الفصل الثالث: وطأةُ الفراق

47 8 16
                                    

«يكون الميت على قيد الحياة كما يكون الحي على قيد الموت، الفرق بينها ككلمةٍ لم تُقل.»

على سريرهِ المُبعثر استقرت ضحى على جانبها الأيمن وعليها غطاءٌ خفيف كما تركها إسلام حينَ حملها من السيّارة، وعلى الكرسي أغراضها التي لم تفتح بعد.

في زاوية الغرفة وباتجاهٍ أزورَ كان يصلي العصرَ، أحدٌ مزدحمٌ بصلواتٍ متأخرة، الغرفة المستترة بستائرَ داكنة لم تعد ترى نورًا من الخارج أبدًا؛ وهذا يعني أنَّ المؤذن بدأ العد التنازلي ليؤذن للمغرب.

قام إسلام بإنارة مصابيح الصالة فتسلل إلى الغرفة ضوءٌ يكفي للإبصار، جلسَ على السرير ينظر إلى ضحى ذات الوجه البدري، ثم ترددت ذكرياتٌ لم تبرح ذهنه منذ أصبح.. سلمٌ طويلٌ لا يؤتمن، على جدارٍ طويلٍ عريض، صار فوقه بعدَ أن تسلّقَ راميًا بسهمهِ لعله يصيب، فإن لم يصب لن يضيع السهم، السقوط لن يقتله، كان ينتظر الرفاق حينَ سمعَ نباحًا بعيدًا، سقطَ قلبهُ قبلهُ ثم تبعه فقفز من ارتفاع أربعةِ أمتارٍ، لم ينتظر تمرير السلم أو وصولَ أحدٍ آخر، الذين صعدو قبلهُ ليسوا أهلًا للقفز من هذا الارتفاع لسنهم أو ارتباطهم لذا لم ينظر إليهم حتى، هربَ من نباحٍ قد يكونُ إنذارًا، لحقه عددٌ منهم وعددٌ انتظرَ دونَ الصعود، المهرِّب وَعدهم بالعودة ولحقَ المتسرعين، وعندَ الجدار الذي تسلقه وقفت الكلاب تنبح، ثم شمت الأرض في طريقها إليهم، والركض لم يكن يبدو كافيًا لنجاتهم فلم يكن الجميع سريعين ولم يكن دافعهم الهرب من حياتهم نفسها بل من المكان.

الحياة حوله لم تعد كالمعهود وباتت موحشة، انهارت مرة واحدة وأصبح العيش بين الركام أمرٌ لا يحتمل، كان عيشه في بيته وحيدًا كالعيش في قبرٍ، مدفونًا بعدَ الموت، كأنه هو الذي مات لا هم، فهو الذي نُبذ وحيدًا، بينما غادروا هم متفقين على اللقاء في الجانب الآخر.

تخيَّلَ أنه إن لم يصل سيُرمى في الجهة الأخرى مجددًا ليعود إلى بيته مجرجِرًا خيبات الفشل، فتقلصت خياراته إلى خيارٍ واحد وهو النجاة، ومع التواء كاحله، وتشقق راحتيه التي هبطَ بجذعه عليهما، استطاع أن ينجو، الجميعُ نجى في النهاية لكنه كان سينجو رغمَ كل شيء، حتى لو لم يجدوا صاحب السيَّارة بانتظارهم كما كان الاتفاق.

شعرَ بضيقٍ واختناق وانتابه الدوار، نظر إلى وجهها المرهق وتساءل كيف مرت هي بهذه الأحداث؟

نهضَ نافضًا الغمَّ عن نفسهِ وانشغلَ بالكنس والتنظيف؛ أحّدٌ له وأحّدٌ عليه وهذا الأحّد كانَ عليه بكلِ ثقله.

عندَ الثامنة وبينما كان يقلّب في هاتفهِ خرجَ عمرُ من غرفته يتمطى، ارتمى جالسًا على الأريكة وسأله: «بماذا فكرت من أجل الغد، هل ستتركها عندَ شخصٍ ما؟»

أمال إسلام فمه بغير رضى وقال: «الوقت مبكرٌ على تركها مع شخصٍ آخر غريبٍ عنها، ما زالت متحفظة ولم تعتد عليَّ لأعهدها عند غيري، ولستُ بهذا السوء لأفعل، إجازةٌ ليوم أو اثنين لن تضرَ أحدًا.»

جَمرة في فؤادٍ خامدOn viuen les histories. Descobreix ara