المفقود

By tabola03

1.6M 124K 177K

المفقود حكاية عن ذلك الفتى الصغير الذي لطالما آمن بوجود دفء عائلتهِ إذا ما بحث عنه جيداً، إلّا أنّ الحياة تعل... More

01 أول ذكرى
02 مُشعْ
03 القدر
04 النّقاء
05 أمنيتي
06 هذا كافٍ
07 ألدورا
08 الهرب
09 منتصف الليل
10 قبو العاصمة
11 اللعبة
12 الغراب
13 العبيد
14 أب
15 في هيربا
16 في آلبينوس
17 في روبار
18 في بيردو
19 في لوسيدَمْ
20 الحلم
21 إخوتي
22 المهمة الأولى
23 إنعاش
24 أم
25 اليوم المشرق
26 ظلام الشرق
27 موطن أمي
28 نانا
29 آنسة لايتون
30 بداية الفوضى
31 اعتقال
32 القرار
33 الاتفاق
هام جداً
34 مجرد لوحة
35 آسف
36 كابوس
37 غناء
38 الشبيهة
39 الوصول
40 الإعلان
41 الحقيقة
42 الأمير
43 الحل
44 أحاديث
45 بحث
46 شمس وأزهار
47 قطرات
48 مطر
49 عودة
50 حكاية
51 بند
52 صخب
53 شبح
54 رواية
55 أسرار
56 المجلس
57 قمر
58 بيدق
59 مرافق
هام جداً
59.5 فارس النمل وعدوه
60 السُّلطة
61 اللورد
62 أمر
63 مهرجان
64 حالة
65 مهانة
66 تحقيق
67 زيارة
68 سيف
69 إصابة
70 صداع
71 إرث
72 التحرك
هام جداً
73 الإبحار
74 محيط
75 لقمة
76 صديقة
77 الجبهة
78 الجنوب
79 غُرز
80 منطق
81 الهجوم
82 لابسوس
83 دموع
84 أغنية
85 نجاة
86 أخ
87 ولاء
88 نور
89 وعاء
90 فراغ
91 سفاح
92 حرية
93 كون
94 فاكهة
95 اعتراف
96 احتفال
97 جواسيس
98 كونكا
99 أحضان
100 وعد
100.5 أشرار
101 القرية
102 رومي كومو
103 سلام
104 زعيم
105 قوقعة
106 أميرة
107 تحالف
108 ألم
109 دفء
110 مواجهة
111 أنانيّاً
113 الشرق
114 إيغا
115 عهد
116 أليكسا
117 ولادة
118 إمبراطورة

112 الوداع

8.2K 580 1.7K
By tabola03

ماتيو

إنّني نائم على فراش الغابة العشبي، أنظر إلى السماء، إلى ملايين النجوم التي لم أستطيع بِسنّي الصغير استيعاب إلى أين تمتد. أُفكّر، لا يُمكن للغابة أن تسع العالم أجمع إن كانت هذهِ النجوم بعيدة جدّاً عنّا. ما هو العالم أجمع من الأساس؟ لابد لي من تقصّي الأمر. آلمني ظهري، تذكّرت ما فعلهُ فضولي بي وكيف لهُ أن يُعجّل من نهايتي على يديهِ. إنّني أسترجع بوضوح تام الآن بأنّ أوّل ما تلقّنتهُ من هذهِ الحياة ليس الطريق والبحث عن البيت، بل الموت، موتي أنا، لقد ترسّخ ذلك في قُعر ذاتي فأصبحتُ مُحارباً لهُ بلا وعي منّي. إنّني لا أعيش لأحيا، بل أعيش هرباً من الموت. جميع البشر في حالة نُكران لموتهم يوماً ما. أمّا أنا في حالة حرب. لا أمتلك بذخ النُكران. لا أستطيع تشتيت وعي بعيداً عن حقيقة موتي في أيّة لحظة على يديْهِ.

البيانو اللّعين من جديد.

"أتكره عزفي؟"

نعم، كثيراً.

"ولكنّها كانت تُحبّهُ.."

من هي؟

"لقد عانت كثيراً على ولادتها، أنت أيضاً تُعاني لأنّك وُلدت، ولكن عدم ولادتها أبداً هو ما قادنا إلى حيثُ نحن الآن. فإن لم تتوقف، إن لم تتقبل موتك، نعم إنّني أُحدّثك أنت، ستعيش جحيماً أسوأ مِمّا تعيشهُ الآن"

لم أفهم، ارتفع صدري ترقّباً، وحاول، مرة أخرى، قتلي بصقيعهِ لتعود لي أنفاسي بعد توقف قلبي عن الخفقان عدّة لحظات.

"أنت أسوأهم"

لم أتحرّك من مكاني تلك اللّيلة، النجوم كانت تُخاطبني، ترجوني الهرب، ولكنّني كنت عاجزاً عن زحزحة حتّى أصابعي. وهو، كما يفعل دائماً، حاول قتلي عدّة مرّات وفشل، ابتعد، رجع مُلطّخاً بالدّماء، ثمّ حاول قتلي وفشل. جلس على إحدى الصخور يُفكّر. بماذا؟ بعدم جدوى محاولة قتلي بنفسهِ وتحريك تابعيهِ؟

"لا يُمكنني الائتمان على ما أراهُ ولكن.."

صدري يؤلمني، ولكنّني تعافيتُ سريعاً فاستشاط غضباً بطعني بالمزيد من الجليد، وعندما تعافيت، عندما تسلّل نور النجوم إلى عينيّ مُجدّداً، وجدتني بين ذراعيهِ، يعتذر، يرتجف، يُخيفني بلُطفهِ هو من يُريدني جُثّةً.

"هذا يكفي يا سموّ الأمير"

استيقظتُ في دفء جيني، يدها تحاول إبعاد قبضتي المُحكمة على صدري، أكنتُ أتألّم؟

"طالت غيبتك هذهِ المرّة لأكثر من ساعة وبدأت في إيذاء نفسك"

لم أنهض، مثل تلك اللّيلة، إنّني عاجزٌ عن الحراك.

"لقد نجحتُ في رؤية ذكرى كاملة وواضحة هذهِ المرّة.."

انهالت خصلات شعرها الطويلة على وجهي باسمةً لي: "لا داعي للمحاولة أكثر هذهِ اللّيلة، غداً يوم حافل وأنت بحاجة إلى الراحة"

نعم، ففي الغد، سنرافق قوّاتهم إلى الشرق، يوم حافل، يوم مغادرة ووداع الجنوب، ولكنّني لم أشأ تفويت تمضية ليلة بدونها وإن كانت لاسترجاع الكوابيس.

"يُمكنك النوم هُنا، ساي س-"

"أتودين رؤية اليراعات؟"

جيني

حملني جرياً إلى المتن فالشاطئ فعُمق الغابة. هو لا يود تضييع وقتنا معاً في تذكر الكوابيس فقط، يحاول تعويض بُعدنا في النهار جيّداً أثناء اللّيل.

هل أنتِ مُستاءة يا صغيرتي؟

لا.

"ما رأيكِ أن أُجرّب جعل السماء تُمطر اللّيلة؟ سأحتمل لعنات كولِن على إعادة ذكرى قُبلتنا الأولى!"

ضحكتُ أثناء تلطيخ ردائي الشرقي بالتربة: "سيلعن كلانا"

تراقصت اليراعات من حولي، استيقظت الطيور ونزلت الزواحف مُعلّقة من الأشجار، حيوانات أخرى تقترب منّا، تزحف وتقفز وتجري، لابد من أنّهم أتو لتوديع سموّهِ بملء إرادتهم، القرود على وجه الخصوص تبدو مستاءةً جدّاً.

"أنظري جيني الغابة بأكملها هُنا!"

ليتها تُمطر حقّاً.

...

كولِن

"سحقاً كم أكره الريّاح! لماذا تشتدّ الآن ونحنا ما نزال لم نُفرّغ نصف المُعسكر؟؟ سوف ينتصف اللّيل سحقا!!"

صرختُ في قادة سرايي ما ان انحنوا لي جميعاً في ذات اللحظة: "ما الذي حدث الآن؟!"

قال أحدهم بصوت يرتجف: "لا نعلم.. تبدو غاضباً فنعتذر لك على أيّ تقصير-"

"إنّني غاضبٌ من الطقس سُحقاً فارجعوا للعمل وإلّا سحبتُ جميع أراضيكم ووهبتهم لكهنة هذهِ الجزيرة اللّعينة!!"

"هلا توقفت عن اللّعن؟ الرياح ليست بهذهِ الشدّة"

هرب جميع البشر من حولي تزامناً مع اقتراب رومي، والتي، لا أعلم لماذا، تلبس رداءً طويلاً مُزيّن بخطوط زاهية بلا أكمام. إنّهُ ضيق، يُحدّد جسدها، أنيق، بل ويبدو عالي الجودة مُقارنة بخرقهم البائسة. هل أهذي أم أنّها تلبس فُستاناً جنوبياً؟

"ما خطبك؟"

سُحقاً.

أخليتُ بلعومي قائلاً بصوت رزين: "الطقس عدوّ قديم لي، قد لا تُصدّقين ذلك ولكنّهُ دائماً ما يتعارض مع مُخطّطاتي و-"

"أُصدقك"

"كيف تُصدّقين هذا الهُراء؟"

"أنا أيضاً أمتلك هُراءً خاصاً بي، النهر بالعادة ما يُعاداني، لقد أصبحتُ غطّاسة ماهرة لأنني بالعادة ما أقع فيه لأيّ سبب تافه، رين هي أقرب سبب غبيّ"

"ماتيو سبب غبي أيضاً، اللّعين يتلاعب بالطقس"

لا أعلم لماذا جعلها ذلك تضحك، إنّني ابتسم.

"ما الذي أتى بكِ؟ الفوضى تعمّ المُعسكر كما ترين"

"أتمتلك القليل من الوقت؟ أُريد أن أُريك شيئاً.."

ما الذي يحدث بحقّ الجحيم؟ لا يهم، رميتُ حذائي وانطلقنا.

أخذتني إلى الجانب الآخر من الضّفة على مسافة ليست بالبعيدة من القرية، ولحُسن الحظ لم يقلبها النهر، ربما احترم الفُستان الجنوبي. توغّلنا كثيراً في الغابة حتّى ندمتُ على عدم جلب دواء ضيق النفس اللّعين، إلّا أنّ أريحيّتها مشياً بين تشابكات الأدغال أجبرني على الاسترخاء حتّى خُيّل إليّ بأنّني أتبع أميرة في قصرها. خرجنا من الازدحام الورقي إلى مساحة دائريّة مفتوحة على جدار صخري شاهق، نزلت على رُكبتيها عند صخرة مهولة الحجم مركونة عليهِ، أشارت لي بمُساعدتها في زحزحتها، ولم يُخطئ ظنّي بأنّهُ يُخفي فتحة مغارة.

استنشقت رومي الهواء عميقاً، فسألتها قبل أن تقترح علينا النزول: "ما الذي يوجد بالأسفل؟"

كانت بالفعل قد غمرت نصف جسدها عندما سألتني: "أتثق بي؟"

تبعتها، هبطتُّ معها نحو ظلام دامس، فأمسكت بيدي كمن تعلم إلى أين نحنُ ذاهبون وإن لم نحمل معنا شُعلة. عيني الواحدة لا تُسعفني على الاعتياد على الظُلمة فسلّمتُ أمري إليْها بالكامل. إنّهُ مكان مهم، أستطيع معرفة ذلك من رجفة أناملها. توقفنا فجأة ما إن رأينا نوراً يُشعّ على شكل إطار مُستطيل، باب، دفعتهُ بيدها بعدما تركتني فاضطررتُ إلى حجب عيني من السطوع الذي غشانا.

"افتح عينك كولِن"

"سحقاً... ما هذا ال.."

ذهب، الكثير من الذهب. نيران عظيمة في قدور تُنير مساحة شاسعة من الطوابق المليئة بالذهب المُصاغ إلى شتّى أنواع الأشكال الهندسية، أحجار كريمة، أواني فضّية، حُلي وأثاث مُذهّب والكثير من المصوغات الأخرى؛ إنّهُ قبو عاصمة ذهبي!

"ما هذا المكان؟!"

"إنّها مديتنا المُقدّسة التي خرج منها الأبطال الأسطوريون... يُقال بأنّ حضارتنا بدأت من هُنا، كُنّا قوى عُظمى ولكنّ تحوّل الكثيرين إلى شياطين جشعاً في الذهب أدّى إلى تراجعنا"

قادتني نحو إحدى مشاعل النيران العظيمة: "أترى الزيت الذي يُشعل هذهِ النيران؟ إنّهُ يُعدّ من أكثر التقنيات تقدّماً التي اخترعها أسلافنا؛ لقد قاموا بتركيبهِ من مواد طبيعية مكّنتهُ من الاشتعال إلى الأبد، هذهِ الأنوار لم تنطفئ قط. يُمكنك أيضاً أن ترى كيف كانوا مُبدعين في صياغة الذهب، جدّتي كانت تقول لي بأنّ الغربيين تعلّموا صياغتهُ للمرة الأولى منّا منذ زمن سحيق جدّاً"

تجوّلت قليلاً بين أكوام الذهب والنيران العظيمة بفم أخرق، أتعثّر وأنهض غير قادرٍ على تصديق عيني، أحتاج الأخرى لأقتنع بأنّني لا أحلم.

"حقّاً إنّها لعظمة.. ولكن لماذا تُريني كلّ هذا؟"

"لقد أتيتُ للاطمئنان بأنّ الشرقيّين الذين خبّأهم ذلك الشيطان الصغير هُنا لم ينهبوا المكان، وحسناً.. أردتك أن تعلم عن.. كما قُلت تماماً.. عظمة أجدادي.."

سُحقاً، سوف تُفقدني صوابي بهذا الفستان الجنوبي.

أخذت يدها بلا استئذان كرجل غربي همجي، أسحبها في الأنحاء مُسترسلاً كالأخرق: "رومي لم يفت الأوان على استرجاع عظمتكم كما تعلمين! هذا الكمّ الهائل من الذهب والأحجار الكريمة دليلٌ على أنّ أراضيكم غنيّة بالثروات! وتقنيات الزيت المُشتعل يُمكن للكيمائيين فكّ شفرته أيضاً! ما أحاول قولهُ هو بأنّ موطنكم يرعاكم بتقديم كلّ هذهِ الخيرات، يبدو بأنّ رومي كومو لا تود منكم الرقص فقط!"

"ما الذي تقوله؟ إنّها المدينة المُقدّسة التي-"

"خرج منها الأبطال الأسطوريّون، حكاية رائعة! ولكن أيوجد أيّ نفي في أسطورتهم من استخدام هذهِ الثروات من جديد؟"

"ل-لا ولكن.."

"إذن عليكم الوقوف مُجدّداً! سوف أساندكم رومي فأنتم تمتلكون امكانيات بناء مُدن أعظم من هذهِ بملايين المرّات! لا يجب عليكم العيش أسفل القش إلى الأبد فأنتم أوّل من تمدّن في العالم!"

خفضت رأسها، فنزلتُ على ركبتي كي تتقابل عيني بعينيها العميقتين: "أتثقين بي؟"

تبدو مُحرجة وكأنّني كُنت أُطري جمالها لا موطنها فقط. إنّها أكثر صدقاً، لا تُكابر بل وتسعد باعترافي أنا الغربي المتعجرف بهم. لربما حُبّها العميق لموطنها هو ما سيقودني للجنون، الفستان يأتي بعد ذلك.

"لم أُرفّع للكاهنة العظيمة بعد كي تأخذ منّي هذهِ الموافقة"

"ألم يُحسم الأمر بعد؟ لقد علِمنا من ريادو بشأن تنحيتهِ من منصب أوّل مؤهل للقب الكاهن العظيم، قال شيئاً عن قوِى روحية أنتِ وحدكِ القادرة على اتقانها"

"كبار القرية يعتقدون ذلك لأنّ الكاهن العظيم استطاع التواجد في اجتماع التحالف من خلالي فقط، الكثير من الشباب ما يزالون يُفضّلون ريادو"

لاحظتْ اختلاج الحيرة على قسمات وجهي فأكملت: "ألا تذكر عندما كُنت أضرب بالعصا كلّما تحدّثت؟ لقد كانت تلك طقوس خاصّة جعلت الكاهن العظيم يعلم عن كلّ ما حدث في الاجتماع أثناء رقودهِ في الملوكا. لقد تواجد من خلالي، ريادو لم ينجح في ذلك قط. أعلم بأنّك لا تُصدّقني وإن أخبرتك بأنّ الكاهن العظيم كان يعلم بالفعل عن كلّ ما دار-"

"أُصدقكِ"

صمتت تُحدّق فيني وقد غزاها الاحمرار تصاعداً هادئاً.

شددتُ على يدها: "ومثلما ستكون أميرة الشرق الأولى حلقة الوصل بين الشرق والعالم، ستكونين أنتِ حلقة الوصل بين الجنوب والعالم، هذا بالطبع إن سئمتِ الشجار معي"

لأوّل مرة تبتسم بوضوح تام لي، وأنا، مٌجدّداً، أجد نفسي باسماً.

"حسناً، سنرى إلى أيّ مستقبل ستقودنا خطوط تحالفنا.."

ما هذا الشعور؟ الفراشات تملئوني! قد يكون التخطيط للازدهار أكثر مُلاءمة لي من التخطيط للمعارك.

"إنّني أعدكِ يا رومي، لن أدع أيّ مُتطفل غربي أحمق من سرقة ولو حبّة قش واحدة من قريتكم و.."

أمضينا اللّيل بطولهِ نتجول في المدينة الأسطوريّة، نُخطّط، أُعاهدها على العودة مع والدتي ما إن أجدها، تحكي لي قصّة فستانها الأنيق الذي ورثتهُ من والدتها، وأثرثر إلى ما لا نهاية عن جميع خُططي في تقديمهم إلى العالم لدرجة لم أغضب فيها من المطر اللّعين ما إن انهمر فجأة ونحن على القارب، وهي لم تتوقف عن الضحك ما إن انقلبنا سقوطاً في النهر مع ازدياد الهدير.

...

ساي

كان لابد لي من المجيء ورؤيته، قبل انفصالنا المؤقت على البحر، أردتُ إلقاء نظرة عليهِ، كِنشن، أسير الحرب الأهم. لربما كان غيري سيضحك، هو مثلاً، من رؤيتهِ مُكبّلاً وذليلاً في عودتهِ إلى الشرق تماماً كما كان حالي عندما غادرتهُ. كيف استطاع وضع ابتسامة آنذاك؟ لا أستطيع التفهم بالرّغم من امتعاضي لوجودهِ يتنفس فقط. هل أنا ساذج؟ أم أنّ أمثاله أشدّ خساسة مِمّا أتصوّر؟

تركني الحارس وحدي، لابد من أنّ سموّ الأميرة أمرتهم بذلك في حال وجودي، فهل سأكتفي بالنظر؟ هُنا أستطيع الانتقام منهُ بدون أن يحتجّ أحدهم، أستطيع انتظار انتهاء مفعول ما خدّروهُ بهِ وتعذيبه كما أردت دائماً. ولكن، لسبب ما، لا يجول في رأسي سوى حثّهِ على الاعتراف والانتهاء من أمرهِ أيّاً كان حُكمه. هل استهلكتُ تعطّشي الشديد لقتلهِ في ساحة المعركة أم أنّني أُشفق عليهِ هو المُنحطّ بهذهِ الحال؟ لا. كولِن كان سيصرخ في وجهي مُجدّداً بأنّ الغضب الأعمى ليس من شيمي. سوزو أيضاً ستُذكرني بأنّ الدجاج لا يجب أن يفقد إنسانيّته. قتلهُ ليس صائباً، تعذيبهُ بلا معنى، ووُجوده المُزعج لن يزول بمُجرد توقفهِ عن التنفس.

"أستطيع رؤيتك.."

شددتُ على سيفي فأكمل بلسان ثقيل: "الأميرة حقاً لا ترحم.. ولكنّها تُطعمني جيّداً فلم أفقد قُدرتي.. ما الذي-"

"اخرس وإلّا ناديتُ عليهم لتعود بلا حواس مُجدّداً"

لم يبتسم.

"لقد خسرت، فاعترف بالفعل. إنّها فُرصتك الأخيرة فلا أحد يُريدك حيّاً بما فيهم سيّدك المُبجّل"

رفع حاجبيْهِ: "أتُحذّرني؟ هل أنت أحمق؟"

"نعم أنا أحمق، ولا أهتم ما أكون عليهِ طالما لن أكون أنت. اعترف، اترك انطباعاً أخيراً على ندمك وإن كنت لا تعنيهِ، لربما حينها لن تأمر سموّها بإعدامك. صدّقني، إنّها تعلم كيف ترحم بلا حدود وكيف تقسو كما يجب. لديك أقلّ من شهر للتفكير جيّداً قبل وصولنا إلى الشرق"

خرجتُ قبل أن يتفوّه بحرف آخر لأُساعد رين وداي في إنهاء نقل مُعدّاتهما. أحتاج إلى شغل نفسي جيّداً فأنا أكره التفكير الزائد والعودة إلى الشرق خلقت أعاصير في رأسي لن تهدأ إلّا بتحريك جسدي.

...

كولِن

كيف أردتُ لصباح مُغادرة الجنوب أن يكون؟ بالطبع، ماتيو يرتدي رداءه الملكي يشقّ دربهُ بين صفوف الفرسان إلى مُمثّلي الجنوب، ريادو ورومي، يُصافحهما برسميّة أثناء دوي الأبواق توديعاً ملكياً بهيّاً. إلّا أنّ ما أُريدهُ وما يحدثُ دائماً في تناقض تام. فها هو أخي، سموّ الأمير المُحرّر، ملك الحيتان والقرود، يبكي بحرقة بثياب مُمرّغة في العرق في أحضان ريادو ويسمح للأطفال باللّهو وتزيينهِ بالريش والأصباغ كما يشاءون.

ضربني العمّ لومان على ظهري حتّى كاد يكسره (كالعادة)، قائلاً وهو يشير إلى رومي: "اذهب إليها وكن رجلاً"

رجلاً؟ وما الذي أكونهُ أمامك الآن؟ قطة؟

"لا تكن جباناً أيّها اللورد!"

"عليك أن تُريها كيف للرجل الغربي أن يودّع فتاته!"

"أتُريد أن نعلّمك كيف-"

"توقفوا عن إزعاجي سحقاً!!"

لم يتوقفوا، فُرسان الشمال اللّعينين لن يكبحهم أيّ شيء من السخرية منّي كلّما رأوني بجانب رومي سوى الموت. وما الذي يُفترض بي فعلهُ؟ ما شأن الرجولة بتوديعها؟؟ سحقاً، إنّها قادمة. ابتعد الجميع من حولي بعدما غمزوا وصفّروا ووضعوا شتّى أنواع الوجوه الغبيّة. ولا أعلم لماذا بحقّ الجحيم شعرتُ بالارتياح من عدم ارتدائها الفستان الجنوبي.

أخذتُ نفساً عميقاً لتصفية رأسي من الحمقى ووجوههم، ثم ابتسمتُ ماداً يدي لها مع اقترابها، إلّا أنّها وضعت في راحتي قارورة صغيرة بداخلها شيء ما أصفر اللّون، يبدو مقرفاً.

"إنّهُ مُجرّد محلول لطرد الكوابيس، أخبرتني رين بأنّك تُعاني منها كثيراً.."

بحلقتُ في المحلول عدّة لحظات، واستوعبت مُتأخراً بأنّني لم أجلب هديّة وداع.

"شكراً، إنّني لا أتوقف عن تلقّي شتّى الأمور منكِ"

أشاحت بنظرها وقد ضمّت ذراعيها إلى صدرها: "سأتلقّى التعويضات عندما تعود.."

التفتُّ إلى الوراء مع ازدياد صخب الفرسان من البعيد، جميعهم يصرخون الآن.. الآن لفعل ماذا بحق الجحيم؟

تراجعت رومي عدّة خطوات، تُتمتم كلمات وداعيّة بل ويُخيّل إليّ بأنّها على وشك الهرب. فاندفعت خلفها، خليّة دماغ واحدة تعمل في رأسي، ولكنّني لم أستطع السيطرة على جسدي عندما سحبتها في حضني وقبّلتها على شفتيها.

"لقد فعلها!!!!"

لقد فعلتها، أوّل قبلة بإرادتي التامة (تقريباً) وسُحقاً كم أشعر بالسعادة! شفتيها ناعمتين! أكان اللْعين ماتيو يستمتع هكذا كلّما اختلى بالأميرة في الغابة؟؟ سحقاً ما هذا الوجه اللّطيف المُتفاجئ؟ لقد أخرستها الصدمة، واحمرّت حتّى أضحت هي والأصباغ لوناً واحداً. أطرافها ترتجف بل ويُمكنني القول بأنّ لا طاقة في جسدها إطلاقاً.

وقبل أن تنطق بحرف واحد قلت وأنا أنظر مُباشرة في عينيها: "نعم سأعود وأعوّضكم أنا والأبله عن سنين الظلم كُلّها فانتظريني هُنا!"

دفعت وجهي بعيداً: "وأين باعتقادك سأذهب؟ لا مكان لي إلّا هذهِ الجزيرة فتوقف عن فِعل الأمور الغريبة و-واتركني بالفعل!"

لا الفستان ولا ولاؤها لموطنها ما سيقودانني للجنون، بل خجلها اللّطيف هذا هي العتيدة سيّدة قومها، ولتذهب النبيلة الرقيقة التي أردتها إلى الجحيم.

ماتيو

اصطفّ شعب النهر عند الشاطئ يودّعون الجميع قبل تحرّكنا. كنت أعتقد بأنّني سأشعر بالضيق على فراقهم ولن يكون اليوم سعيداً، ولكنّ رؤية الغربيين والشرقيين والجنوبيين من شتّى الأعمال يتصافحون مودّعين بعضهم، مُمتنين على الشراكة الوجيزة التي جمعتهم قد قلب المزاج المُتعكّر على الفور. لقد وُلدتُ من جديد هُنا، بين أحضان ورقصات رومي كومو، لم أعد أعمى ببصيرتي كما كُنت عندما وطأت أقدامي رمالهم أوّل مرّة، ولا يُمكنني أن أكون أكثر امتناناً لهذهِ الأرض.

قال لي ريادو ما إن حرّرتهُ من موجة بكائي: "أعلم بأنّنا لا نستطيع إعانتك على التخلّص من الشيطان الذي ذكرهُ الكاهن العظيم ونحنُ هنا في الجزيرة، ولكن إن أردت من شعب النهر أيّ شيء فلا تتردد من إرسال حمامتك فيفي، لم يعد البرايمرد شياطين أعداء من بعدك"

اقتربت جيني مُحاطة بالأطفال والعجائز، يملؤها الامتنان والحزن، فانحنى لها ريادو مُجدّداً قائلاً بوقار: "لربما ستكونين أنتِ الشخص الوحيد الذي سننحني لهُ احتراماً على هذهِ الأرض، حقّاً لا يُمكننا أبداً ردّ الجميل لكِ على إنقاذنا وإعانتنا يا أميرة الشرق"

أحنت لهُ رأسها بالمقابل: "سأتطلع إلى اليوم الذي أستقبلكم في الشرق مُمثّلين للجنوب، أنت والكاهنة العظيمة رومي"

تطلّع ريادو يمينا ويساراً، ثمّ قال بحاجب في السماء: "أين هي من الأساس؟ لقد أخبرتها ألّا تفوّت توديعكما"

"أين كولِن أيضاً؟"

ضحكت رين وهي تحمل أطناناً من هدايا الجدّات مع داي وساي: "في شهر العسل!"

حقاً، لستُ الوحيد الذي وُلد من جديد هُنا.

...

كريس

مضت عدّة أسابيع قبل قُدرتي على الجلوس مُجدّداً فوق عرشي. الضعف ما يزال ينهش في جسدي، ولكنّني استطعتُ الفكاك والحراك من السرير بلا نوبات مُفاجئة لعدّة أيّام فسمح لي الطبيب بحضور اجتماع واحد مع المجلس. لقد عثرنا على مخبأ بِلْ أبراهامز ولكن الثعلب هرب بلا أدلّة عن مقرّهِ القادم فلم أشأ تفويت سماع التفاصيل بنفسي.

"إذن، هو كان ما يزال يتّجر بالأطفال وإن كان مُلاحقاً؟"

قال اللّورد وايت والضيق بائن على مُحياه: "اعذرني يا سموّ الملك، ولكنني لستُ أعلم كيف أُعبّر لك عن مقتي الشديد لثقة هذا الرجل بنفسهِ. إنّهُ لا يهاب شيئاً، يتقدّمنا دائماً بخطوة وإن كُنّا قد أخذنا احتياطاتنا في تحقيقاتنا حوله. لقد هرب من قبضتنا أكثر من ثلاث مرّات مُنذ رحيل سموّ الأمير إلى الجنوب"

لا عجب.. إنّهُ بالفعل، مثلما أعلمني ماتيو، من المُنحدرين لا مُحالة ويمتلك قُدرات تفوق البشر. تخميني الأول يقبع في تمكّنهِ من رؤية المستقبل فلا يستطيع أحدهم الهرب منهُ أو النيل منهُ، يُبقي الأعداء والحلفاء عند النُّقاط التي يُريدها، أو بالأصح، التي يُريدها المسخ.

عقّب اللّورد إليوت: "لن نتوقف عن مُلاحقتهِ يا سموّ الملك، إنّنا نُطهّر المملكة من التجارة الغير مشروعة كلّما توغّلنا في أمرهِ، هو ليس ملكاً على قبو العاصمة فقط، بل ملك تجارة العالم السُفلي في المملكة بأكملها"

أومأتُ لهما استحساناً فهما فقط من يُحرزان التقدم فيمن تبقّى من اللّوردات. ما تزال أكثر من نصف مقاعد المجلس فارغة، لماذا؟ لأنّني قرّرتُ ترك أمر ملئهم لهما، ماتيو وكولِن، وقد علما الآن من الأوفى بعد انتهاء الحرب. طلبتُ من اللّوردين باتّباعي إلى الحديقة فور انتهاء أسرع اجتماع تمّ عقدهُ في القصر على الإطلاق خوفاً على صحّتي.

قال اللّورد إليوت أثناء مسيرنا في الممرّات: "اعذرني على التطفل يا سموّ الملك، إلّا أنّنا لا نستطيع كبح أنفسنا من سؤالك حول قرار سموّ الأمير من زيارتهِ المُفاجئة للشرق. أهي ضروريّة الآن وقد أنهى لتوّهِ الحرب؟ الشعب في حيرة تامّة منهُ والشائعات حول علاقتهِ مع أميرتهم أربكت الجميع فلا يعلمون هل يسعدوا أم يقلقوا من هذا النصر المشترك.."

"إنّني أتفهم عجلة الجميع لعودتهِ وتنصيبهِ بطلاً كما تُريدون، ولكنّني لا أنوي عرقلة مُخطّطاتهِ، لقد طلبتكما الآن كي تطمئنا كما اطمأننتُ أنا أوّل مرة من رؤيتهِ"

لم يفهما عليّ وأمارات الحيرة قد تملّكتهما بالكامل فلم أُضيّع الوقت بالكلام. خرجنا إلى الحديقة الخلفية، الشمس ساطعة، الرياح الخريفية تقسو وتلين، ليليا تجلس فوق مقعد يتوسط الألوان القرمزية الآسرة للأشجار من حولها، السيّدة بنيتا تتجاذب أطراف الحديث معها، نجمتي هانا والطفل كيوي يلعبان حولهما، وحسناً، ملكي الذي لم يعد صغيراً، نجلي، ماتيو يجري وراءهما بتعابير مُضحكة.

"ما-ما الذي.. ولكن كيف؟؟"

"سموّ الأمير هُنا في القصر!"

هززتُ لهما رأسي: "إنّهُ في رؤوسنا فقط. لقد كان يزورني يومياً منذ أتقن قُدرات التخاطر فأعلم جيّداً عن جميع خطواتهِ ووافقت برحب صدر على ذهابه إلى الشرق مؤكداً بذلك انتهاء عصر عزل سلالة البرايمرد عن العالم، هو ليس ذاهباً للهوّ فقط"

انحنا لي ليُصرّح اللّورد وايت: "اعذرنا على قلقنا الغير مُبرّر يا سمو الملك، يبدو بأنّنا هرمنا على استيعاب بصيرة سموّهِ، ونتطلع لعودتهِ وإعانتهِ على واجباتهِ كما يجب"

صرفتهما قبل أن يهلع صغيري من ظهورهِ أمامهما فنطاق قواه يتّسع شيئاً فشيئاً بدون مُلاحظتهِ، وبخاصة عندما يكون سعيداً. لقد حرصتُ على إخلاء الحديقة كُلّياً لنا ما إن أخبرني بأنّهُ قادرٌ على تمضية يوم كامل معنا بدون أن تخور قِواه.

"وأخيراً انتهى اجتماعك أيّها العجوز، اعتقدت بأنّك ستنام عنّا فوق عرشك"

قفز الطفل كيوي ملوّحاً لي: "هانا أنظري إنّهُ الملك!"

"توقف عن مُناداة أختي باسمها المُجرّد أيّها الكيوي!"

"لنهرب! الأمير الشبح قادم!"

" لنهرب من أخي ماتيو الشبح!"

"انتظر حتّى أعود بشحمي ولحمي!!"

أمر ما غريب يحدث معي، أنا الذي تقبّلتُ قدوم موتي في أيّة لحظة منذ تلك اللّيلة، أهابه قبل رؤيتهم، أطفالي، يُحقّقون أحلامهم أمامي.

ماتيو

"سحقاً لذلك الكيوي يتقرّب من أختي بهذهِ الأريحية، انتظر حتّى نرجع جميعنا، سنعلمهُ الخوف منّا نحنُ الإخوة عندما يتعلّق الأمر بهانا!"

ضحك الملك ملء رئتيهِ حتّى داهمني خوف سقوطهِ من نوبة أخرى على حماستهِ، بالرّغم من أنّني جاد حتّى آخر شعرة من رأسي.

"دع الصغار يلعبون كما يشاءون، لقد أصبحت هانا أكثر مرحاً منذ عودتك ومن الجيد تواجد صديق واحد لها في القصر"

"صدّقني ستنقلب أمُّاً ما إن نجلب لها كاسومي، هي ابنة رين في نهاية المطاف وحبّها للاعتناء بالغير ليس بأقلّ"

أخذتُ الإذن من أمّي للتجول مع الملك وحدنا فأنا لا أودها أن تسمع جميع الأخبار المريعة، ولم أنتبه بأنّنا اقتربنا من الباب المؤدّي إلى الغابة مع ثرثرتي المتواصلة إلّا عندما أدركناه. كنتُ على وشك تغيير مسارنا إلّا أنّهُ أخذ بذراعي لندخلها في خضم دهشتي.

"ألا بأس بذلك..؟"

"لماذا الخوف وأنت معي؟"

نفختُ صدري: "اعتمد عليّ! سأمنع عودة الذكريات المريعة بالكامل"

نعم، إنّني قادرٌ على استخدام قُدراتي الأخرى وإن كُنت مجرّد وجود في أدمغتهم، تكرار زياراتي مكّنني من التدرّب على ذلك. سحقاً، المكان آسر، لقد اشتقتُ لأمطار الأوراق المُصفرّة من حولي فلا خريف في الجنوب. حيوانات الطبيعة الغربية تُرحّب بي مُبيّنة شوقها بإطلاق شتّى أنواع الأصوات، الأرانب تتقافز من الجحور والطيور تعلو وتهبط فيضرب قلبي بقوّة يرجوني الرقود وانتظار صوتها كما الأيام الخوالي.

"إذن بُني، ما الأمر الذي أردت الحديث عنه على انفراد معي؟"

كما هو متوقع من الملك، لم يُبدِ الكثير من الارتباك وإن كُنت أعلمهُ بأنّ عدوّنا الحقيقي هو في الواقع برايمرد.

"جميع ملوك البرايمرد ميّتون.. فكيف..؟"

"هذا ما تمّ تلقيننا بهِ فقط، قد تكون الحقيقة أمراً آخر. لقد كان نسخة مطابقة لنا ما عدا الاحمرار القاني في عينيهِ، ثق بي، لا يُمكنني إخطاءُ التعرّف على برايمرد آخر"

مسح الملك على ظهري ما إن لاحظ اختلاج صوتي قائلاً بحنوّهِ المُعتاد: "هل أنت حقّاً بخير بعد رؤيتهِ؟"

"لا أُنكر بأنّ الخوف منهُ قد تضاعف وقد فكّرت بالتوقف قليلاً عن البحث.. إلّا أنّني لستُ وحيداً، الجميع يبذلون جهدهم الآن في التّقصي عن الدلائل وجيني تُعينني على تذكّر ذكرياتي المنسية، لا يُمكنني التراجع عند هذهِ النقطة"

"وماذا رأيت حتّى الآن؟"

"موتي على يديهِ عدّة مرّات، وعودتي حياً كلّ مرّة. إنّهُ يخشاني، يكرهني، يحترمني، ولا يُريد أيّ شيء منّي سوى موتي. لقد طلب منّي الانتحار من شدّة يأسهِ.."

"هنالك أمر ما يُحيّرني كثيراً بخصوص هذا الأمر.. لماذا العجلة؟ أنت أيضاً برايمرد وسينتهي عمرك كما هو مُحدّد. لماذا يُصرّ على قتلك منذ كنت رضيعاً؟ ما الذي سيحدث إن تركك حيّاً إلى يوم مماتك المُقرّر؟"

"قال بأنّني أسوأهم.. خطر.. وأُعيق المستقبل الذي يراهُ والكثير من الهراء المُبهم. ذكر أمراً ما بأنّني أتعذّب تماماً كما كانت امرأة ما تتعذّب على ولادتها. امرأة أحبّت عزفه المُريع. ولكن حياتي قد تحكّم بها هو بكل ما فيها من عذاب وألم، فلماذا لا يُلقي باللّوم على نفسهِ؟ الأمر ليس وكأنّني عشتُ حياتي في القصر مثل جميع أُمراء البرايمرد ليعلم بأنّني سأتعذّب لو تركني وشأني منذ البداية"

أخذ الملك يتفكّر عدّة لحظات ثمّ قال: "كيف تتوقع كانت ستكون عليهِ حياتك لو ولدت وترعرعت في القصر؟"

هاه.. لماذا يسأل عن ذلك؟ أعني كيف بحقّ الجحيم سأعلم؟

كريس

ربّتُّ سريعاً على ظهرهِ: "لا بأس بُني، لا تُعر سؤالي أيّة أهمّية، لا يجب علينا الاعتماد على الفرضيّات وما كان سيكون"

نعم، عليّ نسيان الأمر برمّتهِ. ما الذي كُنت أُفكّر بهِ؟ ابني خطر؟ الخير الذي ينبع منهُ مُتأصّل فيهِ رغم قسوة الحياة عليهِ ولن يُشكّل وُجوده تهديداً مهما كانت ظروف تربيتهِ. عليّ ترك الشكوك تموت إن لم أمتلك وسيلة للبحث عن أدلّة كما كان يُلقّنني لويس كلّ مرة.

"لا تدع المسخ يُزعزع ثقتك بنفسك يا ماتيو، ثق بحُكم من حولك عليك، من يعلمونك حقّ المعرفة، وتابع مسارك كما تُريد. المملكة بأكملها في ارتباك تام من ذهابك إلى الشرق فهذهِ سابقة كما تعلم، ولكنّني حقاً سعيد بقرارك هذا"

ابتسم قائلاً ببهجة: "إنّني في قمّة حماسي أيّها الملك! وكأنّني ذاهب إلى موطني لا موطن ساي وجيني فقط! لقد زدتُ من سرعة الرياح حتّى كدتُ أفتعل عاصفة لتعجيل وصولنا وكولِن كان على بُعد شعرة واحدة من رميي في المُحيط"

"أعتقد بأنّ ابنة أليسكا وحدها من تُعاني في كيفية تقديمك للشعب الشرقي"

"لا تستهن بِها، لقد جعلتني أُدرك بأنّ الأحلام الساذجة ليست مُستحيلة. بِتُّ أعلم بأن الطموح في توسيع الممالك مُجرّد طمع، وطموح بناء التحالفات هو النُّبل بعينهِ. إنّني أرى ذلك بفضلها، ولا أنفك أُفكّر، ما الذي أُريدهُ بعد التخلص من المسخ؟ هل مكاني الصحيح هو حيث أُريد أم هو حيث سيتجلّى فيهِ عملي بنتائج رائعة كما حدث في الجنوب؟ إنّني ما أزال حائراً، ولكنني أكيد من أمر واحد، لن أتركها، لن أُفرّط بِها وإن كانت تضع منصبها ولقبها قبل كلّ شيء"

حقاً.. إنّهُ ابني في نهاية المطاف وإن أتحتُ لهُ فرصة أن يكون أنانيّاً بالاعتزال. لقد اختار المسار الصعب كما فعلنا يا لويس. إلّا إنّني قلق بعض الشيء على ابنتكِ يا أليكسا، أستطيع رؤية بعض مبادئي المُرهقة تتجلّى فيها.

"ماتيو بُني، أخبر أميرة الشرق بأنني في أمسّ الحاجة إلى الحديث إليها مرّة واحدة على الأقل قبل رحيلي"

أخذ يديّ بقوّة: "أعدك بأنّني سأجلبها لك فلا تستسلم للموت كما فعل الكاهن العظيم!"

"قدر الموت ليس استسلاماً يا ماتيو. أنت ما تزال يافعاً على أن تُدرك ذلك وقد اختبرتهُ قسراً فلا يُمكنك استيعاب كم هو من الطبيعي لنا في هذا العمر أن نتقبل الزوال. في الواقع، عدم تقبله سيجلب لنا البؤس"

"لم أفهم، ولا أود ذلك. من الطبيعي أكثر ألّا نُقرّ بالموت"

ربّتُ على رأسهِ: "أثق بأنّك ستتفهم ذلك يوماً وتطمئن في حياتك أكثر"

دارت عينيهِ في مُقلتيهِ ثمّ قفز يُداعب مجموعة أرانب بريّة، لقد هرب مني. إنّني أرجو فقط ألّا يرى الموت في أحبّائهِ وهو ما يزال بهذهِ العقلية، سوف ينكسر، وقد لا يعود شامخاً كما اعتاد أن يكون. تذكيرهُ بموتنا، أنا وليليا، يوم بعد يوم هكذا سيجعلهُ أكثر صلابةً عندما يُصدم بأنّ قواه الشفائية لن تتغلّب على قالب البرايمرد المصقول بعنوة بداخلي.

...

جيني

لقد اعتدتُ طقوس سقوط سموّهِ في ذكرياتهِ. لم يعد مُتردّداً وخائفاً كما كان في المرّات الأولى، فمهما كان الحُلم مُريعاً، مهما بلغت قسوة المسخ، يعلم بأنّهُ سيفتح عينيهِ لرؤيتي. لم يتوقف عن زيارتي أثناء إبحارنا إلى الشرق، يأتي لي برسائل من رين، من الطبيب واللّورد لنرى إلى أين وصل كلُّ منّا في تحقيقاتهِ. يُمضي لياليهِ معي، وأتعذّر أنا للوصيفات والكاهنات بتوتّري من العودة إلى الوطن فيتركنني وشأني، بالرّغم من أنّ الشكوك بدأت تساورني إن كانت الكاهنة تعلم عنّا.

طقوس سموّهِ سريعة، يتأمّلني قليلاً، ومع أول نغمة أُغنّيها يُغلق عينيهِ ويرتحل. أشعر بجميع عضلاتهِ ترتخي، بنفسهِ يهدأ وبضربات قلبهِ تتباطأ مع الوقت. وعندما ينقلب حالهُ إلى التوتر، أعلو بصوتي فيعود طفلاً قرير العين في منامهِ. لقد تأمّلتهُ كثيراً حتّى حفظتُ تفاصيله. أعلم كيف أُسدل شعره، كمّ مرة سيُرطّب شفتيهِ، وإلى أيه حدّ ستعلو أنفاسه إذا ما اشتدّ بهِ الكابوس. شيئاً فشيئاً تشجّعتُ لأُدلّك لهُ صدغيْه، فجبهته، فرقبته. بِتُّ أعلم أين هي نقاط راحتهِ، ومتى وكيف أُدلّك. انتابني الفضول ذات ليلة فقلبتُ أُذنه اليُسرى لأرى وحمتهُ التي ذكرها جلالة الملك كريس لنانا في رسائلهِ، أضحكتني فهي صامدة رغم أنف قُدرات الشفاء، أيعلم البقيّة عنها يا تُرى؟

انغرست أظافر سموّهِ في راحة يديهِ فناديتُ على اسمهِ عدة مرّات إلى أن استيقظ، لا أحتمل رؤيتهُ يؤذي نفسه.

"جيني.."

رفع يديهِ إلى وجنتيّ كما يفعل بالعادة، في أحيان كثيرة هو لا يلمسني حتّى، ثم فرك وجهه ورفع جسدهُ بالتدريج. لا أقول شيئاً إلى أن يُرتّب ما رآهُ في منامهِ ويستوعب عودتهُ للحاضر جيّداً، ثمّ أُبادر بالسؤال: "هل من جديد؟"

"لا.. محاولات فاشلة أُخرى لقتلي. إلّا أنّهُ استعمل سلاحاً لأوّل مرّة، فأس، ولكنّني تعافيتُ سريعاً"

"ألا تفوق قُدرات شفائك لنفسك في طفولتك قُدراتك الحالية؟"

أومأ موافقاً: "أعتقد ذلك.. لقد كُنت أتعافى بشكل فوري ولا أعلم كيف بحقّ الجحيم نسيت ما أتقنتهُ من قُدرات ما إن رماني في شوارع العاصمة"

دوّنت تفاصيل حُلمهِ وإن كان مُكرّراً، فنحن لا نعلم ما تُخبّئ كلّ ذكرى عن الأخرى ومن الصعب ربط الأمور فهي مُبعثرة ومُتقطّعة بلا خيط زمني واحد. وبالعادة ما ينتاب سموّهُ الغمّ على عدم تقدّمنا بالسرعة التي توقعها.

أخذ بيدي مُقرّباً إيّاها من شفتيهِ، قائلاً بعينين مُغلقتين: "إنّني أُثقل عليكِ لياليكِ عندما يتوجب عليكِ الراحة قبل وصولنا إلى الشرق. أعلم بأنّ الأمر ليس سهلاً عليكما، ساي لا يتوقف عن العمل في المطبخ والإسطبل وكل شبر في السفينة"

إنّهُ يشعر بنبضي يتسارع في يدي، ويأبى رغم ذلك تركي.

"ساي يتجنّب التفكير الزائد بتحريك جسدهِ، وأنا أتجنّبهُ بالغناء لك يا سموّ الأمير، إنّني بخير"

"كذب، لا يُمكنك خداعي بالهدوء"

لستِ الوحيدة التي تُدقّق في التفاصيل يا صغيرتي.

قبّل أصابعي بأناة: "عليكِ أن تعيديني يا جيني، كلّما اشتدّت الأمور عليكِ في الشرق، كلّما علقتي بين الذكريات والذنب، كلّما داهمتكِ أُمنيات الزوال، نادي على اسمي وستجيدينني أضمّكِ بين ذراعي على الفور. أنتِ لستِ وحيدة، أنتِ جزء من عائلتي رغم الألقاب والبُعد. وهُناك، سوف أبدأ في الغوص في لا وعيكِ كما اتفقنا"

أتشعرين بالخوف يا صغيرتي؟

الخوف ليس كافياً للتعبير عمّا يعتريني يا أمّي، الكثير من الوساوس تُلمّ بي، وراحتي في دفئهِ تربعت كل شيء.

...

ساي

"ساي! ساي!! توقف عن مسح الأرضيّة سُحقاً!!"

تلقيّتُ ركلة في مُنتصف أحشائي قد تسبّبت في انزلاقي وسقوطي على الأرض. رين تقف أمامي، يبدو بأنّها غاضبة.

"لقد لمّعت أرضيّة الجناح الملكي بما فيه الكفاية! بانت اليابسة، هيّا بِنا!"

بحلقتُ فيها قليلاً، ثمّ، وبشكل آلي، حملتُ الإسفنجة وغمستُها في الماء لأتلقّى ركلة أخرى أكثر فاعلية على وجهي. أشعر بالدوار. ولم أكن أعي بأنّهُ يتمّ جرّي للخارج حتّى صفقتي رياح المُحيط.

"أنظر، إنّهُ الشرق!"

سُحقاً، إنّهُ الشرق.

رفعني كولِن وداي من كلتا ذراعيّ إلى السور لأتمعّن جيّداً في خطّ اليابسة الطويل يمتدّ على بُعد أميال قليلة. المتن مُزدحم، بل يبدو لي بأنّ الجميع في كلّ السُفن قد خرجوا لرؤية وصولنا المُنتظر إلى القارة.

قال كولِن: "لم أكن أتصوّر بأنّني سأشعر بهذا القدر من الحماس! إنّهُ مسقط رأسك ساي!"

ثم قال داي: "هل نزل عقلك إلى قاع قدمك أيّها الأحمق؟ استفق سحقاً"

قال ماتيو مُتعلّقاً من الصارية: "ساي أنظر إنّهُ الشرق بحقّ الجحيم! موطنك بحقّ الجحيم!!"

يبدو بأنّهُ في أتمّ الاستعداد للقفز مُباشرة إلى القلعة الإمبراطوريّة.

ضمّت رين ذراعيْها إلى صدرها: "البرد قارص، وأنا التي عقدتُ آمالاً أن يكون خريف الشرق أدفأ من خريفنا"

برد؟ ما الذي تقوله؟ إنّني أشتعل. لا لأنّ ذكريات الأسر تُعذّبني، لقد تخطّيتها بالفعل. بل على العكس تماماً، رجوعي بلا سلاسل هو ما يوتّرني.

"ليتمركز جميع البحّارة في أماكنهم فالمرسى قريب! هيّا تحرّكوا!"

ضمّني ماتيو من رقبتي، يد كولِن على كتفي، يد داي على كتفي الآخر، حتّى كاسومي الصغيرة قد تعلّقت برجلي.

"خريف الشرق أدفأ من خريف العاصمة يا رين، على الأقلّ هذا ما اعتقدتهُ عندما أتيت للغرب أوّل مرة.."

احتضنتني، فجمّدت برودة أجسادهم الأفكار المزعجة.

جيني

"أتبكين يا صغيرتي؟!"

"إنّهُ الشرق.." 

Continue Reading

You'll Also Like

3.4K 137 39
لست أُجيد انتقاء العناوين لذلك... خذ نفساً عميقاً.. اختر عنواناً تراه مناسب لكل جزء! سأترك المهمه لك.. سأثق بك كما فعلت دائماً
9.5K 277 1
- انا متأكد من أنني وضعت القبعة فوق المعطف كيف لها ان تصبح داخل هذه الخزانة الموصدة ؟! 《 فائزة في مسابقة #ماذا_لو 》
289K 28.4K 59
قم بوضع كف يدك على عينك اليسرى هل تستطيع تخيل حياتك بجانب واحد،جانبك الأيمن فقط ؟ تلك هي نظرتي للحياة هي فقط مجرد | جانب منْصُوف | تصنيف الروايه( ق...
30.4K 4K 21
نجوم التبّانة لا تُعد ولا تُحصى ! تماماً كالحكايا والقصص في قلوبنا .. B1