31

3 3 0
                                    

انتهت (أمل) من صياغة الترَدُّدَات اللازمة للتشويش على ترددات الصولجان وأعطتها لـ(مروان) و(زياد) اللَّذَان صاغَا برنامجًا للبحث في قاعدة البيانات الموجودة على حاسوب (زياد) يُمَكِّنهما من توفيق بعض الرموز معًا قادرة على إصدار الترددات المطلوبة.
كان البرنامج قائمًا على نظرية الاحتمالات والتبادل والتوافق مما يعني أنه سيستغرق وقتًا طويلًا للعمل، فاتفق (حمزة) معهما أن يقوما بالاستعداد لحضور الحفل وتَرْكِ البرنامج يقوم بعمَلِهِ طالما أنه يعمل بشكلٍ تلقائيٍّ، وقام بوضع حارِسَين على الغرفة وقام بتحصينها بشكلٍ مشدَّد حتى لا يقوم أحد بالتسلل إليها.
ارتدى الصديقان الثوبان اللذان أحضرهما (حمزة) وعرَجَا على غرفة (أمل) ليصطحباها معهما فخرجت وهي ترتدي فستانًا مُذَيَّلًا من المخملِ زهري اللَّون ومطرَّزًا برسومات فضِيِّةٍ بارزة ومرصَّعًا بأحجار صغيرة لامعة وغطاءً للرأس بنفس لون الفستان، وما إن رءاها (زياد) حتى أطلق صافرة إعجاب جعلت وجه (أمل) يحمَّر خجلًا، فقال:
- ما شاء الله الفستان رائع.
قالت (أمل) بلهجة دفاعية:
- دي (نائلة) والله هِيَّ جابت خياطَّة أخذت مقاساتي وفصَّلِته مخصوص للحفلة النهاردة.
قال (مروان):
- طيب يلَّا يا جدعان بقى، (حمزة) هيوَلَّع فينا لو اتأخرنا.
قال (زياد) في دهشة:
- وانت من إمتى بيهمك (حمزة) عاوز إيه؟ ده انت بتشوف هوَّ عاوز إيه وتعمل عكسه.
- يا عم عاوزين نلحق الحفلة من أولها، بيقول لك في وليمة.
- أيوه كده ارجع لطبيعتك.
انطلق ثلاثتهم حتى وصلوا لباب القاعة الرئيسية واستقبلهم أحد الحرَّاس قائلًا في احترام شديد:
- أرجو منكم أيها السادة أن ترافقوني إلى أماكنكم.
تبِعَهُ الأصدقاء الثلاثة عبر القاعة التي تراصَّت فيها المقاعد على هيئة مجموعتين متقابلتين بطول القاعة، وبجوار كرسي الملك كان هناك عشرة من المقاعد الفارهة موزعة بالتساوي عن يمينه ويساره ويشغل سبعة من هذه المقاعد أشكال مختلفة من الجن، فأحدهم كان أرجواني اللون ذو شعرٍ أسودٍ حالكٍ وناعمٍ بشدة كـ(تابان)، وآخر ذو لون أخضر ناضر ووجهه يحمل ملامح الثعابين، وآخر ذو جناحين يظهران من خلفه على الرغم من أنهما مضمومين، وآخر أسود اللون وضخم بشدة يفوق حجمه باقي الموجودين من الجن وله قرنان أبيضا اللون صغيرانِ للغاية، وآخر ذو بشرة بيضاء مقاربة للبشر إلى حد كبير ولكنه شاحب اللون بشدة وله وجه طويل بشكل ملحوظ مع قرنان فضيان يلمعان بشدة تحت الأضواء، والسادس كان (آزريل)، أما السابع فقد كان (حمزة) والذي كان يجلس على مقعد بجوار كرسي الملك مباشرة، وكان يحدِّق فيهم بغضب واضح وكأنه يريد أن يصيح بهم: لماذا تأخرتم أيها الحمقى؟
قادهم الحارسُ إلى المقاعد الثلاثة الفارغة في هذا الصف، والذي بدا أنهم ضيوف شرف للحفل من العشائر الأخرى، فجلسوا مسرعين قبل أن يتمكَّن (حمزة) من التعبير عن غضبه. وجلسوا ينظرون إلى المقاعد المتراصَّة في القاعة والتي جلس عليها شخصيات مختلفة من عشيرة (حمزة) يبدو أنهم كبراؤها وقليل من أفراد العشائر الأخرى الذين لا يتعدَّى عدَدُهُم أصابع اليد الواحدة، وقد كان الكثير منهم ينظر إليهم بغضب باعتبارِهِم دخلاء على هذا الحفل الهام.
قال (مروان) هامسًا:
- أنا حاسس إنهم عاوزين يعلَّقونا، ضيوف شرف إيه بس!!
- عيب عليك يا (مروان)، يعلَّقونا إيه؟ همَّ بس يحاولوا كده وهاخد (أمل) وأطلع أجري وهنسيبك انت يعلقوك لوحدك.
ابتسمت (أمل) وقالت هامسة هي الأخرى:
- ونِعمَ الأصدقاء.
فُتِح الباب الرئيسي للقاعة ودَخَلَ مِنهُ حارسين بسرعة ووقَفَا على جانبي الباب ودخل وراءهما الملك (عدنان) وسار بخطىً واسعة تجاه كرسيِّهِ وجلس عليه وتفقد بنظرِهِ الموجودين بالقاعة وقال بصوت عالٍ:
- بسم الله، في البداية أوَدُّ أن أرحِّب بضيوفِنا الكرام زعماء عشائر الجان الحاضرين، وبالسادة أفراد عشيرتي الغالية الذين شرَّفونا اليوم في يوم مبايعة ولدي الحبيب الفارس الحكيم (حمزة بن عدنان) ولي عهد عشيرة (بني كهيال).
همس له (حمزة) بعبارة لم يسمعها أحد فبدا وكأنه تذَكَّر شيئًا ما والتفت إلى الأصدقاء الثلاثة وقال:
- وبالطبع أرحب بضيوفنا فوق العادة من عالم الإنس الذين بذلوا الكثير من وقتهم وجهدهم حتى استطعنا امتلاك وسيلةً تضعنا على أرضية صلبة في موَاجَهَةِ الشيطان الذي يسعى للاستيلاء على أرضنا.
اسْتَرسَلَ الملكُ في الترحيبِ بضيوفِهِ والثَّناءِ على ابنِهِ وحِكْمَتِهِ التي حافَظَت على الصندوق آمنًا حتى حان وقت فتحه، حتى خَتَمَ كلامَهُ قائلَا:
- والآن فلنبدأ الترحيب بالضيوف.
وما إن انتهى من عبارتِهِ حتى فُتح باب القاعة ودخل منه مجموعة من الرجال المدَرَّعين يحمِلُون سيوفًا ضخمة ويركُضُون تجاه الملك، ما أشْعَرَ الأصدقاء الثلاثة بعدم الاطمئنان، إلا أنهم توقَّفُوا على بعد مترين تقريبًا من كرسي الملك في صَفَّيْنِ متقابلين، وضَرَبَ كلُّ واحدٍ منهم درعه بدرع الآخر وبدؤوا يؤدون حركاتٍ قتاليةٍ استعراضيةٍ على إيقاعِ الدُّفوف فقال (زياد):
- يا خبر، ده أنا قلبي وقع، دول طلعوا بيرقصوا.
قالت (أمل):
- بصراحة أنا خُفْت أنا كمان.
- واضح إن كده خلاص، دورنا خلص وملناش لازمة دلوقتي، ماتيجي نقوم نشم هوا، هتيجي يا (مروان)؟
كان (مروان) مندمجًا للغاية في متابعة الاستِعرَاض شبه القتالي الذي يؤديه رجال الجنِّ ويبدو عليه أنه مستمتعٌ به للغَايَةِ فقال:
-لا رُوحوا انتم.
تركاه وذهبا إلى شرفةٍ متصلةٍ بالقاعة مُطِلَّةٌ على أحد أبواب القصر الخلفية وجلسا يتابعان من خلالها فقرات الحفل.
خيَّمَ الصمت عليهِمَا لحظات قطعتهُ (أمل) قائلَة:
- انت واثق من (حمزة) ده؟ أنا حاسَّة إنه من النوع الغامض جدًا وفي وراه مصايب كتيرة.
- بصراحة الأول مكنتش واثق فيه نهائِي، بس مؤخَّرًا بدأت أفهم دِمَاغه إلى حد ما، لو قعدتي معاه بعيد عن الصولجان والطلاسم والكلام ده هتحسِّي إنه طيب جدًا، والغريب إنه فعلًا بيخاف عليَّ جدًا ودايمًا يقول لي إني مهم عنده جدًّا بس مبيوضَّحش السَّبَب، ويا سلام بقى لما يكلمك عن (دُرَّة).
- مين (دُرَّة)؟
- دي الجنية اللي بيحبها؟
- وااو، بيحبها، همَّ عندهم بردو بيحبوا ويغرموا زينا؟
- أنا بردو كنت مستغرب جدًا لما لقيته بيتكلم كده، تحسِّي إن الكلام مش متوافق نهائي مع الشكل، بس طبعًا مقدرتش أقولُّه كده، انتي عارفة؟ (دُرَّة) دي كانت خطيبته، بنت الوزير (زوردان) اللي ابنه خطفني علشان يحرَّر أبوه، رغم إنه انفصل عنها بمجرد إعلان خيانة أبوها، وده كان من أكتر من خمسين سنة، إلا إنه حتى الآن مُغرَم بيها ومحتفظ بخاتم خطوبته بيها، ومرضيش يتجوِّز على أمل إن الظروف تسمح في يوم من الأيام إنه يرجعلها.
نظرت إليه بدهشة وقالت: خمسين سنة، هو عنده كام سنة بالظبط؟
- أكتر من 130، هو دايما يقولي "مايزيد عن المائة وثلاثين عامًا".
قالها مقلِّدًا طريقة (حمزة) ولهجته فضحكت (أمل) وقالت:
- غريب أوي إني أعرف قصة حب زي دي في عالم قاسي جدًا زي ده!
- الأجواء الغريبة دي ممكن تخلق مشاعر غريبة تحسِّي إنها مش في وقتها.
وصمت للحظات ثم حَسَمَ أمرَهُ وقال:
- يعني مثلًا لما ييجي واحد زي حالاتي كده، في عالم مختلف عن العالم بتاعنا، وجت معاه عن طريق الخطأ واحدة جميلة ومحترمة وذكية وكمان شجاعة جدًا، بَدَل ما يحاول يركز إنه يرجعها بالسلامة، كل اللي بيفكر فيه إنه يطلب منها رقم تليفون والدها.
ابتسمت في خجل ونظرت تجاه الحفل وقالت:
- مهو ممكن يرجَّعها بالسلامة وبعد كده يكلم والدها.
قال في حماس:
- يعني أنا ممكن أطلب منك رقم تليفون الحاج، ولا الموضوع ده هيبقى غريب دلوقتي؟
تغيرت نظرات (أمل) وقالت:
- الموضوع ده غريب جدًا.
فقد (زياد) حماسَهُ وبدت علامات الصَدمَة على وجهه لهذا التحوُّل المفاجئ فتابعت (أمل) بسرعة وقالت:
- لا لا، مش كده، أقصد اللي بيحصل ده غريب، في تحركات مريبة وسط الحراس حاسَّة إنها غريبة ومش طبيعية.
بدأ (زياد) يلاحظ تلك التحركات السريعة وسط الحراس وما يحدث من استبدالٍ لبعضهم، وأخذ يتابعُ أحدَاثَ الحَفلِ، كان أحد الحضور قد انتهى من مبايعة (حمزة) وقبَّل يده في احترام وعاد إلى مكانه.
ثم نهض (آزريل) من مكانه ووقف أمام كرسي الملك ووقف بلا حراك فقال الملك (عدنان) في دهشَةٍ:
- ماذا هناك يا (آزريل)، ألن تبايع ابن أخيك؟
أجاب (آزريل) بطريقة مسرحية:
- وهل يمكن أن أبايِعَ خائنًا يا سيدي.
قال الملك بصوتٍ هادِر وسَط الهمهمات المتعالية في القاعة:
- يجب أن عليك أن تمَرِّر ما يخرج من فمك على عقلك أولًا يا (آزريل).
- أنا أدرك يا سيدي ما أقوله جيدًا، السيد (حمزة) قام بخيانةٍ كبيرةٍ بحق عشيرتنا وبحق جميع عشائر الجان.
- لا تختَبِر صبري يا (آزريل)، لن أدعك تتهم وَلِيَّ العهدِ هكذا بلا دليل.
- ومن قال إنني لا أملك دليلًا.
علت الهمهمات أكثر وسط نظرات متسائلة من الجميع فتابع:
- لقد قام السيد (حمزة) ولي العهد المنتظر بالتعاون مع (يورقان) ابن الوزير الخائن (زوردان) وسهَّل له خطف ضيفك البشري ليضغط علينا لتحرير والدَهُ الخائن، وهذا يضعنا أمام سؤال خطير: لماذا يسعى ولي العهد لإطلاق سراح الوزير الذي قام بخيانة ملكه وتعاون مع الشيطان (شيمزاكيل) الذي يُمَثِّل تهديدًا مباشرًا على عشيرتِنا بل وعلى جميع عشائر الجن على الإطلاق.
كان (حمزة) يجلس بهدوء غريب في ظل افتضاح السر الذي حرصَ على إخفاءِهِ أكثر من خمسين عامًا، ويتابع الملك وهو يقول:
- لازلت تهْذِي بكلامٍ مُرسَلٍ يا (آزريل) يعزِّز من إدعاءات (حمزة) التي لم أكن أصدقها من قبل بأنك تحاول تدميره وإزاحته عن طريقِكَ.
قال (آزريل): ليس كلامًا مرسلًا يا سيدي فلدَيَّ الدليل، فلقد ساورت الشكوك السيد (مروان) صديق السيد (زياد) وقام بتَتَبُّعِ ولي العهد عند لقائه بـ(يورقان) وقام بتصويره بهاتفه الذي حرص (حمزة) على صُنِع مصدر طاقة مناسبًا له في سِرِيَّةٍ تامَّةٍ بدون علم أحد حتى جلالة الملك نفسه، والسيد (مروان) تعهَّد بإطلاعِ جلالتِك عليه في حال ضمان إعادته وأصدقائه سالمين إلى عالمهم.
نظر (زياد) إلى صديقه وقال في جزع:
- يا نهار أبيض، إيه اللي عملته ده يا (مروان).
وحاول أن يصل إلى صديقه ليمنعه من إفساد كل ما خطَّطُوا له إلا أن الحرَّاس قامُوا بمنعِه.
نظر الملك إلى ابنه الذي لم يحرك ساكنًا بل ظَلَّ ينظر إلى (آزريل) في غضب فالتفت إلى (مروان) وقال:
- هل لديك هذا الدليل بالفعل؟
نهض (مروان) وسَلَّم هاتفه إلى الملك وقام بتشغيل المقطع المُصَوَّر له وظل الملك يحدق في الهاتف في غضب لعدة دقائق، ثم أشار إلى (آزريل) وصاح في الحراس:
- ألقوا القبض على هذا الرجل.

ميثاقWhere stories live. Discover now