سارية في البلاط الملكي للكاتب...

EmyAboElghait द्वारा

77.7K 2.8K 136

كل الحقوق محفوظه للكاتبه هدير مجدي إلى الّذين يجيدون السّباحة فوق السّطور والغرق بين الكلمات والإبصار في الأع... अधिक

إهداء
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الخاتمة

الفصل الثاني

3.1K 108 2
EmyAboElghait द्वारा

دارت ودارت!!

ابتعدت مئات الأميال خاضعة لتدابير القدر وصفعات الحياة.

لكن المصير مكتوب فوق جبينها!

ففي قانون الحياة لا وجود للصدفة

حتى هذا المسمى يخضع لدستور القدر وتدبيره.

فمهما ابتعدت المسافات

وطال الزمان

ستعود بقدمها إلى مصيرها الذي لا مفر منه.

على قدر المشقة تكون مغانم الرحلة

وعلى قدر السهولة والاقتناص الخاطف

تكون تفاهة الحصاد.

عزيف الرياح جعل حفيف الأشجار يسود المكان

أنفاس خيلها الخافتة يركل الأرض بأقدامه يدور حول نفسه لتتحكم به بقوة، تراه جاثيًا على ركبة واحدة ممسكًا بكتفه المجروح النازف تتخلل خطوط الدماء من بين أصابعه، تستطيع تمييز صعوبة تنفسه من لهاثه المستمر وحبيبات العرق تنزلق بغزارة فوق جذعه العاري.

بأعين جاحظة ونظرات غير مصدقة تفاجأ نيار بما حدث، ينظر إلى الفهد الملقى بجانبه وسط بركة كبيرة من الدماء النازفة من رقبته بصدمة، ثم التفت للشخص الذي رمى الخنجر يزوي ما بين حاجبيه وجده يمتطي خيل أبيض جميل، لم يظهر منه غير جانب وجه!

جذبت لجام خيلها واستدارت لتذهب فصدح صوته من خلفها مناديًا :

- "من أنت يا هذا؟

ومن أين أتيت؟"

أجبرت مهرتها على الوقوف لتقف على قدميها الخلفيتين وصهيلها يرتفع، فالتفتت سارية بجانب وجهها ولم تجبه ليتابع بقوة يضغط على موضع الألم:

- "هل أنت أبكم أم ماذا؟

تحدث وأخبرني من أنت حتى أستطيع شكرك على إنقاذ حياتي؟!"

أعطته ظهرها بعدما ألقت إليه منديل أبيض يمنع نزيف ذراعه، وقالت بصوت أنثوي مثير :

- "أنجِ بحياتك يا هذا.. فالمكان ليس آمن.

اليوم وجدت من ينقذك، من يدري هل ستجد أحدًا في الغد أم لا؟"

- "أنتِ فتاة!"

همس بصوت مصدوم غير مصدق ملتقطًا المنديل منها، لكن همسه وصلها فابتسمت لنفسها وأولته ظهرها هاتفة بنوع من السخرية :

- "أظن أن حياتك أهم من هويتي، فتاةٌ كنت أم رجل لا يهم.. اذهب وعالج جرحك قبل أن يتمكن النزيف منك"

ثم انطلقت بمهرتها بكامل سرعتها تاركة إياه في ذهول.

كلماتها الأخيرة يتردد صداها في أذنه..

نظر للمنديل في يده بجبين متغضن ثم رفع نظراته إلى الطريق الذي غادرت منه فلم يجد لها أثرًا غير صوت أقدام مهرتها تصله..

فتساءل.. هل يوجد من يعيش في ذلك المكان؟

وسط الغابة المليئة بالحيوانات المفترسة؟

بل هل يوجد فتاة بتلك الشجاعة؟

استفاق من ذهوله وربط جرحه يمنع نزيفه، ثم نظر لذلك الفهد فرأى خنجرها الفضي المستقر في رقبته، فاقترب منه يستله ناظرًا إليه كأنه يستجوبه عن هوية صاحبته.

لا شيء يفوق كبرياء الرجل

ولا يستطيع كسره إلا إذا تدخلت الأنثى

فحينها لم يعد للكبرياء مكانًا!

تتساوى الرؤوس والفرص

والبقاء للأقوى!

لقاء ساقه القدر، مجهول الهوية، يخفي كثير من عبق الماضي.

روائحه بدأت تهل تنفس الغبار عن صندوق الخفايا..

خفايا تسفك بسببها الدماء، وتُنحر لها الأعناق.

أولى لها أن تظل تحت الغبار مدفونة!

ذكريات مؤلمة بعد عمر دُفِن بين سراب الخيانة ورحل إلى عالم آخر.

وأخرى تعتصر القلب ويلتهب من جمرها العمر.

- "ما بك مولاي؟

منذ عودتك من الغابة وأنت لا تفعل شيئًا سوى النظر لهذا الخنجر"

هتف بها مأمون عندما جلس بجانبه فوق صخرة.

فمنذ رؤيته عائدًا على خيله ذراعه ينزف بقوة، وجهه مجهد تتصبب منه حبيبات العرق، يتأمل خنجرًا يقلّبه في كفيه يذكره بلون عينها.. بتلك اللمعة الخضراء وكأنه يحكي عن صاحبته!

فضي اللون..

يبرق بفصوص خضراء تحدد تلك الرسمة كأنها تحكي عن مقابلتهما في الغابة..

فهد يزأر من قاتله عيناه بلون عينيها.

ولما سأله عما حدث أجاب مختصرًا :

- "لقد هاجمني فهد"

التفت إليه عندما انتبه لجلوسه بجانبه، نظر له قليلًا ثم أعاد النظر للخنجر فقال بغموض :

- "أريدك أن تخرج مع بضعة جنود تبحث حول المنطقة، إذا كان هناك من يعيش في هذا المكان"

عقد مأمون حاجبيه بتساؤل وأخذ منه الخنجر يديره في يده عدة مرات ثم أعاد النظر إليه :

- "أخبرني ماذا حدث في الغابة بالتفصيل؟

ما الذي جعل عقلك ينشغل بهذا الشكل؟"

سرد ما حدث منذ أن ذهب للصيد ومواجهته لهذا الفهد، يعترف أنه كان على وشك انقضاضه عليه لولا ذلك الخنجر الذي صرعه قتيلًا، لكن صدمته الكبرى عندما وصله الصوت الأنثوي المثير معلنًا أن من أنقذه من موت وشيك ليس سوى فتاة!

لا يعلم من أين ظهرت ولا هويتها؟

لا يتذكر سوى قلنسوتها الزرقاء المرفرفة حولها فوق مهرة بيضاء قوية ذات غرة كبيرة شامخة، وجانب وجهها ظهرت منها عين خضراء متوهجة.

جذبته الثقة والقوة اللتان شعر بهما في صوتها، تطالبه بالذهاب من هنا والنجاة بنفسه كأنها ابنة الطبيعة تعرف كل شيء عن الغابة وما فيها.

كل هذا ومأمون ينصت إليه باهتمام يعلم جيدًا ما يدور في عقل صديقه، هذه الفتاة حازت على اهتمامه حتى لو لم يعلم شيئًا عن هويتها ولا حتى شكلها سوى لون عينيها!!

خرج من شروده على صوته يأمره :

- "هيا مأمون أريد أن أعرف إن كان أحدًا يعيش هنا أم لا؟

فمن المؤكد ستجدها فهي ليست جنيّة تظهر وتختفي فجأة!"

رمقه الآخر بغموض قبل أن يقترب برأسه منه متسائلًا :

- "ولمَ تريد إيجادها بهذا الإصرار؟

مجرد فتاة قتلت فهدًا وأنقذتك ثم ذهبت"

اقترب نيار بدوره وابتسامة ماكرة ظهرت على جانب فمه :

- "لم أعهدك غبيًا مأمون!!

لكن لا تقلق كل ما في الأمر أنني سأشكرها، فأنا لست في حدود مملكتي ليحدث ما تفكر به..

هيا أفعل ما أمرتك به"

وقف بعد عدة دقائق مكتفًا يده وراء ظهره، يطالع مأمون ومعه ثلاثة من الجنود يبتعدون ليبحثوا عن فتاة لا يعلمون عنها أي شيء.. ضحك بمرح عندما سمع تذمره وهو يمتطي جواده بحنق، معلنًا بضجر:

- "لا أعلم عمن سأبحث؟!

فتاة مجهولة الهوية لا نعلم شيئًا سوى أن عيناها اليمنى خضراء، ومهرتها بيضاء، تمتلك خنجرًا فضيًّا"

ركض بخيله حانقًا يستمع لضحكات نيار من خلفه.

أمر الجنود بالانتشار في كل مكان والبحث عنها، ثم ذهب في جهة المكان الذي كان نيار يصارع الفهد به، وجد بضعة حيوانات ملتفين حول الفهد ينهشونه كمن حصلوا على وجبة ثمينة، لكنهم فروا هاربين عند سماع صوت صهيل الخيل المصاحب لإلقاء بعض الأسهم.

ظل يحوم بنظره في المكان حتى جذب انتباهه صوت خيل قريب، تتبعه ببطء حتى وصل إلى البحيرة القريبة من الغابة ليجد خيل أسود بغرة بيضاء كبيرة، يأكل من العشب يهز رأسه بحركات رزينة باستمتاع.

هبط من فوق جواده عاقدًا حاجبيه بدهشة..

جواد بلا فارس!

تخصّر والتفت ينظر في أرجاء المكان علّه يجد أي أحد، يرغي ويزبد وينهر نيار في سريرته ونفسه من موافقته على هذا الهراء، ليأتيه صوت من خلفه هاتفًا :

- "هل لي أن أساعدك بني؟!"

استدار فوجده رجل تعدى عمره الخمسون وأكثر ، ذو لحية بيضاء طويلة بعض الشيء، يرتدي ما يشبه بجلباب صوفي من اللون السكري يضع عمامة بيضاء فوق رأسه يرمي بأطرافها على كتفه، وفي يده قطعة من جذع النخيل يستخدمها في تنظيف خيله.

أعاد ذراعيه لجانبه يرمق الرجل الذي ظهر فجأة من اللاشيء :

- "عفوًا يا شيخ، لكن من أين ظهرت ومن تكون؟"

رمقه بنظرات شملته من خصلاته حتى قدمه، متأملًا وجهه الأسمر بملامحه الخشنة ورمادية عينيه ولحيته القصيرة..

عمامته السوداء المشابهة للون ملابسه ملتفة حول رأسه وطرفها يستكين على كتفه..

سيفه يستكين في كنانته جانب خصره بوقفته الشامخة.

أجابه وهو يتجه ناحية دلو موضوع بجانب البحيرة متجاوزًا إياه :

- "أنت لست من أهل المكان، ملابسك وهيئتك تدل على ذلك"

أخذ الدلو متجهًا به نحو الماء يملأه يستمع إليه:

- "أنا مأمون وزير الملك نيار ابن تقي الدين ملك الشَمال"

تأرجحت الذكريات في مخيلته كالبندول بين القسوة والألم ما أن نطق بهويته، ذكريات محطمة تقف على حدود الماضي تمنعه حتى من استرجاع الفرحة التي كان فيها، فلا يذكر منها سوى حزنه.

تيبست يده على الدلو، وانقلبت نظراته إلى نظرات غامضة، تتراءى له ومضات من الماضي الأليم قبل أن يعود لطبيعته يلتفت له مبتسم الثغر مُرحبًا :

- "مرحبًا بك بني، أنا بدر الدين شيخ هذه القرية"

أشار إلى مساحة خضراء واسعة خلف البحيرة بها مجموعة من الأكواخ المتفرقة، والقليل من الرجال والنساء يعملون في زرع الأراضي.

تأمل مأمون البيوت البسيطة والقرية الصغيرة، يعلم أن تلك المساحة من الأرض تعود لمملكة الجنوب، فالتفت مرة أخرى إلى بدر الدين عندما سمعه يقول :

- "أخبرني كيف أستطيع أن أخدمك؟"

سعل يعيد رباطة جشأه يخبره بما جاء لأجله :

- "أريد الاستعلام عن فتاة، أعتقد أنها تعيش هنا، وبما أنك شيخ القبيلة فإنك تستطيع مساعدتي في إيجادها"

أومأ بدر الدين برأسه علامة على إنصاته التام له وأن يكمل حديثه ليخبره مواصفات تلك الفتاة ليتابع:

- "كل ما أعلمه أنها تمتلك مهرة بيضاء، لون عينيها أخضر"

أخرج الخنجر من جعبته فاتسعت عيني الآخر قليلًا عندما تعرّف عليه :

- "وهذا الخنجر ملك لها.. فالملك في رحلة صيد هنا هذه الأيام، وقد تعرض لهجوم من أحد الفهود لكن تلك الفتاة أنقذته، وهو يريد شكرها"

الغبية ماذا فعلت؟

أفعالها ستودي بها للجحيم يومًا ما طالما تنحي عقلها ولم تفكر!!

استطاع السيطرة على انفعالاته وبداخله حانق على ابنته بشدة، فنظر إليه وقال برزانة :

- "فتيات القبيلة لا يتعدى عمرهن الخمسة عشر عامًا..

وأظن أن من في هذا العمر لا تستطيع فعل هذا، لابد أنها من قرية أخرى"

حك مأمون ذقنه بتفكير، فحديثه أقرب إلى الإقناع، حتى أنهم لا يمتلكون أي حق للبحث عنها هنا، فهي ليست تحت سلطتهم.

هز رأسه يئسًا من أفعال صديقه قبل أن يرفع رأسه بابتسامة قائلًا :

- "حسنًا يا شيخنا، أتمنى لك يومًا سعيدًا"

قفز فوق جواده يشهر كفه بالتحية والتفت عائدًا به إلى مكان التخييم، يتابعه بدر الدين بنظراته يهمس لنفسه بغضب وغيظ من أفعالها :

- "سارية الغبية ستقحم نفسها فيما أحميها منه طوال حياتي!"

التمعت عيناه بإصرار وحمية قلب أب على ابنته :

–"لكن لا.. لن تذهب هذه السنوات سُدى حتى لو الخطر على بعد خطوات منها"

قفز على خيله بمهارة سنين بعدما ترك الدلو مكانه ، ينطلق حيث ابنته ليرى ماذا حدث بالضبط؟!

*****

لا تحاول أن تعيد حساب الأمس وما خسرت فيه

فالعمر حين تسقط أوراقه لن تعود مرة أخرى

لكن مع كل ربيع جديد سوف تنبت أخرى

فانظر إلى تلك الأوراق التي تغطي وجه السماء

ودعك مما سقط على الأرض فقد صارت جزءً منها

- "أتعلمين مهرتي.. أنتِ أفضل صديقة لي لأنكِ هدية من أغلى شخص في حياتي"

قالتها تحرك يدها على جبهة مهرتها، تطعمها بعض السكر تتحدث معها كعادتها، تلتفت لصوت صهيل خيل والدها تراقبه عائدًا من جولته، فعندما عادت من رحلتها للغابة لم تجده ولم تجد خيله لتتذكر أنه أخبرها أنه سيذهب لينظفه.

عقدت حاجبيها بدهشة طفيفة عندما التقطت حنقه ، فتركت مهرتها وتقدمت منه سائلة :

- "ما بك أبي؟"

أخذها من مرفقها وأجلسها برفق على جذع نخيل ساكن على صخرتين قويتين ، ليسألها بخفوت :

- "أخبريني ماذا حدث في الغابة اليوم؟"

عقدت حاجبيها بدهشة من معرفته أن هناك ما حدث معها!

فلقد خرجت قبل استيقاظه وعادت لم تجده!

تنهدت وسردت له ما حدث بطريقة طبيعية أشبه للامبالاة، لتنهي سردها تنظر إليه فوجدته ينظر لها بغموض قبل أن يسألها :

- "أتعلمين من الذي أنقذته؟!"

- "من؟"

سألته ببرود رافعة كتفيها بإهمال لكن بداخلها يخبرها أن ما سيقوله لن يسرها، وكان لها ما ظنته عندما أخبرها أن من أنقذته هو أكثر الأشخاص كرهًا له

"نيار بن تقي الدين"

راقب انتفاضتها من مكانها متسعة العينين، وجهها اكتسى باللون الأحمر غاضبة لا تعلم من ماذا؟

من نفسها أنها أنقذته أم من ذكر اسمه ووجوده حولها؟

كورت قبضتيها تضغط بشدة مؤلمة في حركة تدل على غضبها وغيظها، فشعرت بيد والدها وضعت على كتفها وصوته المطمئن وصلها :

- "لا تقلقي حبيبتي، ما حدث قد حدث"

رغم غضبها لكن صوتها خرج مهتزًا وقلقًا :

- "ماذا لو جاء إلى هنا؟"

ابتسم لساذجتها التي تنتابها في هذه الحالة، تجعلها تفصح بكلمات لا علاقة لها بالموضوع ولا تفكر بها، فأجابها :

- "يا ساذجة لا يستطيع فعل ذلك.. أولًا هذه الأراضي لا يجوز أن يتخطاها..

ثانيًا حتى لو رآكِ هو لا يعرفك من الأساس"

حاوطته بذراعيها تلصق نفسها بأحضانه، تغمض عينيها بقوة وقلق أكبر، تدعو الله أن يحفظ لها والدها ولا تريد شيء غير ذلك.

حاوطها بحنان يبثها الاطمئنان الذي تريده، ولكن هناك هاجس يتردد في عقله أنه حان وقت العودة..

وما خُفي سوف يكشف!

رضي بالغياب والابتعاد عن الجميع، لكن الماضي يأبى بذلك الرحيل ليعود ويطرق بابه من جديد.

ولكن لابد من عتابها ليقول من فوق رأسها :

- "لكن هذا لم يمنع أنكِ أخطأتِ.. ليس كل شيء يستحق المغامرة، ماذا إن لم يصب خنجرك الفهد؟

ماذا كان سيحدث؟"

عضت على شفتيها ترفع عينيها ممتلئة بالندم وهمست :

- "معك حق أبي.. لكن قبل أي شيء كان شخص في خطر وأنا بيدي فرصة لمساعدته ففعلت، ولم أفكر في النتائج بقدر تفكيري بإنقاذه"

وقبل أن يجيبها تفاجأ الاثنان بذراعين آخرين تلتف حولهما، وصوت مرح يصدح بجوار أذانهما :

- "ما أجمل هذا الحضن المثير!"

هزت سارية رأسها بيأس في صدر والدها قبل أن ترفعها تنظر لعائشة التي كانت في انتظارها قبل عودته، أما بدر الدين فتعالت ضحكاته ينظر لابنته الثانية يضمها هي الأخرى.

نظرت عائشة له بابتسامة وعيونها البنية الواسعة تلتمع بطريقة يعرفها جيدًا أنها تريد طلب شيء، ليسبقها قائلًا:

- "ماذا تريدين يا شقية؟"

نظرت لأسفل بخجل طفيف قبل أن تعيد النظر إليه تقول بتردد، قلبها يدعو أن يوافق على ما ستطلبه، شبه متأكدة أنه سيرفض رفض قاطع :

- "أريد... أقصد أن عرسي بعد ثلاثة أسابيع، وسأهبط إلى مملكة الشَمال لشراء بضعة أشياء تلزمني"

أعادت خصلة من شعرها للخلف قبل أن تلقي ما تبقى عندها:

- "وكنت أريد من سارية المجيء معي"

صمت طال والفتاتان تتطلعان له كل منهما بتفكير مختلف!!

عائشة بدعاء ترسله له بنظرات رافقت حركتها التي تضم بها قبضتيها في علامة الرجاء إلى صدرها وتهتز بجذعها لأعلى وأسفل في حركة طفولية منها.

وسارية الهادئة تطالع نظراته الغامضة تريد سبر أغوار عقله وما يفكر به، لتتلاقى نظراتهم ثوان معدودة علمت منها قراره الذي فاجئهن به :

- "حسنًا عيوش موافق، لا أستطيع أن أرفض لكِ طلب يا عروس"

ضحك عندما رأى ردة فعلها التي توقفت عن الحركة تفغر فاها بصدمة والمفاجأة ألجمتها، لكن سارية ظلت على هدوئها ونظراتها لم تتركه فابتسم لها بغموض قبل أن يستدير ويذهب.

التفتت إلى صديقتها التي تقدمت من خيل والدها تزيح سياجه وتربطه بجانب مهرتها تسألها بدهشة :

- "هل وافق عمي حقًا؟"

رمقتها بنظرة ساخرة بجانب عينها، وأكملت ما كانت تفعله دون رد فعقدت بين حاجبيها تتقدم منها واضعة كفها على كتفها سائلة بقلق :

- "ماذا بكِ سارية؟

لمَ يبدو عليك الاستياء؟"

زفرت بحنق تعقد الرباط جيدًا، ثم نظرت إليها وأخبرتها:

- "لقد أنقذت شخصًا من هجوم الفهد عليه اليوم في الغابة"

رفعت عائشة إحدى حاجبيها بتعجب مع كتفيها بتساؤل مصاحبة إياها بحديثها :

- "وإذا..!

ما المشكلة في ذلك؟"

- "ذلك الشخص كان الملك نيار"

قالتها بحنق تكتف ذراعيها أمام صدرها، فتساءلت صديقتها بلامبالاة تلاعب جبهة المهرة الجميلة :

- "من نيار هذا؟!"

هزت رأسها بقلة حيلة تضرب جبهتها بيأس قبل أن تجيبها بغيظ تصفعها على رأسها لعل ذكائها يعود :

- "نيار يا عائشة.. ملك الشَمال يا غبية"

صرخت بصوت عالٍ جعل المهرة تقفز بفزع مصدرة صهيل متواصل تركل الأرض بأقدامها :

- "وما الذي أتى بهذا الحقير إلى هنا؟!"

توسعت عيناها وما لبست أن ضحكت بقوة جعلتها تنحني للأمام ممسكة بطنها على تعليق صديقتها وقالت من بين ضحكاتها :

- "إذا سمع هذا اللقب حتمًا سيقتلنا"

لوت عائشة فمها بسخرية واقتربت منها تضع مرفقها على كتفها واليد الأخرى في خصرها وقالت بغرور :

- "أجعليه يهنأ بجولته بين الحيوانات.. ونحن نستمتع بجولتنا بأريحية في أسواق المملكة"

وفي المساء ذهبت عائشة بعدما علمت منها أن السفر في الصباح، وقفت على باب غرفته تتأمله يقرأ ورده اليومي على فراشه والمشعل مضاء بجانبه، فقالت تلتمس خصلاتها على جانب كتفها تعقدها في جديلة كبيرة :

- "أعلم سبب موافقتك على السفر، واثقة أنك كنت سترفض رفضًا قاطعًا لو كان ملكها في قصره"

ابتسم مصدقًا على ما قرأه قبل أن يغلق مصحفه ويضعه بجانب فراشه، رفع عينيه لها واقفة بردائها الأصفر وابتسامتها الماكرة، تذكر والدتها في هذه اللحظة ليترحم الله عليها قبل أن يقول :

- "لم تخالفي ظني في ذكائك ساريتي!"

ضحكت بنعومة ترمي بجديلتها الطويلة التي وصلت لنهاية خصرها قبل أن تلتفت مولية ظهرها له:

- "طابت ليلتك يا وسيم"

وفي الصباح وقفت برفقة عائشة، ترتبان الأشياء اللازمة لسفرهما، ليأتي والدها يحمل خيطين في يده، في منتصف كل خيط قطعة حديدية كالتميمة منقوش عليها آية من القرآن لحمايتهن من أي شر.

ربط كل واحدة منهم على ذراعهما قائلًا :

- "ليحفظكن الله حبيباتي، وتعودان سالمتين بإذنه تعالى"

نظرت سارية إليه لتجد ومضات القلق بادية عليه، ونظرات عينيه مترددة كأنه يسيطر على نفسه بالقوة حتى لا يمنعهن من السفر، فهذه المرة الأولى منذ أكثر من عشرة أعوام التي تذهب للمملكة بمفردها.

اقتربت منه تتعلق بذراعه قائلة :

- "لمَ لا تأتي معنا عوضًا عن هذا القلق؟"

ابتسم لها ينظر لها بعتب وحنق طفيف :

- "تعلمين أن هذا مستحيل.. ذهابك بمفردك الآن هو الأسلم لكِ، آن أوان عصفورتي للتحليق..

والآن هل كل شيء جاهز؟!"

أومأت برأسها ولكنها ذمت شفتيها بحنق وحزن :

- "نعم لكن باستثناء خنجري الذي أضعته على........"

قطعت كلماتها تشيح بوجهها بغيظ طفولي جعله يضحك يضمها إليه بقوة، لا يعلم هل يبثها الاطمئنان أم يبثه لنفسه من خلالها؟

فتح ذراعه الآخر لعائشة التي تنظر لهما بدموع متأثرة وابتسامة عذبة، تنضم إليهما فرفع رأسه للسماء يدعو الله أن يرعاهن وتعودان سالمتين.

ثم صعدت الفتاتان إلى عربة تجرها الخيول في طريقهم للمملكة والذي سيستغرق يومين حتى وصولهما.

كل أرض تطأ بها أقدامنا

لنا فيها قدر قادنا إليه لنراه

لا نتحرك إلا بحساب ولا نسير إلا لهدف!!

نسيّر بالأقدار ونخيّر في الطريق!

والنتائج تكون لاختيارك أنت وليس بتيسيرك!

حامت الأفكار في رأسها طوال الطريق إلى أن وصلتا إلى المملكة لتبدأ رحلة شراء كافة ما تحتاجه عائشة في بيتها بعد الزفاف.

كان برفقتهن الدليل الذي أرسله معهن والدها في رحلتهن ليطمئن عليهن.

هبطن سوق المملكة الأكبر، فتأملته سارية من أسفل قلنسوتها..

كبير ومليء بكافة التجار، منطقة خاصة بالأقمشة والحرير، ومنطقة الحبوب والأطعمة، وأخرى للحليّ والزينة، حتى أن هناك منطقة خاصة بشرب الخمور والحانات.

تسيران تشاهدان ما يُعرض، كل منهن ترتدي قلنسوتها على رأسها مخفية وجهها تحسبًا لأي شيء.

وقفت أمام محل للأقمشة تبتسم في وجه البائع كبير السن تقول :

- "صباح الخير عماه.. أريد رؤية بعض الأقمشة الخاصة بالعروس"

نظر لها البائع ليتسمر متأملًا إياها، بشرة بيضاء مشربة بالحمرة، بعينين واسعتين بلونهما المميز النادر، وشامتها بجانب شفتها العلوية، وتظهر من أسفل قلنسوتها خصلاتها النارية.

حاد بنظره لعائشة ليجدها فتاة بوجه طفولي خمري اللون، وعيون بنية واسعة يتخللها خطوط رفيعة ذهبية بأهداب كثيفة وجديلتها السوداء ساكنة على كتفها ، فتمتم بخفوت :

- "سبحان من صوركما!

هل أنتنّ من القصر الملكي؟"

لم ينتظر إجابة بل ضرب على جبهته بغباء يبتسم قائلًا :

- "ما هذا الغباء!

بالطبع هذا الجمال لا يمكن أن يكون من أحد أفراد المملكة"

نظرت عائشة بدهشة لصديقتها من جنون وهذيان الرجل، لتجدها جامدة وجهها لا ينم عن شيء تنظر للبائع، قبل أن تبتسم بسخرية قائلة تقلب الأقمشة في يدها :

- "يؤسفني أن أخيب ظنك وأخبرك أننا لسنا من القصر، بل من العامة"

اتسعت عينا الرجل بصدمة قبل أن يقول بدهشة وهذيان:

- "مستحيل... بالطبع لا"

كادت عائشة أن ترد عليه ردًا لاذعًا لكن التفتوا على صراخ فتاة تتشبث في امرأة كبيرة في السن من الواضح أنها والدتها، وأحد الجنود يحاول جذبها بالقوة ليفض هذا التشبث، وما أثار الدهشة أن الجميع ينظر لهما بصمت ونظرات الحسرة والحزن بادية في عيونهم.

فزعت عائشة بقوة تضع كفيها فوق فمها تمنع شهقات صدمتها عندما دفع الجندي السيدة الكبيرة بعنف سقطت على الأرض بسببها.

تلتفت إلى سارية التي تشاهد ما يحدث بجمود، ولم تنتبه لعينيها التي تغير لونهما ليصبحا أشد وأغمق دليل على غضبها.. ثم نظرت للبائع الذي يتابع المشهد بنفس الحسرة تسأله :

- "ما الذي يحدث؟!

كيف يجذبها بهذا الشكل وبأي حق؟

ولماذا تقفون هكذا ولا تنقذونها؟"

نظر لها الرجل بتعجب قبل أن يسألها :

- "هل أنتِ متأكدة أنكِ من المملكة؟"

صرخت في وجهه بغيظ من برودة أعصابه وقد استحال وجهها للاحتقان :

- "دعك من هذا وأخبرني ما الذي يحدث هنا؟!"

تنهد الرجل بنفاذ صبر ينظر للفتاة التي ما زالت تقاوم الجندي بشدة ثم عاد بالنظر لعائشة يجيب ببعض الحزن :

- "هذا من ضمن قوانين المملكة سيدتي، موجود منذ كان الملك تقي الدين في الحكم"

عقدت حاجبيها بتساؤل :

- "أي قانون هذا الذي يجعلهم يعاملون فتاة بهذا الشكل؟"

تنهد بحزن وطيف أليم حام حوله وتحدث يجيبها :

- "منذ عشرين عام وضع الملك قانون يلزم كل بيت في المملكة يرزقهم الله بمولودة أنثى جميلة وحسنة المظهر، عندما تتم الثمانية عشرة يأخذها جنود الملك نيار ليعرضهن عليه ويختار منهن من يريد لينضممن إلى حريم القصر، والأخريات تعدن إلى أسرهن مرة أخرى..

وفي الاحتفال السنوي للمملكة يتم وشم هؤلاء الفتيات بوشم خاص على أكتافهن يحمل شعار المملكة سيفين متقاطعين بينهما فهد يزأر لتبدأ المملكة عام جديد.."

صمت يضغط على أسنانه بقوة مغلقًا عينيه الدامعة ثم همس :

- "ولا أحد يستطيع أن يرى ابنته إلا في موعد الاحتفال السنوي كل عام..

لقاء لا يكفي لإشباع شوق وألم عمر بأكمله"

شهقت بقوة عائدة خطوات للخلف من أثر صدمة ما سمعته، فغرت فاهها وتوسعت عيناها بقوة دليل على استنكارها أن يوجد مثل هذه القوانين!

في أي زمن هم حتى يصدر ملك قانون يحرم الفتيات من أسرهن؟!

لولا أن شهريار أسطورة لكانت نعتته بهذا الاسم!!

نظرت إلى سارية لم تجدها، فحالت بنظرها حولها تبحث عنها، فأخرسها هذا المشهد أمامها.

تتقدم بخطوات غاضبة نحو الجندي وردائها يرفرف خلفها بقوة، ترفع يدها تنزع القلنسوة عن رأسها بعنف، وجهها احتقن بالدماء، أمواج عينيها الزرقاء التي تعالت من الغضب، واللون الأخضر في الأخرى تحول لأغمق، تضغط على فكيها بقوة.

استلت فجأة السيف الساكن بخصر الجندي في حركة ماهرة خاطفة منها، تضع نصله على رقبته تلتف تقف خلفه وخصلاتها تدور حولها في حركة دائرية وتضرب وجهه، فتغطي جانب وجهها بصورة أبسطها أنها فاتنة.

قالت بصوت خافت غاضب بجانب أذنه دب الرعب والفزع في أوصاله، لكنه يصل لسماع كافة الواقفين يتابعون ما تفعله بصدمة وذهول :

- "أترك الفتاة الآن وإلا أقسم بالله أن أبعث برأسك معها إلى ملكك"

نظر الجندي لجانب وجهها بدهشة من حركتها، لتصدمه هيئتها وجمالها يسأل نفسه :

- "كيف للملك ألا يعرف شيئًا عن تلك الفتاة؟"

لكنه ابتسم بسخرية يعلم أنها لا تستطيع فعل شيء، فمهما كان فتاة لن تقوى على إيذاء جندي من جنود الملك نيار :

- "أنتِ أضعف من هذا، ولكن هذه الحركة ستجازين عليها من..."

قطعت صرخته القوية جملته عندما تحركت بنصل السيف على رقبته ببطء شديد جعلت قطرات من الدماء تنزف منه، تنظر لجانب وجهه ببرود شديد، ترك يد الفتاة التي تحركت مسرعة تتشبث بها من الخلف كطوق نجاة لها، فمدت يدها الخالية لظهر الفتاة تقربها منها أكثر.

ازدرد ريقه بصعوبة ويكاد يصرخ من وجعه لتقول له بنفس البرود :

- "أذهب ولا تعد إلى هنا مرة أخرى"

نظر لها طويلًا قبل أن يقفز على جواده راكضًا بعيدًا، لتلقي السيف أرضًا قبل أن تلتفت للفتاة خلفها التي نظرت إليها نظرات امتنان وشكر لها وقالت :

- "أشكرك أنقذتِ حياتي"

ركضت عائشة إليها وعلى وجهها كافة علامات الرعب والخوف عليها، لتأتي والدة الفتاة التي كانت تراقب الموقف وما يحدث تقول بفزع تهز ابنتها بقوة من مرفقها :

- "تشكريها على ماذا؟

بفعلتها تلك فتحت علينا باب من أبواب الهلاك.. عندما يعلم الملك بما حدث سيحول حياتنا للجحيم"

تأملتها سارية بذهول تحول بنظرها إلى عائشة المتعلقة بذراعها لتصرخ الأخيرة في المرأة بقوة :

- "جحيم؟!

ابنتك لن تريها ثانية لو أخذوها منكِ، وأنتِ تخافين من مجرد قانون!!"

ثم صرخت بعلو صوتها توجه حديثها لجميع الواقفين:

- "اخبروني هل أنتن مجرد أدوات لإنجاب الإناث، ليأتي ملككم يختار منهن من يشاء؟!

أفيقوا بالله عليكن"

لتذهب مباشرة تجذب سارية من مرفقها تنطلق بخطوات حانقة تشع بالغضب، يتابعها نظرات الجميع المليئة بالإعجاب ، والمتسائلة

- "من هذه الفتاة؟!

ومن أين ظهرت؟!"

عادتا إلى الكوخ الصغير الذي استأجراه للمكوث فيه أيام وجودهن في المملكة.. كلٌ منهن بحال مختلف.

سارية بعد ما فعلته وقد تلبستها حالة من الصمت المبهم، جمود وبرود ظاهري لا تصدق منهما أن من كانت منذ قليل رافعة سيفًا تهدد بنحر جندي من جنود القصر وسط السوق وعلى مرأى ومسمع من الجميع!!

جمود كالجبال يقبع في جوفه غليان بركان وفوران حممه مهددًا بتشقق هذا الصخر وحرق كل شيء!!

وضعت قلنسوتها بهدوء على ظهر الأريكة وجلست تتجرع الماء لعل نيران قلبها تهدأ مما رأته!

تراقب بنظراتها عائشة التي نزعت عباءتها بانفعال وألقتها على الأرض بعنف، ثم أتبعتها بعباءتها وظلت برداءها الداخلي تقطع المكان أمامها جيئة وذهابًا ترغي وتزبد بغضب عما سمعته من التاجر :

- "لا أصدق أن هناك ملك كهذا!

يأخذ الفتيات قسرًا بحكم قانون مجحف كأنه ملك مصيرهن!"

أجابتها بهدوء من جلستها ترفع أناملها تدلك جانبي رأسها لعل ألم رأسها يخف :

- "القانون وضِعت لتُكسر يا عائشة..

هو سنّه ورعيته أطاعوه ورضوا بمصيرهم، فلا لوم عليه"

جحظت عيني الأخرى بصدمة من حديثها!

من ألمت رأسها بكرهها له والقصر عندما تسمع اسمه تثور، الآن تدافع عنه؟

أمسكت بعباءتها تقذفها بها بعنف وغيظ هاتفة :

- "أجُننتِ؟

تدافعين عنه؟

تدافعين عن هذا الحقير الذي آلمتِ رأسي به والآن توجدين له الأعذار"

هزت رأسها بقلة حيلة ناظرة للسقف قبل أن تقف أمام تلك الغاضبة، تتنهد بعمق قائلة باعتراض :

- "أنا لا أجد له الأعذار يا عائشة، بل ألوم رعيته..

لا يوجد ملك في هذا العالم يستطيع أن يقف في وجه غضب قومه..

فلو كانوا رفضوه وقت وضعه لم يكن مصيرهم هكذا الآن"

فكتفت عائشة ذراعيها أمام صدرها تحرك جسدها في حركة ساخرة ظهرت أيضًا في نبرتها :

- "وهل كان المغوار ووالده سيخضعان لثورتهم؟"

فأجابتها بذات السخرية :

- "وهل كانا سيذبحونهم؟"

أشاحت عائشة برأسها زافرة بقوة وعم صمت طفيف في المكان إلا من صوت أنفاسهن ثم نظرت إلى سارية مرة أخرى بعد أن لمعت عيناها بشيء توصل له عقلها، فاقتربت برأسها منها هامسة بحذر :

- "كنتِ تعلمين بأمر هذا القانون، أليس كذلك سارية؟

صمتك أثناء حديث التاجر وعدم إبدائك أي رد فعل سوى البرود، وما فعلتيه عندما وجدتِ الجندي يجذب الفتاة بهذا الشكل.."

صمتت قليلًا تزوي بين حاجبيها قبل أن تتسع حدقتيها بسؤالها :

- "أهذا السبب لترك والدك المملكة والقدوم إلى القرية؟"

رفعت عينيها لها وظلت على صمتها تطالعها بهدوء ولم تبد استجابة لكن نظراتها كفيلة بالرد قبل أن تحثها على الحديث بهذه كتفيها لتغمض عينيها بقوة تتنفس بعمق قبل أن تقول :

- "لا أعلم عائشة السبب الحقيقي لترك والدي وطنه منذ عشرين عامًا، أي منذ وضع القانون!

لو كان القانون السبب كان أولى له أن يتركه عن اقتراب عمري من الثمانية عشرة..

على الرغم أنه أخبرني أن هذا هو السبب لكن قلبي يحدثني بشيء آخر"

اقتربت من النافذة تزيح الستار عنها تنظر للمساحة الخضراء الواسعة أمامها..

إلى نقطة لقاء السماء بالأرض تتأمل الشمس التي بدأت بالاختفاء بين الغيوم، تنتشر أشعتها كالخيوط المضيئة بألوانها البديعة تغطي السماء..

تختفي تدريجيًا حتى يبدأ الظلام بالحلول سامحة بساعات الليل وما تحمله من سكون ليأخذ الإنسان قسطًا كبيرًا من الراحة، داعية أن يقترب موعد سكون وراحة قلبها هي وأبيها قريبًا..

لتلتفت إلى عائشة بجانب جسدها هامسة بنبرة قلقة:

- "وقلبي لا يكذب أبدًا"

*******

"إرادتي هي ما تشكل حياتي.. سواء فشلت أو نجحت كلاهما من صنعي أنا

أنا القوة..!

أنا من أستطيع إزالة كل العقبات من أمامي!

وحدي مالك قدري!

فزت أم خسرت فالاختيار هو اختياري..

والمسؤولية هي مسؤوليتي"

همس لنفسه بذلك في مكان آخر يبعد أميالًا عن الشمال.. يرمق الجاثم على ركبتيه في ساحة القصر يحيط به جنديان من كل جانب في قمة رعبه وفزعه، مختلسًا بضعة نظرات إليه ليجده جالسًا على كرسيه الكبير يستند بذراعه على جانبه ويحك ذقنه بتمعن، ينظر إليه بطريقة جعلت جسد الرجل يرتعش من تلك النظرات الباردة والغامضة التي يرسلها إليه.

هيئته البرية بخصلاته الكثيفة المبللة ساقطة على جبهته العريضة، عينيه البنية التي يحتد لونهما عند الغضب، لحيته الخفيفة وكان قد تخلى عن عمامته وتاجه الملكي؛ ليظهر في صورة أخطر وأكثر شراسة.

يلعن نفسه، يسب شيطانه الذي وسوس له بخيانته.

سقط قلب الرجل في قدمه عندما وجده ينهض على قدميه ويتقدم نحوه بخطوات بطيئة، يده خلف ظهره والأخرى يمسد بها على لحيته ليقف أمامه وينحني لمستواه وقال بفحيح :

- "أخبرني ما عاقبة الخيانة مصطفى؟

بمَ أعاقبك وقد ذهبت تخبر أسراري لأعدائي؟"

انحنى مصطفى على يده محاولًا تقبيلها يهتف برجاء ولهفة:

- "أرجو عفوك مولاي!

أقسم أنه الشيطان من وسوس لي بفعل هذا"

جذبه من تلابيب ملابسه يهزه بعنف هاتفًا بقوة وقد استحال وجهه للشراسة، احتقن بدماء الغضب وعاثت في عينيه نظرات الشزر، يضغط على أسنانه بشدة :

- "الشيطان!

هل تراني غرّ أحمق مصطفى؟"

جذب جسده إليه يجابهه وهمس بفحيح شرس :

- "ومن بين الجميع لا تجد سوى كهرمان تعطيه أسراري!"

أنهى حديثه بدفعة قوية أسقطته أرضًا، فكاد الرجل أن ينحني مقبلًا يده برجاء هاتفًا :

- "أطمع في رحمتك مولاي.. أقسم لك أنها لن تتكرر"

وخلف كرسي الملك كان يقف "جاد" وزيره الأكبر والرجل الثاني بعده في الجيش يراقب ما يحدث في صمت يضم كفيه خلف ظهره.. يتذكر ما حدث بالأمس

****

واقفًا وسط الساحة يتابع التدريب اليومي للجنود

يمسك السيف بيد والأخرى يضعها في خصره متخذًا وضع الاستعداد أمام أحدهم.

يراقب توتره بأعين ضيقة

رعشة يده الممسكة بالسيف لا تكاد ترى لكن عينيه الصقرية التقطتها ببراعة ليرسم على ثغره ابتسامة صغيرة

يصعد بنظراته إلى عينيه المترددتين اللتين تراقبانه بخوف..

يبكي حظه العسر من وقوع الاختيار عليه ليجابهه القائد في التدريب!!

على الرغم من معرفتهم الجيدة به وبمعاملته الطيبة لكنه في تلك اللحظة لا يعرف للطف والطيبة سبيل..

نظراته المظلمة الجامدة يرتعد قلبه منها!

ثباته وقوته تجعل ضربات قلبه تصل لحلقه تخنقه!

جحظت عيناه للحظة عند بدء هجومه عليه فرفع سيفه يحاول صد ضرباته المتلاحقة قبل أن يسقط على الأرض بسبب دفعته له، ثم أمسك كفه الذي مدّه له ليقف وينضم إلى صفوف زملائه، وصوت قائدهم الأجش يرتفع للجمع المراقب يسير أمامهم :

- "لا تدع خصمك يلاحظ توترك، فهذه أول خطوة في طريق هزيمتك..

مهما كنت خائفًا، متوترًا فتماسك على قدر الإمكان، تحكم في رعشة يدك..

نظرة عينيك..

وثبات جسدك"

وقف يضم ذراعيه خلف ظهره يشد جسده لأعلى يدور برأسه على الجميع ثم أشار بسبابته كعلامة تحذير لهم :

- "في معركتك ضع كافة تركيزك على خصمك ولا تكترث لمن جانبك حتى تنال منه، بارز كأنكما في صحراء جرداء لا يوجد سواكما"

قاطع حديثه أحد الخدم أتى مهرولًا ينحني أمامه لاهثًا:

- "أيها الوزير.. جلالة الملك يأمر بحضورك في الحال في جناح مكتبه"

أومأ له وأمر الجنود بمتابعة التدريب حتى يعود وانطلق في طريقه نحو ملكه.

دلف إليه وجده جالسًا خلف مكتبه يمسك رسالة في يده لكن عينيه شاخصة في الفراغ، محتقنة بالدماء وعلى ملامحه علامات الغضب كأن مارد من الجحيم تلبسه في تلك اللحظات..

كأنه سافر إلى الصحراء بحثًا عن الزهور الجميلة فلم يجد غير الوحشة والغدر!!

انتبه إلى حضوره فمد الرسالة له دون كلمة فأخذها جاد يقرأها بدهشة تحولت إلى الجمود متنهدًا بعمق قائلًا من بين أسنانه :

- "إذًا فالخائن بالفعل هو مصطفى"

انتبه إلى صوته الأجش العميق بنبرة صاعدة من قعر الجحيم :

- "أريده أمامي يا جاد مكبلًا وسط الساحة في الصباح"

*****

عاد من ذاكرته يطالع ما يقدم ملكه على فعله بجمود..

وجده ينظر له بغموض قبل أن ينهض يستل السيف من الجندي الواقف بجانبه يشيح به قاطعًا رأسه في غفلة بقوة مرافقة لزئيره الغاضب، جعلتها تتأرجح على ساحة القصر عدة أمتار والدماء تتدفق من رقبته ليهوي جسده على الأرض.

نظر إلى جسده من علوه وصدره يعلو ويهبط بقوة من أنفاسه وهمس لنفسه بتقرير :

- "عقوبة الخيانة الموت.. لا رحمة لخائن"

وصله صوت أحد الحراس من خلفه بعد أن انحنى قليلًا احترامًا له :

- "مولاي.. الملك تقي الدين وصل إلى القصر بانتظارك في غرفته"

رفع وجهه لأعلى بشموخ وكبرياء يذكر نفسه جيدًا بفخر أنه..

"الملك إلياس بن تقي الدين.. حاكم الجنوب"

पढ़ना जारी रखें

आपको ये भी पसंदे आएँगी

11.8M 930K 70
صرت اهرول واباوع وراي شفت السيارة بدأت تستدير ناحيتي بمجرد ما يجي الضوء عليه انكشف أمامهم نجريت من ايدي وگعت على شخص ردت اصرخ سد حلگي حيل بعدها أجان...
36.9K 1.9K 103
سـلسـلة من عدة أجـزاء الجزء الأول { وجمع بيـنهم القـدر } حيـنما يـكون القـدر السبب فـى لقائـك بـه ، شخص أعتاد على حياه صاخبـه ، مدلله ، منعمه ، هل...
5.3M 154K 104
في قلب كلًا منا غرفه مغلقه نحاول عدم طرق بابها حتي لا نبكي ... نورهان العشري ✍️ في قبضة الأقدار ج١ بين غياهب الأقدار ج٢ أنشودة الأقدار ج٣
861K 25.3K 40
لقد كان بينهما إتفاق ، مجرد زواج على ورق و لهما حرية فعل ما يريدان ، و هو ما لم يتوانى في تنفيذه ، عاهرات متى أراد .. حفلات صاخبة ... سمعة سيئة و قلة...