«أصبحت الأيام مجرد ساعاتٍ تمضي، وصارت الأنفاس حارقة، والكلمات خانقة، وتورمت الروح، ثم صار كل شيء في غير مكانه.»
لياليه كانت طويلة جدًا لا تكاد تنتهي، يختنق فيها في غرفة صغيرة تشاركها مع زميلٍ مثله، روحه متحمسة أكثر ربما، وكعمر يجره لكل ما يجب أن يقوم به، ربما لو كانت المدينة كلها أتراك لمات لأنه لم يفكر بالنجاة بعدَ الهرب، ولكن شخص آخر يحاول النجاة سحبه معه. كانت المكالمات القلقة تُرد بطمأنة كاذبة، سلوى تكرر الاتصال، ومجد يراسله بينَ يومٍ وآخر يسأله عن أخباره، الوصول إلى تركيا لم يمنحه حياةً أفضل، ولم يساعده على الهرب من شعور الوحدة الذي أثقله ومن افتقادهم، جعل حتى الجاذبية تكون قاسية عليه وتضغطه في أي مكانٍ يمكنه التكور فيه. لم يفكر بأن عليه البحث عن الحياة الجيدة باجتهاد ثم الغرق فيها من أجل تخطي هذه الطبقة من المشاعر، ونسيان نفسه القديم التي أحيطت بأشخاصٍ كان يظن أنه لن يعيش بدونهم، ظن الأمور ستأتي بمفردها! العبور عبر تلكَ الحدود لم يعني سوى المزيد من الفقدان، وتعميق الحفر التي غرقت بها ذكرياته وأيامه، تلك الأيام صارَ الآن يصفها بأيامِ عزٍ ورخاءٍ، أيامٌ سعيدةٌ مليئة بالبهجة، لما لم يأخذ منها ما استطاع أخذه، لما لم يملأ قلبه بالسعادة التي كانت في كل مكانٍ حوله آنذاك!
تساءل إن كانت آية، مع ضحى، ستجد الحياة التي أتت لأجلها، أو أنها ستجد تعاسةً شديدةً كضريبةٍ لهذا الخيار، ما الذي ينتظر ضحى بعد؟
نظر إليها حينَ كانت تسرد: «لقد بقيت في حضن ماما طوال الوقت وأظن أن قدميها صارت تؤلمانها، حينَ نزلنا سرنا كثيرًا وكان الطريق مخيفًا، جبالٌ وأشواك وأصوات حيواناتٍ مخيفة، كانت خائفة وكانت ماما تحملني على ظهرها من أجل أن تسرع أحيانًا، وأحيانًا أخرى تدعني أمشي معها.»كانا يجلسان على الأريكة، سكتت قليلًا تنظر بعيونٍ شاردة وحزينة، سألها يريد أن يعرف متى كانوا في الطريق: «كان المكان مظلمًا؟»
أومأت فهمهم متسائلًا يدفعها لتكمل السرد فتابعت: «مررنا عبر جحرٍ طويل، ثم اختبأنا حتى بدا ضوءٌ خفيف من السماء فركضت ماما وهي تحملني، قبل ذلكَ عادَ البعض إلى بيوتهم لأنهم تعبوا، لقد رأى أحدهم ثعبانًا أيضًا فخاف أن يكمل في الليل، خافت ماما كثيرًا وخفتُ أيضًا، صارت تصوب الضوء على الأرض وهي تركض مسرعة مع الآخرين، حينَ صرنا في تركيا قالت أنَّ هناكَ رجلًا آخرَ سوف يأخذنا إلى المدينة وغادرت عائلتين وشخصٌ آخر فبقينا نحن وعائلة ذلكَ الرجل، راحوا يبحثون عنه وحين وجدوه تركوا أمي وغادرو وحدهم، لم يتركوني معها، قالوا أنَّ التركي أمسكها، لا أعرف شيئًا لم أرها، كانت فقط تريد النظر في الأرجاء واختفت! لم ينتظروها كثيرًا كي لا يأخذهم هم أيضًا، لقد خافوا وهربوا ولم يسمحو لي بالنزول!»
كانت منفعلة تتحدث وتلوح بيديها، وإسلام يصغي ويتخيل التفاصيل التي تغفل طفلةٌ عنها، مسحَ على رأسها، كان مصغيًا بكل خليةٍ في عقله، حينَ سكتت اقترب منها وضمها مربتًا على ظهرها، باغتته بالسؤال الذي كان يكرهه بسبب عدم قدرته على الإجابة عليه: «سأرى أمي أليس كذلك؟ لن يحبسوها بعيد لوقتٍ طويل!»

أنت تقرأ
جَمرة في فؤادٍ خامد
Romanceيزهر الفؤاد بالأحبة. ما هي المعادلة الصحيحة التي يمكن من خلالها حل معضلة الفراق؟ سطورٌ تبدو خيالاً بالنسبة لي، خيالٌ بالنسبة لكَ، واقعٌ عليهم. 23.03.23 23.07.07 فائزة في مسابقة النوفيلا الحرة نسخة 2023.