الفصل الثامن: لحظةُ سلام

29 6 6
                                    

«الفكرةُ تصنع الحزن، وتصنع السعادة، إنّ المشاعر فكرة.»


في قبوٍ خانقٍ، موصدٍ بابٍ حديدي، جلست بين خمسة سيداتٍ وقد دفعها جندي بلدها للتو إلى هذه الغرفة، الهربُ من الوطن ممنوع! لم تعتقد أنَّها ستلقى معاملة أشد حين تم تسليمها إلى هؤلاء، الأيام الأربعة التي قضتها هناكَ كانت سوداء، مضت حربٍ نفسية وتوسلت كثيرًا، لم يفهموها بدايةً، حينَ احتجزوها ورجتهم أن تأتي بابنتها لفم يسمعوا، بل إلحاحها جعلهم قساة، دفعُ وشتمٌ والبندقية في أيديهم كعصى يهشون بها الأغنام، دوعها التي نفدت وكادت تقلب أحمرًا قانيًا لم تحرك في قلوبهم ذردة رحمة، في اليوم التالي فهموا أنَّ ابنتها كانت هناكَ قريبة ولكن بعدَ فواتِ الأوانِ فلم يبالوا. لم يكن لاستجوابها أي فائدة، كانت تبكي طوال الوقت وتسقط فاقدةً الوعي من وجعٍ يتسلل من قلبها إلى رأسها، مرت أيامها جحيمًا، كانت تناضل رفضًا لفكرة الموت وترك ضحى بمفرها في المجهول وتهلكها أفكارٌ سوداء أنَّه قد أن يكون أصابَها مكروهًا وستعيش فقدًا آخر عظيم.

كانت تعرف أنَّ بعض الناس يعودونَ جثثًا بطلقات الجيش التركي، المسمى بالـ (جَندِرما)، وأنه لا فرقَ بين بين صغير وكبيرٍ، نساءً ورجالًا، شيوخًا وأطفالًا، كان لديهم ضحايا من جميع الأصناف، لكن رغبتها بالخروج وميلها لطاعتهم أنقذتها، فهي كانت تعرف أنَّ مآنها العودة إن لم تمت، وقالت لها سيدةٌ رثت لحالها: «الآن يبدأ العذاب حقًا.»

استلمها جيش وطنها مع أشخاصٍ غيرها قُبض عليه، أو سلمهم الأتراك، عوقبوا باستجوابٍ عنيف، لفظيًا وجسديًا، لأنهم يحاولون الهرب من الوطن أو شيءٍ من هذا القبيل! مر يومان على هذا السجن الذي كان أسوأ من الأربعة أيامٍ الماضية، بكاؤها عادَ شديدًا تتوسل تواصلًا مع أحدِ أهلها لتسمع خبرَ ابنتها، وعرفت أنَّ إحداهنَّ لديها واسطاتٌ لإخراجها فطلبت منها أن تسعى لها باتصالٍ يطمئنها، أن تسمع خبرًا عن ابنتها، واجتهدت الأخيرة لذلكَ لكن لم تنجح فطلبها لم يلبى أصلًا فحتى الواسطة والمال لن تحسن تعاملهم، لن يؤدوا خدمة لن تدر عليهم مالًا.

اعتذرت منها كثيرًا مع مرور يومٍ دونَ خبرٍ والأخيرة تبدو ذابلةً منتهيةً في فضاءٍ آخر، اقتربت منها وحضنتها تمسح على ظهرها، سألتها برجاءٍ: «كيفَ تمكنتِ من محادثة من حادثتهم! كيفَ أصلُ لشخصٍ من الخارج!»

فأخبرتها هامسةً: «حاولت الهجرة مع مهربٍ من الجنود أنفسهم وهو منشقٌ كانَ يعرفه أخي، رحمه الله.»

رفعت عينيها الذابلتين الملتهبتين ونظرت إليها مطاولًا، لم يكن هناكَ من هو حاله أفضل منها في الهيئةِ ولكنها تتحملُ همًا يزنُ جبالًا، ولا تهتم بأمر حالها كغيرها هنا، بل لديها قطعةٌ من كبدها مفقودة في عقلها! حينَ أطالت الشرود ونسيت أن تزيح عينيها تذكرت أن تقول بصوتها المبحوح الخافت: «رحمه الله.»

جَمرة في فؤادٍ خامدOnde histórias criam vida. Descubra agora