكت طريقًا مختلف عن منزلها، توجهت لأكثر منزل تمقته و تمقت كل من يسكن به
وقفت أمام الباب تفكر فى أى سبب كى تتراجع لكن عوضًا عن ذلك وجدت يدها تندفع و تطرق على الباب، كإعلان عن العصيان بكل وضوح
فجسدها هو الآخر عاصى كفؤادها ضد عقلها و ما تفعله، و لسانها و ما تقذفه به.

فتحت تلك الفتاة الشابة التى تم تعينها حديثًا بعد أن امتنعتت الحاجة "سندس" عن العمل بأمر من زوج ابنتها
لم تتعرف "وعد" عليها و لكنها تصرفت بإعتيادية و قالت :
"مايا "هنا ؟
أجابتها الفتاة قائلة بعد أن أفسحت لها الطريق لتدخل بلباقة :
ست "مايا" فوق فى أوضتها، تحبى أبلغها ؟
حركت تلك الجريئة رأسها رافضةً، و قالت بقوة بينما كنت تصعد على درجات السلم بالفعل :
لا أنا طالعه للغندورة بنفسى، و متقلقيش أنا صاحبة صاحبة البيت و العز دا كله

وصلت للغرفة المنشودة و دلفت بعد أن طرقت الباب ليس ذوقيًا و لكنه كإعتياد، كانت "مايا "بالفعل متسطحة فوق فراشها، و ما أن سمعت صوت الطرق همت بالنهوض كى ترى هوية الطارق، لكن ما أن فُتِحَ الباب أمامها هتفت مستفهمة باستنكار :
أنتِ بتعملى ايه هنا ؟ و دخلتى إزاى؟!
لم تمهلها"وعد" أكثر من ذلك و راحت تمسك بها من تلابيب ملابسها دافعة إياها للخلف إلى أن وصلت للحائط ثم قالت :
أنا جايه بس عشان أقولك حاجه واحدة، قسمًا عظمًا لو قربتى ناحية جوزى يا خطافة أنتِ لتكون نهايتك على أيدى، أنا مش هفأ عشان بتاخد منها عينى عينك كدا، و لا هقبل يبقي ليا ضرة و يبقي جوز الاتنين، دا جنازتك تبقي قبل كتابك يا عنيا

كانت تستمع لها دون أن تبدى أى رد فعل، فقط تترك لها مساحة لتلقى كل ما بجعبتها، و ما أن انتهت من بصق كلماتها اللاذعة أزاحت "مايا" يدها المعلقة بملابسها و قالت بكبرياء :
معرفشى أنتِ جايه تزعقى و تهددى بناءًا على ايه؟!
بس حتى لو أنا وافقت على الكلام دا رغم أنه من رابع المستحيلات بس فرضًا يعنى، "فأحمد" مش هيوافق، لأنه للاسف بيحبك، حتى لو أنتِ متستاهليش الحب دا
حديثها زاد من نيران الغيرة بداخلها، فلم تتحمل أكثر و صرخت بوجهها و هى تدفعها :
و أنتِ مالك استاهله و لا لا؟!
ملكيش دعوى بجوزى و خلاص، شيلى عينك من عليه و خليكى فى معجبينك الكتير، لكن "أحمد" خط أحمر يا بنت الحرباية
كانت يدها ممتدة تدفعها بها، لكنها توقفت فجأة بعدما أمسكت "مايا" بها بقوة شديدة و قالت :
اتعلمى تثقى شوية فيه، صدقينى هترتاحى و هتريحيه جدًا، مشاكلكم كلها هتنتهى لو بس تثقى فيه و تعرفى أنه مش خاين و لا عمر الخيانة كانت طبعه

نفس الحديث الخاص بزوجها، كلماته التى طعنتها بالأمس ترددها هى اليوم بكل بساطة و سلاسة و ذلك دفعها لتتسائل سريعا بغضب :
هو كلمك ؟ !
أجابتها ببساطة و هى تتحرك لتعود و تجلس فوق فراشها مجددًا بأريحية :
قابلته فى الجامعة من يومين و قعدنا نتكلم شوية نعرف أخبار بعض و الدنيا ماشية إزاى مع كل واحد فينا ؟
و جوزك يا حرام مش لاقى حد يشتكيله فما صدق أول ما سألته مالك ؟
بس أحمدى ربنا أنا اللى سمعته بدل ما يتشكى لواحده تالته تكون عيزاه لنفسها
الحقى جوزك و بيتك يا "وعد"، عشان أنا صحيح مش خطافة رجاله بس غيرى تعملها عادى، و موجودين كتير فى الحيز بتاع جوزك بالذات، "أحمد" بيجذبهم حواليه من أقل حاجه يعملها
صمتت بعد جولة الحديث الساحقة، و توترت الواقفة أمامها فهى على علم بأن كل حرف مما قالته صحيح، زوجها تلتف الفتيات حوله، حتى و إن كان لا يعطيهم أى إهتمام و لكن تظل الفكرة نفسها قائمه بعقلها، حوله العديد و هى تغار و لا تعرف الثقة طريقًا لها، مثلث يظهر أمامها فى كل ثانية، و كل ضلع من أضلاعه يطبق عليها، يمنعها من التنفس بأريحية

أكملت "مايا" حديثها راغبة فى تصحيح الموقف :
و على فكرة رغم كل حاجه حصلت، بس "أحمد" بيحبك، و معتقدش أن حب حد قدك، هو قالهالى من فترة
راحت تكرر حديثه الذى ألقاه على أذنها منذ فترة حين كان يسرد لها كيف بات اللعوب عاشقًا ولهانًا؟! :
"لا هيبقي فى بعد "وعد"، و لو كان فى قبلها فأنا نسيته عشانها و عشان حبها"

صرخت بعد مدة من الإنصات، صرخت بشىء يؤلمها من الداخل، يحطها كأنثى و حبيبة:
بس هو بيحبك أنتِ كمان، أنا متأكدة
سقطت على الأرض بعد هذا الإعتراف، تلاشت قوتها المزعومة و بدأت تبكى كأنثى مجروحة و بين كل دمعة و الأخرى تصرخ بألم و يأس:
من أول يوم و أنا عارفه أنه بيحبك، و رغم كل دا حاولت، حاولت أخليه يحبنى بس مش قادرة أكمل ،مش قادرة، أنا مرعوبه يسبنى، بصحى كل يوم أدور عليه، اطمن أنه لسه معايا، لسه موجود حواليا، أنا بحلم بخيانته ليا معاكى، بقيت عامله زى المحكوم عليها بالإعدام و مستنيه التنفيد عشان ترتاح
تقدمت "مايا " ناحيتها و جلست هى الآخرى على الأرض أرادت أن تمسد على كتفها لعلها تهدأ، و رفعت الأخرى رأسها تطالعها و هى تقول :
تعرفى أن صوركم سوا معايا، كل يوم واحدة شكل تبعتلى صورة ليه و هو معاها أو معاكى، كأنهم كلهم عارفين أن "أحمد" محبش غير "مايا "و أنا مجرد أبجوره فى حياته.
ليه حبك؟ ليه قابلك و حبك قبل ما أدخل حياته ؟ ليه قوليلى ؟ ليه ؟!

شعرت بالشفقة تجاهها و للمرة الأولى تراها منكسرة هكذا، أردات أن تريحها و تخبرها بصدق مشاعرها و ما تظنه هى الأخرى، فقالت:
إطلاقًا عمره ما حبنى
و عارفه لو حبنى بس و لو بنسبة 10٪ من حبه ليكى مكنشى عرف مع كل البنات دى، "أحمد" من أول مرة رفضته فيها و هو بيخرج كل شهر مع واحدة شكل، كأنه عايز يوصلى رسالة مش أكتر، لكن من جواه كان رافض اللى ببعمله
بس كل دا اتغير من أول خطوبتكم و هو مستقيم، و دا خلانى اضايق و اسال نفسى، فيكى ايه عنى عشان تخليه كدا ؟
شاف فيكى ايه يخليه يبطل كل حاجه و يقرر يكتفى بيكى ؟!
احسن منى فى ايه عشان يحبك الحب دا كله ؟!

عم الصمت للحظات، كلاهما يطالعان بعضهما البعض دون أى حرف إضافى، بدأت "وعد" تكفكف دموعها و نهضت "مايا" تعيد هندمة ملابسها أمام المرآة
شعرت الآخرى أن لا مكان لها هنا و قررت الرحيل، كى تلملم شتات نفسها بين جدران غرفتها و لكن قبل أن تخطو خارج الغرفة قالت "مايا" سريعًا :
يا بختك بحب "أحمد" ليكى يا "وعد"
و يأسفى عليه بحبك الضعيف ليه، لانه يستاهل واحدة أحسن مليون مرة منك، واحده تثق فيه و تحبه، مش أنتِ

غادرت"وعد" دون أن تجيبها و رفعت "مايا" هاتفها لأذنها بعد أن ضغطت على بعض الأزرار، و ما أن انتهت صفارة الانتظار قالت بسخرية :
مراتك جت لغاية عندى يا "أحمد"، جت تهددنى لو قربتلك هتقتلنى، متجوز واحدة بتتعامل بدراعها و لسانها قبل عقلها
أجابها بإستهزاء و كأن ما قالته متوقع:
أنتِ كويسه ؟ قادره تتحركى ولا كسرتك خالص ؟
عرفينى لو كدا انزل مكانك السكاشن احنا برده زمايل و نشيل بعض فى المواقف اللى زي دى

حسنًا تضايقت من تقليله لما حدث، فقد حاولت أن تكون شخصية جيدة لأول مرة معهم و لكنه لم يقدر هذا الفعل، لذلك صرخت ببعض الحدة :
تصدق أنا غلطانه انى ادتها محاضرة كاملة عشان تعاملك كويس، يارتنى نرفزتها أكتر و شعللت الدنيا

"متقلقيش هى إشعال ذاتى لوحدها، سلام "
رد بسلاسة غريبة و البسمة تزين ثغره ثم أغلق الخط دون أن ينتظر الإجابة .
و ظلت هى تنظر للهاتف بدهشة و حيرة و لكنها تمتمت فى النهاية بحيادية دون أى تحيز و لو كان لها حتى! :
بيموتوا فى بعض و راحتهم مع بعض بس الاتنين أعند من بعض
ثم عادت تتصل برقم آخر و قالت ما أن ردت عليها موظفة الاستقبال:
أنا بتصل عشان أحجز ميعاد مع دكتور "وداد حافظ" آخر الاسبوع أن شاء الله

يبدو أن للعلاج ثمار قد بدأت تظهر فى حديقتها، فلعل القادم أفضل لأجل زوجها المستقبلى، لكن من يكون ؟!

.................................................................

أمضى ليلته السابقة بالشركة و حين استيقظ بدأ فى العمل مباشرة كى ينسى أحداث الأمس بحُلوها و مرها، رغم كل شىء فالعمل لا ينتظر أحد، انتهى من عمل الاختبار الخاص بنصف العام و أرسله مباشرة للجامعة كى يتم التوثيق عليه و طباعته
ثم عاد يكمل مراجعة المشاريع التى يعمل عليها خاصة أن شركتهم تعاقدت مع شركة أردنية جديدة لبناء منتجع سياحى بتمويل أردنى مصرى، إحدى المشاريع التى تعمل على توطيد العلاقات بين كلا البلدين
لم يدرك كم الساعة؟ إلا بعد أن شعر بآلام شديدة برقبته نتيجة عمله المتواصل، فنهض و حمل سترته كى يرحل بعد أن أغلق حاسوبه
سحب سجارة من العلبة التى بجيبه لكنه و قبل أن يلقيها بفمه تذكرها، من تكره السجائر، تمقتها بوضوح و يحبها بشكل صريح، فانعطف سريعًا إلى غرفة التصميمات
وقف لدقائق يتابعها كما اعتاد بالسابق، حين كان اسمها لا ينتمي له، غريبة عنه، لكن ما نفع الأسماء إن كان قلبه ينتمى لها؟!
و رغم الحزن البادى على ملامحها لكنها كالعادة جميلة بنظره، لا يدرك حتى ما أجمل ما بها ؟!
عيناها أم صغر حجمها الذى يدفعه دائمًا للرغبة الشديدة فى احتوائها و كأنه طفلة صغيرة، أو ربما لفافات شعرها القصير، التى تطاير مع كل حركة لها بالمنزل، حتى رودودها اللاذعة و التى لا تتناسب على الإطلاق مع مشاعره و أشعاره التى يغدقها بها، أنها مختلفة، مختلفة بشكل مُنفر للكل إلا هو ، يقبلها، و لا يريد أى قبول سواها، فعساها تحن و ترضى.
تمامًا كقول "يوسف الدموكى" واصفًا فتى يتابع محبوبته:
"سيبقى في دمي شيءٌ يراقبكِ
سيبقى في دمي شيءٌ يراقُ بكِ"

ليكمل هو الحديث بلسانه و الكلمات تتهافت من فؤاده دون أى تحضير مُسبق:
" سَتَبْقَيْ فِيْ عَيْنِيْ أَجْمَلَ الْنِّسَاْء
فَلَاْ جَمَاْلَ بَعْدَهَاْ
وَلَاْ وُجُوْدَ لِبَنَاْتِ حَوَّاْء"

رفعت رأسها حين سمعت تلك الهمهمات، و ما أن تقابلت أعينهم قال سريعًا و هو يطالع ساعة يده:
ميعاد الانصراف عدى، و مفيش زيادة على المرتب عشان الوقت دا، فيلا نروح
اومأت برأسها دون نقاش و حملت حقيبتها، سارت خلفه و ما أن توقف أمام المصعد قالت متحججة :
لا أنا هنزل على السلم
لكنه لم يسمح لها و سحبها سريعًا للداخل و هو يقول :
مفيش الكلام دا

ضعط على زر الطابق الأرضى، ثم قال و هو يمسك بحقيبتها التى وضعها على كتفها كى يقربها منه بمشاكسة :
على فكرة فى ورقة رسمى بينا عند مأذون شرعى، فملهاش داعى المسافة المتر و نص دى، محدش هيقول حاجه لو وقفتى جمب جوزك

لم تجبه و أعتقد أن ذلك مجرد خجل كما إعتاد، اعتمد على رسالته السابقة و أن الأمور باتت على ما يرام .
و صل بهم المصعد للطابق الأرض و توجه لسيارته و هى تلحق به، صعد أولًا ثم هى
استعد للانطلاق لكنه لمح حزام الأمان الخاص بها، فمال بجذعه يساعدها على تثبيته فى مكانه الصحيح، لكن عوضًا عن السماح له ابتعدت سريعًا و الذعر يظهر بوضوح فوق صفحة وجهها، و لم يفهم حالتها تلك و راح يقول بدهشة :
فى ايه يا "رنا"؟! أنا بربطلك الحزام بس

بدأت ترتجف بشكل ملحوظ و غير مبرر و لسانها يتمتم بتلعثم :
أنا آسفه، مش قصدى
لم يفهم تلك الحالة الغريبة التى اجتاحتها، و لا حتى سبب انحصار الكلمات فوق شفتيها، كأنها تريد أن تقول الكثير لكن لا تلقى سوى فتات القليل، و أمام كل ذلك بدأت تبكى دون صوت فقط دموع منهمرة و هى تحيط جسدها بذراعيها
و لم يتحمل هو هذا الأمر و راح يصرخ دون أن يدرك ارتفاع مستوى صوته حتى! :
بتعيطى ليه ؟ أنا بس عايز افهم عملت ايه عشان كل شوية تعيطى؟ أنا تعبت

لم تجبه، ظلت على وضعها و سئم هو ثم خرج تاركًا لها السياره تبكى كما تشاء بعد أن ناولها علبة المناديل الورقية دون أن يتفوه بأى حرف
جلس على مقدمة السيارة و أخرج علبة سجائره، تناول واحدة و ترك أبخرتها تهدأ من روعة ريثما تهدأ من بالداخل

أنهى سجارته و التفت ليرى حالتها، لكنها كانت ما تزال على وضعها تبكى و تكفكف دموعها فى آن واحد، تلاقت أعينهم فى لحظة طويلة، كأنه يطلب الأذن منها بأن يصعد للسيارة و ينطلق بعد أن ترجل منها عنوة بسبب حالتها تلك، شاعرًا بأنها تبكى بسبب قربه منها، و فهمت هى ما يريده، فحركت رأسها بهدوء و اثار البكاء ما تزال واضحة فوق وجنتيها

لحظات و كان ينطلق دون ان يحدثها بأى شىء، اكتفى بأن يفتح نافذه السيارة كى تتمكن من استنشاق الهواء لعله يلطف من الأجواء أو ليكون صريحًا مع نفسه كى لا تتقاطع أعينهم مرة آخرى .

وصل بعد مدة، أوقف السيارة أمام البناية و قال و هو يتحاشى النظر لها :
وصلنا، انزلى
كانت قد هدأت بالفعل، اختفت تلك الرجفة و صوت النحيب المؤلم و عوضًا عنهم تحدثت بسؤال خجول:
مش هتطلع ؟
التفت لها يطالعها بألم كان يعاتبها بنظراته، لحظة صمت طويلة، كأن لا داعى للحديث فى حضرة أعينهم الصريحة

لكنه لم يحبذ هذا الوضع كثيرًا فقد بدأ المارة يطالعون السيارة لمعرفة ما يحدث بداخلها، فقال سريعًا كى ينهى موقفهم الغريب:
أنتِ عايزه ايه ؟ أنا ملاحظ أن وجودى مضايقك
فاجئها رده فهى حقًا لم تقصد ذلك، و قالت و هى تندفع تمسك بيده الموضوعة فوق عجلة القيادة :
لا، مش مضايقنى
تنهد بعمق عندما فعلت ذلك، و كأنه استكان أخيرًا بعد سباق عداء طويل و مهلك، و قبل أن يجبها صدح صوت هاتفه فقال لها سريعًا :
أطلعى أنتِ، و أنا هرد على التليفون و أحصلك

نفذت ما قال و تركته و أجاب هو على هاتفه لكن مع كل كلمة يسمعها كان الغضب يتفاقم بداخله و انطلق سريعًا بسيارته، انطلق لمعركة جديدة.

...............................................................

قبل ساعة
عاد من عمله غاضب، ثائر منها و من أفعالها الغير متزنة، ما أن يغفل عنها لحظة يجدها افتعلت العديدمن المشاكل .
مغناطيس متحرك للشغب و الفوضى و لا تدرك ذلك حتى !
دخل مباشرة متجها لغرفتها و دلف دون أن يطرق الباب حتى، لكنها لم تكن بالداخل، و لفت انتباهه صوت صنبور المياه الملحق بالمرحاض، فعرف بمكانها، سحب معقدًا و جلس عليه واضعًا قدامًا فوق الآخرى منتظر خروجها.
و لم يمر وقت طويل حتى خرجت و هى تحمل بين يديها قطعة قماش سميكة لتجفيف خصلات شعرها
لكن و قبل أن تعلم بوجوده اندفع هو يلقى بما بين يديها و يدفعها للخلف و هو يصرخ بحدة فى وجهها:
لتانى مرة بلفت نظرك عشان الغياب، حتى لو جوزك المدير فأنتِ مجرد موظفة زيك زيهم كلهم، ملكيش أى امتيازات أو صلاحيات عنهم، اتصرفى بناء على دا، شغل السرمحه دا مش عندى و مش هقبل بيه
أجابته و هى تحاول ألا تطالع وجهه :
مجليش نفس، و أخصم مرتب الشهر كله لو تحب، و عارف لو عايزنى أقدم استقالتى بكرا هقدمها، أنا زهقت
لكنه فاجئها بسؤال غريب بالنسبة لها و هو يمسك برسغها بشدة:
روحتى فين النهاردة يا "وعد"؟
الست المحترمة متخرجش من بيتها من غير علم جوزها، فروحتى فين يا "وعد"؟
سبتى بيت جوزك و خرجتى من غير أذنه و لا حتى معرفته ليه يا هانم يا محترمه ؟!

للوهلة الأولى لم تستوعب غايته من السؤال و لا تلك الطريقة لكن لحظة واحدة و كانت تندفع تصرخ فى وجهه شاعرة بالإهانة الصريحة من مغزى حديثه المؤلم و هى تسحب يدها :
أنت قصدك أنى مش محترمه يا "أحمد"، خلاص دا اللى عقلك وصله
لم يقصد ما وصل لها، هو تضايق فقط لتصرفاتها الغير مدروسة و التى تحرجه قبلها حتى!، و لكن ردها ضايقه أكثر فأكثر فاستمر فى حديثه الحاد دون أى مراعاة:
أفهمى اللى تفهميه بس هتردى على سؤالى، سبتى بيتك و روحتى فين من غير ما تعرفينى ؟ فاكره أنى رجل كنبه و لا كرسى ؟
لكنها فقدت كل اتزانه و قالت و هى تشهر بسبابتها أمامه كتحذير على ما يلمح له و الذى لن تقبل به مهما حدث:
مش هرد عليك طالما دا اسلوبك معايا، أنا مراتك مش طالبه قدامك تزعقلها و تشخط فيها عشان اتأخرت على السكشن، و لا موظفة هتخصم من مرتبها، أحنا هنا فى البيت دورك زوج و دورى زوجه، فافهم الفرق بين التلاتة و بعدها ابقي كلمنى
أنا مش الجارية بتاعتك، أنا مراتك

همت بالانصراف بعيدًا عنه و لكنه احتجزها عنوة بين الحائط و جسده واضعًا ذراعه فوق جذعها العلوى مانعًا إياها من التحرر و لسانه يتمتم بسخط :
مفيش فايده فيكى، غلطانه و بتبجحى، أنت ناقصه تربية، و أنا بقى اللى هربيكى
حاولت التملص مرارًا و تكرارًًا و هى تصرخ بأول ما يأتى على لسانها دون أى حساب :
أنا متربيه غصب عن عين أى حد، و سبنى أحسنلك
لم يجبها، اكتفى برمقها بنظرة تعرفها جيدًا، نظرة جعتلها تخجل و تشعر بالألم لتجد لسانها يتمتم بحسرة:
أنت كدا بتوجعنى يا "أحمد"، و معرفشى أن وجعى هيعجبك كدا ! للدرجة دى هونت عليك!

أزاح يده و لكنه ظل بمكانه لم يتحرك، و تلاقت أعينهم فى نظرة عتاب طويلة كأنها تخبره بألم
"هل هان عليك ما كان بينما، و نسيت العهد و حُلو عمرنا ؟!"
و رد عليها بنفس الطريقة المؤلمة لكليهما
"كنا، كنا و صرنا ماضيًا الأن، لا حاضر لنا و لا مستقبل سيجمعنا فى عمرنا "

انتهى ذلك الصمت القاتل و صاح هو بعدما تحرر من سحر نظرتهم تلك حتى و إن كانت مغلفة بالعتاب المرير:
حياتى معاكى كلها وجع، فاستحملى دا زى ما أنا مستحمل كتير و ساكت، بس خلاص مش معنى معنى انى بحبك أنى أبلعلك الزلط و أعدى الغلط
اعتلى التهكم ملامح ووجها و هى تجيبه بسخرية:
و أنت كدا ساكت؟

ضايقه رد فعلها، كلما حاول الهدوء تقذفه لفواهة البركان خاصته و ينفجر بها فصرخ مجددًا:
كنت ساكت، ساكت لأيام طويلة و بعدى عشان حاجة زفت اسمها حب، بس خلاص جبت آخرى منك و من عمايلك
و قبل أن يتمادى أيًا منهما كان صوت طرق عنيف على الباب هو الفاصل بينهما، فأسرع له و ما أن فتحه صدح صوت شقيقته و هى تلهث بتعب:
ألحق " داليدا" يا "أحمد"
ترك النقاش و الصراع الدائر بينهما و راح خلف شقيقته.

.......................................................................

صعد "أحمد" سريعًا للأعلى و هو يتوقع كل الإحتمالات الممكنة فشقيقته لم توضح الأمر فقط طلبت نجدته، و ما أن دلف للشقة وجد عمه، ذلك الغائب الدائم و الغير مرغوب به
كان يمسك برسغ ابنته بقوة و يسحبها خلفه للطاولة، يريدها ن توقع على بعض الأوراق بالإرهاب لا الرضا و الإقتناع
اندفع "أحمد" ليفصل بينهم و هو يقول مُستفهمًا بغضب :
أنت بتعمل ايه هنا ؟

ما أن تحررت من قبضة والدها، التصقت بابن عمها، تمسك به من الخلف و تتشبث به بقوة غريبة و هى تطلب النجدة منه :
خليه يمشى يا "أحمد"، مش عايزه اشوفه و لا أتعامل معاه، خليه يخرج برا و ميجيش هنا تانى
ثار والدها للغاية و لم يتحمل أن تحتمى بأحد منه، ينافق نفسه بجدارة شديدة و راح يصرخ و هو يحاول إبعادها عن "أحمد":
أنتِ بنت قليلة الأدب ناقصة رباية، أمك سابتك ليهم يلعبوا فى دماغك بس أنا مش هسكت و هاخد اللى عايزه بالغصب و إلا............

لكن قبل أن يكمل باقى حديثه وجد يد قوية تعتقله، ترفعه مرة واحدة ثم تهبط به على الأرض بقوة و هو يقول :
مش كل طير اللى يتاكل لحمة
و فى نفس التوقيت كانت "وعد" قد وصلت للأعلى بعدما أكملت إرتداء ملابسها، رأت المشهد بأكمله، و رغم كل ما يحدث و شجار "غيث" العنيف مع "عماد" الواقع على الأرض لكنها لم تهتم سوى "بداليدا" التى تحيط بزوجها، تمسك به من الخوف و الذعر.

احتد الموقف من جميع النواحى و تقدمت "وعد" سريعًا تبعدها عن زوجها و تمسك هى بها، تلاقت عينها مع "أحمد" للحظة واحدة و رغم بؤس ما يحدث لكنه ابتسم لها، مع كل ما يحيط بهم لا يمكنها أن تتنازل عن تلك الغيرة الغربية
لكن ليس هذا الوقت الملائم، فسحب زوحته و التى بدورها سحبت "داليدا" خلفها ثم دفعهم بخفة لإحدى الغرف و أشار لشقيقته و زوجة عمه السابقة أيضا بالدخول لتلك الغرفة بنبرة لا تقبل النقاش:
جوا حالًا

نهض عماد بجسد مترنح و هو يقول بينما كان يشير لابن شقيقه الراحل :
اتنين على واحد مش رجوله، و متنساش أنى عمك يا عائق
أجابه بسلاسة غريبة :
لا أنا مش ناسى
اتجه للأريكة جلس عليها و قال و هو يحاور صديقه المستعد لأى عراك :
أستلمه يا "غيث"، عاملين النهاردة بشاميل و مش عايز أوسخ ايدى، الأكل أهم من أى حاجه تانية مش مهمه

جحظت عينى"عماد" فور أن سمع هذا الحديث و تراجع للخلف من الرهبة و الخوف و لكن "غيث" فاجئه برده فعله الهادىء، حيث ناوله صورة لإحدى المستندات، ثم قال بخبث:
اتفضل
دا ورق يثب أن "داليدا" باعتلى نصيبها من الشركة، يعنى بإختصار بنتك معهاش جنية واحد تدهولك، و لا ليها أى مكان فى الشركة كمديرة، هى موظفة مش أكتر و بتاخد مرتب زيها زى أى حد، فلو مفكر تنصص المرتب مع بنتك تبقي هى دى اللى مش رجوله يا باش مهندس، و يسعدنى اقولك مش كل اللى اتكتب فى بطاقته ذكر يستاهلها، و المثال الحي و اقف قدامى.
مسح على شفته السفليه و هو يقول بكل سخرية :
أنت

كان الموقف واضحًا وضوح الشمس، لم يعد له أى مكان هنا أو حتى سببًا للوقوف أمامهم، ليتحرك جسده قبل عقله حتى و يقرر الخروج و هو منكس رأسه لكن لم يكن "غيث" قد اكتفى بعد، فهناك ثأر قديم بينهما، ثأر يرتبط "بمنال"، لذلك و قبل أن يدرك أى أحد من المتواجدين لفه سريعًا و لكمه بقوة فى وجهه و هو يقول بتشفى :
آسف، مكنشى ينفع تمشى من غير ما أسبلك تذكار
ترنح "عماد " و كاد يسقط لولا أنه سند على الباب من خلفه
و شعر "أحمد" أنه زاد من الأمر، و يظل هذا الرجل عمه مهما تفاقمت حقارته و خرجت عن السيطرة !
لذلك أسرع يقف بينهما و هو يضع ذراعه كالحائل، فربت "غيث" على كفته يطمأنه ثم قال لثالثهم و الذى مازال يقف بالقرب من الباب :
العمارة دى متهوبش ناحيتها تانى و تنسى بنتك، لو كنت عايز تقوم بدور الأب فكان الأولى تعلق على لبسها و تصرفاتها اللى مش مناسبة لا لدينا و لا مجتمعنا، تحاول تنصحها يمكن تحس بوجودك كأب و تسمع ليك، و لا أنت متعرفش عن الأبوة غير الفلوس و بس ؟
و ياريتك حتى بتدى، دا أنت جاى تاخد و بس !

دفعه "أحمد" للخارج و هو يقول بتشفى :
حاجه آخر هُزق يعنى، متجيش بعد كدا يا عمو، و دى اصلًا وصية جدو الله يحرمه، أنت ملكش جنية فيها فحل عنا و فضنا بقي .
ثم أغلق الباب فى وجهه بكل هدوء و سلام، و ظل ذلك الحقير بالخارج بعض اللحظات يعض على أصابعه من الندم، فقد ضاع كل شىء
ترك عمله و أعتكف فى أحد المنازل البعيدة، نعم معه أموال تكفيه لبقية حياته. لكنه أراد ثروة ابنته، معتمدًا على أنها حقه هو فهو ابن الراحل و هى مجرد حفيدة لا أكثر و لم يردها من الأساس، و رحل فى النهاية يجر خلفه الخيبات.

فى الداخل نفض "غيث" كفيه و وقف يعيد هندام ملابسه و صديقه يرمقه بإستيعلاء زائف و هو يقول :
مش خلصت شغلك أمشى
لكن عوضًا عن الرحيل، جلس على الأريكة و قال :
قولتلى طابخين ايه النهارده ؟
و قبل أن يجيبه صديقه، خرجت"ياسمين" من الغرفة و قالت :
أنا عامله صنية مكرونه بشاميل باللحمة المفرومة يا "غيث" و ثوانى و الأكل هيبقي على السفرة، متمشيش
حرك رأسه موافقًا و نسى تمامًا من تنتظره بالمنزل، التفت لصديقه و قال بسخرية :
يا خسارة فكرتها بالفراخ، ما أنت ما بتفرحش للأكل إلا لو كان فى فراخ فى النص
أجابه "أحمد" قائلًا:
لا البانيه غلى و أنا راجل إقتصادى
و فى نفس اللحظة خرجت زوجته هى الآخرى من الغرفة، فقال و هو يتابعها قبل أن تتوارى بداخل المطبخ :
دا غير انى البانيه يتعمل من أيدها بس، حد تانى لا، مش هيبقي ليه طعم و لا ريحة و لا هيبقي ليا نفس أكله أو استطعمه حتى !

راقب "غيث" نظرت صديقه ليعرف إلى أين وجهتها، و ما أن لمح ما يهفو إليه، قال بسخرية :
صالحها بدل ما أنت دبلان كدا و مش قاعد على بعضك، دا الحب طلع بيذل بصحيح
و لم يتحمل "أحمد" تلميحه ذلك و نكزه بجانبه و هو يقول :
خليك فى مشاكلك، معدش غيرك أنت يا ابو كل دقيقه خناقة و تتكلم

قاطع حديثهم خروج الصغير من الغرفة التى كان ينام بها ، أسرع "لغيث" يعانقه و هو يقول :
عمو" غيث" بابا رجع ؟
فأجابه بكذب واضح:
هيرجع يا حبيبى، متقلقش خلاص قرب يرجع
كان يمسد على ظهره بحنان و لا يعرف أين والده؟ حاول البحث عنه مُستخدمًا سلطات جده الراحل لكن دون أى فائدة كأن الأرض انشقت و ابتلعته .

.......................................................................

وقفت فى المرحاض و يداها ترتعش بعد أن رأت نتيجة اختبار الحمل، لقد كانت شبه متأكدة من ذلك، لكن أن تكون النتيجة واضحة أمامها بتلك الخطوط الحمراء التى تؤكد على وجود جنين فى أحشائها.
جنين قد يحمل صفات زوجها، قد يرث منه المرض و العلة.
انهارت أمام تلك الحقيقة، فحتى هذه اللحظة لا ترى أى أمل بزواجها، تفكر فى الانفصال يوميًا و يزاد معدل إضطرابها و أخذها لتلك المهدئات و التى بات من الضرورى التوقف عنها الآن بوجود هذا الجنين، فكيف ستتحمل كل ما يحدث معها ؟دون أى مهدىء أو مسكن حتى؟!

لم تشعر بالسعادة قط، بل كان الأمر أشبه بحكم بالمؤبد، فها هى ترتبط به أكثر فأكثر و مازال هو على وضعه يماطل فى العلاج بشكل صريح، و لا تعرف مع من تتعامل حتى ؟!
هل زوجها المحب و المعتدى نفسه ؟! أم نسخته الآخرى و التى لا تعرف متى تظهر و متى تختفى ؟!
هى حتى لا تعرف هل كان التشخيص صحيحًا أم أن الوضع اسوء بكثير ؟!
خرجت من المرحاض و عقلها لا يسعفها لفعل أى شىء، فقط جسد يتحرك دون أدنى سُبل الحياة و المقاومة.
لكن لتكتمل مأساوية الصورة أمامها ظهرت تلك الأفعى من العدم، و التى ما أن رأت ذلك الاختبار حتى صرخت مستفهمة بإستنكار و بغض:
أنتِ حامل ؟
تقدمت "سهير" ناحيتها و كررت السؤال و هى تمسك بساعدها بقوة و تضغط عليها بكره دفين لكن "عفاف" لم تمنحها إجابة سؤالها و حاولت دفعها و هى تقول :
سيبى ايدى

لكنها لم تتركها و لم تتزحزح و استمر ضغطها على يدها و هى تصرخ برفض :
ردى عليا أنت حامل؟! ردى عليا بقولك
تمالكت"عفاف" نفسها و دفعتها بعيدًا عنها و هى تصرخ بأول ما يتبادر لذهنها فلم تكن حالتها الصحية بأفضل حال:
و أنتِ مالك ؟ ملكيش دعوى حامل و لا لا؟
دى حاجه ترجعلى أنا و جوزى و بس و أطلعى برا حالًا، مش مسموحلك تدخلى أوضتنا بالشكل دا تانى، و لا مسموحلك تدخلى فى أى حاجة تخصنى

و كأنها لم تستمع لأى حرف مما تفوهت به، و اندفعت بجسدها ناحيتها، و على إثر ذلك تراجعت "عفاف" للخلف من هول المفاجئة، فانقضت عليها "سهير" دون تفكير، تريد خنقها و التخلص منها و راحت تقول بغضب كبير:
اللى فى بطنك دا لازم ينزل، مش هتبقي حامل، مش هتاخدى فلوسى و كل اللى عملته يضيع

شعرت و كأن الهواء يتقلص من حولها و باتت الرؤية مشوشة و روحها تنازع بين البقاء و الرحيل الأبدى، لم تتمكن من التحرر مهما حاولت كانت قوة " سهير "الجسدية أعلى منها، ليس بالقدر الكبير و لكن يظل جسد "عفاف" أمامها هزيل خاصة فى الآونة الأخيرة

صدر صوت عالى من الخارج و على أثره خففت "سهير" من قوة يدها على عنق الآخرى، فتمكنت "عفاف" من المقاومة و دفعت يدها و هى تصرخ بأعلى صوت تملكه:
أبعدى عنى، أنتِ أكيد مجنونه

كان الصوت الصادر من الخارج ما هو إلا صوت زوجها بعد أن عاد و ما أن استمع لصراخ "عفاف" هرع للغرف و هو يقول دون أن يدرك حتى ما يحدث بالداخل :
"عفاف" فى ايه ؟
لكن ما أن اتضحت الصورة أمامه دفع والدتها بعيدًا عن زوجته و تلقى هو جسدها بين يديه بعد أن ترنحت و كادت تسقط هى الآخرى، و تلك الصورة لم ترق للأفعى، فصاحت مستنكرة و هى تتحلى برداء الضعف الكاذب:
بتمد ايدك على أمك عشان حتت خدامه زيها، بتمد ايدك عليا بعد كل اللى عملته عشانك أنت و أختك، خلاص بنت الخدامة عرفت تضحك عليك و تخليك تجى على أقرب الناس ليك

هبط بجذعه ليكون فى نفس ارتفاع زوجته و التى ما أن اقترب جسده منها ارتمت تعانقه، تختبىء من كل شىء عداه، كان يمسد على ظهرها بحنان و يحاول فهم ما يحدث هنا، لكنها لم تتحدث و استمرت والدته فى نعتها بتلك الكلمة التى يبغضها.
"ابنة الخادمة"و كأنه لفظ بذىء رغم كونه غير ذلك ، فصرخ هو بالواقفة أمامهم :
مش خدامة، و لو فى خدامة هنا مش هتبقي هيا و أطلعى برا، الأوضه دى محرمة عليكى، فاهمه، مش هتدخليها تانى

أشار لها بالخروج و هو ما يزال على نفس الوضعية، لا يخجل من تقاربه منها أمام أمه، و هذا ما زاد غضبها و حنقها المتفاقم لتلك العلاقة، فصرخت هى الأخرى بوجهه قائلة :
هتندم، اقسم بالله هخليك تسبها قريب أوى و بمزاجك
ثم انتقلت بالحوار لتلك الواقعة على الأرض و يرتجف جسدها، قالتها صريحة بوعيد قذر:
و أنت هترجعى لأمك، مكانك تحت بير السلم، اقسملك أن نهايتك قربت و على ايدى يا بنت "سندس"
و غادرت بكل بساطة، أرادت التظاهر بالقوة رغم ضعف موقفها، فهمها حاولت يظل ابنها مرتبط بتلك الفتاة ارتباط وثيق، كالجلد بالعظم، لكنها لن تيأس حتى و إن إضطرت لفصل هذا الجلد عن عظمه و منحه جسدًا مشوهًا بالكامل .

استمرت رجفة جسدها فى التعالى، و كانت تحيط نفسها بذراعيها من الخوف و البرد فحاول سندها كى تنهض و هو يهتف متسائلًا بقلق :
أنتِ كويسه ؟ عملتلك حاجه ؟
أجابته و هى تجاهد بشدة أن تخرج تلك الحروف من بين شفتيها:
مش قادره أقف، مش حاسه أنى قادره أمشى

حملها رغم أن ذراعه مازال مصاب و قال و هو يتحرك بها ناحية الفراش :
هشيلك أنا، معنديش مشكلة انى أشيلك العمر كله
أنزلها برفق ثم أحضر وسادة صغيرة ليضعها خلف ظهرها لكن لاح أمامه صورة تؤلمه أكتر، و هى تلك الدموع بمقلتيها، فاندفع يعانق وجهها بين كفيه و يقول برجاء :
متعيطيش

أجابته بهمس ضعيف، تصارع لتظل بكامل وعيها :
خلينا نمشى من هنا يا "مالك"، عشان خاطرى خلينا نبدأ بعيد عنهم كلهم

كلماتها كالخنجر تصيبه بكل مكان
فلم يعرف كيف يتعامل معها فى تلك الحالة؟!
و لم تطلب هى منه سوى ألا يتركها.
تجمدت بين يديه و لن يملك سوى دفئ أحضانه.
غافلًا لذلك الإختبار الملقى بعشوائية بجانب المرحاض و غفلت هى عنه بين أحضان زوجها و شهقاتها.

.......................................................................

فى اليوم التالى
كان العمل مقتصر على الجامعة و بقت "ياسمين" هى من تدير الشركة
أنهى ما ذهب لأجله و انعطف لمنزل صديقه بعض الوقت كان قد اصطحب "غيث" الصغير ليقضى اليوم برفقة "زين" كما اقترح "آدم"، فلا هم يعرفون باقى عائلته و لا حتى مكان تواجد والده، كأنه لم يكن موجودًا بالأساس، و لولا أن ابنه تُرِكَ أمانة مع "ياسمين" لظن أن معرفتهم به مجرد حلم ليس أكثر .
جلس برفقتهم نصف ساعة ثم نهض كى يعود لمنزله، فقد اشتاق لها حتى و إن كان الجفاء و البعد هو حالهم الحالى .
لا ينكر أن الوضع أفضل قليلًا لرحيل والدته، و التى لم تقضى سوى يوم واحد معهم، لكن يظل هناك شىء بها، كأنها عادت للخلف عدت خطوات بعدما كان يرقص فرحًا بالتقدم الذى أحرزه معها .

وصل لمنزله بعد قيادة السيارة لمدة ساعة كاملة نتجية الإزدحام المرورى المعتاد
دخل بهدوء و اتجه لغرفته كى يبدل ثياب العمل و لكنه توقف ما أن لمح طيفها، كانت بالشرفة و دخلت للتو، و بمجرد أن تلاقت أعينهم قال :
ايه رأيك نعمل الأكل سوا ؟

لم تستمع له كانت تركز على شىء اخر، ملامحه بشكل أدق، فمنذ أن استيقظت و وجدت نفسها بين ذراعيه و هناك شىء بداخلها يدفعها للإبتعاد و شىء آخر يحثها على الإقتراب، فى الماضى حين لم يكن هناك أى مشاعر من ناحيتها كان الوضع أسهل بكثير، فلا صراع بداخلها لأجله، يكفيها صراعها مع نفسها و نفورها من جسدها و الان بمشاعره إزداد الأمر سواء تخشى أن ينفر منها ما أن يعرف كل ما حدث معها، تخشى أن يتركها و يرحل ككل من أحبت
تعجب"غيث" من صمتها و مراقبتها لها، حتى أنه تفقد مظهره مُعتقدًا أن هناك خطب به أو بوجهه، لكنها قالت سريعًا بعد أن استفاقت مما كانت تفعل دون وعى:
بتقول ايه ؟ اسفه مكنتش مركزة
كرر حديثها و لكن بطريقة ألطف :
بقولك حابب نعمل الأكل سوا النهارد
حركت رأسها موافقة و دلف هو سريعًا كى يبدل ثيابه و ينضم لها

وقف "غيث" فى المطبخ يعد فطائر اللحم الساخنة
حيث ناولته "رنا" إناءًا كبيرًا بعد أن وضعت به اللحم المفروم و أضاف هو البصل مع الثوم و الفلفل و الطماطم و البقدونس ثم أضاف الزيت و بدأ فى التقليب بشكل جيد .
وضع جميع أنواع التوابل و راح يعجن كى يتأكد من تجانس التوابل مع اللحم و الخضراوات.
و أحضرت "رنا" الخبز ثم قامت بعمل فتحات صغيرة به كى تسمح بحشوه
فقام هو بحشو الخبز و فرد اللحم بداخله بالتساوي و الضغط عليه قليلًا، ثم بدأ كلاهما فى رص الخبر بداخل صينية متوسطة الحجم و بعد الانتهاء من كل تلك الخطوات، أدخل "غيث" تلك الصينية فى الفرن و انتظرا حتى تمام النضج.

بعد فترة أخرج الصينية من الفرن و وضعها على الطاولة الصغيرة بالمطبخ، ثم راح يحضر بعض الأطباق و لكنه ما أن مر بالقرب منها و هى موالية ظهرها، التفت سريعًا و هى تحيط نفسها بذراعيها
خشت أن يلامس ظهرها أو يدرك حقيقة إصابتها، خشت من مجرد لمسة اصبع عادية، جرحها مازال ينزف حتى و إن التئم بشكل منفر على مدار تلك الأعوام لكن روحها تنزف معه، مع كل يوم يمر و تختلى بنفسها أكثر تدرك أن لا فائدة ستظل تلك النقطة إحدى أهم عقدها، ناهيك عن عقدة آخرى بشعة لا يمكن وصفها أو الحديث عنها حتى !
كلما تقدم تراجعت للخلف حتى اصدمت بالحائط، و ذلك دفعه ليتسائل بحيرة :
أنا عايزه افهم فى ايه ؟
اضطربت أكثر من وقع سؤاله، فقد أدرك بالفعل أنها تحاول الابتعاد عنه، و كلما حاولت النطق بشىء كى تفر هاربة من هذا الحصار و الضغط تلعثمت و لم تتمكن من البوح بأى شىء سوى ضمير متكلم ضعيف لا فائدة منه:
أنا......أنا......

لكنه لم يفهم ما تمر بها، و اندفع ناحيتها، لا يفصل بينها سوى بعض الانشات البسيطة و قال :
أيوه أنتِ ايه ؟
كل أما أعدى من جمبك أو أعمل أى حاجه قريبه منك تبعدى ليه ؟
توترت أكثر من قربه و حاولت الفرار و هى تقول بنفي كاذب لا يصدقه طفل رضيع:
لا محصلشى
لكنه لم يترك الساحة و قال بإصرار:
لا حصل، حتى بصى
وضع يده على كتفها، مجرد فعل يريد منه أن يثبت أنها تتجاهله و تفر منه متعمدة، و لكن ما أن لامسها ارتجفت بشدة و دفعته بيداها الصغيرة
ربما لم يتأثر جسمانيًا و لكنه تحطم، مجددًا تعود لرفضها الغريب و الغير مبرر، مجددًا لتلك الدوامة البشعة و التى لم يصدق متى تمكن من النجاة منها ؟!
و لا يدرى كيف فعلها أو حتى كيف نطقها؟!
و لكنه فجأة ألقى بصينة الطعام التى أعداها سويًا على الأرض و لسانه يقذف بجملة مقتضبة مؤلمة لكليهما:
دى مبقتش عيشه

نظر للفوضى التى أحدثها من حوله و رجفتها التى أصابته فى مقتل، عالمه الأسود القاتم يعود مجددًا و لم يتحمل ذلك فترك المكان سريعًا و انعطف لغرفته، أخذ بعض متعلقاته و تحرك صوب باب المنزل، لكنها أوقفته بكلمة بسيطة :
استنى
عوضًا عن الإعتذار عن خطأه، تمادى فى الخطأ أكثر و أكثر و صرخ هو هذه المرة :
استنى ايه ؟
طلبت منك نفهم بعض، طلبت تدينى فرصة نبنى حاضر لينا لكن اللى شايفه أنه مستحيل أنا حتى لما بمسك ايدك بتبعدى، الموضوع دا خد حجم أكبر من حجمه، لو مش عيزانى ننهيها حالًا، لكن أنا مش هفضل أحاول بس عشان اساعدك و يبقي دا رد فعلك، الحياة كدا مستحيلة
أنا قرفت من الرفض، قرفت و تعبت

يخطأ و يدرك حجم الخطأ بعدما يقترفه و عوضًا عن الأسف يلوذ بالفرار قبل أن يصل لصورة لا يمكن الرجوع عنها، يخشى حقيقته معها و تخشى هى ماضيها معه، و سيظل الخوف هو الحائل بينهما

"ليتني أستطيع أن أُقاسِمَك هذه الهموم و الأحزان
التي تُعالجُها، أو أحتمِلَها عنك جميعها
حتى لا أراك بين يديَّ إلا باسما مُتَطَلِّقًا في جميع آنائك وساعاتك!"
-المنفلوطي

......................................................................

فى المساء
كانت"ديما"فى غرفتها تحمل هاتفها، و تنتظر أى اتصال منه، لقد طالت مدة غيابه و لم تعتد هذا الأمر، يؤلمها أنه اختفى و هم على خلاف، تعرف بأنها مخطئة و لكن هناك شىء بداخلها ينمو له، ينمو بشكل سريع دون حتى أن تدركه، و ها هو اختفى ليزيد من حرارة الشوق
لا رابط بينهما و لكنها تشعر بوجود شىء يجمعهما، تدور حول الأمر و لا تريد الإعتراف بأنها تحبه.
لكنها واضحة للغاية، رجفة يدها التى لم تظهر لأى أحد سواه، حتى حين كانت غزيرة بالعرقِ .
ربما لم يفهمها و جرحها للعديد من المرات لكن مع ذلك أحبته بخلاف الآخر الذى ساندها حين كانت تطلب منه، أدركت بقرارة نفسها أنها تكن "لبسام" ما لم تكنه لأحد من قبله.

ألقت الهاتف فى نهايه الفراش كي تتوقف عن مطالعة صورته الخاصة بحسابه الإلكترونى على تطبيق "الفيسبوك" فهى لا تملك له أى شىء
جلست فى وضع القرفصاء منكسة رأسها للأسفل و هى تقول محدثة نفسها بألم وضياع:
يا ترى أنت فين يا "بسام"؟!
زهقت منى زى ما كل الناس زهقت ؟ كنت فاكره أنك هتتحملنى و تخرجنى من اللى أنا فيه، بس واضح أن حملى كبير حتى عليك .

نهضت بعد فترة و اتجهت لشرفة منزلها، وقفت تطالع القمر و لسانها يتمتم بحسرة و حنين :
"كنت حلم جميل ملحقتش أعيشه، و غالبًا مش مكتوبلى أعيش أحلامى لا القديمة منها و لا الجديدة، هفضل دايمًا وحيدة . "

على الجهة الآخرى، فى مكان مظلم، أحتجز فيه للعديد من الأيام، يتناول طعامه صباحًا و يعودون و يمنحوة العشاء فى صورة معركة حامية لا رد لها بها، هو فقط يتلقى الضرب من كل إتجاه، يحاول الصد لكن دون أى فائدة، مقيد الوثاق لا نفع لمحاولته
أمسكه ذلك الرجل من شعره كى يرفع رأسه، مطالعًا إياه بسخرية ثم قال:
ها عجبك الإقامة عندنا، الضرب نظامه ايه ؟ جوسى و لا مش قد كدا ؟
بصق "بسام", فى وجهه بغل و كره ثم قال بكبرياء لا يلائم الموقف :
لما أخرج من هنا هعرفك ضرب الرجالة اللى بجد عامل إزاى ؟

أعتاظ الرجل بشدة من رده ذلك و صاح قائلًا:
أنت لسه فيك نفس ترد؟! لا واضح أن ضربنا مش كدا
و بالتزامن مع آخر حرف بصق به انهال عليه بالضرب هو و جميع رفاقه، شعروا بالإهانة حين قلل من عنفهم ناحيته

و خرج كبيرهم ما أن رأى رساله من "الباشا"، لكنه لم يتوقع أن يجده أمامه بالخارج يطالعه بضيق، فهتف سريعًا بحرج:
أنت جيت يا "باشا"، أحنا........
قاطعه "طارق" على الفور، مانعًا إياه من استرسال الحديث و قال هو بصرامة:
سبوه يمشى بكرا
حمحم الرجل بخجل و هو يحك مؤخرة عنفه :
كنت هبغلك بس......
و لكن"طارق" قاطعه للمرة الثانية و قال بنبرة لا تقبل النقاش و التفاوض حتى! :
سبوه يمشى بكرا من غير ما يعرف حاجه تانية، كفايه أوى اللى وصله
حرك الرجل رأسه موافقًا دون أى محاولة منه للحديث حتى و لكن صدح صوت شخص آخر خرج للتو من الغرفة التى قيد "بسام" بها :
كدا هيبلغ عننا، و نروح كلنا فى داهية

ابتسم "طارق"ابتسامة غريبة و لحق بها ضحكة عالية و جنونية، تليق بمريض مخضرم، مريض بالجنون و السيطرة المطلقة و الاسوء أن الأمر يتفاقم معه بمرور السنين.
و تابعه رجاله و القلق و الخوف ينهش بأجسادهمم، يخشون أى رد فعله منه، و ذلك ما زاد لذة الإنتصار، مظهرهم هكذا ينعش أواصله، و رغبته الشديدة فى سحق الكل.

قال فى النهاية:
أنا عايزه يبلغ، و بعد ما يبلغ نخلص منه، و بكدا مهمته تكون خلصت خلاص، قبل ما يعرف انتقامه الحقيقي من مين؟ و مين عدوه و مين أقرب الناس ليه ؟!
خطة مدروسة من البداية، يشغل "غيث" به، و هو من أعلمه بحقيقته من البداية و كونه شرطى مفصول عن العمل، حتى صفقات الآثار التى يفسده، هو من يسمح له بذلك من خلف الستار.
يتلاعب بالكل و لا أحد يدرى، و هنا تكمن لذته الكبرى.

"السلطة المطلقة التي لا حدود لها، هي نوع من المتعة و لو كانت هذه السلطة على ذبابة! فالإنسان ظالم بطبعه، إنه يحب التعذيب"!
_دوستويفسكي/المقامر

......................................................................

بعد أن خلد الصغار للنوم، اطمأن عليهم و دثرهم جيدًا بغطاء سميك، ثم خرج بإتجاه الشرفة كى يحتسى كوب القهوة الذى أعده
وجد "آدم" نفسه يخرج هاتفه و يدون على تطبيق "الفيسبوك" بإحدى القصائد التى يحبها لأن اسمها ذكر بها
"بغيرِ الماءِ يا لَيلَىٰ
تشيخُ طفولةُ الإبريقْ
بغيرِ خُطاكِ أنتِ معي
يموتُ جمالُ ألفِ طريقْ!"

مضى دقيقة واحدة و تذكر فداحة ما اقترفه، فلم تعد "ليلى" تخصه و لم يعد له الحق فى هذا، فاسرع بحذف هذا المنشور و هى يتمنى ألا تكون لمحته، فيكفيها من الجرح ما طالها .

يستشعر فى تلك اللحظة قول الله سبحانه و تعالى فى كتابه الكريم:
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }
فالانسان بنظرته الدنيوية المحدودة لن يفهم ما يحدث حوله و الحكمة وراء الابتلاء.
لكن لا يسعه سوى أن يتمنى الصبر على ما لم يحِط به خبرًا.
و الرضا بالقضاء حتى تظهر الحكمة في كل شيء.

على الجانب الأخرى كانت "ليلى" مستلقية فوق فراشها، لا تصدق عينيها، فقد لمحت ما دونه بالفعل، و عادت لصفحته مجددًا لكن المنشور اختفى، و لم يمر سوى دقيقة واحدة و بدأت تصرخ بهستيرية شديدة، تصرخ من الألم الذى بداخلها، تحاول التظاهر بالقوة و أنها تجاوزت تلك العلاقة لكن عبثًا تحاول، فهى غارق بإستماتة فى عشقه، مهما ظنت أن الأمر مضى، تعود لنقطة البداية
هرعت والدتها على إثر صوتها و هى تهتف متسائلةً بقلق:
مالك يا حبيبتى ؟ فيكى ايه ؟
أجابتها و هى تبكى بدموع لن تنضب أبدًا :
أنا بحبه، و الله العظيم بحبه و عمرى ما هعرف أحب غيره، ليه يسبنى؟
مش كان بيحبنى، مش أنتِ شوفتى الحب فى عنيه يا ماما؟!
طب ليه ؟ ليه يهجرىنى و يختار غيرى ؟ ازاى هونت عليه؟!

خرجت "همسة" بعد فترة، بعدما تأكدت من استغراق ابنتها فى النوم، و لكن حتى النوم لم يمنع دموعها، مازال فوق خدها قطرات تؤكد على عشقها له، و جرحها لهجره.
اتجهت لغرفة زوجها و الذى مازال يعمل على إحدى الأبحاث الهامة، قالت ما أن أغلقت الباب حتى لا يصل صوتها للخارج :
أعمل حاجة يا سامح، أعمل أى حاجه المهم ترجعهم لبعض، "ليلى" من غيره بتموت بالبطىء
ترك الحاسوب و رفع رأسه يطالعها بهدوء مريب، ثم قال بتهكم:
عايزاها ترجع ليه ؟ و أنتِ عارفه اللى فيها، المفروض أنك الأم مش أنا يا "همسة"

نعم تدرك أن كونها أم يعنى أن تسعى لترى ذرية ابنتها و تصبح جدة أخيرًا، و لكن دموع "ليلى" أقوى من أى غريزة بداخلها، فقالت سريعًا :
بس من حقها تختار
ترك مقعده و نهض ليقف أمامها و يقول بقوة و ثبات :
و من حقى أضمن أن بنتى تكون أم فى يوم من الأيام، هو راضى بحياته و اختار الأنسب ليهم هما الاتنين، و بحترمه على شجاعته أنه يعرفنى و يرفض أنها تعرف السبب الحقيقي، "آدم" راجل مش عيل، قرر يضحى عشان سعادتها

كعادة الأنثى عاطفية لأبعد حد، لا تفكر بعقلها فى المقام الأول، بل فطرتها الرقة و المشاعر هى التى تتحكم، لذلك قالت بدافع مستميت :
بس "ليلى" بتحبه، عجبك حالها دلوقتى؟!
بنتى بتدبل كل يوم عن اليوم اللى قبله، مبقتش الوردة اللى منورة حياتنا، بقت علطول زعلانه و كئيبه، من حقها تعرف، هى حرة نفسها

زفر أنفاسه بضيق شديد لقد سئم من تلك المناقشة و التى تعاد يوميًا كالمضاد الحيوى، لذلك قال كى ينهى الأمر و لا يفتح مجددًا:
الحب مش كل حاجه، بكرا لما تكبر و تلاقى نفسها لوحدها من غير عيل يسندها هتندم
و مش من حقها لو كان اختيارها هيبقي عاطفى، مبنى على شوية مشاعر هتروح مع متاعب الدنيا و أشغالها، و فى النهاية مش هيبقى ليها غير وجع عشان مبقتش أم زى كل الناس اللى حواليها، و هتكره "آدم"، هتخليه يندم على جوازه منها، كفايه اللى هو فيه، كفايه أوى عليه

صمت للحظات قصيرة، و أخفضت هى رأسها موافقة على حديثه حتى و إن كان بداخلها رفض واضح، فاقترب منها و قال و هو يلامس ذقنها بأنامله:
و أنتِ أكتر واحدة عارفه الوجع دا يا "همسة" و لا نسيتى اللى حصل زمان؟ عايزه بنتك تجرب ليه ؟!
طب أنتِ ربنا كان رحيم بيكى لكن هى لا، مفيش أى احتمال حتى !

قطع حديثهم ذلك طرقٌ على الباب، فاتجه "سامح" مباشرة للصوت، و ما أن رأى ابنه هتف بدهشة :
أنت جاى ليه ؟
دخل" غيث "و هو يبتسم بسخرية، بينما كان يقول :
هو ممنوع أجى و لا ايه يا دكتور "سامح" ؟
أجابه والده سريعًا بعدما ابتسم له و عانقه بترحيب:
لا طبعًا دا بيتك، أنا اتفاجئت بس
بادله "غيث" العناق و هو يقول:
"ليلى" و حشتنى بقالنا مدة متقبلناش، فحبيت أقضى الباقى من اليوم معاها، لو مفيش مانع ؟!

ترك والده و زوجته و انعطف على غرفة شقيقته، طرق على الباب قد أن يدخل، و لكنه تفاجئ بالظلام الحالك، و لم تكن نائمة كما تحججت والدتها، فقال بسخرية:
قافله الأنوار ليه ؟ مش عايزه تشوفينى و لا ايه ؟

كان صوته كنهاية للألم بالنسبة لها، فهتفت بسعادة :
أبيه "غيث"
اتجه لها، و وراح يعتذر عن انشغاله الدائم عنها، يعتذر عن تقصيره و تسامحه ككل مرة، فهى أيضًا مقصرة بحقه، تبتسم و تتحدث معه، و يدرك "غيث" أن بداخلها ألم لا يمكن تحمله .

" فؤادٌ يئنُّ ودمعٌ يراقُ
‏أكان لزاماً علينا الفراقُ ؟"
_لقائلها

..........................................................................

فى ساعات الصباح الأولى
ظل "غيث" بجانب شقيقته إلى أن غفت تمامًا، دثرها جيدًا و جلس على المقعد الموجود بجانب فراشها، كان يجيب على بعض الرسائل التى وردته من بعض العملاء، و كذلك الطلاب و غفى هو الآخر دون أن يدرك .
تقدمت "همسة" و هى تحمل بين يدها غطاءًا له، وضعته فوق جسده و همت بالرحيل لكنه امسك يدها سريعًا ظنًا منه بأن هناك من يحاول ضربه، فقالت سريعًا تبرر فعلتها بينما كانت تحاول سحب يدها:
أنا بس كنت بغطيك
أجابها"غيث" بجفاء شديد :
مفيش داعى

بعد فترة خرج كى يغادر لعمله و لكنها ما أن استمعت لصوته و هو يحمل متعلقاته و يتجه للباب، تركت الإفطار الذى تعده و قالت :
مش هتستنى تفطر معانا ؟!
ابتسامة جانبية ساخرة صدرت منه، تحاول أن تتعامل معه جيدًا بعدما صار كبيرًا، و لا حاجة له لتلك العاطفة التى كان يقتاتها حرفيًا من كل إمرأة تمر بجانبه حين كان صغيرًا، فقال :
متمثليش دور زوجة الأب الحنينة، أنا و أنتِ عارفين كويس إنك مش كدا، و مش بلومك، أمى نفسها معرفتش تقوم بدورها
ذكرها بحديثها السابق عنه حين رفضت بقائه معهم فى فترة طفولته، لكنه فهم الأمر بأكمله على نحو خاطئ، فراحت تقول بآسف و رجاء حقيقي :
مش هتنسى ذلة لسانى يومها ؟!
أنت فهمت كل حاجه غلط، أنا مكنشى قصدى أنك تمشى، أنا بس الوضع كله كان غريب عليا، مكنتش عارفه أتعامل مع أى حد
أجابها و هو يوالى ظهره لها، لا يريد أن يراها :
مشكلتي انى مش بنسى يا مدام "همسة"، خلى بالك من "ليلى"، لو حصل أى حاجه كلمينى هاجى علطول

تحرك باتجاه الباب و قبل أن يفتحه، هتفت متسائلةً كى تذكره بالأيام الخوالى:
لسه بتحب الرسم ؟
التفت برأسه فقط و قال ببعض لمحات الماضى بينهما :
اللى يزعل انى حبيت الرسم عشانك، حتى لما رفضيتى فضلت أحبه

و رحل تاركًا خلفه العديد من لمحات الماضى و الأسرار، و حنين لأول إمراة تمنحه حب الأمومة و لكنها سئمت سريعًا و رفضت أن تكمل دورها .

وما أنا بالمُصدِّقُ فيك قولًا
ولكنّي شقيتُ بحُسنِ ظنّي!
- عبد الله الهمامي.

..........................................................................

فى اليوم التالى

لم تكن بأفضل حالاتها، فيوميًا تتهاوش مع زوجها على أى شىء مهما كان صغيرًا، و لكن عدم الوفاق بينهما يتفاقم بشكل لا يحتمل، و يتمادى هو فى كل مرة، نعم يشعر بأنها أهدرت كرامته و لكن هى الآخرى تعانى، فهو لا يترك أى فرصة لإثارة حنقها و غيرتها المشتعلة إلا واستغلها أبشع استغلال ممكن .
لكنها رغم كل هذا لا تلومه، مازالت ترى نفسها غير جديرة به، تقلل من ذاتها و جمالها، و تراه أيضًا ليس محل ثقة، معضلتان فى آن واحد .
إنعدام الثقة و التقليل حين يجتمعان بامرأة تصبح كبركان على وشك الإنفجار فى أى لحظة بعد أعوام من الخمود الغريب !

كانت تعمل على إحدى المشاريع برفقة "سليم" و الذى لاحظ عدم انتباهها، فهتف متسائلًا:
أنتِ كويسه ؟
أجابته بفتور شديد :
أه يا باش مهندس، نركز فى شغلنا بقي

كانت يدها موضوعة فوق المكتب الذى يجمعها، تحركها بعشوائية لتنزيل توترها و يدها الأخرى تعمل على الحاسوب بنصف تركيز، لا يعرف لمَ؟! و لكنه وجد نفسه يربت على كف يدها، للوهلة الأولى لم تنتبه و لكنها فجأة سحبت يدها و كأن افعى سامة لدغتها، نهضت و هى تطالعه بأعين متسعة لا تصدق ما فعله و هى تقول بنبرة مضطربة:
أنت.......أنت
فى نفس اللحظة كانت زوجها يمر على الغرف بعد انتهاء موعد العمل الرسمى كى يصطحبها، و لكنه ما أن رأى عينا "سليم" مسلطة على حوريته الزيتونية شعر بنيران تجتاحه فقال بحدة :
أنا بقول كفايه شغل لغاية كدا
اعترضت "وعد" قائلةً بعملية شديدة :
بنخلص مشروع بس و ............
لكن زوجها أوقفها و هو يصرخ بحدة:
قولت كفايه شغل، و قومى معايا
اندفع يمسك بيدها يسحبها ناحيته، لكن "سليم " أوقفه قائلًا بقوة :
متكلميهاش كدا

نظرات متبادلة من كليهما، ضيق و غضب من جانبه و غيرة شديدة من غريمه، و بين كل هذا صرخ "أحمد" قائلا بسخرية:
مين؟ معلش مين أنت عشان تعدل تعدل على كلامى ؟لا و كلام مع مراتى بشكل شخصى
أصحى يا "سليم"، أصحى و شوف أنت بتقول ايه و لمين ؟!
حمحم"سليم" بخجل خاصة بعد أن رأى نظرة "وعد"، و قال سريعًا يُحَسن من موقفه أمامها:
أنا بقول أنه مينفعشى تعلى صوتك عليها خاصة لو قدام حد غريب
تفاقم غضبه منه و شعر بأنه ينافسه على شىء لا يقبل المنافسة لأجله حتى!
اقترب منه و قال بهمس خافت أمام صفحة وجهه:
خلى نصيحتك لنفسك يا "سليم"، و مشاريعك بعد كدا هخليها مع مهندسين رجالة

و أمام كل هذا سحبت "وعد" حقيبتها و تركت لهم المجال يتهاوشون كما يريدون فقد طفح الكيل، لم يعد بإستطاعتها تحمل كل هذا الحِمل الثقيل
و ما أن رحلت صاح "أحمد" محدثًا جميع الموجودين :
أنا هفصلكم أم الشركة دى، و أحط ستاير بينكم، التسيب و السبهلله بتاعت زمان دى خلاص انتهت
ثم استهشد بإحدى الآيات القرآنية قائلًا:
"وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "

أنهى حديثه و خرج و لسان كل الموظفين جملة واحدة ساخرة :
"ربنا يقوى إيمانك يا شيخ "أحمد"
نزل سريعًا كى يلحق بها و لكنها اختفت لا أثر لها، فأخرج هاتفه كل يتصل عليها و كالعادة لا تجيب، تتعمد تجنبه بشكل يضايق، فزفر هو أنفاسه بيأس و هو يتمتم بينما كان يصعد لسيارته :
بنت المهبوشة دى راحت فين ؟!

انطلق فى طريق العودة للمنزل و هو يلفظ بكل سُبة يعرفها و لا يعرفها، تصيبه بالجنون من أفعالها، متمردة بشكل يضايق، كان اختلافها يلفت نظره بشكل صريح، لكنه بات الأن يخنقه، سئم من أفعالها و يخشى أن يأتى يوم و يسئم منها!
و صل سريعًا فلم يكن الطريق مزدحم على غير عادة، و ما أن صعد للطابق الخاص به وجدها تنتظره، و قبل أن يدلف أغلقت الباب بوجهه كرد انتقامى على ما فعله معها .
أخرج المفتاح من جيبه و استعمله ليدخل، و ما أن وجدها تقف أمامه بالداخل تنتظر رد فعله، قال بسخرية:
أنت بتقفلى الباب فى وش جوزك ؟ طب على فكرة بقي نسيتى باب المطبخ يا عبير
أشهر المفتاح بوجهها ثم حمل متعلقاته و وضعها على الطاولة، مر بجانبها و كان سينعطف على المطبخ لكنها ظنته يتقرب منها مُتعمدًا فصرخت بوجهه قائلةً:
سبنى و أبعد عنى و ملكش أى دعوة بيا
توقف بمكانه، بدأ يطالعها بإستهزاء، يشملها فى نظرة واحدة من أعلى رأسها لأخمص قدمها، ثم قال و هو يربع ذراعيه أمام جذعه :
ليه شيفانى ميت عليكى و مش قادر على بعدك؟
و لا هموت أنا من قسوتك و بترجاكى تحنى عليا ؟!
أحب أفكرك أن أنا اللى بعدت و أن حياتنا دى ماشيه بناء على قرارى أنا و رغبتى أنا، كل اللى بيحصل دا بمزاجى يا "وعد"

بدأ جسدها يعلو و يهبط و لاحظ هو ذلك، فخشى أن تصاب بنوبة ضيق تنفس، لذلك تراجع و ترك لها المجال، دخل لغرفته و بدل ثيابه ثم خرج و لكنه اصابته الدهشة حين وجدها مازالت على نفس وضعها، لم يهتم أخرج زجاجة مياه و بدأ يشرب منها و هو يمر من جانبها دون أن يتحدث لكنها أوقفته و هى تقول :
أنت ازاى تزعقلى قدامه ؟

عض على جدار فمه الداخلى من الغيظ و قال :
و أنتِ اللى مضايقك انى زعقتلك و لا انى زعقتلك قدامه ؟
اثار ذلك التساؤل حفيظتها و دفعها لتصرخ باستنكار:
قصدك ايه ؟
أنت بتشك فيا يا "أحمد"، شايفنى خاينه و مبقتش تثق فيا

لم يجبها، اثر الصمت، اكتفى بالشرب و هو يطالعها و ذلك زاد الطين بلة، كأنه يتعمد التقليل منها و من حديثها رغم جديته و خطورته، فأكملت ما كانت تقوله و الألم يظهر بوضوح فوق صفحة وجهها:
أنت كدا بتكسرنى يا "أحمد"

هتف بآخر ما توقعته:
أنا واخدك مكسورة يا "وعد"، فمتحملنيش ذنب مليش أى دخل فيه
حطمها، فتح جرح لم يكن قد التئم من الأساس، و انهارت هى أمامه، دموعها تسابقت بشدة للهطول دون أى مراعاة لأحد، لم ترد الضعف و لم تحبذه يومًا، فراحت تهتف بتلعثم من بين شهقاتها :
طلق.........طلقنى.........طلقنى يا "أحمد"
للوهلة الأولى صدم من وقع طلبها على أذنه و لكنه سايرها لاغيًا رجاحة العقل:
عيونى، عز الطلب شوفى تحبى نروح امتى للمأذون ؟و أنا هفضى نفسى مخصوص
دا يوم المنى ليا أنا

أنهى حديثه و تركها مُتجهً لشرفة المنزل، و لكنه فجأة سمع شىء يسقط بالقرب منه، يتحطم إلى العديد من القطع المتناثرة، فالتفت سريعًا ليرى الصورة واضحة
و التى لم تكن سوى مزهرية آخرى ألقتها زوجته قاصدة رأسه
ابتسم و وجد عينه اليمنى ترف من الدهشة، و لسانه يتمتم :
يا بنت المهبوشة أفرضى جت فيا و لا حصلى حاجه ؟!
تقدم لها و هو يحاول تفادى تلك القطع الموجودة بكل مكان فوق الأرضية، و ما أن وصلها لها قالت هى و مازالت الدموع تملىء مقلتيها:
ما أنا كنت عيزاها تيجى فيك، أنا بكرهك، بكرهك
بدأت فى دفعه و ضربه بخفة فوق صدره و فى النهاية سقطت بين ذراعيه معانقة إياه

رغم أنها منذ لحظات أوشكت على تحطيم جمجمته و لكنها الآن تعانقه، جنون، حياته معها عبارة عن جنون لا وصف له، حاول تحرير نفسه من هذا العناق القهرى لكن لا فائدة، متشبثة به بقوة، فقال هو بإستسلام :
مش عارف الكرة عندك تعريفه ايه ؟ بس أكيد مش أنك تحضنى اللى بتكرهيه و تكلبشى فيه كدا ؟ ادينى مساحة مش عارف اتنفس

بدأت ترتجف بين ذراعيه، و ككل مرة يهزم أمام ضعفها، فمسد على ظهرها بحنان و هو يقول بسخرية :
طب خلاص أهدى، حقك عليا مع انك اللى غلطانه و كنت هتبطحينى تانى، لا تانى ايه ؟ قولى تالت رابع عاشر، مفتريه و غاوية نكد و بَطح
رفعت رأسها و قالت و هى ما تزال متمسكة ملابسه لا ترغب فى الإبتعاد:
أنا مش بكرهك، و الله العظيم ما بكرهك
ابتسم رغم مأساوية الموقف و عراكهم الطويل، و عوضًا عن محاسبتها على فعلتها كان يحاول أن ينال رضاها و يقول :
عارف، عارف يا بنت المهبوشة
المشكة انى عارف انك متسرعة و لسانك سابق عقلك و دماغك دا أصلًا آخره يحل معادلة تربيعية و مش هتوصلى للناتج برده، بس للاسف بحبك يا بنت المهبوشة

استكانت للحظات طويلة، لا يمكن حصر عددها، و لكن فى النهاية ابتعدت عنه و هى تقول بضيق:
متشتمش، و أبعد عنى أنا مش طيقاك
تذكرت موافقته على طلب الطلاق، و ذلك اثار حنقها و دفعها للابتعاد عنه و الفرار لغرفتها، و وقف هو يضرب كفًا بكف و لسانه يهتف بحيرة:
مش بقولك بنت مهبوشة رسمى

و مع كل ما حدث وقف يطالع الفوضى التى طالت المكان و قرر ترك المنزل فى النهاية فلا طاقة له للإصلاح.

"لا يُمكِنك أنْ تحتوي شيئًا و أنت مكسور، أطرافك حادة جدًا و كُلّ مُحاولاتك مؤذية."
_لقائلها

................................................................

فى المساء
عاد للمنزل و هو يشعر بحنين جارف لها، لم يتقابلا منذ حادثة الأمس، رغم أن مكان عملهم واحد و لم يمر على الجامعة اليوم، لكن كل منهما منشغل عن الآخر بالعديد من الأشياء، أو لنضع الأمور فى نصابها الصحيح حيث يتعمد كلاهما تفادى اللقاء
حين دخل شعر ببرودة شديدة من الشرفة المفتوحة على وسعها، فاتجه لكى يغلقها لكنه وجدها تقف تتابع السماء و النجوم، فقال سريعًا بعد أن لاحظ إرتجاف أطراف أصابعها من البرد:
هتبردى كدا
لكنها لم تنتبه له، لم تشعر أصلًا بوجوده خلفها، فابتسم على سذاجتها، أحضر شرشفًا ثقيلًا و وضعه على كتفها و هو يقول ممازحًا إياه:
أنتِ مش سامعانى، الجو برد يا "رنا"
ما أن لامس كتفها، انزوت بجسدها بعيدًا و هى تقول بنفور واضح:
لا، لا ابعد
أشار لما كان يحمله بين يديه و هو يقول موضحًا موقفه:
أنا كنت بس هديكى دا، مش هعمل حاجه تانية

لكنها كانت تبتعد إلى أن وصلت لحافه سياج الشرفة و قالت بقوة ما أن لاحظت تقدمه:
متقربش و متلمسنيش تانى
شاعرة بالألم من ناحيته فقد تركها دون أن يراضيها، تركها ليوم الكامل و الحزن يعتريها و حديثه الذى جعلها تصدق ما كان بداخلها دائمًا، لن يقبلها أحد و سينفر منها ما أن يعرفها على حقيقتها .

و تراجع هو خطوة للخلف، ألقى ما كان يحمله على المقعد الموجود فى إحدى جوانب الشرفة، ثم أشعل سجارة و هو يقول :
عيدى الجملة دى تانى، عايز اسمعها بوضوح
للوهلة الأولى ظنت أنه يتعمد مضايقتها بإشعاله لتلك السجارة و هو يعرف مدى كرهها لها
مُصرًا على طلبه و نظرته الثاقبة، يتفحصها بوضوح، فلم يعد بإمكانها تحمل هذه الأبخرة و مطالعته لها بتلك الطريقة، همت بالخروج لكنه امسك يدها و قال بإصرار :
لا مش هتمشى غير لما تعديها و عينك فى عينى
كان يضغط على كفها بقوة و هو يتحدث، و تتألم هى من كل هذا، تحاول الفرار لكن دون أى فائدة، فقالتها برجاء :
سيب ايدى لو سمحت، أنا مش حابه ريحه السجاير بتاعتك، بتتعبنى

لم يهتم، يريد فقط الوصول لنقطة معينة معها و الباقى لا يراه من الأساس، لذلك أعاد طلبه مجددًا بقوة أكبر :
عيدى يا "رنا"، عيدى اللى قولتيه فى الأول
نفذت ما أراد و هى تخفض رأسها تتحاشى النظر له:
متلمسنيش تانى، و ابعد عنى
لامس ذقنها بأنامله، رفع رأسها كى تطالعه، يده الأولى يحمل بها سجارته، و اليد الآخرى يلامس وجهها، و حين بدأت تسعل من رائحة الأبخرة توقف عما كان يفعله و قال :
تمام يا "رنا " اللى تحبيه
تركها و اتجه ليغادر كما جاء منذ لحظات، فقالت هى سريعًا:
أنت رايح فين ؟متمشيش و تسبنى لوحدى
لم يتأثر و استمر فى طريقه إلى أن قالت بألم :
أنا بخاف لوحدى يا "غيث"، و أنت بتسبنى طول اليوم، حتى الليل مستكتره عليا ؟!
توقف، لم يتمكن من تركها بمفردها، خاصة و هى تناديه بتلك الطريقة، زفر بضيق و يأس من حالته، ثم قال دون أن يلتفت لها :
خمس دقائق لو ملقتكيش تحت همشى و أسيبك
هبط و اتجه لسيارته، منتظرًا إياها لتلحق به، كان صدره يعلو و يهبط من فرط الضيق و الغضب الذى يجتاحه، لمَ عليه أن يتحمل كل هذا فى اليوم الواحد ؟!
حالة شقيقته و التى لا يمكنه تحملها و لا الوقوف ضد ما كُتِبَ عليهم، ذكريات الماضى مع زوجة أبيه، و مشاكل العمل التى لا تنتهى، حديثه مع والدته اليوم و الذى لم يكم بهين على الإطلاق، مجددًا تطلب منه أن ينفصل عنها، و ستزوجه من آخرى تليق به.
و تأتى هى فى النهاية، تضع حدًا لكل الرفض بحياته، و تمنحه أقوى رفض حصل عليه، رفضها له، و لوجودها معه .

جاءت و انطلق هو سريعًا دون أن ينبس ببنت شفه، كانت بين الحين و الآخر تطالعه، تنتظر منه إعتذار على طريقته معها، لكى تمنحه إعتذارًا هو الآخر على طريقتها معه، لا تريد أن تبادر كالمرة الماضية، رغم أنها تعلم بفداحة ما اقترفته، لكن يظل هناك حاجز بينهما، الهروب و الصمت و عدم الحديث عن الماضى، و كأن التجاهل هو الحل.

وصل بعد مدة لمنزل والدها، لم تنتبه للطريق و كأنها بعالم آخر، فقال هو مُنبهًا إياها :
و صلنا انزلى
نظرت للمكان من حولها و الدهشة تعتيلها، و سؤال واحد يتبادر على ذهنها، فهتفت و هى تطالعه بحيرة :
أنت جاى هنا ليه ؟!
رفع حاجبه الأيسر و هو يحدثها بإستفسار مغلف بالتهكم :
مش أنتِ مش عايزه تبقي لوحدك؟

صمتت لثوانى تحاول لملمت شتات نفسها بعد كل ما حدث، و ظل هو يزفر أنفاسه بضيق شديد و كأنه يحسب الدقائق التى تقضيها معه قبل أن ترحل.
وصل لها إحساس خاطىء بأنه سئم منها، كما اعتقدت دائمًا أن لا أحد سيتحملها، لذلك انفجرت قائلة :
لا مش قصدى كدا، قصدى متسبنيش، مش كل ما أعمل حاجه تضايقك تمشى و تسبنى، دى مش طريقة تعامل، غلطت واجهنى، نتخانق نزعق بس نبقي موجودين سوا، مش تمشى و تسبنى

تريده أن يريها جانبه المظلم، أن يتعارك معها بصورة قد تهابه للأبد بعدها ، يالسخرية القدر هى من تطلب ذلك و هو من يجاهد بشدة ألا تحصل عليه، ليقول بحدة كى ينهى الأمر قبل أن يتفاقم وضعه ويصل لمرحلة لا يمكنه التراجع بعدها :
انزلى يا "رنا"
انزلى أنا مش عايز أقول حاجه تزعلك، فانزلى أحسن

ظنت أن حديثها سيمهد الطريق للصلح بينهما، و لكنه رفض ذلك بشدة و راح يطلب رحيلها بكل بساطة، فتعجبت و هتفت مستنكرة لا تريد تصديق ما تفوه به:
أنت بتطردنى؟!
أشاح بنظره للجهة الآخرى و قال :
فكرى فيها زى ما تحبى لكن انزلى حالًا مش عايز اتاخر ورايا مواعيد
لم تتزحزح و ظلت بمكانها عاقدةً ذراعيها أمام جسدها رافضةً تركه دون إعتذار منه و طلب سماح طويل لن تتنازل عنه خاصة بعد أن ذكر إنشغاله بموعد آخر.

و شعر هو بأنه أوشك على الانفجار و يده بدأت ترتعش بشكل لا إرادى
و مازالت هى تعانده بشدة و ترفض الرحيل فسئم و فقد نفسه و بدأ يصرخ و هو يضرب بكلتا يديه على عجله القيادة :
انزلى، بقولك انزلى
كرامة الاثنى بداخلها صرخت :
متزعقليش، أنا نازله و مش عايزه أشوفك تانى، يا رتنى ما عرفتك
هبطت من السيارة و هى تصفق الباب خلفها بقوة شديدة متعمدة
لو كانت تهدف لرؤية غضبه لما أتقنت الأمر لهذا الحد، فصاح هو بألم :
أنا كنت غلطان لما كتبتلك الورقه دى، أنتِ متستهلهاش، متستهليش أى حاجة عملتها أو كنت هعملها عشانك
و انطلق بعدها مباشرة بسرعة قصوى قبل أن يتمادى معها و ظلت هى واقفة بمكانها تتسائل عما كان يقصده:
ورقة ايه ؟!
يلقى المرء بكل الكلمات الصعبة حين يشعر بالألم و الخذلان و لا يتحملها الطرف الآخر و ينزوى بنفسه بعيدًا عن الكل خاصة من يحب.

"وتَغَيّْرَتْ منْكَ الطِّباعُ و لمْ تَعُدْ
تَحْنو عليَّ وبي تُحِسُّ و تَشْعُرُ"
_لقائلها

.......................................................................

وقف فى المطبخ يعد مشروبًا خاصًا لها، لم يضع به أى مكونات إضافية، لكن كلامته ستكون هى المكون الإضافى و لا حاجة لشىء بعدها.
أنهى ما يعده و اتجه للسلم، يصعد على الدرجات بهدوء و يتحرك صوب غرفتها، دخل و هو يحمل الكوب و قال بصيغة الأمر :
اشربى
نهضت تاركة الفراش من الذعر ما رأت هيئته التى تسلل بها للغرفة، كان الظلام يحيط بالمكان باستثناء ضوء خافت صادر من الخارج، فأسرعت تضىء المصباح القريب من فراشها و هى تتسائل بحيرة :
ايه دا؟
أجابها بهدوء مريب و هو يقترب أكثر و أكثر و
الكوب بين يديه :
زى ما أنتِ شايفه عصير برتقال
هتفت متسائلةً و الخوف يغزوها من كل اتجاه:
أيوه يعنى عملته ليه ؟؟
و صل لها و قال و هو يرغمها على إحتساء ما بالكوب بالقوة :
متقلقيش مش حاطلك في حاجه زى ما كنت بتعملى معايا

كانت تحاول الفرار من بين يديه و عدم الإحتساء و لكنه أرغمها حتى آخر قطرة و هو يقول بإنتشاء مرضى:
متهربيش، وقت الهروب فات، خلاص و قت الحساب جه و اللى جاى كله ظلمات يا "سهير"، كل اللى عملتيه زمان هيتردلك، أنتِ تانى واحدة فى قايمتى و قررت ابدأ بيكى الأول، مزاج مجانين بقي

كان جسدها يعلو و يهبط من فرط الخوف و عينها تبحث عن أى حد بالخارج كى ينقذها من براثن ابنها، و فى نفس الوقت تحاول نيل عطفه و هى تقول بنبرتها الحانية الزائفة:
مالك أنا ..........
و لكنه قاطعها بقوة و قال صارخًا بوجهها:
أنا مش "مالك"، أنا المسخ اللى عملتيه و اللى نهايتك هتكون على ايديه
لم تفهم ما يرمى له فراحت تسأله بتوجس:
أنت عايز ايه ؟

"عفاف"
صاح باسم تلك المرأة التى تعجبه، تعجبه بشكل كبير، ربما الذكاء الخاص بها يثير جنونه، ربما جمالها الساحر بالنسبة له، قوتها التى لا تلائم كونها أنثى، لا يدرى و لكنها مناسبة لجنونه، مناسبة بشكل غريب.

أكمل حديثه و هو يضغط على رسغها بعنف و نظرته الثاقبة توشك أن تحرقها :
أنا ممكن أسبلك أى حاجه إلا هى، متلعبيش معايا عليها عشان صدقينى هتخسرى روحك لو بس هوبتى ناحيتها، اللى أحبه تبعدى عنه.
قاطعته و هى تصرخ بإتفاق قديم بينهم :
أحنا اتفقنا تتجوزها شهرين تلاته و تسبها
و رد عليها بسلاسة :
و أنا لسه عند اتفاقى بس هسبها بمزاجى مش بمزاج حد تانى

كان اتفاق كاذب، فقط افتعله كى يحصل على موافقتها للزواج، و تركها كى يغادر و لكنها أوقفته ما أن هتفت باسمه الثانى:
"كامل "

تعرفه، حين كان يصرخ فى نومه بذلك الاسم، و كانت هى بقربه، فالتفت لها و قال بخبث و دهاء :
كدا نلعب صح
أكمل و هو يعود و يقترب منها خطوة بعد خطوة:
أنا مش الأهبل ابنك اللى فضلتى تسمميه سنين و تحطيلة أدويه تجننه عشان بس يبقي تحت طوعك، لا أنا النسخة التانية، اللى انتى عملتيها باديكى و اللى معندوش أى مشكلة أنه يموتك فى أى لحظة لو بس عمايلك مجتش على هواه

تمردت و قالت و هى تصرخ بأعلى صوت تملكه:
بس هتطلقها
ابتسم بسخرية و هو يهتف متسائلًا :
عارفه حلمة ودنك ؟
حرك عنقه يمينًا و يسارًا ثم قال :
لما تشوفيها بقى هبقي أطلقها يا "سوسو"

غادر غرفتها و هو يبتسم بغرابة، فجميع خيوط اللعبة بيده و سيذيقها و يلات كل ما اقترفته بحقه و حق الجميع .

..........................................................................

كان لستائر الليل و غفلة الحراس دور كبير فى فراره، أو هكذا خيل له، غير مدرك أنه مجرد فأر صغير فى مزرعة مليئة بالفئران يمتكلها شخص واحد، ليس سوى "طارق"
تسلل بحرفية شديدة و خرج للطريق السريع، استقل أول سياره أجرة قابلته و انتقل لمكان آخر مُبتعدًا عن حيز تلك المنطقة و من بها.
أشفق عليه سائق الأجرة و ناوله هاتفه بعد أن طلب منه متحججًا بأنه قد تمت سرقته و نال العديد من الضرب على يد هذا السارق اللعين.
أخذ الهاتف و ضغط على عدة أزرار و ما أن انتهت صفارة الإنتظار عرف عن نفسه، ليقول الطرف الآخر سريعًا :
"بسام" أنت مختفى بقالك اسبوع و الدنيا مقلوبه ، أنت فين ؟

أجابه "بسام" بصوت ضعيف منهك من كسرة الضرب الذى تعرض له:
فيلا "غيث الحديدى " تبقي الوكر بتاعهم يا حضرة اللواء
و "غيث سامح الحديدى" يبقي زعيم العصابه
ثم أخفض صوته أكثر فأكثر كى لا يسمعه السائق و قال :
أنا كنت مخطوف هناك و هربت حالًا، و متقلقش مش هيعرفوا بهروبى غير تانى يوم

أغلق الهاتف و اسرع اللواء بالاتصال بشخص آخر و قال :
طلع أمر ضبط و إحضار للمدعو "غيث الحديدى" و أمر تفتيش " لفيلا غيث" الموجودة فى المنصورة

و على الجهة الآخرى كان "بسام" قد وصل لموقف الحافلات الكبرى كى يعود للقاهرة و لابنه الوحيد بعدما أنزله سائق الأجرة و رفض أن يأخذ أى أموال
كان "بسام" فى أتم سعادته، فقد حقق هدفه منذ البداية و لثلاث سنوات متتالية كان يعمل فى تلك الشركة فقط لكى يوقع به.
و لكن و بينما كان يعبر الطريق صدمته سيارة تسير بسرعة جنونيه، صدمته بتعمد حقير و سقط على الأرض غارقًا فى دماءه و أنفاسه الأخيرة تملىء المكان.
لتكون تلك النهاية أم مازال هناك فرصة آخرى ؟
لكن فرصة لمن؟ له أم لابنه ليحظى بوالد غيره ؟
والد يربط بينهما الاسم و الدم، فما هذا العبث ؟!

......................................................................

بعد أن أوصلها لمنزل والدها و رحل، تاركًا فؤاده و روحه المشروخة معها، راح يجوب الطرقات لا يعرف أين يذهب؟ فلا مكان له حين ترفضه للمرة التى لا يعرف عددها .
يؤلمه إحساس الرفض، و لطالما كان مرفوضًا منبوذًا من الجميع .
و كأنه مثلما قال أحدهم :
"‏أسِيرُ ولَستُ أعلَمُ أينَ أمضي
غَريبَ الدَّارِ قد ضَيَّعتُ بعضِي"

تنهد بألم ثم استقل سيارته مجددًا و انتقل لمكان يعرفه حق المعرفة، وصل بعد نصف ساعة تقريبًا فلم يكن بعيدًا، صعد على درجات السلم و لم يحبذ استخدام المصعد الكهربائي
و ما أن وصل لغايته فتحت هى الباب، هيئته لم تكن بأفضل حال فراحت تسال بقلق :
أنت كويس ؟ لما كلمتنى صوتك كان متغير ؟ فى ايه ؟
مال بجذعه ناحيتها، واضعًا رأسه فوق كتفها و هو يقول بضياع:
أنا تعبت، تعبت من كل حاجه فى حياتى
عانقته هى قبل أن يتفوه بأى حرف آخر ، تحركت للداخل و تبعها هو مغلقًا الباب بقدمه و مازال متشبثًا بها، كأنها الوحيدة المتبقية له بعد أن تركه الجميع خاصة صغيرته.
لكن من هى ؟ و كيف له أن يعانقها هكذا ؟!
رائحة غريبة تنبعث، خيانة أم مكر و دهاء أم ربما فقيدة عادة للحياة مجددًا؟ عادت لتقلب الأمور رأسًا على عقب و تسترجع كل ما كان لها و حصل عليه غيرها.
لاجئ أم خائن هو؟
هذا ما لن نعرفه إلى أن يظهر كل ماضيه دفعة واحدة.

____________________________________

اسفه على التأخير
تصبحوا على خير قبل الكهرباء ما تقطع

للاسف الهدنة انتهت و رجع تانى عدد الشهداء يزيد، حسبي الله ونعم الوكيل
ادعوا لفلسطين فضلًا
(اللهم انصر أهل فلسطين على من عاداهم ،اللهم صوب رميهم اللهم ثبت الأرض تحت اقدامهم ،اللهم أجعل نار اعدائهم بردًا و سلامًا )

Continue Reading

You'll Also Like

1.7K 93 17
"انما القمر ساطع وعيونها براقه فهل القمر يستطيع ان يروجَي ليِ ابتداء: 20/10/2023 بقلم: مريم السيد اول عمل اكتبه💘💘
15.3K 987 16
"شيروفوبيا" "رهاب السعاده.." _ وانا صغيره كنت بسمع اغنيه بتقول "ده القلب يحب مره ميحبش مرتين" كنت بحبها وبحب ادندنها كتير، لكن بما كبرت اتغيرت نظرتي...
12.7K 1.3K 25
زينب سلامة _ روضة مجدي العمل مأخوذ من احداث حقيقة .. لم أتحدث عنها كثيرًا٬ ولكن بإمكاني قول انك ستدخل الي عالم جديد لم تأتي إليه من قبل بقلم /زينب...
1.5K 136 11
للعشق قيود، فــختلف عشقي كان ك بحراً عميقٍ ملئ بالامواج التي تُسقِط من لا يعرف العوم في بحر الحب ... من لا يحب اخاه ؟ كُلنا نحب اخواتنا حتا وان فع...