الفصل الثاني عشر

2K 176 4
                                    

ـ جهِز نفسك وأنضف كده عشان كُل حاجة جهزت والرحلة هتبدأ بكرا.
هكذا هتفت أسيل، بينما نوح فنظر لها بتعجب وتسأل:
ـ أزاي؟ ورحلة إيه؟
ابتسمت بحماس وهي تنهض من مكانها، سقفت بيدها وهتفت وهي تضحك:
ـ رحلة البحث عن تكوين آلة زمن مش موجودة على الأرض أصلًا!
نظر لها الأخر ببلاهة ثم هتف مُتسأل:
ـ هو أنتِ بتقولي إيه؟!
جلست من جديد ثم بدأت في شرح كل شيء له:
ـ أنت نسيت أني كنت بحاول أعمل أي حاجة عشان نعرف ندخل المكان اللي فيه الأسطوانة؟ أنا بقى بفضل معارفي عرفت أخلي حد يضربلنا كارنيهات عاملين نظافة، هنروح هناك ونعمل نفسنا عاملين نظافة عشان نعرف ندخل، أنت هتعطلهم برا وأنا هجيب النموذج الصغير بتاع الأسطوانة وهخبي بسرعة وأطلع ليك ونخرج من المكان، وبعدين نشوف إيه تاني اللي المفروض يتعمل.
هكذا كانت تشرح له خطتها بكُل بساطة، وكإن كل ما تقوله بسيط ولا يوجد بهِ أي شيء خطر على الإطلاق!
والأخر لإنه يُريد أن يمسك بأي خيط يوصله لشقيقته في أسرع وقت صدقها وتهللت ملامحه! أختفت ملامح العبوث من على وجهه وحلّت مكانها ابتسامة تشق وجهه، نهض بسعادة وهتف قائلًا:
ـ  بجد يا أسيل؟ يعني... يعني هنعرف نجبها؟
ـ بإذن الله، تعالى بس نجهز الحاجة اللي هناخدها.
ختمت كلماتها وهي تتجِه للباب وتهبط لمنزلها ونوح كان خلفها دون تعقيب.
ترجلت داخل المنزل ودخل نوح معها، وبالطبع كان الباب مفتوح على مذراعيه كالعادة.
ظلت تعبث هُنا وهُناك حتى عثرت على بعض الأشياء، جمعتها على الأريكة ثم بدأت في فحصهم، مسكت كشاف صغير وهي تقول لنوح:
ـ هات الشنطة اللي هناك دي، وحُط فيها ده يلا.
هز رأسه بالموافقة ونفذ ما طلبته مِنه.
مسكت قُبعة رأس ومدت يدها له بها وهي تواصل:
ـ وحط دي معاك عشان أكيد هنحتاجها.
صحيح السلاح، محتاجين سلاح عشان الخطر.
هكذا هتفت بتذكر! بينما هو فنظر لها بجهل ثم هتف:
ـ سلاح إيه يا أسيل؟
ـ أسكت أنت.
ترجلت للمطبخ، غابت لثوانٍ ثم خرجت منه ومدت يدها له بسكي..ن صغير وهي تقول له:
ـ خد حُط السكينة الصغيرة دي عندك.
وبالفعل نفذ الأمر.
ـ خُد حُط معاك علبة الجبنة دي أكيد هنجوع.
والفينو ده برضه، وخد العصير ده معاك، أجيب مخلل؟
ـ هو أنتِ طالعه رحلة؟ في إيه يا أسيل!
هكذا هتف مُعترضًا عن ما تفعله، ولكن الأخرى لم تعطي لتذمره
أي اهتمام.
ظلت هكذا تضع أشياء لها فائدة وعديمة الفائدة في الحقيبة، حتى أمتلئت حقيبتها ولم يبقى بها مكان لأي شيء.
ولكنها لم تهتم، مدت يدها له بذلك الكريم وهي تقول له:
ـ حُط الصن بلوك ده معاك، أكيد الشمس هتكون حامية.
ـ والله يا عسل الشنطة أتملت خلاص، ممكن كفاية اللي حطيتيه خلاص؟
هكذا هتف لها بعتراض، بينما هي فنظرت له بتذمر ثم هتفت قائلة:
ـ يعني أتحرق عشان ترتاح يعني؟
ـ أنتوا بتعملوا إيه هِنا؟
كانت تلك الجملة من أم عبير التي دخلت عليهم المنزل دون إستأذان كعادتها.
نظرت لها أسيل وهي تُأفف بغيظ ثم هتفت قائلة:
ـ هو بيتي بقى وكالة ولا إيه يا أم عبير؟ مش تخبطي يا حببتي؟
ـ هو أحنا مش قولنا أن الحراكات دي مش هتنفع هِنا يا أسيل؟ برضه بتلفي تلفي وترجعي تاني!
نظرت لها الأخرى بجهل، لا تعلم بماذا تُهرتل! نظرت لها بغيظ ثم تقدمت مِنها ووضعت يدها على كتفيها وقالت لها وهي تأخذها وتمشي معها في إتجاه الباب.
ـ بقولك إيه يا أم عبير، تعرفي تخلي مناخيرك في وشك وتخرجي من حياتي؟ متهيألي حياتك هتكون أحسن بكتير صح؟
أنتهت من كلماتها وكانت أم عبير بالفعل خارج المنزل، نظرت لها أسيل ببتسامة صفراء وقالت لها:
ـ يلا بقى تصبحي على خير، أصلي بنام بدري.
ثم غلقت الباب في وجهها دون سماع ردها!
كانت دماء الأخرى تغلي في أورتدها، لوت شفيتها وبغيظ صاحت عليها من خلف الباب قائلة:
ـ بقى كده يا أسيل؟ ماشي، ماشي يا متربية.
ثم لملمت كرامتها وترجلت لمنزلها.
مر عدة دقائق وسمعت أسيل صوت طرق على الباب من جديد، بالطبع توقعت إنها أم عبير.
فتحت الباب وهي تهتف بحنق:
ـ إيه تاني؟ ووه! كريمة وحشتيني.
أخذتها سريعًا في احضانها بحرارة شديدة، بعد الترحاب دخلت كريمة لردهة المنزل، سلّمت على نوح وأطمئنت عليه ثم سألت وهي تجلس على الأريكة:
ـ وصلتوا لحل يولاد؟
ابتسمت أسيل بإتساع وقالت لها:
ـ أيوا، هنتحرك بكرا، إدعلنا كتير يا كريمة.
ابتسمت لها كريمة بود وقالت لها:
ـ ربنا معاكم بإذن الله، لكن إنتوا خدوا بالكم من نفسكم.
ابتسمت نوح وقال لهم وهو ينهض من مكانه:
ـ كده أحنا خلصنا كل حاجة، هنتحرك اساعة كام بكرا؟
ـ على 8 كده، عشان ناخد اليوم من أوله.
هكذا قالت له أسيل، ابتسم ثم ودعهم وصعد لغرفته، وأيضًا كريمة جلست تتسامر مع أسيل لبعض الوقت حتى ودعتها وهي تدعي لها أن يحفظهم الله ثم تركتها وذهبت لمنزلها، وأسيل  بعدما تممت على جميع أغراضها ترجلت لغرفتها وفي أقل وقت كانت تسبح في بحر الأحلام.
                        *******************
وفي مكانٍ أخر، كان مصطفى يجلس على ذلك المقهى يُشاهد مُباراة كُرة قدم بين النادي الأهلى ونادي الزمالك، وبالطبع كانت الأجواء مشحونة في المقهى بشكل يُثير حماسك.
أنتهى الجزء الأول من المباراة، وأخذوا الاعبين تلك الأستراحة.
طلب مصطفى كوب من الشاي وجلس يُهدأ أعصابه، فحتى الآن فريقه المُفضل خسر أثنين دون مُقابل.
وأثناء أحتسائه لكوب الشاي الذي وضعه له الندل أقترب مِنه صديقه عمر، سحب كرسي وجلس بجواره وهو يقول له دون مقدمات:
ـ شوفت اللي عملته الهانم أسيل؟
عقد جبينه بتعجب، عدل من جلسته ونظر له بتركيز ثم سأل:
ـ حصل إيه؟
ـ الهانم بعد ما جبتلها الكارنيهات مرتدش تديني الفلوس اللي طلبتها! أتدني شوية ملاليم يا مصطفى! خطبتك كلت عرقي، عجبك كده؟
ـ أنا مش فاهم حاجة، ما تفهمني براحة.
هكذا قال له مصطفى.
أخذ الأخر نفسًا ثم طلب من الندل كوب شاي وبدأ في سرد أخر شيء حدث معه مع أسيل.
ـ عجبك كده؟
ختم حديثه بتلك الجملة، بينما مصطفى فقهقه عاليًا ثم هتف قائلًا:
ـ وأنا مالي؟ أتصرف معاها، ولا هي تضحك عليك وتيجي تعيطلي أنا؟
ـ بقى كده يا مصطفى؟ هي دي أخرت اللي يخدمكم!
ـ فكك مني يا عمر قولتلك أنا مليش علاقة بيها.
نهض الأخر بعصبية ثم تركه ورحل، بينما مصطفى فكان ما يحدث بداخله عكس ما ظهر في فعلته هذا، فكانت دماءه تغلي، رأسه على وشك الإنفجار، يفكر فيما تدبر له أسيل، وكيف سينتقم مِنها؟
ولوهله طرقت على رأس فكرة.
لم يفكر، خرج هاتفه وعبث على بعض الأرقام، وأجرى عدة مكالمات حتى عثر على هدفه.
ابتسم بِ إنتصار وأتصل بذلك الرقم الذي عثر عليه أخيرًا من أحد أصدقائه.
ولكن تحطمت أمآله عِندما سمع تلك الجملة السخيفة"هذا الرقم مغلق أو غير مُتاح"
غلق هاتفه ووضعه في جيب سرواله، نظر على التلفاز وكانت المباراة قد بدأت للتو، إعتدل في جلسته ثم بدأ في مشاهدة المباراة من جديد بكُل تركيز وحماس.
                        *******************
دعونّا نعود مرة أخرى حيث كانت تجلس ليلى مع شقيقتها رهف.
كانت رهف كل خمس دقائق تترجل في الغرفة ذهابًا وإيابًا بعدم راحة، تنتظر مكالمة من ذلك المدعو سفيان لكي يُطمئنهم ماذا فعل.
أخيرًا حل عليهم المساء، لم تنتظر لطلوع النهار لكي تعرف ماذا فعل سفيان مع خالد.
نظرت لليلى وسألتها والقلق يتطاير من مقلتيها:
ـ ما تتصلي بسفيان يا ليلى شوفيه عمل إيه.
نظرت لها ليلى ولم تعقب، فقط خرجت هاتفها وأجرت أتصال بالفعل لسفيان، ثوانٍ وجاءها الرد.
ـ سفيان عملت إيه؟
هكذا سألت دون سابق إنذار، جاءها الرد من الأخر في كلمات محدوده ثم غُلقت المكالمة معه!
كانت تتابعها رهف بعيون الصقر! وفور غلق الهاتف سألتها بلهفة:
ـ قالك إيه؟
تنهدت الأخرى وهي تنظر للهاتف ثم هتفت قائلة:
ـ مقالش، قالي روحي نامي ومتشغليش بالك.
ضاعت أمآلها هبائًا، نظرت لها بملامح حزينة على وشك البكاء وقالت:
ـ يعني معنى كده الموضوع متحلّش لسه؟
قالتها ثم جلست بجوارها بقلة حيلة، نظرت لها ليلى لعلها تطمئنها وقالت لها:
ـ متقلقيش، سفيان مش هيسبنا، وبعدين أنا عملت سيرش على الجروب اللي سفيان قالنا عليه ده وعرفت إنه متخصص للحالات اللي زي دي، وإنه حقيقي بيجيب حق معظم البنات اللي بتلجأ له، متخفيش مش هنسكت، ولو وصلت بينا إننا نروح ونبلغ مباحث الأنترنت هعمل كده يا رهف، المهم أوعي تباني ضعيفة قدامه ولا قدام أي حد، الحق معاكِ مش معاه يا رهف!
لم ترد، فقط أكتفت إنها ترمي حالها في أحضان شقيقتها،  ربتت الأخرى على ظهرها دون أن تضيف كلمة أخرى، لكن رهف لم تصمت، ومن بين بُكائها وشهقاتها كانت تقول بصوت متقطع:
ـ أنا معرفش أزاي وقعت في حاجة ساذجة زي كده يا ليلى، طول عمري فاهمة أن الحب لعب عيال، فاهمة إنه لعبة وبتتلعب على مشاعر البنات، أقوم أقع فيها بالشكل الغبي ده! من بعد ما كنت قافلة على نفسي بكل الأشكال، أقع مع شخص زي ده؟!
لم يروق لها حديثها، خرجتها من أحضانها وقالت وهي تنفي برأسها بعدم رضا عن ما قالته:
ـ عمر الحب ما كان لعب عيال يا رهف، ولا حاجة ساذجة، الحب ده مشاعر بتخرج للشخص الصح، ومين قالك إنك لما تقفلي على نفسك ده صح يا رهف؟ ليه فكرة إن الجنس الأخر وحّش عايش معانا على الكوكب؟ أنتِ لازم تتعودي تتعاملي معاهم، هما ناس زيهم زيك، فيهم الحلو وفيهم الوحش، لازم تتعاملي مع الجنس الأخر عشان مش أي واحد تقابلي ويقولك كلمتين حلوين تقعي معاه يا رهف! لازم تتعاملي عشان تفهمي الناس، لازم تعرفي أن في حاجة اسمها حدود، هتعامل مع ده عشان شغلي وهعمل معاه حدود، زي ما ممكن اتعامل مع رجل في مكتب حكومي عشان هيخلصلي ورق! ليه ميكنش عندك زمايل رجاله؟ هل معنى أني عندي زمايل يبقى أنا بنت مش محترمة؟ لا، دول مجرد زمايل وبتعامل معاهم بحدود، لازم تبدأي تعيشي حياتك صح، أنتِ طول حياتك بعيدة وعايشة مع نفسك، يمكن... يمكن قافلة على نفسك من كل إتجاة! لكن خلاص، جيه الوقت اللي تخرجي فيه للدنيا عشان تعرفي تواجهيها.
ـ مش مصدقة إن أختي الصغير هي اللي بتنصحني بجد!
هكذا قالت رهف وهي تضحك من بين دموعها! ولكن الأخرى أردفت قائلة:
ـ عمرها ما كانت بالسن! يمكن أنا أصغر منك بس اللي شوفته في الحياة مكبرني عنك، مش بالسن أبدًا يا رهف.
أومأت لها بالموافقة وهتفت قائلة وهي تمسح دموعها:
ـ حقيقي عايزة الكابوس ده ينتهي، لما ينتهي هصلّح حاجات كتير أوي.
ابتسمت لها الأخر وفتحت لها أحضانها من جديد وهي تقول لها بحنان:
ـ هيخلص، صدقيني هيخلص وهترتاحي من كل ده.
وأنتهى ذلك المشهد بعناق حار بين الشقيقتين.
                        *******************
أنتهى اليوم على أبطالنا، وأنتهت أحداثه الطويلة، وأشرقت شمس يومٍ جديد لبداية رحلة جديد.
أستيقظت أسيل بنشاط غير العادي، قفزت من على الفراش وجهزّت حالها في أقل وقت، بعدما رتبت أغراضها إتجهت للمطبخ وكانت تُجهز فطور لها ولنوح؛ فتلك الرحلة شاقة وتحتاج لطاقة.
أنتهت من أعداد كل شيء، وقبل أن تغادر المطبخ كان صوت جرس المنزل يصدح في المكان.
ولم يكن غير نوح، كان يقف أمام الباب يرتدي تيشرت من اللون الزيتي وبنطال من اللون الأسود وعلى ظهره حقيبة صغيرة، ويرتدي نظارة الشمس.
نظرت له أسيل بنبهار من منظره الجذاب وقالت:
ـ إيه يخويا الشياكة دي؟ أول مرة تنضف كده يعني!
لم يرد عليها، فقط نظر لها نظرة متعاليه ثم أفصح المكان بيده ودخل للمنزل وهو يقول:
ـ مش ورانا معاد، ما يلا.
نظرت الأخرى في أثره ببلاه ثم صاحت عليه بحنق:
ـ  أنت داخل زريبة! وبعدين مش لما ناكل نبقى نغور.
جلس على الأريكة ثم هتف وهو يخلع تلك النظارة التي كان يرتديها:
ـ يلا يا أسيل بجد، مفيش وقت! 
لم تهتم لحديثه، تجاهلته وإتجهت للمطبخ، حملت الفطور ووضعته على الطاولة أمامه وهي تقول:
ـ لما نضفح قولنا.
رغبًا عنه ضحك عليها وعلى أفعالها!
تناولوا الفطور سريعًا ثم نهضوا.
وقف نوح وهو ينظر على حقيبة أسيل الصغيرة وهتف:
ـ أومال فين يا ختي شنطة السفر اللي جهزتيها أمبارح؟
ابتسمت له بستهزاء ولم ترد عليه، فقط مسكت تلك الحقيبة الصغيرة وخبطت عليها بطريقة مُضحكة وهي تهتف وتقول:
ـ يابني دي حطيت فيها باقي الحاجة.
حملق فيها دون تصديق، صاح عليها بعتراض:
ـ ليه يا حجة؟ ليه كل ده؟ رايحة رحلة ولا في إيه؟
ـ أنت مالك أنت ما تخليك في حالك.
هكذا قالت له بتذمر، بينما هو فأشاح بيده في الهواء ثم ترجل نحو الباب، وقبل أن يتذمر من جديد على أفعالها  كانت دخلت عليهم كريمة.
ـ صباح الفُل على عيونكم، خلاص ماشين؟
تسللت الفرحة لقلب أسيل فور رؤيتها لكريمة، فهي كانت خائقة أن تبدأ رحلتها دون أن تودعها،أرتمت في أحضانها سريعًا وهي تقول لها:
ـ حبيبي يا كريمة، كنت هزعل بجد لو مشوفتكيش انهاردة ودعتيلي.
قرصتها في وجنتيها بخفة وهي تدابعها وتقول لها:
ـ هو أنا أقدر برضه؟ قولت اجي أسلم عليكم قبل ما تمشوا.
ابتسمت لها أسيل وقالت وهي تعانقها:
ـ أدعلنا يا كريمة لاحسن أنا بدأت أخاف.
خفض قلب الأخرى بشدة خوفًا على أبنتها التي لم تلِدها، ربتت على كتفيها برفق ثم دعت لها بقلب صافي قائلة لها:
ـ تروحوا وترجعوا بالسلامة يا بنتي، ترجعوا منصورين بإذن الله، خلي بالك منها يا نوح.
هكذا قالت لنوح، بينما الأخر فسخر قائلًا:
ـ دي هي اللي تاخد بالها مني.
تعالت الضحكات بينهم ثم ودعوا بعضهم جميعًا، وحقًا نستطيع القول الآن أن بدأت رحلتهم للتو.
                        *******************
ولكن عند ليلى في المنزل كان المشهد يختلف كليًا.
كانت والدتها تنظف هُنا وهناك، تنقل تلك الأريكة من ذلك المكان، وتنقل ذلك الكومدين لمكانٍ أخر.
وكل ذلك وليلى كانت تستلقى على الفراش نائمة، أو هكذا كانت!
بالطبع مع كل ذلك البعثرة حدثت أشياء كثيرة، مثلًا وقعت أشياء ليلى على الأرض وتناثرت دون رحمة، وذلك الملابس التي كانت في خزانتها وقعت على الأرض وأصبحت مُتسخة مثل الأرضية تمام، وغير ذلك كثير!
فتحت ليلى عينيها بفزع على صوت الأشياء التي تتنقل، أعتدلت في جلستها ونظرت للأرض؛ وخصوصًا لأشياءها التي أصبحت مفترشة الأرض!
صرخت فيها فازعة وهي تنهض بعنف وتقول:
ـ أنتِ بتعملي إيه؟؟ أنتِ مالك ومال حاجاتي! وإيه اللي بهدلها كده؟
لوت شفتيها ساخرة وقالت وهي تواصل ما تفعله:
ـ بعمل إيه يعني؟ بظبطلك الأوضة اللي بقت زريبة دي.
ـ أنا أوضتي زريبة! ودلوقت بقت إيه، وإيه كل التراب اللي بقى على الحاجة دي؟ وإيه اللي وقعها على الأرض بالمنظر المقرف ده؟
ختمت كلماتها وهي تصرخ في وجه والدتها، أنتشلت أشياءها من على الأرض ثم واصلت صياح:
ـ وإيه المياه دي! يععع يععع، ليه كده يا ماما؟ ليه القرف ده بس؟
رفعت ابتهال حاجبيّها وردت عليها بعصبية:
ـ هكون بعمل إيه يعني يا حيوان.ة أنتِ كمان، أنتِ روشتيني بجد، ما كفاية وسواس بقى قرفتيني وزهقتيني!
نهت كلماتها ثم طرقت ما كان في يدها وترجلت خارج الغرفة وهي تسّب وتلعن فيها وفي وسواسها!
بينما ليلى فنظرت للغرفة ولهيئتها وهي على وشك البكاء، وسواس! هل هي التي تعاني من الوسواس؟ أم هم الذين يحبون العشوائية وعدم النظافة؟
على أي حال، نفضت كل شيء في رأسها وبدأت في ترتيب غرفتها على مضض.
                        ******************
وفي نفس الوقت، ولكن في مكانٍ أخر، وبالتحديد في تلك الجامعة التي يدرس فيها زين صديق نوح.
كان يجلس على ذلك المقهى المُفضل له، كان أمامه فنجان قهوة فرنسي وبجواره بعض المعجنات الطازجة، كانت الأجواء أحسن من رائعة، بالطبع لا يتذكر موعد المحاضرات، ولا يفكر فيها من الأساس، فمجيئه هنا بهدف التخفيف عنه وتجاهل كم المشاكل التي وقعت على رأسه دفعة واحدة، وأيضًا لمقابلة عشق!
مسك الفنجان وأرتشف منه القليل بستمتاع، ولكن هُدمت كل ذلك الأجواء عندما سمع صوت شجار آتي من بعيد، نظر بعينه على ذلك الحشد الصغير ونهض فازعًا؛ فلم يكن غير عشق هي التي تتشاجر! يقف أمامها مجموعة من الفتيات وهي بمفردها أمامهم، هرول سريعًا نحوها، دخل بين الحشد وسمع كلماتهم السامة نحوها.
ـ أنتِ فكرة نفسك مين؟ مش كفاية محدش يعرفلك أصل ولا أي زفت، على طول قاعدة متوحدة، ومحدش بيضيقك في الجامعة كلها، وكمان جاية تقلّي أدبك علينا!
نظرت لهم بثبات، رفعت سبابتها في وجه تلك الفتاة وقالت بتحذير شديد اللهجة:
ـ أحترامك ليّا ده فرض عليكِ مش واجب من حضرتك، لما تيجي تكلميني تكلميني بأدب يا بتاعة أنتِ، وأظن كل اللي قولتيه ده ميهمكيش في أي شيء أصلًا! وكل ده عشان شوية العصير أتدلكوا عليكِ! مش عجبك أني رديت عليكِ لما قليتي أدبك عليا! المفروض أني أسكتلك يعني، عمتًا لو العصير ده اللي مضايقك خلاص بلاش عصير، أووبس!
ختمت كلماتها وهي تثقب باقي كوب العصير على ملابسها، فتحت الأخرى فاها بدون أستوعاب عن ما حدث! ولكن كل ما فعلته إنها نظرت لها بغيظ ثم تشبثت في ملابسها بعنف وهي تُسبّ وتلعن فيها، وقبل أن تصِل لخصلات شعرها كان زين تدخل بينهم ويحاول فك ذلك الأشتباك، ولكنه فشل بالثُلُث! فكان الوضع كالتالي.
الفتاة تمسك عشق من ملابسها وباليد الأخرى تحاول الوصول لخصلات شعرها وهي تسبها وتلعنها، بينما عشق فكانت تُسّبها هي الأخرى ولكن عشق فكانت نجحت للوصول لخصلات شعر تلك الفتاة! وأيضًا تحاول جاهدة أخراجه من جذوره دون رحمة!
وأمام ذلك المشهد جاء الأمن وأكتملت الصورة وهو يُصيح فيهم بعنف:
ـ هو أيه اللي بيحصل ده يا هوانم؟
أبتعدوا عن بعضهم بصعوبة، نظروا لرجال الأمن ولم ينطقوا، ولكن رجال الأمن أقتربوا منهم أكثر، صاح عليهم رجل من رجال الأمن قائلًا:
ـ كارنيهاتهم.
خرجت كل منهم البطاقة الجامعية من حقيبتها التي كانت مُلقيه على الأرض، وضعوها في يد رجل الأمن، نظر فيها ثم صاح من جديد.
- قدامي على عميد الكلية أنتِ وهي.
ودون تعليق أو جدال كانوا أمام العميد بالفعل، حاول زين بكل الطرق الدخول معهم ولكنه فشل.
كان عميد الكلية رجل في منتصف الاربعينات تقريبًا، ذو هيبة ووقار، شعره يتسلل فيها بعض الخصلات البيضاء التي تعطيه وقار وأحترام من نوع أخر، وجسده ممتلئ بعض الشيء، وقصير القامة، نظر لتلك البطاقات ثم رجع بنظره لهم وسأل:
ـ حصل أيه بقى؟ عاملين فيها بلطجية؟ فكرين نفسكم في السوق ولا أيه؟
نهى حديثه بضربة قوية على سطح مكتبه، رفعت وجهها تلك الفتاة وهتفت بعتراض:
ـ أنا معملتش حاجة يا دكتور، الهانم كانت ماشية ودلقت عليا العصير! وببجاحتها غلطت فيا كمان ومش عجبها أني شتمتها لما لقيت هدومي كلها أتبهدلت بسببها.
ـ بس هي غلطت فيا يا دكتور، عماله تغلط فيا وفي أهلي، ومدت إيديها عليا! المفروض أني أسكت؟!
هكذا ردت عليها عشق في ثبات، نظر لهم عميد الكلية بتقيِّم، ثبت نظره عند عشق ثم سألها.
ـ فين ورقك بتاع الكلية؟
ابتلعت لعابها بتوتر ثم قالت:
ـ ورق إيه الكارنية أهو.
ضيق عينه ثم هتف قائلًا:
ـ ما أنتِ عارفه أن أوراق الكلية لازم تكون معاكِ دايمًا، ده القانون الجديد، وعدم وجود الأوراق يكون بمثابة مخالفة للقوانين يا عشق.
ـ بس الكارنية أهو، وده طلع بنائًا عن ورقي.
ردها ثار غضبه، خبط على المكتب بعصبية ثم صاح من جديد.
ـ بقولك فين أوراقك يا استاذة معاكِ ولا لاء؟
تدخلت تلك الفتاة في الحديث وقالت بنبرة خبيثة:
ـ هي كده على طول يا دكتور، متحبش حد يجيب سيرة أهلها، ولا أوراقها، أصلًا محدش يعرفلها أهل، أصلها مش بتتكلم عنهم خالص! هو ده طبيعي يعني!
حقًا فهي أستغلت الموقف بطريقة صحيحة، ففي ذلك العصر أصبح وجود الأهل وأوراق أثبات النسب من أهم أساسيات دخول الحرم الجامعي، وكل ذلك بسبب حالات أختلاط الأنساب التي ذادت في السنوات الأخيرة.
نظرت لها عشق بحقد شديد بسبب تدخلها في حياتها بتلك الطريقة الفاذة، وفي نهاية الأمر خرجت من حقيبتها بعض الأوراق ووضعتها أمام العميد وهي تقول له:
ـ الأوراق أهى يا دكتور، أتفضل.
فحصها بتركيز وهو ينظر للورق ثم يعود بالنظر لها من جديد، وبعد أنتهائه مد يده بالأوراق وقال لها:
ـ تمام.
نظر لهم ثم هتف قائلًا بصرامة:
ـ  واللي حصل ميتكررش تاني، أحنا هنا مش في الشارع، اتفضلوا.
خرجوا الأثنين من المكتب دون تعقيب، ولكن مع خروجهم من باب المكتب كانت تلك الفتاة تنظر لزملاءهم الذين كانوا مازلوا يجتمعون حول مكتب العميد، رمقت زين بنظرات ساخرة ثم هتفت بصوت مرتفع:
ـ حتى الورق خايفة تطلعيه قدام العميد! ده أنتِ لو عاملة مصيبة مش هتخافي بالطريقة دي!
ختمت كلماتها بضحكة خبيثة ثم طرقت المكان بأكمله، أما عشق فلم ترد، ترجلت بعيدًا عن ذلك التجمع، ولكن زين لحقها سريعًا، مسكها من ذرعها بعنف وسألها بحنق شديد:
ـ هو في أيه؟ ما تفهميني!
نفضت يده من ذرعها بعنف ثم هتفت بعصبية:
ـ وأنت مالك ومالي! سبني في حالي أنت كمان.
ـ ما تفهميني أنتِ أيه حكايتك! وأيه حكاية أوراقك واسمك اللي مش بتحبي تجيبي سيرتهم، أنتِ أيه اللي وراكي بالظبط!
ـ وأنت مالك! ملكش دعوة بحياتي، أبعدوا عني بقى.
نهت كلماتها ورهلت بعيدًا عنه، أما هو فكان ينظر في اثأرها بتعجب، لا يعلم لماذا تفعل كل ذلك! وما الشيء الذي تخفيه عنه وعن عيون الناس! فهو أيقن إنها تخفي شيء خطير، وذلك الشيء متعلق بحياتها الشخصية وعملها الذي تعرف عليها فيه!
                        *******************
ـ قربنا نوصل؟
هكذا سأل نوح أسيل، نظرت أسيل للطريق وقالت له وهي تستعد للهبوط من تلك السيارة.
ـ قدامنا شوية حلوين مشي، مش كتير يعني، بالكتير ساعة مشي.
نظر أمامه وهو لم يستوعب ما قالته للتو، فذلك الطريق التي وقفت عنده هو صحراء! نظر لها وقال:
ـ دي صحرا! هنمشي فين يا بنتي.
ضحكت بسخرية ثم هتفت قائلة وهي تخلع حقيبتها وتأخذ منها بعض الأشياء.
ـ أومال أنت فاكر أنك رايح فسحة؟! ده مرمطة يابا الحج، المخزن على الصحراوي، يعني تاخد تلبس الكاب ده، وتمسك المياة دي وتسكت.
ختمت كلماتها وهي تضع في يده قبعة تحميه من أشاعة الشمس وزجاجة مياة، أخذهم منها ولم يعقب، أخذت من الحقيبة نفس الأشياء، أرتدت القبعة وتكرعت من زجاجة المياة.
ظلوا يمشون وهم صامتين لدقائق، ولكن لم يستمر ذلك الصمت، فكسره نوح عندما سألها بفضول يتراقص في عينه:
ـ هو أنتِ سيبتي مصطفى ليه؟ أنا السبب؟
نظرت له وابتسامة جانبية ارتسمت على شفتيها، ذكريات كثيرة قفزت في رأسها دفعة واحدة، نظرت له ثم قالت:
ـ يمكن كنت أنت السبب، ولكن مش السبب الأساسي، يمكن كنت مجرد خيط بسيط ساعد أني أسيبه وأمشي.
ـ مش فاهم حاجة،  بس خلينا نسأل السؤال الأهم،  أتخطبتي له ليه؟
هكذا سألها ببساطة، بينما هي؛ فلم يكن السؤال بتلك البساطة، لمعت عيونها بالدموع، لم تهتم لها، لكنها كانت تحتاج للبوح عن ما في قلبها من الآم ووجع، تنهدت ثم قالت بصوت مهزوز:
ـ عشان كلام الناس يا نوح، كلام الناس اللي مش بيخلص، شوف قاعدة لوحدها، شوف قطر الجواز فاتها، شوف بعد ما أخوها مات محدش عارف بتروح فين وبتيجي منين!
من بعد أخويا وأنا بقيت بتطوح بين ألسنة الناس، شوية أسمعهم بيتكلموا عن أفعالي، وأزاي وحدة في سني ترجع بيتها بليل كده! أزاي لسه متجوزتش! أزاي وأزاي، كل يوم كان بيعدي عليا كنت بسأل ربنا سؤال واحد، ليه؟ ليه خد مني الشخص الوحيد اللي كان باقيلي؟
ـ مات من زمان؟ 
أنهمرت دموعها بعنف، تذكرته وتذكرت كل تفاصلهم سويًا، واصلت قائلة:
ـ من سنة، سنة بالظبط، مات في حادثة، كنت متكتفة ومش عارفة أعمل أيه، أنا... أنا مكنش ليا غيره! أزاي هعيش من بعده؟ كنت بمُر بحالة صعبة، لكن اللي خرجني منها هي كريمة، كريمة اللي عرفت تحتويني في أكتر وقت كنت محتاجة فيه الأحتواء، كانت هي كل حاجة ليا، حاولت بكل الطرق تعوضني عنه، وهي اللي حاولت تقنعني بمصطفى لما جيه وأتقدملي، لكن كانت عيوبه مغطيّه على كل شيء فيه! بس كنت خايفة أسيبه! أنت متخيل؟
كان يستمع لها بأهتمام شديد، كلماتها لمست ذكرياته، وضع يده في جيب سرواله ونظر للسماء ثم قال لها:
ـ تعرفي أن قصتك تشبهني.
رفعت أناملها لوجهها ومسحت دموعها الساقطة على وجنتيها وسألت وهي تنظر له:
ـ أزاي بقى؟ أنت معاك اهلك كلهم تقريبًا.
ابتسم بسخرية ثم هتف قائلًا:
ـ أهلي معايا! هو الحقيقة أن أبويا موجود ولكنه ملوش وجود في حياتي، أنا مليش في الدنيا غير أختي، حتى أمي لما كانت عايشة، كان وجودها سلبي دايمًا، تقدري تقولي محستش بتغير لما راحت، كان الحال هو الحال، أب دايمًا بعيد، بيحاول بكُل الطرق يجمع فلوس وبس! بيحاول يحافظ على ثروته بأي شكل، حتى لما قرر يجوزني بنت صاحبه، كان عشان مصلحته في الأول والأخر! هو حقيقي ميعرفش يعني أيه أب، أو يعني أيه أحتواء الأباء لولادهم، أنا.... أنا كنت لِ ليان كل حاجة يا أسيل، كنت أنا الحضن اللي بتجري عليه لما تحب تهرب من الدنيا، هي متعرفش حد غيري، تعرفي؟ تعرفي أن يامن بيحبها من زمان، وهي هبلة، هبلة ومتعرفش أي شيء عن حبه ليها، وهو أهبل منها لأنه فاكر أني معرفش! ميعرفش أني كنت بشوف حبه ليها في عيونه، في نظراته ليها، بجد هو غبي، وهي تعيسة عشان... عشان شكل أبويا هيقضي على حياتها باللي عايز يعمله فيها! وأنا مش قد المسؤلية يا أسيل طلعت مش قد كلمتي، كنت وعدها أني هكون ليها أمانها، مش هخلي حاجة تأذيها، لكني... لكني مش عارف أعملها حاجة، في حاجات كتير هتأذيها وأنا متكتف! تفتكري هعرف ألحقها؟
هكذا ختم كلماته بسؤاله لها، وقفت أسيل أمام تلك البوابة الكبيرة، نظرت له وابتسمت وقالت له:
ـ يا بتختها بيك، وهتلحقها متخفش، بس أحنا نخرج من هنا على خير الأول.
نظر هو الأخر لتلك البوابة، بدل نظراته بين البوابة وبين أسيل وسأل بتعجب:
ـ هو الوقت عدى بسرعة؟
ـ تقريبًا.
ثوانٍ وآتى لهم رجال الأمن، نظروا لهم بتقيّم ثم سأل أحدهم.
ـ أنتوا مين؟
نظرت أسيل لنوح بتوتر ثم أجابت وهي تخرج تلك البطاقة من جيب الجاكت وتقول:
ـ أحنا عُمال النطافة يا بية، والكارنية أهو.
فعل مثلها نوح، وخرج البطاقة وعطاها لنفس الرجل، كان ذلك الرجل ينظر للبطاقات ثم يرجع بنظره نحوهم، أستمر الوضع لدقائق ثم هتف قائلًا وهو يُشير لحارس البوابة لكي يُفتح الأبواب على مذرعيها.
ـ أتفضلوا معايا عشان أوريكم شغلكم.
تنهدت أسيل براحة، نظرت لنوح غير مُصدقة أن أول خطواتهم مرت بسلام! مسكت يده ودخلوا سويًا لذلك المكان، نظرت له ثم همست من بين شفتيها قائلة:
ـ شكلنا هننجح ولا أيه؟

يتبع..
#رحلة_عبر_الزمن
#الفصل_الثاني_عشر
#NORA_SAAD

رحلة عبر الزمنWhere stories live. Discover now