أسيرة الظل 4 Salwa M

4.2K 239 29
                                    

أسيرة الظلال
الفصل الرابع
تحول من ملك عادل محبوب من شعبه إلى طاغية متجبر. نظر في وجوه الناس بعد إنتهاء المحاكمة، التي كان فيها المدعي و القاضي و الجلاد، فرأى الرعب و الكراهية.. رأى الشفقة و الإحتقار.. رأى في عيونهم إنهيار تمثال من الإحترام، ليقام أخر من الرهبة. رأى بقلبه قبل عينيه.. سمع بعقله قبل أذنيه كل ما يدور في العيون و الأفواه.

لقد إختار طريقه و هو يعرف إلى أين تأخذه قدماه.. إختار ابنته الوحيدة. يعلم أن عقاب ذلك الصبي كان مبالغاً فيه، و طرد والديه و بيع تلك الأسرة لدور النخاسة* كان جرماً، و لكن الحشد الملتاع الغاضب لم يرى ابنته الضعيفة المكتوية بحر الشمس ككتلة صغيرة بلا حراك. ليس لها أحد في هذا العالم سواه، و لسوء حظها، و حسنه في ذات الوقت أنه كان ملكاً للبلاد. كان عليه تجاهلها في الماضي ليرضي شعبه، و لكن نفوذه منع الأخرين من الفتك بها حتى تلك اللحظة التي تُركت فيها وحدها. ترى هل سيراها ضاحكة عند عودته للقصر؟ هل ستعود تلك الباسمة اللامعة لعينيها المميزتين كسماء الشتاء الممطرة؟ كاد يبكي حسرة أمام الناس التي بدأت تغادر الميدان بعد أن استوعبت الدرس الذي لقنهم إيّاه مليكهم.

حين عاد للقصر، ذهب مباشرة لحجرة ابنته، فوجدها مازالت في غيبوبتها. أمسك بيديها الصغيرتين، و ظل يبكى في صمت حتى غلبه إرهاق اليوم و توتره العصبي، فأراح رأسه جوار ابنته، و نام، فرأى زوجته الراحلة في منامه تخاطبه...
" زوجي الحبيب.."
"مليكتي! كم إفتقدتك؟! ليتني مت معك!!! هاهي ابنتنا تكاد تلقاك و تتركني هي الأخرى.. لم أعد أستطيع الإستمرار! لا أعرف كيف أحمي ابنتي، و أرعى شعبي بما يرضي الله.. لقد فقدت العدل الذي أكرمني الله به، لأحكم رعيتي!! آآهٍ يا زوجتي من عقاب الله لحاكم تجبر على ضعيف لا حيلة له!!!"
" إمسح دموعك يا زوجي، فالبكاء لا يليق بالرجال. لم أعهدك ظالماً، و لا ضعيفاً.. لا تقسو على نفسك، لقد أخطأت حينما جعلت الأب فيك يحكم بسلطة المُلك، و لكن لا بأس... كل ما عليك فعله الأن هو تحرير الأسرة البائسة من نير* العبودية الذي أوثقته حول رقابهم، و لكن دون الرجوع عن كلمتك."
" و كيف هذا؟ لقد أمرت ببيعهم كعبيد و بطردهم خارج البلاد."
" و سينفذ قرارك، و لكن بحكمة العدل. إشتريهم بمالك الخاص من النخاسين، ثم أعتق رقابهم، و إعطهم قدر من المال، ليبحثوا في أرض الله عن مكان يأويهم بعد رحيلهم عن هذه البلاد، ولكن لا تتركهم يغادرون قبل أن تأمر بعلاج الصبي كي يستطيع السير مجدداً على قدميه. بهذه الطريقة، تكسب إحترام شعبك مرة ثانية، و في نفس الوقت تنل ما بغيته من تهديد صريح لكل من تسول له نفسه أذية ابنتنا."
" آه، لو كنت على قيد الحياة، لما حدث أي من هذا!"
" إنها إرادة الله يا زوجي الحبيب. أرح ضميرك المعذب.. لا تيأس فلكل معضلة حل بسيط.. فقط فكر بقلبك و عقلك معاً، و لا تحتكم للحظة غضب أو إنتقام."
" و ماذا عن لوجين؟ ماذا سأفعل بها؟"
" يجب أن ترسلها لتعيش وسط قوم يشبهونها، لن يقبلها الناس هنا أبداً.. ستظل أسيرة للظل في ظلمات القصر بعيدة عن البشر.. أرسلها لترى أناساً يماثلونها، فلا تشعر بغربة بينهم.. وداعاً يا مليكي و حبيبي و زوجي.. وداعاً..."
" إنتظري! لا تتركيني مجدداً!! حبيبتي!!!!"
إستيقظ الملك فجأة، ليجد عيني صغيرته تنظران إليه، و أصابعها تمسح وجنتيه من الدموع.
" لا تبكي يا أبي! أنا بخير الأن. سأظل أناديك بأبي حتى و إن كنت ابنة شيطان القمر، فأنا أحبك أنت."
ضمها لصدره، و قبل جبينها قائلاً..
" لا تستمعي لكل الحماقات التي قيلت لك أنت ابنتي أنا.. لا تصدقيهم! إنك نسخة من ملامحي و ملامح أمك، لا إختلاف بيننا سوى في ألواننا. لوجين حبيبتي.. هل تذكرين ذلك اليوم الذي سرنا فيه في الحديقة في ساعات الصباح الأولى قبل أن تطلع الشمس، حينما رأيتي الفراشة الملونة و فراشات العثة تطير حول أحد المشاعل و حاولت إنقاذ الفراشة الجميلة قبل العثة؟"
"نعم. لقد بدت جميلة جداً، كانت لا تقارن بجوار تلك الحشرات الأصغر حجماً، كانت ستموت، فأشفقت عليها، لذا أمسكت بها و أطلقت سراحها بعيداً عن النيران، كي تعيش."
" حسناً.. يا حبيبة قلبي! دعينا نتخيل أنك أنت الفراشة، و أنني كنت في مكانك، و أن النيران هي الإشاعات التي يطلقها الأخرون عليكِ- تلك الحماقات التي سمعتها من ذاك الفتى- هل يمكنني أن أطلق سراحك أنت الأخرى بعيداً عن هذه النيران؟"
لعدة لحظات كانت دقات قلبه تكاد تتوقف، لكن نظرة ابنته الذكية، أثلجت صدره.. عينيها الدامعتين، و بسمتها المتناقضة مع عبراتها المنسكبة، جعلته يدرك أنها فهمت ما يعنيه.
" أعلم يا أبي أنك تحبني، و أعلم أن الناس هنا لن ينسوا أنني ابنة شيطان يعيش في القمر، و أنك ملعون، و أن أمي قد ماتت بسببي.. كنت أتمنى أن أعيش بقربك طيلة حياتي، لكن إن ظللت هنا فسيصيبني الأذى، أليس هذا ما أردت أن تفهمني إياه؟"
" ابنتي ليست جميلة فقط، بل نبيهة و ذكية.. بلى يا فخر أبيك! هذا بالضبط ما أردت قوله. و الآن دعينا نفتح الكتب و نرى إلى أي مكان يمكنك الذهاب."
" و لكن يا أبي، ماذا سأفعل حين أشتاق لرؤيتك؟"
"لما لا ننظر للقمر كل منتصف شهر، حين يصير بدراً؟ و نبتسم سخرية من أباك المزعوم الذي يعيش فيه، لنمسح عبرة الإشتياق. سأزورك مرة في كل عام مهما بَعُد المكان، إتفقنا؟"
"إتفقنا."
" و الآن لنذهب، لنبحث في الكتب عن مكان يليق بأميرتي الصغيرة، كي لا تشعر بالغربة فيه."
"هيا بنا."

حين كانت تبحث في الكتب مع والدها، ظلت تنظر لملامحه الحبيبة. كانت تود لو تصرخ باكية، و ترجوه ألا يبعدها، لكنها حافظت على إبتسامتها، فلا داعي لتزيد حزنه. تعلم أنه يتألم مثلها، و يدعي الفرح لقرارها كي لا يزيد تعاستها. لقد نضجت بعد حادثة الحديقة.. تلك الخرافات التي سمعتها كانت تصيب براءة طفولتها كحراب الصيد، كأسنان غول نهم نهش أوهام صباها، ليظهر الواقع عارٍ أمام عينيها.. نظرات القسوة و الإشمئزاز و الرهبة التي كانت لا تفهمها، صارت منطقية الأن. لا حيلة لها سوى أن تريح أبيها من ثقل كاهل مسئولية كونه والدها و ملك البلاد في نفس الوقت. إن كان في بُعدها عنه راحة له من هذا العبء، فستبتعد.

" أنظري حبيبتي! إن هؤلاء القوم في الصورة المرسومة يشبهونك. ما اسم هذا البلد.. هممم آه ها هو! أسبانيا. إنها قريبة جداً من بلادنا،لا يفصل بيننا و بينهم سوى بضعة أميال في الصحراء و مضيق البحر. يمكنني أن أزورك بسهولة و أعود دون أن أتغيب عن البلاد لمدة طويلة. إن هذا الكتاب رائع. لقد أشتريته من رحالة جاء لبلادنا. حين كنت في الثامنة عشر، كنت أحلم أن أجوب العالم و أعيش حياة المغامرة، لكن والدي توفى، و أمسكت زمام الحكم، و ضاعت فرصة تحقيق الحلم، لكن يبدو أنك يا صغيرتي ستساعديني في تنفيذه."
" إن شعري فضي كساحرة عجوز يا أبي! و بشرتي أفتح من رمال الصحراء.. لا أشبه أحداً، و لكنها بلاد قريبة من ملكك، و هذه ميزة جيدة، فلتكن إرادة الله، سأسافر إليها."
" بل شعرك كحرير نُسِج من شعاع القمر، و بشرتك كماء الصباح الرقراق*، و عيناك كسماء الشتاء بعد بكاء الركام*.. أنت جميلة يا ابنتي، لكن شعبي لم يراك سوى بعيون الخرافة."

إحتضنها طويلاً.. و بكى.. بكى لضعفه رغم قوة سلطته.. بكى لأنه الأب و الملك.. بكى لأنه سيصبح وحيداً جداً بدونها.. بكى لأن شعوراً خفياً بداخله أنبأه بأنه سيفقدها إن سافرت و سيفقدها إن ظلت معه، لكن ما بيده حيلة، لن يتحمل إن تعرضت مرة أخرى لعنف كراهية شعبه لها.

تناول الملك إفطاره مع ابنته، و تناوبا تذكر المواقف المضحكة و المغامرات التي مرا بها سوياً. في الظهيرة، بدأ في تنفيذ الرؤيا التى حلم بها، فأمر بعلاج الصبي، بعد أن دفع ثمنه و ثمن والديه للنخاس، ثم أعتقهم. و أمر بإرسال رسالة لملك أسبانيا يرجوه فيها، برعاية ابنته التي أعد العدة لسفرها محملة بالعطايا و الهدايا و الأموال في رحلتها بالسفينة إلى موطنها الجديد.

* النير: (اسم)
الجمع : أَنْيَارٌ ، نِيرَانٌ
النِّيرُ : الخشبةُ المعترضةُ فوق عُنق الثَّوْر أَو عنقَي الثَّوْرَيْن المقرونين ، لجرِّ المحراث أَو غيره
النِّيرُ : عبوديَّة ، إكراه مادّيّ أو أدبيّ يرهق إنسانًا ويستبدّ به نير المستعمرين والمتسلِّطين ،
نير الظُّلم : قيوده
حَرْبٌ ذات نِيرين : شديدة ،
نِيرُ الطَّرِيقِ : جَانِبُهُ
* النخاسة
النِّخاسَةُ :حِرفة النخّاس ، وهو بائع الرّقيق والدواب
* الرقراق
الرَّقْرَاقُ : الرُّقَارِقُ .
و الرَّقْرَاقُ من الأَشياءِ : ما يتلأْلأُ .
و الرَّقْرَاقُ من الدَّمْع : ما ترقرق منه .
و الرَّقْرَاقُ من السَّحَاب .
ما ذهب منه وجاءَ .
و الرَّقْرَاقُ من السراب : ما تلأْلأَ واضطرب ، وهي رقراقةٌ .
يقال : جاريةٌ رَقْرَاقَةٌ : كأنَّ الماءَ يجري في وجهها .
ورقراقة البشرة : بَرَّاقَةُ البياض .
المعجم: المعجم الوسيط

* الركام
الرُّكامُ : ما اجْتَمَعَ من الأشياء وتراكَمَ بعْضُهُ فوق بعض .
يقال : رُكامُ من رمل ، وركام من سَحَاب .
وفي التنزيل العزيز : النور آية 43 ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَه ثُمَّ يَجعَلُهُ رُكَامًا ) ) .
وقطِيعٌ رُكامٌ : ضَخْمٌ .
المعجم: المعجم الوسيط

أسيرة الظلWhere stories live. Discover now