الفصل الرابع عشر

1.7K 161 2
                                    

ـ أرهابـ ـي، وبيتحقق معاك من داخل المعتـ قل، عايز تعرف أيه تاني؟
هكذا هتف في وجهه ذلك الرجل، بينما نوح فشعر أن الدماء هربت من جسده، لم يستوعب ما سمعه للتو، معتـ ـقل! أرهابـ ـي! بالتأكيد تلك دعابة ليس إلا، من المستحيلات أن يكون كل ذلك العبث حقيقي!
ضحك! ضحك نوح بصوتٍ عالٍ حتى دمعت عيناه من شدة الضحك، كان الأخر يراقب تعابير وجهه بجمود، ولكن نوح هدى من نوبة الضحك هذا ثم هتف وهو على وشك البكاء.
ـ أرهابـ ـي، أنا أرهابـ ـي! أحية عليا وعلى سنيني السودا
خبط الرجل على الطاولة مرة أخرى بعصبية ثم صرخ عليه قائلًا:
ـ أنت هتستهبل، أنطق دخلت ساحة الجيـ ـش تهبب أيه؟ وفين شريكتك؟
ضحك نوح من جديد ثم قال:
ـ شريكتي! شريكتي هي السبب في الورطة السودا دي منها لله.
نظر للسماء ثم واصل قائلًا:
ـ روحي يا أسيل ربنا يخدك يشيخة، يكش تولعي في مكانك بسبب افكارك المهببه.
عاد بنظره للرجل ثم واصل حديث وكأن ذلك الرجل مُهتم لتلك الهرتلة!
ـ تعرف يا باشا؟ أنا كل اللي قولته عايز أرجع للمستقبل، قعدت تقولي مش هينفع ومستحيل، أنا اللي كنت غبي برضه، أنا اللي صممت وقولت لا أتصرفي، أديها أتصرفت ويوم ما شغلت دماغها بقيت هنا! ينفع كده يا باشا؟ يرضيك يعني؟
من الواضح إن ذلك الضابط رأسه أصبحت على وشك الأنفجار بسبب ثرثرة نوح! نهض بعصبية ثم صاح عليه بغضب قائلًا:
ـ أخرس، مش عايز أسمع صوتك.
خاف الأخر وأبتلع لسانه بالفعل، ولكنه لم يصمت كثيرًا، نظر له برجاء ثم هتف من جديد قائلًا:
ـ هتسبني أمشي؟
نظر له بسخرية ثم هتف وهو يخبط بيده على الطاولة:
ـ ده أنت بتحلم، أنت مش هتخرج من هنا غير لما الأسطوانة ترجع.
ـ يا يعم أسطوانة أيه أنا مالي! ما هي اللي خدتها وهربت؛ ما تدوروا عليها، أصلًا هي كانت سرقاها عشاني، يعني دلوقت ملهاش لازمه معاها، روحوا دوروا عليها وهي هتدهالك من قبل ما تسألوها أصلًا.
هكذا قال له بكُل سلاسة وبساطة، وهكذا كانت بداية الخيط لذلك الضابط لكي يحقق معه، أستغل حديثه الغير مرتب وسأله بتركيز وهو يجلس من جديد:
ـ يعني هي سرقتها عشانك؟ كانت عايزاها ليه؟
بالطبع لم يفهم نوح إنه هكذا يسترسله في الحديث؛ فأجاب عليه بنفس البساطة:
ـ عشان ترجعني تاني لحياتي.
ـ يعني أيه مش فاهم؟
ـ يعني أنا عايز أرجع للمستقبل، أصل بص أنا هقولك، أنا أصلًا مش من هنا.
تعجب من حديثه، بالتأكيد ظن إنه يهرتل بأي حديث، لكنه على أي حال بدأ أن يُجاريه في ذلك الحديث؛ فسأله:
ـ أومال أنت منين بقى؟
نظر نوح حوله بحذر، رجع بنظره للضابط ثم أقترب مِنه برأسه وقال بصوت منخفض:
ـ أنا من المستقبل، مش من هنا.
وبنفس طبقة الصوت سأله الضابط:
ـ مستقبل مين ده؟
ـ المستقبل بقولك، أنتوا هنا في الماضي، وأنا جيت هنا غلط، وهي كانت عايزة تساعدني.
بالطبع لم يروق له الحديث؛ لذلك ثار غاضبًا بسبب ذلك الخرافات، لم يتحمل أكثر من ذلك نهض مرة أخرى بغضب وهو يهتف بعصبية:
ـ أنت هتسوق الهبل على الشيطانّة ياض ولا أيه؟؟ مستقبل أيه ده ياض؟؟
خاف نوح، رجع بظهره للخلف حتى ألتصق في الكرسي وهتف:
ـ  يا باشا هي دي الحقيقة، صدقني.
أبتعد عن الطاولة، ترجل نحو الباب ثم فتحه ببُطيء وهو يصيح قائلًا:
ـ أنا بقى هخليك تبطل جنان، وتتكلم عدل، يا عادل، هات الرجالة وتعالوا أدّبوا السُكر ده، عايز أجي ألاقي لسانه أتعدل.
وقبل أن يستوعب نوح ما قاله ذلك الضابط كان يظهر من خلفه ثلاث رجال بعرض الحائط! تقدموا من نوح بهدوء وأختفى ذلك الضابط من أمامه بعدما غلق الباب خلفه، أرتعب نوح من هيئتهم، حاول أن يبتعد عنهم من خلال الكرسي لكنه كان سينقلب للخلف! وقبل أن يقتربوا منهم صاح عليهم برعب يتطاير من مقلتيه.
ـ أستهدوا بس بالله كده، وكل شيء هيبقى زي الفل، بس محدش يحرق دمه، في حد يحرق دمه عشان عيل صغير زيي؟؟!
بالتأكيد لم يستمعوا لهرتلته، وفي غمضة عين كانوا أنقضوا عليه بضربات متفرقة عنيفة، وذلك المسكين تحت أيديهم يصرخ ويستغيث ولكن لا حياة لِمن تنادي!
                  *******************
كانت أسيل تمشي في تلك الصحراء لحالها، لا يوجد بشر حولها، تحاول أن تصل للطريق ولكن دون فائدة، فمنذ أن أبتعدت عن المخزن وهي تركض في تلك الصحراء، ساعات مرت عليها وهي هكذا، كانت تمشي مسافة وتجلس على أي حجارة تأخذ أنفاسها وتستريح.
ـ وبعدين يعني! مفيش أي شجرة ولا غزاله نصتدها هنا يعني!
هكذا هتفت بحنق وهي تجلس على ذلك الحجر، كانت طوال تلك المسافة تبحث عن طعام أو شراب يروي حلقها، ولكنها فقدت الأمل، تشعر إن حلقها جف من قلّة المياة! وبطنها تتلوى من الجوع، تشعر أن طاقتها قد نفذت، مشت 3 ساعات في الصحراء وأشاعة الشمس تسقط على رأسها، والأن الشمس غابت والليل هَلّ عليها، قامت من على الصخرة وبدأت في المشي من جديد، لم تبتعد خطوات وإلا وسمعت صوت زائير آتي من بعيد، كان صوت زائير مكتوم!  بدأ الخوف يتسلل لقلبها، استدارت بجسدها في المكان لعلها ترى من أين يأتي هذا الصوت، ولكنها لم ترى شيء! فصاحت مع نفسها لعلها تشعر بونس.
ـ هو الصوت ده بجد ولا تهيؤات من أثر الجوع!
هكذا قالت ثم واصلت مشي في الصحراء، كانت كل وقت والأخر تسمع صوت حيوان! لا تعلم هل هي حقيقة أم تهيؤات من أثر خوفها!
ولكن كفى، طاقتها نفذت! وقفت بدون مقدمات ونظرت حولها بتيه، مسكت رأسها وهي تشعر إنها تدور بها، ثوانٍ وكانت ترتمي على الأرض فاقدة الوعي في قلب الصحراء!
                    *******************
بينما عند ليلى؛ فكانت تمسك هاتقها وتعبث بهِ؛ فهي دخلت على موقع إلكتروني به اسماء أطباء نفسيّن، كانت تضغط على كل طبيب يظهر لها وتقرأ سيرته الذاتية ثم تخرج من صفحته، استمر الوضع هكذا لمدة ساعة تقريبًا، ولكن مهلًا؛ فهي حقًا لم تقتنع إنها مريضة بحق؛ ولكن ما المانع إنها تزور الطبيب لكي يأكد أو ينفي ما يدور في ذهنها؟
هكذا فكرت وأقنعت حالها، وقعت عينيها على اسم فريدة حسام النجار، أخصائية نفسية.
دخلت على صفحتها وقرأت سيرتها الذاتية، كانت عيادتها قريبة منها، وسعر الكشف معقول؛ لذلك ضغطت على زر التأكيد وأكدت الحجز من خلال بطاقتها الائتمانية، لم تلاحظ إنها أختارت معاد المقابلة اليوم، خبطت على رأسها بصدمة عندما ظهر لها أن باقي على معاد جلستها ساعتين فقط، قفزت من على الفراش سريعًا وإتجهت نحو خزانة ملابسها، بدلت ملابسها على الفور وودعت والدتها وترجلت للأسفل، أخذت سيارة أجرة وفي أقل وقت كانت تجلس في تلك العيادة بعدما أخذت موظفة الأستقبال بياناتها، والأن هي تنتظر دورها.
نصف ساعة مرت عليها حتى سمعت اسمها ودخلت للطبيبة.
كانت غرفة كبيرة، ألوان جدرانها مريحة للعين والأعصاب، وهناك مكتب صغير تجلس عليه فتاة طويلة القامة ترتدي نظارة طبية وسترة أطباء بيضا.
بشرتها قمحية وشعرها بني قصير، استقبلتها ببتسامة بشوشة فور رؤيتها، جلست ليلى أمامها على المكتب بتوتر، بعدما رحبت بها الطبيبة سألتها قائلة:
ـ تحبي نبدأ يا ليلى؟
ـ نبدأ إيه؟
هكذا سألت ليلى بتوتر، ابتسمت لها فريدة وهي تنهض من مكانها، وقفت بجوارها وربتت على كتفيها وقالت:
ـ نبدأ الجلسة، تعالي معايا.
وبالفعل ترجلت معها ليلى لذلك المقعد الأخر، كان مقعد يشبة فراش المستشفيات ولكنه أصغر في العرض، أستلقت عليه وريحت ظهرها للخلف، جلست فريدة أمامها على الكرسي، مسكت في يدها مذكرة صغيرة وقلم، ابتسمت لها وسألتها:
ـ قوليلي يا ليلى إيه اللي خلاكي تفكري تجيلي؟
توترت من سؤالها، كانت تفرك في يدها بشكل ملحوظ، وبتلعثم وربكة قالت لها:
ـ عادي يعني، هو أنا في حاجات بعملها زيادة، وهما بيقولوا عليها أنها أوفر فاهمة؟
ـ زي إيه يا ليلى؟
ـ يعني أنا بحب النظافة، بكره التلوث والتراب، بحب أي حاجة تكون منظمة، يعني إيه الحاجة تكون متلخبطة ومرمية في كل مكان بعشوائية؟ المفروض اني أتقبل الوضع عادي! ده اسمه قلة نظام وقرف!
هكذا تبخر قلقها وخوفها، وهكذا بدأت أن تتحدث بعصبية وأنفعال!
بالطبع فهمت الطبيبة ما تعاني منه، ولكنه كانت تود أن تستدركها في الحديث؛ لذلك سألتها:
ـ طب أنتِ شايفة ان دي حاجة عادية، يبقى أيه سبب وجودك هنا برضه؟
ـ عشان هما يا دكتور مش مقتنعين، كل واحد مش لاقي حاجة يقولها يجي يقولي أنتِ موسوسة، لحد ما تعبت من الكلمة دي وبدأت ابحث عنها، ولقيت أن في حاجة اسمها هوس فعلًا!
كانت تتحدث معها كأنها جاهلة عن ما تتحدث عنه، وكانت تحاول بكل الطرق أن تقنعها أن الناس هم السبب في مجيئها لهنا، أي أنها أتت لعندها لكي تثبت لحالها إنها لا تعاني من أي شيء!
دوّنت الطبيبة في مذكراتها بعض الأشياء ثم سألت:
ـ عرفتي أيه عن الهوس؟
ـ عرفت أنه مرض اسمه الوسواس القهري، وأنه أنواع ودرجات.
ابتسمت لها الطبيبة، خلعت نظارتها ثم هتفت قائلة:
ـ بالظبط يا ليلى، الوسواس القهري؛ وده بيكون تصرف نابع من جواكِ بس بيكون زيادة عن الطبيعي، يعني مثلًا النظافة، أنتِ مش متضرة كل شوية تغسلي أيدك، لأنها كده كده هتتوسخ تاني، مش شرط تكون الحاجة منظمة بطريقة مظبوطة مية في المية لانها هتتبهدل تاني، كل الحاجات دي أنتِ مش بتعرفي تعمليها بسبب أن في شخص جواكِ بيقولك اعملي كده، هو اللي بيقولك روحي أغسلي أيدك للمرة التلات تلاف، هو اللي بيقولك أتعصبي ده الروچ في حد وقعه من مكانه، وأنتِ عشان شخصيتك ضعيفة بتسمعي كلامه! ودلوقت لازم نعرف أنتِ عندك أنواع إيه من الوسواس عشان نبدأ نعالجها يا ليلى.
هكذا شرحت لها الطبيبة مرضها بكل بساطة، بينما الأخرى كانت غير مقتنعة بكل ما تقوله، ولكن مهلًا؛ كل ما قالته هي محقه فيه! هي بالفعل تشعر أن أحد بداخلها هو الذي يدفعها لفعل أي تصرف  من أفعال الهوس كما تقول!
ولكن لا، هي لا تعاني من شيء، هكذا كانت تقنع نفسها؛ لذلك أعتدلت في جلستها وهتفت معترضة:
ـ ضعيفة إيه؟ أنا مش ضعيفة؟ أنا بعمل كده عشان أنا بحب النظام ومش بحب التلوث.
ابتسمت لها فريدة ثم قالت:
ـ أول خطوة في العلاج هي إنك تقتنعي أنك مريضة يا ليلى، لازم تقنعي عقلك أن اللي بيعمله ده مش طبيعي وإنه هوس لازم نوقفه.
كلماتها ثارت غضبها، نهضت من على الفراش بعصبية وهتفت وهي تستعد للرحيل:
ـ وأنا مش مجنونة عشان أقنع عقلي أني مجنونة وبعمل تصرفات غريبة، شكلي غلطت لما جيت هنا، بعد أذنك.
نهت كلماتها وهي تسحب حقيبتها وتغادر العيادة، وقفت سيارة أجرة وعادت لمنزلها.
                        *******************
ولكن في زمانٍ أخر، كانت ليان تجلس على الأريكة وجسدها يرتجف، تضم ركبتيها لصدرها وكإنها تحمي جسدها، صوته مازال في أذنها، كلما تتذكر ما حدث لا تصدق إنها قالت له كل ما يقبع داخل قلبها منذ سنوات! لا تصدق أن تلك المواجهة حدثت بالفعل! غير قادرة أن تتخطاها بهذه السهولة! فكلما تجلس مع حالها تتذكر ما حدث وترتجف بهذا الشكل، ويسيطر عليها نوبة من البُكاء المتواصل.
جاء يامن وجلس بجوارها بهدوء، مد يده وأنتشالها من أحزانها لكي يُزرعها بجانب قلبه؛ لعله يُطمئن قلبها المسكين.
عَلَت شهقاتها أكثر وهي تتشبث في ملابسه بقوة، أما هو فكان يربت على شعرها بحنان وهو يهمس بجوار أذنها إن كل شيء أنتهى.
ولكن دون فائدة، فذاكرتها أخذتها لِما حدث منذ أيام.

رحلة عبر الزمنWhere stories live. Discover now