أسيرة الظل 12 Salwa M

Start from the beginning
                                    

إعتلت الحمرة وجنتيها عندما أدركت أن الملك يخاطبها، و هي شاردة في وسامة ملامحه، و حاولت أن تركز في أسئلته لها.
" مممعذرة، يا مولاي، لم أسمع ما قلته.."
تبسم الملك و عاود سؤاله، " سألتك عن مظلمتك، يا امرأة."
"إحمم.. إن الوزير قد أرسل في جمع الضرائب لبيت المال، و محصول والدي لم يأتي بثماره هذا العام، فلم يتمكن من دفع الضريبة التي تزيد كل عام أضعافاً مضاعفة، لقد بعنا كل شيء نملكه، فلم يتبقى لنا سوى الكوخ الذي أصبح فارغاً من أساسه، و قطعة الأرض الصغيرة التي نملكها. كل النقود التي كانت بحوذتنا قمنا بدفعها، لكنها لم تكن كافية، فأمر الوزير بأن تُصادر قطعة الأرض لصالحه، و أن يُسجن أبي لعدم سداده المبلغ كاملاً. ليس والدي الوحيد الذي عانى من ذلك، ففي سجونك يا مولاي، العديد من الأبرياء.."

توقفت لأنها رأت السعير المشتعل في عينيه.. في قبضتيه القويتين.. في ملامح وجه التي صارت جامدة كتمثال حجري لمحارب على وشك بدء قتاله ضد العدو، لكنه لم يقل شيئاً.. فقط أدار عينيه لوزيره الذي حضر مهرولاً، يرتجف كفرع متدلي لشجرة صفصاف في مهب الريح. تحت قوة هذه النظرة، ركع الوزير يطلب الرحمة، فقد علم الأخير أن سُبات الأسد الجريح، الذي إنزوى* بعيداً عن أعين الناس ليلعق* جراحه، قد إنتهى. لا شفقة الآن به، لكن ذلك لم يمنعه من المحاولة.
"الرحمة يا مولاي!!"
"تطلب شيئاً منعته عن المساكين و الأبرياء! من ساندك في ذلك، يا وزيري العزيز؟"
"الأمير شمس الدين، و الأمير زُهير، و الأمير جمجوم، و مسئول بيت المال، و رئيس الحرس..."

كلما نطق اسماً، ركع صاحبه أمام الملك يطلب الرحمة، فنظر الملك لكاتبه الذي يسجل الأسماء في مكتوب، و طلب منه أن ينسخ منشوراً يوزع في أرجاء مملكته بحكمه بأن تُقطع فيه أيدي كل من ظلم العامة، و أن يجلد كل منهم مائة جلدة أمام أعين الناس و أسماعهم، أما الجلادون، فسيكونوا نفس الأبرياء الذين سجنوا باطلاً، و ستصادر أملاك كل السارقين لصالح الفقراء و المساكين، لتوزع بالقسط بينهم، و سيُفرج عن كل من سجن قهراً و ترد لهم أموالهم من بيت المال، و أن تخفض قيمة الضرائب لما كانت عليه سابقاً قبل تولي الوزير جمعها بالباطل."
" أما أنت، يا امرأة، فهل تقبلين الزواج بي؟ فمن لها مثل شجاعتك، هي خير امرأة تصلح لتكون ملكة لهذه البلاد.. أم أنك تخشين أن تصيبك اللعنة أنت أيضاً."
"بل أقبل حتى و إن أنجبت لك الشيطان نفسه."
تعجب كل منهما للكلمات التي خرجت من بين شفاههما، فقد أذهل نفسه لطلبه الزواج منها، و هي الأخرى تفاجأت بقبولها السريع دون تفكير، لكن ذلك لم يمنعهما من تبادل الإبتسامات.

و هكذا عاد العدل لمملكته، و منحه الله الزوجة الصالحة القوية، و كأرض خصبة أنبتت فور أن جرت بين حناياها المياة، حملت الملكة، لكن هذا الخبر كان مرعباً للملك الذي تعلق بزوجته حباً كان أشد قوة من حبه لزوجته الأولى. فقد كانت مرحة ذكية شجاعة حنوناً، لا تخشى مواجهته إذا قصر في حق رعيته، و لأنها كانت تعلم ما به دون أن تخرج كلمة من فمه، فقد فهمت ما يدور داخل عقله، لذا أخبرته يوماً:
" هاك قبلة على جبين زوجي الحبيب، كي لا يتجعد من العبوس* بسبب كثرة التفكير، و قبلة على وجنته كي يبتسم، و قبلة على كل كف له كي لا تتحطم عظام راحتيه من الإنقباض. دع الأمر لله، يا زوجي، و لا تخشى شيئاً، فزوجتك قوية كالثور."
"بل في رقة الفراشة، و رشاقة الغزال."
سخرت ضاحكة، " تقصد الفيل، أُنظر إلى حجم بطني! يا إلهي أشعر أنني أحمل طفلين و ليس طفلاً واحداً.. أظن أنني سألد مصارعاً. يا إلهي! لما تبكي الأن يا رجل؟!"
"أخشى أن أخسرك أنت أيضاً."
"ضع ثقتك بالله، و لا تخشى شيئاً، حتى و إن غادرت الدنيا، سأطاردك كشبح مرعب.. ههههههههههه!"
حاول الإبتسام لأجل خاطرها، لكن الخوف لازمهُ، و ظل يطارده حتى موعد الولادة. عندما سمع أنينها، و صراخها الذي صار عويلاً، لم يستطع المكوث في مكانه، ركب حصانه في الليل البهيم* مطارداً القمر الذي صار بدراً، فرأى فيه وجه ابنته. كانت الدموع تنهمر من عينيه، كطفل صغير ضعيف بلا حول و لا قوة. أوقف حصانه، و هبط متضرعاً* لله.
"ياااااا رب! إما أن تنزع محبتها من قلبي، و لا تجعلني متعلقاً بها، و إما تتركها معي في هذه الدنيا أو تقبض روحي قبلها. يااااا رب! أرضني بقضائك مهما كان يا أرحم الراحمين!"

ظل يبكي بشدة، إلى أن ألهمه الله السكينة، فعاود ركوب جواده، و رجع ببطئ إلى قصره. كان يؤخر الخُطا، كي يؤجل مواجهته لسوء ظنه، حينا وصل لباب غرفة زوجته، سمع بكاء الصغير. كل شيء يتكرر مرة أخرى.. كل شيء. إلا أنه فور دخوله، رأى زوجته باسمة على فراشها حاملة رضيعها تلقمه* ثديها. نظر للرضيع الذي لم يظهر منه شيء سوى شعره الأسود.. شعره الأسود!!! وثب على الفراش ينظر للصغير الحنطي* البشرة، ثم لزوجته التى ملأ الجزل عينيها الجميلة الواسعة الكثيفة الرموش، ثم تبادلا الضحكات و الدموع. أخذ يقبلها و الصغير حتى صاحت به زوجته ضاحكة:
"يا إلهي لم تقتلني الولادة و لا مخاضها، و لا حجم ولدك الضخم، و لكنك ستخنقني و إياه من كثرة الضحك و القبلات!"
"آسف عزيزتي! يا إلهي! الحمد لك يا الله! الحمد لك يا ربي! فلتقام الولائم و لتوزع العطايا على رعاياي إحتفالاً بمجيء بدر.. الأمير بدر."
"حسناً، يا زوجي الحبيب. فلنسمه بدراً."

و لأول مرة منذ زمن بعيد، يعاود السرور التغلغل لقلب الملك، الذي منحه الله فرصة ثانية ليلحق بركب السعادة، لكنه ظل محتفظاً بمكان في قلبه لزهرة مسكينة لم تعش طويلاً معه اسمها لُجين. لم يكن يدري أنها حية في مكان ما على هذه البسيطة*، و أنها كانت نائمة، و لأول مرة  في حلم، ترى والدها بوجهٍ باسم سعيد غير باكٍ.

*بتر: قطع
*أعناق: رقاب
*سبات: نوم
*تهاب: تخشى، تخاف بشدة
*رثة: مهترئة، بالية
*بطش: عنف، فتك
*إنزوى: إبتعد، نأى
*يلعق: يلحس بلسانه
*العبوس: التكشير
*متضرعاً: راجياً
*البهيم: المظلم، الحالك السواد
*الحنطي: له لون الحِنطة، و الحنطة هي القمح.. أي لون بشرته ليس بأشقر و لا بأسود
*البسيطة: الأرض

أسيرة الظلWhere stories live. Discover now