مبروك.

93 4 0
                                    

استيقظت ايناس بتململ في فراشها ،تكره الايام التي تبتدأ بدقات قلب غير متتظمة ،تكره حماس البدايات و ذلك الشعور في معدتها  الذي يدغدغها كلما تحمست بشأن شئ ما .
ايناس: اوكي يا ايناس دا اسمو يوم التجاهل ،اتنفسي بعمق ... و اتجاهلي.
جهزت نفسها و غادرت مسرعة،لا تريد ان تكون متأخرة في اول يوم تدريب ميداني لها.(و ربما لا تريد ان تتأخر عن رأيته ..من يدري ).
وصلت الى المركز فوجدت زملائها في مجموعات امام الباب ينتظر كل منهم دكتورهم الذي سيكون مرافقهم،اتجهت هي الى مجموعتها القت عليهم التحية و بدأت تتجاذب اطراف الحديث معهم عندما سمعت صوته خلفها ،استدارت بفرحة سرعان ماتداركتها و عدلت شفتيها عن الابتسام .
وقف يزن عند رأسها و كأنه على وشك ان يحتضنها، عبر بنظره على جميع من في المجموعة و ما ان التقت عيناه بعينيها توقفت عيناه عن الحركة كما كل جسده، بدا مغيبا عن الوعي تماما و هو يلفظ ببلاهة خبر ان زميله سيتغيب اليوم لظرف ما و عليه سيتعين على المجموعتين ان تكونا تحت اشرافه.
نظرت اليه ايناس بتعجب و هو يحدق اليها بينما يتحدث الى المجموعة كلها فاحست باحراج شديد دفعها الى المشي للحاق بالمجموعة الاولى التي سبقتهم الى داخل المركز .انتبه يزن بعد عدة ثواني الى انه يحدق في الفراغ فتنحنح بحنجرته ثم تبع الطلبة الذين لحقو ايناس عندما مشت .
دخل الجميع الى غرفة تبدو مخصصة للاجتماعات اين اخبرهم يزن بانهم يمكن ان يتركو حاجياتهم و خصوصا هواتفهم .ارتدى الجميع مأزرهم و غادرو في اروقة طويلة،شرح لهم يزن ماسيفعلونه اثناء تنقلهم، سيجلسون في مدرج كبير بينما تقوم ممرضة بادخال نزلاء مركز الرعاية واحدا تلو الاخر ،سيتولى يزن محاورة المريض الاول بينما يتناوب الطلبة على محاورة من سيليه.
و بالفعل اتخذ الجميع اماكنهم و دخل المريض الاول ،ابدى يزن براعة كبيرة في محاورته و جعله يرتاح له و يحكي مايجول في تلابيب نفسه.
توالى الطلاب يحاورون المرضى الى ان وصل دور ايناس،نزلت برشاقة من مقعدها بينما كانت كل الانظار عليها من بينهم يزن الذي تابعها تتقدم نحوه و عيناه تلمعان و كأنها عروس تزف اليه،تفادت ايناس النظر الى عينيه و جلست على الكرسي المجاور لمكتبه بينما ادخلت الممرضة فتاة شابة تبدو هزيلة و شاحبة ،جلست على الكرسي المقابل لايناس ثم رفعت رأسها اليها و ابتسمت لها بلطف : عينيك حلوة اوي .
تفاجأت ايناس بالفتاة التي تتحدث المصرية بطلاقة : هو انت مصرية ؟
الفتاة: ايه الصدفة الحلوة دي .انت كمان مصرية ؟
التفتت ايناس الى يزن : هو احنا ممكن نتكلم مصري ؟
يزن : طبعا .اللي يريحكم .
بعد ان انهت ايناس الاسئلة الروتينية عن اسم و عمر المريض و مشاكله الصحية ....و ما الى ذلك.بدأت الفتاة تتحدث باسهاب و كأنها كانت تنتظر من يسمعها: انا ممكن اكون الحالة الاسهل في المركز ده يا دكتورة ،انا ماعنديش مشكلة كبيرة انا بس محتاجة حد يسمعني ،انا عشت طول عمري خفية،ماحدش بيديني اهتمام حتى ابويا و امي،مابقولش انهم اذوني و عملولي اي حاجة وحشة ،لأ هما كانو بيحبوني و يعاملوني كويس اوي لغاية ماحد من اخواتي يحضر ،ساعتها الحب كلو و الاهتمام كلو بيروح ليهم و انا اتنسي تماما ،المهم يادكتورة انا حكايتي بدأت لما كان عندي ١٦ سنة ،كأي بنت مراهقة اتعرفت على حد من على النت ،هو كان شخص كويس اوي معايا ،محترم جدا ،بينلي انو بيحبني و بيخاف عليا بس بعد ٥ ايام من اعترافو ليا انو بيحبني اختفى ،مافتحش حسابو تاني من غير مايقولي اي كلمة عن سبب اختفائو ،خفت عليه جدا ،انا للي اتعودت اني اكلمو طول اليوم ،هو راح فين؟ ياترى حصلتلو حاجة ؟ و لا انا للي غلطت معاه في حاجة و هو زعل؟ فات يومين عليا عييت فيهم جدا مابقتش اكل و لا اشرب ببكي طول الليل ،فتحت حساب تاني و لقيتو عايش حياتو بكل بساطو ففهمت انو ماحصلتلوش حاجة هو بكل بساطة سابني فمسحت دموعي و قلت خلاص هو الخسران ،مش عايزني ؟ خلاص مش هكلمو تاني الحب مش بالعافية ،و في اللحظة اللي بدأت ارجع فيها لحياتي العادية بلاقيه رسلي رسايل تاني بيقول انو ماقدرش على فراقي و انو بيحبني ،طبعا مش هاحكيلك عن فرحتي لحظتها الارض كانت مش شايلاني بتعرفي لما نزار قباني قال :

وبدون أن أدري تركت له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه ..
ونسيت حقدي كله في لحظة
من قال إني قد حقدت عليه؟
كم قلت إني غير عائدة له
ورجعت .. ما أحلى الرجوع إليه.

هو ده بالظبط نسيت كل حاجة و رجعتلو على طول ،و مر على علاقتنا ٥ شهور كنت فيهم امة ذليلة ليه ،بعمل كل للي هو عايزو ،مابخالفوش في رأي نهائي بنتكلم من الساعة ٨ الصبح لحد ٥ بالليل لما يرجع بيتهم عشان ماكانش عندهم نت في البيت ،كنت قبل ما انام بسيبلو كمية رسائل رهيبة،بحكيلو عن ازاي انا بحبو و متعلقة بيه و عن اني ببقى مش بتنفس لو غاب عني دقيقة وحدة ،كنت بسيبلو اشعار و اقتباسات و صور ..كلو عشان يشوفهم الصبح لو هو صحي قبلي.
اما لو اتأخر و لو نص ساعة عن مواعيدنا كنت بتقلب و باكتأب ببطل اكل و كلام و بحزن لغاية مايرجعلي.و ياحزني في اليوم للي مرض فيه و ماعرفش يطلع من البيت ،افتكرت انو سابني تاني ،كنت بستفرغ حرفيا من كمية الحزن و القلق و الخوف .مضت الايام على الحال ده ،مابعملش فيومي غير اني اكلمو،عينيا على طول متسمرة ع الشاشةلغاية مابصري تعب،نفسيتي تعبت من الروتين و من المشاكل للي بدأت تظهر مابينا،كان شخص من المستحيل انو يعترف بخطأو فكنت انا للي بتذل و بعتذر عن اخطائي و اخطاؤو ،كنت حزينة جدا في العلاقة دي بس ماشي كلو يهون عشانو المهم انو معايا و مابيسبنيش.
في يوم كنت قاعدة مع بابا و كنا بنتكلم عن اني هدخل ثانوية عامة السنة دي و اني لازم ادرس كويس و اركز في دراستي فبابا قالي انو هيقطع النت عن البيت عشان اعرف اركز ،زعلت جدا و رحت بسرعة اسيبلو رسالة احكيلو عشان مش عايزاه يحس بللي انا بحسو لما بيغيب عني من غير مايعرفني ،سبتلو رسالة و بعدها فضلت استنى ردو بس الرسالة ماتشافتش اصلا ،عدى يوم واتنين و تلاتة و هو مش بيفتح الاكونت بتاعو و لا بيشوف رسايلي ،اتصلت بيه كتير ماكانش بيرد فعرفت انو عملها تاني he ghosted me .
مابكتش و لا زعلت ،كل احساس فيا اتجمد.بس بعدها بفترة رجعت تعبت تاني كان بيوحشني اوي كنت حرفيا بعاني من اعراض انسحابو من حياتي و كأنو مخدر كنت بتعاطاه ،بعتلو رسايل كتير  ماكانش بيشوفها ،لمتو و عاتبتو كتير ،انا ماكنتش زعلانة انو سابني انا كنت عايزاه يواجهني،يقولي انو هيسبني و هيسيبني ليه؟ مش يختفي من حياتي بالطريقة دي، بيسيبني الوم في نفسي : اكيد انا للي وحشة عشان كده سابني،يمكن اليوم الفلاني لما قلتلو الكلمة الفلانية زعل عشان كده سبني ،يمكن انا مش حلوة عشان كده سابني..... عذبت نفسي بكل الطرق سألتها كتير و استجوبتها بس ماعرفتش هو كان بيعمل كده ليه .انا لو كنت اوحش وحدة في الدنيا ماكنتش استاهل للي عملو فيا ،استاهل انو لو حتى برسالة يقولي انو انفصل عني ،مش يسبني خايفة عليه انو جرالو حاجة بينما هو عايش حياتو بالطول و بالعرض .
انتهت الفتاة من سرد قصتها و ايناس تحارب دموعها كي لا تنزل ،بدا على يزن  التأثر ايضا بينما بدا ماعداهما غير ابهين بتاتا ،لم يفهم احد ماكانت الفتاة ترويه سوى ايناس و يزن لذا كانت جرعة الحزن اليوم من نصيبهما وحدها ليتقاسماها.
عاد الطلبة الى الغرفة التي تركو بها اغراضهم ،جمعو اشيائهم و همو بالخروج عندما نادى يزن ايناس لتعطيه هاتفه الذي كانت تقف امامه .ما ان لمست الهاتف حتى اضائت شاشته: صورة دينا ترتدي فستانا ابيضا رقيقا و باقة ورود في يدها بينما يزن بجانبها ببذلة سوداء يبتسم بسعادة .صعقت ايناس ووقفت مكانها ،لم تعد تسمع ايا من الاصوات التي تحيط بها و كأن احدهم قد زج بها للتو في فقاعة عزلتها عن العالم ،اذا فقد تزوجا! لماذا اذا مازال ينظر اليها بهاته الطريقة التي تجعل قلبها يقفز من مكانه كلما التقيا ؟
عبرت ايناس الباب اين يقف يزن امسكت بيده و وضعت الهاتف عليها بعنف: الف مبروك يادكتور،مش كنت تعزمنا؟

نيويورك Where stories live. Discover now