أسيرة الظل9 SalwaM

Start from the beginning
                                    

لم يتمكن رودريجو من الرد، فقد أتبع فيليبو كلامه بلكمة قوية في وجه الفتى، مما أفقده الوعي. حينما أفاق وجد نفسه على الأرض. نهض، و هو يلعن قائده، و اليوم الذي قابله فيه، و لكن رائحة الطعام الشهي حركت أمعاءه، التي بدأت تطلق أصوات الجوع إحتجاجاً، *فدلف لغرفة الطعام، كي يتناول فطوره مع الأخرين، لكن فور دخوله للغرفة، صمت الجميع للحظة، ثم إنطلقت الضحكات الصاخبة لمرآه.
"ماذا بكم، أيها الحمقى؟!!"
صاحت لُجين التى كانت تضحك معهم، "أنظر لوجهك في المرآة! ههههههه! يا إلهي! حتى مهرج والدي لم يحظى بمثل هذا الوجه المضحك! هههههههه!"

نظر الفتى لوجهه في المرآة، و أخذ يكيل اللعنات لفيليبو بصوت عالي، فأخبره الأخير أن يتوقف، و إلا سيجعل عينه الثانية تتماشى مع منظر عينه المصابة. كان وجه الفتى منتفخاً من اللطمات التي ذاق وبالها على يد فيليبو، و عينه اليسرى تحيطها حالة زرقاء داكنة في طريقها للتحول للون الأسود، و شعره أشعث، و كأن دوامات الأعاصير قد أطاحت بخصلاته في كل إتجاه. كان يبدو كجرو بائس، و أوشك على البكاء من منظره، لكن جوليا الحنون إصطحبته للمطبخ و أعطته كمية لا بأس بها من النقانق، و البيض المقلي، و العصير، و أخرجت له خبزاً طازجاً ساخنا من الموقد، مما ساهم في تحسين مزاجه قليلاً.

بعد أن إنتهى الجميع من تناول الفطور، بدأ الإستعداد للرحيل، كانت جوليا تبكي، و هي تودع حبيبها فيليبو، الذي ضمها لصدره بحنو شديد، ثم قبلها، و غادر بعد أن ألقى نظرة نحو لُجين، و هو يخبرها بأن تطع جوليا، و تتوقف عن كونها بغلة عنيدة، فما كان من الفتاة إلا أن أخرجت لسانها له في تحدي طفولي، مما دفعه للضحك و هو يدير ظهره لهم ملوحاً بيده مودعاً. أما رودريجو فقد إحتضن جوليا من الخلف و قبل كتفها، شاكراً إياها على إعتنائها به، فداعبت المرأة خصلات شعره الأشعث، و قبلت عينه المصابة، بعد أن إستدارت لتحضنه كأم له. نظر رودريجو للُجين مبتسماً، فأدارت وجهها بعيداً بإستعلاء، فما كان منه إلا أن إستدار، و أكمل طريقه بلا إكتراث، مما جعلها تستشيط غضباً، و لكن لماذا؟ هل توقعت أن يحتضنها هي الأخرى؟!

تعجبت من أفكارها المجنونة، لكن صوت جوليا الحنون، أعاد نظرة عينيها لوجه المرأة. ترى كيف سيتواصلان الآن؟ فلا جوليا تعرف لغتها، و هي لا تعرف لغة جوليا. إن كل ما استطاعت تعلمه هو بعض اللعنات التي يطلقها الغجر و القراصنة. تنهدت في حيرة، لكن جوليا كانت امرأة ذكية، فأخذت تردد كلمات تصحبها بإشارة من يديها أو جسدها، ككلمة تعالي، و أجلسي، و هاهي الفرشاة، و لنمشط شعرك، و جميل.. إلخ.

في خلال أسابيع قليلة، كانت النبيهة الذكية لُجين تستطيع تدبر أمرها، فقد تعلمت كلمات عديدة تمكنها من التفاهم مع جوليا، و فتيات الغجر اللاتي كانت تصادفهن أثناء سيرها كل صباح باكر مع جوليا لجمع بعض الفاكهة البرية، و الأعشاب الجبلية قبل إشتداد حرارة الشمس. شيئاً فشيئاً بدأت تتقن اللغات و اللهجات، و تصادق فتيات كثيرات من الغجر. كانت جوليا تصحبها في بعض الأمسيات لمخيم الغجر، فتعلمت منهم الرقص على طريقتهم الجذابة المغوية، و تعلمت عزف الجيتار و الكثير من الأغاني الأسبانية، و بعض الأغاني الفرنسية من جوليا في أمسيات الشتاء الباردة، و هم جالسون أمام المدفئة أثناء تمشيط جوليا لشعر لٰجين الفضي الطويل. لقد توطدت أواصر المحبة بينهما، فصارا كأم و ابنتها.

أصبحت لُجين الآن فتاة جميلة في العاشرة من عمرها. ذات مساء، تبادلت هي و جوليا قصة حياتهما، و علمت جوليا حقيقة ما حدث للفتاة، و بدأت هي الأخرى تحكي حكايتها:
" كنت فتاة صغيرة لأسرة ميسورة الحال، لكن أبي الذي كان تاجراً، قد خسر معظم ثروته إثر غرق سفنه المحملة بالبضائع في إحدى العواصف البحرية. لم يتحمل أبي الصدمة، و مات فور أن علم بخسارته، و كنت ابنته الوحيدة، و لم أعد أملك دوطة* أهديها لمن كان سيصبح زوجي.. شاب من أسرة مرموقة كنت قد وعدت له منذ ميلادي. الدائنون صاروا كابوساً يؤرق ليل و نهار حياتي و حياة أمي، فقد تحولت أصوات طرقاتهم على الأبواب كصوت قذائف مدافع ضخمة في أسماعنا، لذا وافقت والدتي على زواجي برجل فرنسي من أصول إسبانية، بعد سنتين من زواجي، توفت والدتي، و قرر زوجي بيع منزله الصغير في بلدة 'سان جان دو لوز' الهادئة، و التي تقع جنوب غرب فرنسا وبالقرب من الحدود الإسبانية، وتملك تلك البلدة القديمة الكثير من السحر والجمال من خلال البيوت القديمة المزركشة والمطلّة على البحر، وترسو قوارب الصيد على المرفأ الهادئ،  لنرتحل بعدها إلى هنا، إلى جبال البرانس، التي تشبه زوجي الراحل، فهي شامخة لا تعرف إن كانت فرنسية أم إسبانية.  بنى زوجي هذا البيت بيديه، كان يعشق هذه الأرض كثيراً، و كم تمنى لو أنجبت له ولداً يزرعها معه، لكن إرادة الله شاءت أن أكون امراة عقيم.

بعد فترة من العمل وحده في العراء، أصابه مرض شديد فتك بصحته، فتحول من رجل قوي، لهيكل بائس، ثم جثة تخلو من الحياة، و تركني وحدي في هذه الدنيا، حزنت كثيراً عليه، لم أقع في حبه، لكني إعتدت وجوده، كان زوجاً محب و مخلص. ظللت بعدها لسنوات وحيدة، لم أجد سلوى سوى في زيارات الغجر لأرضي، إلى أن قابلت فيليبو، و لكن هذه قصة أخرى سأحكيها لك في الغد. هيا إلى النوم الأن يا حبيبتي."

فكرت لُجين فيما حدث لجوليا، و تعلمت ليلتها، أن المآسي لم تكن من نصيبها وحدها، و أن هناك آخرون قد مروا بظروف أقسى و أصعب مما واجهت، أغمضت عينيها، و رأت وجه والدها كعادتها في أحلامها.. كم تشتاق إليه؟!

*الدُّوطَةُ ( عند الفرنجة ) : المال الذي تدفعه العروس إلى عروسها (المعجم الوسيط)
*دلف: دخل
*بتول: عذراء

أسيرة الظلWhere stories live. Discover now