🍁الفصل الثالث والعشرون🍁

1.1K 44 5
                                    



🍁الفصل الثالث والعشرون🍁

🍁لقاء العمالقة🍁

بعد أسبوعين
أقفلت غزل جهازها الحاسب وتنهدت بقلب مثقل قبل أن تضعه على الطاولة الصغيرة بجانبها، وتستلقي على الفراش الوثير وتغلق عينيها، تحيط نفسها ببعض الظلمة علّها تنسدل على الأفكار والهموم فتدفنها، ولكن أنّى لها الفَناء وكلّ يوم هناك منهنّ المزيد... كلّ يوم هناك من تنتهك حرمات جسدها إمّا من قريب أو غريب...
"باب أمل" بات جزءا مهما لا يتجزأ من حياتها... تسمع وتقرأ عن معاناة غيرها الكثير فتتضاخم جبال آلامهم في قلبها حتّى بات همّها كحصوة على حافة إحدى تلك الجبال، فهذه التي تعاني في صمتٍ محرومة من الزواج لأنّها لا تمتلك الشجاعة الكافية للإفصاح، وتلك التي تكالب عليها ثلاثة وجعلوها متعة مشتركة لهم، وأخرى لا يكفيها ما رأته من مغتصبها من قرفٍ فتضطر للقبول بالزواج منه درءا لفضيحة محتمة، وغالبهنّ... يعانين من سوء المعاملة وكأنهنّ هنّ من أخطأن فتحولن من ضحايا إلى خاطئات... وأما كلّهنّ...كلّهنّ لا يمتلك كرم أو ككرم!!
تنهدت غزل عند ذكره وأخذت تدفن رأسها بين طيّات غطاءه تستنشقه تبحث فيه عن سكن روحي ترتجيه تبحث عبره عن صاحبه... صاحبه الذي كان يعيش حالة غريبة من الصمت المطبق والنظرات الباردة كما الثلوج السوداء بعيونه الغائرة... كانت ترى كلّ مافيه يتوجع، بالضبط كما كانت حاله قبل أربعة سنوات... ذات الحزن... ذات الصمت... ذات الألم... ذات التجنب المؤلم لوجودها، وأيضا كما قبل أربعة سنوات... غادر تاركا بعد عدّة أيّام
لكنّ الفرق الآن كان بها هي، فهي ليست غافلة عن معاناته هذه المرة بل على العكس باتت في خضم تفكيرها الدائم به لا تذكر مأساتها إلّا عبر معاناته هو، باتت تحاول تخيّل مشاعره فيعتصرها قلبها ألما... ألم يكن هذا فحوى ما قالته له قبل أسبوعين؟!
*
*

وقفت غزل بحدّة ونيران الغضب تحرق أحشاءها بقوة وتحرّكت لتقف أمامه وتقول باستغراب شديد لإعوجاج تفكيره... تفهمه ولكنّها لم تعد مضطرة للإحتمال أكثر من ذلك: انتقمت؟! بتسمّي خوفي عليك وحمايتي الك انتقام؟
رفع رأسه إليها ليردد بعيون ميتة: حمايتك وخوفك!!
نظرت له غزل بقهر وقالت: سنين وأنا ساكتة... سنين... أوّلها... أوّل أيّام سكتت من الصدمة... أخدت وقت لفهمت شو صار... شو سويت فيكم إنت وعماد... كيف انظلمتوا معي انتو التنين من دون حتى ما أقصد... هو... عماد... أنا ما بعرف شو اللي جابوا بهداك الوقت... ولا بعرف كيف قتله بالزبط... كلّ اللي بعرفه هو ميداليتك اللي جابلي إيّاها كدليل على براءتي وعليها دمه للحيوان...أقحم حاله بالموضوع برضاه... لإنّه بعرف إنّي مظلومة... ورسالته اللي بيطمني فيها إنّه خلّص عليه و... وبيطمني إنّه راح يستر عليّ... بس... بس ما بعرف شو صار وأخّره... وأنا ما شفتها... ما شفتها للرسالة إلّا بعد أيّام كمان...
خنجر مغموس بماء من النار هو ما طعنه في وسط صدره بينما يستمع لتلك الكلمات التي تقولها بما يشبه الحسرة... الكلمات التي تدينه بها أكثر مما كانت تمجّد عماد... فعماد من صدّقها... عماد من أخذ بثأرها... عماد من اختار أن يتزوجها درءا للفضيحة برضاه وبإختياره... لا تزوجها مرغما ليهجرها بعد أيّام متسببا لها بفضيحة أكبر
آآآه يا كرم وألف ألف آآآه... حسن حظٍ كان قرينك هو ما أخّر قراءتها لتلك الرسالة وإلّا لكانت امرأتك الآن ملكا لغيرك... لا... لم يكن حسن الحظ إنّما هو القدر... فغزل قدره رغما عن أنفها وأنفه وأنف عماد وأنوف العالمين أجمعين
راقبها بينما تنظر له الآن بعينيه مباشرة بقوّة فريدة سحرته بقدر ما أخافته... أخافه ما سيسمعه منها الآن... قرأه بعيونها قبل أن تلفظه شفتاها: أمّا إنت... فأنا كمان ما بعرف... ما بعرف ليش كان إسمك بالذات بيتردّد على لساني بوقتها... يمكن كنت حاسّه إنّه خلاصي راح يكون على إيديك... بس... ما قصدت أتهمك... وما قصدت أخليهم يجوزوك إيّاني غصب عنك... بس كمان بعترف إنّي ما رفضت... ما رفضت لإنهم أساسا ما أخدوا برأيي ولإنّي... خفت... خفت... لو رفضتك شو بدّو يبقالي يا كرم... كنت خايفة... خايفة وأنت... إنت تركتني خايفة أكتر
قالتها غزل لتنهار في بكاء شبيه بنواح على عزيز... قتلت قلبه بألمها فوقف بسرعة يريد ضمّها ومواساتها كما اعتاد أن يفعل دائما في لحظات انهيارها لكنّها ما إن أحسّت بكفّيه تلامسانها حتى نفضتهما بعيدا عنها بعنف ونظرت له بعينيها اللتان تشتعلان كما نار في غابة وتقول في عنف: إتركني!! إتركني أنا مش بحاجة لمواساتك... أنا الحمد لله خلص صرت منيحة... منيحة وما بدّي غير أحكي... مش إنت بدّك تعرف... مش هاد اللي بتطلبه منّي من أربع سنين... فإذا إتحمّل وإسمع!!
إهتزّ قلب كرم بعنف وأراد أن يرجوها أن تصمت ويصرخ فيها قائلا أنّه لا يريد أن يعرف... لا يريد أن يفهم... لكنّه صمت... صمت لأنّه شعر بعمق حاجتها إلى البوح... إلى إخراج ما بقلبها وعقلها من تفاصيل متعفنة تتآكل عقلها فروحها، فابتعد عنها بهدوء، وجلس أمامها على إحدى الكنبات وصمت... أكملت بهدوء: إختفى عماد وأنا ما عرفت مين اللي عمل فيي هيك... لحتّى عرفت... وفضلت ما أحكي اضلّ ساكتة... يمكن لإنّي كنت صغيرة وجاهلة ... ما عرفت أتصرف... بالضبظ زي ما كان عماد صغير وما عرف يتصرف... خفت عليه، خاصة إنّي عرفت إنّه سفره لا بدّ كان هرب... هو قاتل ولو حكيت أي كلمة كنت راح أورطه بمصيبة... لا أنا ولا هو يمكن كمان إجا ببالنا إنّه اللي صار كان دفاع عن عرض وما عليه عقاب... عدى عن الفضيحة طبعا... إنت كنت مش موجود ومعرفة الفاعل أو عدمها مش مهمّة...
تراخت غزل في وقفتها واكملت بصوت مجروح سارحة في البعيد: ورجعت إنت... وضلّيت ساكتة رغم كلّ ضغطك عليّ... كتير مرّات كنت أسأل حالي ساكتة ليش يا غزل... عماد بأمان وكرم مستحيل يحكي ويفضحك... لمّا إنت كنت بتدوّر عليه... كنت أحيانا أخاف وأقلق... شو ممكن يصير فيه لو فعلا إنت لاقيته وغصبته بأي شكل من الأشكال إنّه ييجي... وأحيانا بالعكس كنت أرتاح وأقول خلّي يرجع لبيته وأهله... يمكن هالضمير يرتاح!
أصوات النيران التي تتلظّى في قلبه في كلّ مرة كانت تذكر فيها إسمه كانت تكاد تعلو بصوت اصطلائها فتتسبب له بفضيحة... راقبها تنظر له بعيونها الرامشة بكثرة وتقول: كنت أسكت لإنّه... كيف... كيف بدّي أحكي بموضوع بينحرني من جوّا بس أتخيّله براسي مجرّد صورة... صورة أنا بقرف منها... كيف بدّي أحكيلك إنت بالذات عن اللي صار... كيف... كيف بدّي أحكيلك...
صمتت غزل لتتحوّل نظرتها إلى العنف والتوحش والإصرار فتقترب منه وتقول بتصميم: شو بدّك أحكيلك... بتحب أحكيلك عن رعبي وأنا بشوف زلمة غريب بنص بيتنا... بيتنا الفاضي اللي المفروض ما في غيري... ولّا يمكن بتحب أوصفلك نظرته... نظرته كيف كانت بتعرّيني بشكل... بشكل كتير جوعان... ولّا أحكيلك... شو رأيك أحكيلك كيف جرني من شعري للصالون وهو... بيلمس بإيديه كل شبر بجسمي... بطريقة... بطريقة... كتير...
كانت يدا كرم تتقبضان بعنف وحشيّ وكلّ ما في داخله يصرخ بها يطالبها بالصمت بل بالخرس ولكنّه لسانه الذي دوما ما يتمرّد عليه هو ما صمت عاصيا أوامر عقله المرعوب... وكأنه يتعمّد تعذيبه مع علمه لإستحقاقه لذلك القصاص... سمع بكاءها الحادّ ورآها كيف تنفض من عينيها تلك الدمعات وتكمل في عنف: بتحب أعدلك كم كفّ أكلت... شو بدّك تعرف كرم آآآه خبرني بالضبط شو بتحبّ تعرف.... آآآه خلص خلص... أكيد.. أكيد حابب تعرف عن هديك اللحظة... اللحظةاللي قدر فيها... يوخد...
وقف كرم بعنف ليقبض على فمها ويغلقه في كفّه بعنف مجنون بينما يصرخ بملء فيه: خلص غزل بس... بكفّي حرام عليكي تعذبي حالك وتعذبيني...
كانت تقاومه بعنف ودموعها تغسل كفّه وتغلق مجرى التنفس الوحيد المتبقي لها حتّى ازرقّ وجهها فأبعد قبضة يده عن فمها ليقبض هذه المرّة على شعرها ويجرّها لصدره بعنف ويميل برأسه فوق رأسها فيؤازرها بدموع أخرى ويردّد كلماته بهستيرية مكتومة يحاول بها مداراة دموع رجولته المهدورة بعنف أمامها: أسكتي أسكتي أسكتي... خلص
استمرّت غزل في البكاء في عمق صدره وما إن هدأت قليلا حتّى تمتمت بصوت مخنوق: طول هاد الوقت كنت أسكت وأقنع نفسي إنّي ساكتة عشان عماد أو حتّى عشاني... أو حتّى عشان أنتقم منّك وأقهرك بالسكوت... لغاية اليوم... هلأ من شوي... لمّا اكتشفت إنّه طول هاي السنين وأنا ساكتة من شانك إنت.. لحتّى أحميك من الإحساس بالعجز والذنب والغدر اللي شفتهم بعيونك من شوي...
نفضت غزل نفسها عنه بعنف من جديد لترى نظرته العارية إلّا من ألمه فتكمل بعنف: وبعد كل هاد جاي بتقوللي انتقمتي!! انتقمت من ايش ولا من ايش... من هجرك ولا كلماتك اللي زي السم ولا شكك فيي واتهماتك اللي لسّة ما خلصت!!!
نظر لها كرم بعذاب وقال بصوت هادر: أنا ما شكّيت
لتجيبه هي بإصرار: لأ شكّيت... كل كلماتك وتلميحاتك كانت مليانة شك... أنا خلص... ملّيت من الشعور بالذنب... ملّيت من الشعور بالدناءة... أنا بنت كويسة... تعبت كتير وهلأ بدّي أرتاح... دفنت حالي سنين طويلة وصارلازم أعيش... لإنّي بستاهل أعيش!!
*
*

عيون لاتعرف النوم (ج1 من سلسلة مغتربون في الحب) لِـ "نيڤين أبو غنيم"Where stories live. Discover now