سارية في البلاط الملكي للكاتب...

By EmyAboElghait

77.8K 2.8K 136

كل الحقوق محفوظه للكاتبه هدير مجدي إلى الّذين يجيدون السّباحة فوق السّطور والغرق بين الكلمات والإبصار في الأع... More

إهداء
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الخاتمة

الفصل التاسع

1.9K 109 0
By EmyAboElghait

تباينت الأنفس واختلفت القلوب..

لتكون خطيئة الأنقياء ظنهم بأن الجميع مثلهم

فيفاجئون بطعنات أقرب الناس إليهم

في الشدة يظهر معدن الجميع تجاهك

وحينما تتأكد من نوايا خصومك

تجد نفسك تلتزم الصمت وتتركهم يعتقدون أنك ضعيف وخائر القوى.

فلا يكترثون لمواجهتك ويظنون المعركة مجرد نزهة يسهل الفوز بها.

ونسوا أن لكل جواد كبوة وعندما يفيق سيجعلهم يعضون أناملهم من الندم.

ليعلموا حينها أنهم لم يقدروا قوتك ففشل مخططهم

الصمت والذهول ارتسما على ملامح سارية بعد إعلان خبر زواجها منه.

وقفت متسمرة وليس هناك ما يقطع تواصل الأعين بينهما.. غموض ونصر من تجاهه

ذهول وعدم استيعاب من ناحيتها!

صدمة سيطرت على الجميع لكن الكبرى كانت من نصيب رقية التي انتفضت من مجلسها تمسك حافة المنصة بقوة حتى ابيضت مفاصلها تنظر لابنها غير مصدقة أن الفتاة التي توعدتها بأقوى الأفاعيل أصبحت ملكة!

من كانت تخطط لجعلها جارية تذيقها الذل والهوان على تحديها لها ، أصبحت كنتها!

ضغطت بقبضتيها بغضب وحقد ترفع نظرها للمنصة المقابلة لها لتراها تنظر إلى إلياس بأعين متسعة غير مصدقة.

رفعت الاثنتان عينيهما في نفس الوقت لتتقابل الأنظار.. اضطربت جنبات سارية وهي تشعر بلهيب نظراتها الذي كاد يحولها لرماد!

همست رقية لنفسها :

- "أهذه لعبتك أيتها الحقيرة؟

أكنتِ تخططين للإيقاع بابني حتى تصبحي الملكة؟!"

ثم انتقلت بنظرها إلى بدر الدين الذي يتطلع بمسبحته في يده وابتسامة هادئة على شفتيه :

- "لست بالسهل يا بدر الدين، إن كنت تظن أنك بهذا تنتقم ، فلم تعرف بعد من هي رقية!"

استدارت برأسها إلى خديجة ناظرة لها بغموض لتجدها مازالت جالسة عيونها شاخصة تحدق في الفراغ بلا تصديق، لترفع رأسها إليها تسألها بتيه كأنها انفصلت عن العالم :

- "هذا ليس صحيح أليس كذلك؟

هو لم يتزوج تلك الحقيرة.. هي لن تكون ملكته"

إعلانه بالزواج من غيرها بمثابة صفعة قوية هبطت على وجنتيها، منذ لحظات كانت تمني نفسها أنها زوجته والآن؟!

رفعت أنظارها إليه فوجدته ينظر لغريمتها فبدأت نيران الحقد تشتعل في مقلتيها.

رفعت رقية رأسها بنوع من الشموخ تتنفس بعمق ونظراتها غامضة ترسلها إليها.

أما سارية فنظرت إلى والدها تناديه بقلبها أن يرفع عينيه لها، فاستمع القلب ولبت العين النداء.

فتهدلت أكتافها بضعف وتوسل أن يخبرها أن كل ما يحدث خيال، هي لم تتزوجه، لكن ابتسامته لها ثم رفع رأسه للسماء وشفتاه تحمد الله جعلتها كالميتة مكانها، لا تصدق أنه فعل هذا بها!

لا تصدق أنه وافق على هذا الهراء!

نظرت بصدمة إلى الجمع الحاشد بالساحة الذي هلل وصرخ مصفقًا فرحًا بزواج ملكهم العادل وعلى اختياره.. فالناس مجدّتها منذ أن وقفت وواجهت الجميع بظلمهم وقالت ما لم تستطع ألسنتهم النطق به، وظلوا يدعون لها أن تنجح في مهمتها حتى لا يطالها قانونهم الظالم.

وكأن الله أستجاب لهم ليأتي إلياس ويحميها منه على حد اعتبارهم، لم يفطنوا أنه لو كان حُكم عليها بقطع رأسها أو الزج بالسجن أفضل من ارتباطها به.

لم تفق إلا على يد ليان فوق كتفها لتنظر لها بدهشة كمن تراها لأول مرة، فنظرت لها بحنان مشددة على كتفها لتهمس سارية بتيه :

- "كنتِ تعرفين بهذا الأمر!"

هزت رأسها بالنفي عدة مرات تقول بصدق :

- "بالطبع لا.. لو كنت أعلم لما كنت سأوافق، لقد تفاجئت مثلك تمامًا"

أمسكت وسام كفها تبثها نوع من الهدوء تعلم أن عاصفتها قادمة لا محالة، لينتبه الجميع لصوت نيار الذي أمر أن تمتد أيام الاحتفال لأسبوعين احتفالًا بالاتحاد والزواج.

أفاقت من صدمتها في هذه اللحظة فاستدارت بعاصفة تخرج من منصتها وخطواتها سريعة، يدها تمتد تنزع الوشاح من فوق رأسها تقذفه على الأرض، وأتبعته بتاجها تنظر إليه بغضب ثم قذفته ليرتد في الحائط، خلفها وسام تحاول اللحاق بها ثم أمسكت بذيل ثوبها وأسرعت لجناحها.

أمسكت وسام ذراع إحدى الجواري تطلب منها إخبار بدر الدين أن يحضر لابنته في الحال فأسرعت الجارية في طريقها.

دلفت بعدها إلى الجناح لتراها تلتف حول نفسها كمن تبحث على شيء ملامحها تعكس غضب قلبها، ونظراتها تعصف بنيران دواخلها، حاولت أن تتحدث:

- "سارية أهدأي بالله عليكِ.."

فصرخت بقوة وهي تستدير لها، خصلاتها تنتشر على وجهها الأحمر بشدة وعيناها تقدح بالغضب والشر :

- "تطلبين مني الهدوء يا وسام وأنا أكاد أحرق الأخضر واليابس؟"

ابتلعت بصعوبة ترى كم الغضب الذي ينبعث منها فحاولت أن تتحدث، لكنها صرخت تضع كفيها فوق أذنها عندما وجدتها ألقت بعلبة من الكريستال في المرآة الكبيرة لتنكسر لقطع صغيرة وسمعتها تقول :

- "لا.. لا يمكن أن يحدث هذا الشيء، أنا لن أصبح زوجته مستحيل!

أنا لن أُسجن في هذا القصر طيلة حياتي والمسمى ملكة!!"

حاولت الاقتراب منها لكن صوت بدر الدين أتى من خلفها صادحًا :

- "توقفي وسام لا تقتربي"

وقفت تنظر له زافرة براحة أنه جاء في الوقت المناسب ليكبح غضب تلك المشتعلة، فأغلق الباب وتقدم منها لكنها رفعت كفها أمامه تصرخ بعدم وعي:

- "لا تقترب مني"

وقف بصدمة وهو يراها تمنعه بهذه الطريقة لتتسع عيناه بدهشة يتأمل وجهها الغاضب الناضح بثورة، علم أنها ليست في حالتها الطبيعية فحاول الهدوء ولم يقترب قائلًا بهدوء حازم :

- "أهدأي كي نستطيع التحدث"

شدت على خصلاتها بغيظ تنحني بجسدها للأمام صارخة:

- "لا تطلب مني الهدوء وأنت السبب في كل هذا..

كيف توافق على تلك الزيجة؟

أنت تعلم أنني لم أكره في حياتي غير هذا القصر ومن فيه، لتأتي وتوافق على تزويجي من هذا الحقير مدعي الفضيلة"

أغمض عينيه ليهدأ نفسه كي يستطيع إقناعها..

يعلم أنها محقة في رد فعلها وحديثها، لكن الغبية لن تفهم شيئًا إن ظلت عصبية هكذا :

- "معك حق لكنكِ لا تفهمين ما دفعني لفعل ذلك، وبالتأكيد لن أزج ابنتي في خطر"

اقتربت منه وعيناها تتسع بذهول من حديثه وهمست بدهشة :

- "خطر!

تزوجني من السبب في كل ما يحدث وتقول لا خطر!"

وضع يده على عضديها محاولًا امتصاص ثورتها هامسًا بهدوء يحتاجه للسيطرة عليها :

- "أخبرتك أنكِ أغلى ما لدي فبالتأكيد لن أفعل شيئًا يضعك في خطر، أنا أحاول حمايتك يا غبية"

عادت خطوة للخلف متخلصة من إمساكه بها هاتفة :

- "لن يكون هناك حماية بين هؤلاء بتاتًا..

إني لأعجب أنك هكذا تحررني"

رفعت نظرها وكأن روح الغضب والشر تلبستها :

- "أخبرني أبي هل يقبل الدين زواج بغير موافقة الزوجة؟

هل يُعترف به أيها الشيخ؟"

لتكمل بصراخ تضرب بيدها على فخذها وتناست أن من تحادثه أبيها :

- "لمَ وضعتني فيه وأنت تعلم أنني سأتمنى الموت على هذا الشيء وكأنك تريد التخلص مني؟!"

هتف باسمها صارخًا بغضب ويده تهبط بقوة على وجنتها ليرتد وجهها للجانب الآخر قامعًا ثورتها وغضبها ؛ لتغمض عينيها بشدة من قوة الصفعة.

شهقت وسام بصدمة واضعة كفيها فوق شفتيها وعيناها تتسعان بشدة وارتدت خطوة للخلف تنظر لبدر الدين الذي ينظر لابنته بملامح جامدة وعيون غاضبة لكن تخفي خلفها حزن وحرقة قلب على حالها.

نظرت له تعيد خصلاتها للخلف فظهرت أثار أصابعه على وجنتها، توشم الصفعة الأولى منه نحوها!

دائمًا ما كانت درته المصونة يحميها بروحه، وتلك الصفعة لحمايتها من الانجراف في فوهة الغضب والإقدام على شيء تندم عليه فيما بعد.

رأى بدموعها تترقرق في مقلتيها ليتنهد بشدة يقرأ الكسرة والحزن في نظراتها.

انطفأ غضبها ليحل محله الخذلان بأن ملاذها يده تمتد عليها بصفعة عوضًا عن احتضانها!

استدارت باتجاه خزانتها ويدها تمتد لسحاب ثوبها تنزعه عنها وتخرج ثوبها التي أتت به المرة الأولى:

- "لن أبقى في هذا المكان لحظة واحدة حتى لو زُهقت روحي قبل الخروج من بوابته"

أمسكها من ساعدها يديرها إليه ليراها تحاول كبح بكائها تعض على شفتيها بأسنانها، فزفر بقوة على تسرعه وضمها بشدة لتحاول الرفض تتحرك بين ذراعيه ليفلتها وتدفعه عنها، لكنه سيطر عليها بقوته التي لم يفقدها بالرغم من كبر السن، حتى استسلمت تخفي وجهها في كتفه تبكي بشدة ، وأحاطت عنقه بقوة تهمس بصوت منخفض بعدما عادت لرشدها :

- "لماذا أبي.. لماذا فعلت ذلك؟"

ضم خصرها بذراع واليد الأخرى رفعها إلى رأسها يقبل جبهتها لتستقر شفتيه مدة طويلة على رأسها في اعتذار صامت، ولم يتحدث بل ظل يمسد على ظهرها، يربت على رأسها بروية كي تهدأ.

ووسام تتأملهما بدموع منهمرة تمسحها بين الحين والآخر ساكنة في مكانها وقلبها يدعو أن تهدأ تلك المجنونة كي تتفهم.

رفعت رأسها من فوق كتفه ليضم وجنتيها بكفه ممسدًا برفق على وجنتها الحمراء ثم قبلها برفق عليها وابتسم يقول أمام عينيها التي تغمضهما بقوة تحني رأسها :

- "أخبرتك في بداية اليوم هل تثقين في والدك فأجبتِ بنعم.. لكن يبدو أنكِ تسرعتِ ولم تفكري جيدًا"

رفعت نظرها إليه بعتاب شديد وأعين شديدة الاحمرار وقالت بصوت محشرج :

- "لم أتوقع أنكَ ستفعل هذا"

أجلسها على الفراش، يناولها كأس الماء الذي مدته له وسام بامتنان وجعلها تشربه كي تهدأ.

شربته وجسدها ينتفض من البكاء تنظر أرضًا بقلب حزين منه، فوضع يده أسفل ذقنها يرفع وجهها إليه وسألها بجدية :

- "هل تتذكرين ما قاله نيار عندما واجهتيه؟!"

عادت بذاكرتها لذلك اليوم تتذكر أمره :

- "إذا وجدتِ صديقتك وعد مني سأعتذر لكِ أمام المملكة كلها، لكن إذا حدث العكس وجاء بها جاد فأقسم بالله جل جلاله سأعاقبك عقابًا لم يره أحد من قبل"

لتنظر لوالدها منتظرة منه أن يكمل حديثه ليتنهد :

- "هل تعلمين ماذا سيكون عقابك؟

كانت رقية ستتخذك جاريتها وكان شيئًا من اثنين.. إما أن تذيقك الذل والهوان أو كان الملك كهرمان ملك مملكة القمر بالغرب سيأخذك فصيلة، ووالدك كان سيزج في السجن"

اتسعت عيناها بشدة تتأمل جديته لتعلم أنه يقول الحقيقة، لتهمس له بحيرة:

- "الملكة وأعرف كرهها لي وما كانت ستفعله، لكن من كهرمان؟!"

تنهد بعمق ينظر للأسفل قليلًا قبل أن يرفع رأسه لها وأجاب :

- "ملك لن تري في شره وخبثه أحدًا..

في الظاهر ستجدين الأوضاع طبيعية لكن في الباطن براكين مشتعلة.

كان سيأخذك فصيلة لأنه على علم بما فعلته، سيأخذك فقط للإيقاع بإلياس"

وضعت رأسها بين كفيها بيأس وتشعر أن نيران ستخرج منها بشدة هامسة :

- "يأخذون صديقتي فصيلة هنا، والآن يخططون لإعطائي فصيلة لذلك المدعو كهرمان"

وضع يده على ظهرها يمسده بحنان ليجعلها تنظر له ثم أجابها بجدية حتى لا تتفوه بهذا الحديث مرة أخرى :

- "حبيبتي.. مارية لم تدلف من بوابة القصر من الأساس ، ليس لأحد هنا علاقة باختفائها ، فلو كانت كنتِ ستجدينها"

نظرت له بصدمة أن هذا الحديث يخرج منه وتعقد حاجبيها بذهول، فأومأ بتأكيد وبدأ بسرد ما لديه بالكامل وحديثه مع نيار وإلياس.

منذ عدة أيام..

- "أريد أن أعلم ما مصير ابنتي في هذا القصر يا مولاي"

نطقها بعدما طلب رؤية تقي الدين، فكان جالسًا على عرشه يتحدث مع أحد وزراءه لكنه استأذن وخرج يعطيهما خصوصيتهما.

ومجرد أن رآه نطق هذه الكلمات بقلب أب يكاد يفطره القلق على ابنته يريد الاطمئنان عليها لكن شعوره بها لا يبشر بخير.

أشار تقي الدين لكرسي بجانبه طالما كان مخصصًا له عندما كان كبير الوزراء لديه :

- "أجلس يا بدر الدين لنتحدث.. فمجلسك مازال كما هو"

تأمل الكرسي لكنه ظل واقفًا لم يتحرك :

- "هذا المجلس يكون لكبير الوزراء جلالتك.. لكنني الآن بدر الدين الأب وشيخ قبيلته يقف أمامك يريد الاطمئنان على ابنته الوحيدة التي يشعر أنها تسلب من بين يديه ولا يستطيع أن يفعل شيء"

تنهد تقي الدين ونهض من مجلسه يقترب منه يضع يديه خلف ظهره وعباءته الملكية ترفرف خلفه :

- "أخبرتك ألا تقلق يا بدر الدين، ابنتك ولدت في هذا القصر فمن المستحيل أن أسمح بشيء يضرها"

ظهر نوع من الحدة في نظراته يستمع لما يقال ليهتف بنبرة مرتفعة قليلًا :

- "وهو نفس القصر الذي دفعني للتخلي عن عائلتي وموطني والهرب بها حتى لا تطالها يد الظلم هنا، حتى لا تؤخذ مثلها مثل الفتيات كل عام"

فهتف الآخر بدوره يبتعد خطوات عنه موليًا ظهره له:

- "ما الذي جعلك تستنتج كل هذا؟!

ما الذي جعلك تفكر أن ابنتك ستكون خاضعة لهذا القانون ؟!"

- "وهل استثنى القانون ابنتي؟!"

لم يجد تقي الدين ردًا على سؤاله فكاد أن يكمل لكن قاطعه الصوت الذي اقتحم اجتماعهما فجأة :

- "لا.. بل عليك أن تقلق يا بدر الدين"

التفت الاثنان إلى رقية التي اقتربت منهما تقف بجانب زوجها بكبريائها وغرورها الطاووسي بردائها الأسود وتاجها الأبيض الكبير يسكن فوق رأسها :

- "ابنتك تمادت لأقصى حد، إن لم تعاقب على وقاحتها يوم الشكوى واتهامها للجميع بشيء ليس له وجود ربما.. فإنها ستعاقب على تماديها أمامي"

ابتسمت بعد كلماتها، لكن ردة فعل بدر الدين الذي ابتسم بهدوء بعدما استمع لها فاجأتها وجعلتها تزوي حاجبيها بغيظ فدائمًا ما كانت ردود فعله تثير غيظها، لتستمع له يقول :

- "أنا أثق تمام الثقة في رد فعل ابنتي، فهي لن تفتعل شيئًا من الفراغ.. كما أن ثقتي في الله أنه سيحميها أكبر من أي شيء"

كادت أن تتحدث وتعبيرات وجهها تنطق بكم من الغضب لكن قاطعها صوت نيار الذي دلف إلى القاعة هاتفًا :

- "يكفي أيتها الملكة.."

ثم نظر لبدر الدين متسائلًا :

- "ما الذي يحدث هنا؟!"

كانت هي من أجابته قبل أن يتحدث أي أحد :

- "بدر الدين يريد أن تظل ابنته هكذا دون عقاب على ما فعلته"

نظر نيار إليه بابتسامة يريد منه إجابة على ما قالته أمه ثم توجه إليه قائلًا بهدوء :

- "أخبرني ما الذي تريده يا شيخ؟"

وقف بدر الدين أمامه يتأمله ثم أخرج يده من خلف وشاحه العريض الذي يلقيه على كتفه حاملًا مصحف صغير ووضعه في كفه، ثم ربت على كتفه ينظر لكتاب الله :

- "لا أطالب إلا بالعدل.. فقط العدل ولا شيء آخر غيره حتى لو كانت ابنتي"

نظر نيار إلى كتاب الله بين يديه متأثرًا بشدة ثم رفع نظره له وقال بابتسامة خفيفة :

- "ولا شيء غير العدل عماه"

استأذن بدر الدين وخرج بهدوئه المعتاد، فنظرت رقية لابنها وزوجها تدفع يده الممسكة برسغها وهتفت :

- "هذه الفتاة لن تخرج من هذا القصر إلا بعد أن أذيقها الأمرّين على وقاحتها"

فنظر إليها بأعين ضيقة وقال :

- "ما رأيك أن تدعي أمر سارية لي، وتهتمين بأمر الاحتفال بعد الغد؟"

نظرت إليه بصمت وهمست أمام وجهه تضع كفها على وجنته بحنان مزيف :

- "بالطبع عزيزي سأهتم بكل شيء.. لا عليك أن تكترث إلا لليلة زفافك على ليان فقط "

ثم خرجت دون الانتظار لسماع أي شيء، فنظر لوالده الذي جلس مرة أخرى على كرسيه يسند رأسه للخلف يغمض عينيه وعقله يفكر في كل ما حدث في العشرين عامًا الماضية، فهز رأسه بيأس وخرج تاركًا إياه في خلوته.

بالأمس جاءه أحد الحراس يخبره بدعوة نيار للحديث معه فذهب إليه ليراه برفقة أخيه.

أخبروه بشكوكهم أن هناك طرف ثالث في موضوع اختفاء مارية، فهي غير موجودة في القصر فقد أوكل نيار بضعة جاريات لتبحثن في أرجاء الحرمليك عليها تحسبًا أن يخفيها أحد عن مرمى سارية، وأخبروه بعدم عثور جاد عليها في الجنوب وبحثه الطويل عنها، فوضع بدر الدين يده على ذقنه مفكرًا وسأل :

- "كل ما يُقال مقنع.. لكن لو هناك طرف ثالث، من هو وما هدفه؟"

أجابه إلياس وهو ينهض من مكانه واضعًا يديه خلف ظهره :

- "هذا ما نريد معرفته.. هناك شخص يعرف ابنتك جيدًا ويسبب لها المشاكل، ويبدو أنه خطط لكل ذلك للزج بها إلى هنا"

عقد حاجبيه بدهشة لينتبه إلى نيار الذي قال :

- "هذا ليس الشيء الوحيد الذي جئت من أجله يا شيخ"

أولاه بدر الدين كامل انتباهه ليكمل :

- "إن كان هناك خطر فهو أصبح يمس سمعة إلياس ومملكته، فقررنا أن يتم الاتحاد بين المملكتين كما كان في السابق"

ابتسم بسعادة فهذا القرار كان يجب أن يحدث، بل لم يكن أن يتم الفصل بينهما من الأساس.. لكن يبدو أن للحديث بقية ليقول بمكر:

- "لكن هذا ليس كل شيء.. صحيح؟!"

نظر نيار إلى أخيه بابتسامة على ذكاءه ليتولى إلياس بقية الحديث فتقدم يجلس بجانبه :

- "لأن هذا لن يتم إلا بشيء واحد في يدك أنت"

لم يتحدث وتركه يكمل :

- "أريد موافقتك على الزواج من ابنتك"

نظر إليه بغموض وتعبيرات غير مقروءة ثم همس بذكاء:

- "لماذا؟

إن أجبتك بقلب أب سأرفض وبشدة لأنني لن أوافق على الزج بوحيدتي في هذا الشيء..

لكن بعقل رجل سياسة سابق أريد معرفة السبب الحقيقي"

رفع إلياس حاجبه بإعجاب منه ولسان حاله يقول :

- "لن تتغير مطلقًا يا شيخ.. ما زلت أتذكرك منذ طفولتي"

سرد عليه خطة أمه تجاهها وما تريد أن تفعل بها، كما أن حضور كهرمان للاحتفال يجعل الخطر يحيطهم خاصةً أنهما متأكدان أنه على علم بما حدث هنا فسيستغله في معركة حقده .

فأراد حمايتها يكفي أنه يتحمل ذنب اختفاء صديقتها وأنها واحدة من مملكته، فلا يريد أن تذهب سارية في نفس الطريق.

لم يتحدث بدر الدين وهو يصيبه بنظراته القوية كمن يريد اختراقه، وهز رأسه بحاجب مرتفع أن هناك للحديث بقية تخصه هو، فتنهد إلياس يغلغل خصلاته بيده :

- "سارية قوية، شجاعة، من تستطيع التعامل مع الملكة رقية بهذا الشكل تكون على درجة عالية من الذكاء..

فهل ستقبل بمن ربيته بنفسك زوجًا لها؟"

ساد الصمت بينهم وتركا المجال له كي يفكر بتروي.. لحظات مرت عليهم قبل أن يرفع رأسه مبتسمًا واضعًا كفه على كتف إلياس يربت عليه بحنان وفخر :

- "ثقتي بكما تصل عنان السماء، فلقد عاشرتكما صغارًا، وعاشرتك ورأيت حكمتك وعدلك في مملكتك، ولذلك سأقولك لك شيئًا بقلب أب وعقل سياسي..

ابنتي ليست بالسهلة التي ستستجيب لهذا الزواج عندما تعلم، لكن أطلب منك الصبر والحماية لها.. فالعمر لن يتبقى فيه بقدر السنين التي مضت"

ربت إلياس على كفه يبتسم :

- "أطال الله عمرك عماه، اطمئن"

أنهى حديثه وصمت يراقب ملامحها التي كانت تتحول أثناء حديثه تارة إلى الهدوء وتارة إلى الذهول وعدم التصديق لتتحول بالنهاية إلى الغضب.

انتفضت تهز رأسها باستنكار ونظرات تغلفها الشراسة :

- "وأنت صدقت كل تلك الخرافات يا أبي!"

وقف بمواجهتها يهتف بجدية بها ببعض الحدة :

- "سارية.. أنا من قمت بتربيتهما حتى صارا على مشارف الشباب.. أتشككين في تربية أبيكِ؟!"

شهقت بصدمة تضع أناملها على فمها تهز رأسها بالنفي وقالت بلهفة :

- "حاشا لله يا أبي أنا لم أقصد ذلك"

ثم اقتربت منه بحزن وأمسكت مقدمة ثوبه برجاء وهمست :

- "أرجوك أبي لا أريد هذا الارتباط، سيحدث لي شيئًا إن أصبحت زوجته"

أمسك كفيها بين قبضته واليد الأخرى وضعها على وجنتها بحنان لينظر لها بعمق يبثها الأمان والقوة :

- "سارية ابنة بدر الدين ستبقى قوية مهما حدث، لا تتركِ فرصة لما حدث أن يكسر شوكتك.. فالجميع ينتظر لحظة ضعف منك لينقض عليك، وأنا متأكد أن إلياس سيحميك من بطشهم"

أمسكت يده وقالت بشرود :

- "لكن مارية!"

- "لا علاقة للقصر باختفائها لكنهم سيبذلون ما بوسعهم ليجدوها"

عقدت حاجبيها وعادت عينها تمتلئ بالدموع لتقول بصوت باكٍ ونبرة عاتية يملأها اللوم :

- "لقد صفعتني يا بدر الدين"

ابتسم وضمها إليه بقوة يحاوطها بكلتا ذراعيه مقبلًا أعلى رأسها هامسًا :

- "أخبرتك أنني سأظل أحميك طوال حياتي، وعندما أراكِ تنجرفين في فوهة الغضب ولم تستطيعي التحكم في نيرانك فعلى الوالد أن يعيدك لرشدك"

أمسكها من كتفيها لتقف أمامه ونظر في عينها بقوة وأكمل :

- "إن كنت نادمًا على شيء فهو بكائك.. لكن لن أندم على صفعتي طالما في مصلحتك"

*****

آه كلمة تتردد في الأعماق بألف معنى وصورة

مرة تعكس الحزن والعذاب

ومرة تعكس مدى الشوق

وأخرى تخرج من هول العشق

تقولها الروح وينطقها العقل قبل اللسان

صداها مدوي يرج الأركان

تصاحبها رعشة تعصف الوجدان

وآهاتها كانت حزنًا على صديقتها وهي تراها بهذه الصدمة وشعور الخيانة يتمكن منها!

تشبثت بمقبض الباب وشهقات سارية تصل لها من خلف فأغمضت عينيها تهز رأسها أسفًا على ما وضعوها فيه!

خرجت تاركة إياهما يتمتعان بشيء من الخصوصية بحجة أن تأتي بالماء، كادت أن تذهب لكنها توقفت عندما وجدته يتقدم منها!

رمقته بنظراتها تتأمله، ثياب ملكية بنية وعمامة من نفس اللون يتوسطها حجر ياقوتي أبيض تُظهر خصلاته من أسفلها تغطي كامل عنقه، وسيفه قابع في جعبته بجانب خصره.

لأول مرة تراه بثياب القائد التي أعطته هالة أكبر من التي يملكها!

تشعر بالسخط منه، لا تعلم السبب ربما لأنه وزير إلياس؟

وصل إليها وكان أن يتخطاها ليدخل إلى سارية لكن ذراعها الذي امتد أمامه منعه من التقدم فعاد خطوة للخلف ينظر لها بتساؤل رافعًا حاجبه بدهشة ، فسألته ساخطة في معناها ساخرة في ظاهرها :

- "إلى أين؟"

أغمض عينيه يمني نفسه بالهدوء..

عقله مشغول بما حدث في الغابة وعند عودته علم برد فعل سارية من إحدى الجواري والآن هو ليس مستعدًا لعنادها :

- "أبتعدي عن طريقي وسام ودعيني أطمئن على سارية"

كاد أن يخطو فوقفت أمامه مانعة :

- "هي الآن برفقة والدها، وأظن أنهما لا يريدان قطع خصوصيتهما"

وضع كفه يمسح على فمه ثم وضع كفيه في خصره ناظرًا إياها متسائلًا بقلق :

- "كيف حالها؟"

ضمت الإبريق لأحضانها تنظر له بابتسامة ساخرة انعكست على نبرتها :

- "أخبرني أنت كيف تظنها تشعر الآن؟"

ثم انقلبت نظراتها الباردة إلى أخرى مشتعلة، تضغط على أسنانها بغيظ تقترب منه خطوة بعد الأخرى وفيما بينهم تهتف بسخط :

- "أنت كنت تعلم بأمر الزواج أليس كذلك؟

كل يوم تأتي وتبث الطمأنينة لها وأمر مهم كهذا تخفيه عنها؟"

صمت قليلًا قبل أن تدب الأمر بقدمها في شيء من الطفولية وصوتها يعلو قليلًا :

- "تهتف بصداقتك وأخوتك لها وأنت مشارك فيما حدث لها"

عيناه تشملها بتأمل ووله!

وجنتاها حمراوتان تجابه الدماء في لونهما!

سواد عينيها يلمع كبريق نجمتين وسط سماء حالكة!

غضبها كعاصفة هوجاء وسط صحراء قاحلة..

تشبه الفلفل الحار المنغمس بالعسل!

ابتسم عند هذا التشبيه وتسللت منه ضحكة خافتة جعلتها تزداد غضبًا!

لم يتجرأ أحد على الوقوف أمامه والحديث بتلك الطريقة!

الجميع يعلم غضبه وقسوته لكنها ألقت بكل هذا عرض الحائط ووقفت تجابهه بعناد وقوة!

في هذه اللحظة عاد إلى جاد القديم، لا وزير ولا قائد.. فقط جاد.

وللعجب أحب هذا!

شهقت بقوة عندما قبض على مرفقيها وجذبها إلى صدره حتى التصقت به، ينحني بوجهه نحوها هامسًا:

- "إني لأتعجب من قوتك وشجاعتك لتقفي أمامي وتتحدثي معي بهذه الطريقة!

ألا تخافين أن أعاقبك!"

اتسعت فتحتي أنفها زافرة أنفاسها بغضب وزمّت شفتيها بسخط تحيل نظراتها بين عينيه :

- "أخبرتك من قبل وسأظل أخبرك أنا لست أحد جنودك لتأمرني..

ونعم أنا لا أخافك فأنت تستحق لأنك مشترك فيما حدث"

رفع حاجبه بتلاعب واتسعت ابتسامته :

- "هذا يعني أنكِ ستقفين بوجه الملك إلياس أيضًا تنعتينه بالظلم والافتراء؟"

ليهبط إلى أذنها هامسًا بنبرة أصابتها بالقشعريرة خاصةً من أنفاسه الساخنة التي ضربت عنقها :

- "أم أن هذا الأمر خاص لي فقط!"

تسمرت نظراتها في عينيه بصمت وصدمة من نفسها، هي حتى لا تعلم لماذا تعامله هكذا؟

لا تعلم لماذا تنتابها رغبة العناد والسخط معه؟

لكن شعور خفي يضرب قلبها ويزيد من ضرباته بقوة كلما رأته وهي رافضة له!

ابتلعت لعابها ببطء ورفرفت بأهدابها عدة مرات لا تعلم بما تجيبه ليقترب أكثر من وجهها :

- "أعلم مدى خوفك على سارية، وأشعر بمدى سخطك على ما حدث!

لكن اطمئني كل هذا فقط لحمايتها، الملك إلياس من المستحيل أن يؤذي أحدًا فما بالك بزوجته؟"

ختم حديثه بابتسامة وغمزة عابثة قبل أن يتركها ويذهب في الطريق الذي أتى منه، تاركًا إياها تتأمله بصمت وشعور الهدوء والراحة يتسلل لقلبها بخفة.

******

انكسر موج البحر والـشمس مالت للغروب

واللون الأحمر قام يسجد في طرفِ محرابها

تغنت الطيور بأذكى لحون أسرابها

في يوم شتوي لا يمت لبرودة الفصل بشيء

وبداخل جدران القصر انكشف ما في القلوب، ورُفع الحجاب عما تخفيه الأنفس

فالمظاهر تستر عيوبًا زينتها الثياب

أناس شيّنت ثيابها سواد في لمحة بياض في فرق واضح ومحسوب

وآخرون سـواد نيتها واضح للعنان.

في قاعة الاحتفالات الملكية كان نيار وإلياس يجلسان مع الملوك والأمراء الذين حضروا الاحتفال ، في يد كل منهم كأس نحاسي موشى بالذهب مملوء بالشراب، تباين الجمع بين متحدث ومهنئ، ليخرج صوت قوي مهيب من وسط الحضور قائلًا :

- "دعونا نشرب نخب المفاجأة التي أصدرها الملك إلياس بزواجه الليلة"

التفت إلياس نحو الصوت ليرى كهرمان واقفًا في منتصف القاعة بردائه النبيذي المرصع بالألماس، وعمامته القرمزية، يرفع كأسه ويده الأخرى خلف ظهره، يضع عينيه بعين إلياس بقوة، فرفع الأخير حاجبه بغموض متأملًا ما يفعله، ليرفع الجميع كؤوسهم على النخب.

شرب كهرمان كأسه دفعة واحدة ولم تهبط عينيه عنه، ليقترب منه حتى وقفا بمواجهة بعضهما، فكانا كالأسدين المتجابهين.

ابتسم ابتسامة جانبية وعينيه يلوح فيها المكر والخبث ثم قال :

- "ظننت أن الأميرة خديجة ستنول شرف زواجك منها.. لكنك فاجأت الجميع بالزواج من المرأة التي وقفت تتهمك على مرأى ومسمع من الجميع"

رفع حاجبه كنوع من الإعجاب قبل أن يقترب من أذنه يكمل :

- "ضربة موفقة إلياس فلقد أفسدت مخططي بزواجك منها.. لكن أخبرني ما مغزاك؟"

ضغط إلياس على أسنانه بغضب قبل أن يرفع عينيه الثائرة لعين كهرمان الساخرة ليهمس بفحيح :

- "أشعر بالحزن من أجلك لعدم سير خطتك كما تريد"

ضحك الآخر بقوة لتلتفت بضع الأعين إليهما بدهشة أن المتناحرين دائمًا يتضاحكان، ثم أعاد نظره إليه مرة أخرى يميل برأسه للجانب يقول :

- "أخبرني هل وجدت صديقتها؟!"

ضيق إلياس عينيه واقترب من أذنه ينظر حوله ويرفع كأسه يشرب جرعة صغيرة وهمس له :

- "ظننتها عندك"

نظر كهرمان لجانب وجهه، والاثنان يقفان بجانب بعضهما في جهتين متضادتين ثم قال :

- "مملكتي بأكملها أمامك لتبحث بها وقصري أيضًا.. منافستي معك شريفة دائمًا لذا فلن أغضب منك"

التفت له إلياس بغضب ليبتسم الآخر باستفزاز يرى نيار يقترب منهما يقف بجوار أخيه، فنظر لهما ثم قال موجهًا حديثه لنيار يمد يده يبادر بالسلام عليه :

- "تهنئتي لك أيها الملك على زواجك.. اختيار موفق"

ليعيد نظره إلى إلياس وقال بمكر وحاجب مرفوع بخبث :

- "علمت أن تلك السارية فتنة تمشي على الأرض بعينين ناظرني اللون والجمال، وجسد منحوت بعناية وكأن فنان قام برسمها ووضع فيها خبرته كلها"

اتسعت عيناه من حديثه وضغط نيار على أسنانه من وقاحته، ليضع كهرمان يده مكتفة أمام صدره وأكمل:

- "أحسدك إلياس على امتلاكك مثل هذا الجمال"

قال جملته الأخيرة بهمس وقح ليتصاعد غضب الآخر إلى أقصاه وكاد أن ينقض عليه، ليمسك نيار ساعده وقام بالحديث :

- "كهرمان إن من تتحدث عنها هي زوجة الملك إلياس.. فالتزم بتلك الحدود رجاءً"

ابتسم بخبث ثم اقترب و وضع كفه بكف إلياس :

- "أنت محظوظ أيها الملك"

ليتركهما دون كلمة أخرى ينضم لأحد الملوك في القاعة، لينظر له الأخان بغموض وغضب، ثم نظرا لبعضهما نظرات غامضة من طريقته.

*****

ما أقسى أن يحدث عكس ما تريد!

ترى أمانيك تذهب أدراج الرياح أمام عينك

وليس بيدك ما تفعله كي تعيدها!

لتطغي نيران الغضب بداخلك!

وتستحوذ عليك أدخنة الحقد!

فلا تفكير، ولا عقل في خطواتك التالية!

جالسة على أريكتها تفكر فيما حدث وعقلها يحاول استيعاب التغيرات المفاجأة!

ابنها عاد!

اتحدت المملكتان مرة أخرى فجأةً بعد أن باءت كل محاولاتها السابقة بالفشل!

ابنة بدر الدين تغير مصيرها من جارية إلى ملكة في طرفة عين!

أغمضت عينيها تضغط على فكيها بحقد دفين هامسة بشراسة :

"بدر الدين.. بدر الدين!!

للمرة الثانية تنتصر عليّ، ماذا أفعل معك؟"

أمامها خديجة تقطع الغرفة جيئةً وذهابًا بثورة، تارة تضرب قبضتها في كفها ، وتارة تضع يدها في خصرها واليد الأخرى تفرك جبهتها تصيح بحقد :

- "بعد كل تلك السنوات يتزوج غيري؟

فتاة لا نعرف لها أصل.. في ليلة وضحاها تكون الملكة!!

وأنا من ضاع عمرها هباءً أحلم بيوم زواجي منه أصبح لا شيء؟!"

مازالت أنظارها متسمرة في اللاشيء ولم تجبها، لتقترب منها باندفاع تجلس أمامها مستندة على قدميها تهتف برجاء :

- "عليكِ فعل شيء.. أخبرتني منذ صغري أن إلياس سيكون زوجي ، وأنتِ من أخبرتني أنها ستكون جارية في قصري"

لتتسع عيناها تنظر للفراغ وهمست ضاربة كفًا فوق كف:

- "أقسم أنها ستجعلنا نحن الجاريات انتقامًا منها"

صرخت رقية وقد ضاقت ذرعًا منها ممسكة بذراعيها تهزها بقوة :

- "كفى.. بدلًا من النواح، قومي بتأنيب نفسك على فشلك في جعل إلياس زوجك طوال تلك المدة..

لينفر منك بدلًا عن الاقتراب"

- "بالرغم أنكِ نسختها لكن لم تأخذي من دهائها شيئًا"

شهقت خديجة بصدمة من وجوده وانتفضت واقفة تتنفس بقوة، وظلت رقية على جلستها ترمقه بغضب تضغط على أسنانها وعيناها تقدح شررًا!

ركضت خديجة نحوه بعاصفة تتمسك بمقدمة ملابسه تهتف بلوم وهذيان :

- "كيف استطعت فعل هذا بي إلياس؟

من المفترض أن أكون أنا زوجتك وليست تلك...."

صمتت عندما رفع سبابته أمام شفتيه علامة على الصمت، يهز رأسه بابتسامة ساخرة وقال يشير لها ولوالدته :

- "هذا المفترض أنتن من وضعنه!

لعبة الخطبة والزواج أنتن من خطّطن لها لكن بتوجيهاتي أنا"

زوت حاجبيها بعدم فهم تهز رأسها بتساؤل صامت فتخطاها للداخل يقف مقابل أمه التي لم تتفوه بكلمة حتى الآن مبتسمًا يوجه حديثه لخديجة دون النظر إليها :

- "ملكتك أرادتك زوجتي ظنًا منها أنها بهذا تضع يدها على قصري ومملكتي..

فـ قلت لنفسي لماذا لا ألبي رغبتها فطاعة الأم واجبة"

ابتسم ساخرًا ينظر لخديجة :

- "لكن تلك الخطبة لم تكن إلا لكبح شركما..

فالتخلص من أفعى سامة ليس بإطلاق سراحها، بل بوضع رأسها تحت قدمك"

ارتد جسد خديجة بصدمة حتى التصق ظهرها بالحائط، فقهقه بسخرية اقترب من رقية هامسًا :

- "تخلصتِ من فيروز كي لا تكون كنتك جارية!

فماذا ستفعلين الآن أيتها الملكة ولقد أصبحت كنتك فتاة من عامة الشعب حتى أنها لم ترتقِ للعيش بين الجواري؟"

انتفضت من مكانها تمسك قبضتها بكفها بشدة وعيناها تقدح شرًا ومعالم الحقد تثور في وجهها :

- "إن ظننتْ أنك بهذا الزواج تحميها يا إلياس فيبدو أن ابتعادك لخمسة أعوام أنساك من تكون والدتك"

رمقها بصمت بعض الوقت قبل أن يضيق عينيه واقترب برأسه من أذنها بتهديد مبطن :

- "وقد أخبرتك سابقًا أن دماءك للأسف تسري في عروقي فلا تنسي هذا الأمر"

تقدم نحو الباب ليخرج فصرخت خديجة من خلفه كمن لبستها روح شريرة :

- "أقسم أنني لن أتركها تهنأ.. أقسم أنني سأجعلها تندم على مجيئها هنا"

فشاركتها رقية في القسم بحقد دفين أحال نظراتها إلى السواد تلوح بها رغبة الانتقام :

- "ابنة بدر الدين لن ترى الراحة بعد اليوم ، سأجعلها تعض أناملها ندمًا على تحديها لي"

ليصدح صوته الأجش دون أن يتكلف العناء بالنظر إليهن ممسكًا المقبض وقد امتلأت نبرته بالغضب والعنفوان بقسم يعلمن أنه طالما استخدمه فإن الجحيم خلفه :

- "سارية أصبحت زوجتي، ما يمسها يمسني.. إن فكّرت إحداكن على الاقتراب منها فعليها أن تتخطاني أولًا"

*******

حسن الصورة جمال ظاهر

وحسن الروح جمال خفيّ

الجمال يسحر العينين

والرقة تسحر القلب والنفس

وهي جمعت كل هذا في كينونتها!

يتأملها واقفة أمام الشرفة مازال وشاحها يخفي وجهها لكن نسمة هواء رفعته عن رأسها، صدرها يرتفع لأعلى نتيجة تنفسها بعمق.

تأمل قوامها الممشوق بدايةً من خصلاتها الشقراء التي ترفعها برقة وبضعة خصلات تمردت ساقطة على عنقها، وشاحها مثبت بتاجها، وثوبها القرمزي يرسم جسدها بفتنة شديدة.

أخبره أحدهم ذات مرة أن حواء نوعان ..

أحدهما كالزهور ذات وجه جميل

والأخرى كالعشب يكمن جماله بداخله!

فاستلهم العقل وانظر كيف تختار؟

فكم في الزهر سم وإن كان شديد الجمال

وكم في العشب عقار!

فطن لشعورها به من اهتزاز جسدها الطفيف، لكنها لم تتحرك فنزع عمامته وألحقها بعباءته الملكية، استدارت ترمقه بأعين ضيقة وملامح مبهمة وهو قَبِل هذا التواصل ولم يقطعه مقتربًا منها وعلى ثغره ابتسامة جانبية حتى وقف خلفها يكاد يلتصق بها يلمس بطرف أنامله ظاهر يدها صعودًا إلى ذراعها وأنفاسه تلفح عنقها من الخلف، وصل لكتفيها يعطيهما ضغطة طفيفة قبل أن ترتفع يده إلى رأسها تنزع تاجها ووشاحها ويلقيهما على الأريكة بجانب الشرفة، ثم انحنى على أذنها ويدها تنزع مشبك شعرها ليهبط منتشرًا على ظهرها هامسًا :

- "مبارك ملكتي"

أغمضت عينيها بتأثر لهمسه لكنها تحركت نحو مرآتها تنزع مجوهراتها ثم اتجهت إليه مرة أخرى بملامح جادة فابتسم داخله يعلم أنها لن تمرر ما حدث.. ففي الآونة الأخيرة اقتربت من سارية بشكل كبير وبالتأكيد ستغضب لها!

وقفت أمامه مكتفة ذراعيها تسأله :

- "هل لك أن تشرح لي ما حدث؟!"

ضيق عينيه ورفع حاجبه باستفزاز ونبرة ماكرة يقرب رأسه منها قائلًا :

- "تريدين شرح الليلة ليان؟!"

مد يده يلمسك كفها وأكمل بنبرة خبيثة :

- "هناك أشياء أخرى أكثر أهمية الليلة"

اتسعت عيناها من جرأته وبدأت وجنتيها في الاحمرار، لتنظر له بتوتر تحاول أن تخفيه وقالت بصوت متوتر متقطع :

- "نيار كُف عن تلك الألاعيب، أنت تفهم ماذا أعني!"

كتم ضحكاته بصعوبة وغمز لها بتلاعب وابتسامته تتسع على محياه، لتضغط على أسنانها بغيظ وأولته ظهرها تهتف :

- "لا تتحدث لكن اعلم أنني لست موافقة على الوضع الذي أقحمتم الفتاة فيه"

كادت أن تبتعد فجذبها من ذراعيها ليلتصق ظهرها بصدره العريض، فشهقت بدهشة تشعر به يهبط لأذنها هامسًا بنبرة تثير الأعصاب :

- "دعي أمر سارية وإلياس لهما، ودعينا الليلة نهتم بشأننا الخاص"

ختم جملته بقبلة على عرقها النابض في عنقها، ثم أخرى خلف أذنها، لتبعد رأسها عن مرمى شفتيه محاولة السيطرة على المشاعر المثارة في عمودها الفقري وابتعدت تقف على بعد خطوتين منه بعد أن أفلتت جسدها من بين ذراعيه :

- "لا.. ليس قبل أن أعلم لماذا فعلتم هذا؟

الفتاة كانت تتمنى أن يُقطع رأسها على أن تقبل بهذا الزواج"

رفع حاجبه بغيظ ليبعد خصلاته للخلف يقول بحدة طفيفة:

- "أتعلمين أنكِ هادمة للحظات السعادة؟"

كتفت يديها أمام صدرها وشفاهها مزمومة تنظر له ببرود تحرك قدمها برتابة منتظرة إجابته، ليتنهد وسرد لها ما حدث مع إلياس وشرطه هذا ليس إلا لحمايتها.

عقدت حاجبيها بعد انتهائه بتفكير وحيرة تضع سبابتها وإبهامها على ذقنها تهمس :

- "حماية لها.. كيف؟"

قبل أن تكمل حديثها وجدت نفسها مرفوعة في الهواء، لتفطن أنه استغل تفكيرها ليقترب منها ثم حملها في غفلة منها، شهقت بقوة ووجهها أصبح شديد الاحمرار، فتمسكت بعنقه حتى لا تسقط :

- "ماذا تفعل نيار، انزلني"

وضعها برفق فوق فراشهما، ينظر لها من أعلى يجيبها بغيظ بلغ أقصاه منه وهو ينزع رداءه الملكي:

- "لا حديث يا ليان.. الآن أنا من سيفعل وأنتِ ستصمتين؟"

شهقت بذهول لينتابها الغضب من نبرته وكادت أن تصرخ به لكنه سبقها واستقبل صراخها بين شفتيه عندما أطبقت على شفتيها، لتصمت ويتكلم هو بلغة أبلغ من الحروف.

في هذه اللحظة ومنذ أن رآها صمم أن يجعلها ملكه.

في البداية كان من أجل الاتحاد بين المملكتين، لكنها منذ أن خطت قدماها قصره ورأى جانب شخصيتها القوى والحازم وقد بدأت تتسلل مشاعر الإعجاب لقلبه تجاهها.

عمق قبلته التي تحولت إلى الرقة كي تتجاوب معه بعدما شعر أن تشنج جسدها بدأ يزول.

لا يعلم ما في قلبه تجاهها ليرفع رأسه ينظر في عينيها تحيط عنقه بذراعيها وعيناها ناعسة من تلك المشاعر، ليقترب من جانب شفتيها هامسًا دون وعي منه طالبًا ليس آمرًا :

- "حرري الجليد المحيط بقلبي وامنحيه الدفء.. أنا بحاجتك"

Continue Reading

You'll Also Like

36.9K 1.9K 103
سـلسـلة من عدة أجـزاء الجزء الأول { وجمع بيـنهم القـدر } حيـنما يـكون القـدر السبب فـى لقائـك بـه ، شخص أعتاد على حياه صاخبـه ، مدلله ، منعمه ، هل...
520K 12.4K 43
رواية بقلم المبدعة ساندي نور عشقكَِ .. عاصمةُ ضباب بفتح الكاف أو كسرها .. لا يهم العشق واحد والقلوب تختلف بداخل كل منا شيئا من ضباب شيئا لا ندرك كيف...
476K 22K 34
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
874K 25.9K 40
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...