~ ¤ تمهيد ¤ ~

40.6K 1K 189
                                    

المكان : حي ستانلي / الأسكندرية
الزمان : عام 1986 أوائل شهر تمّوز

هكذا بدأ الأمر... برؤيتها مصادفة و هي تسير ضمن مجموعة صغيرة من الفتيات اليافعات في مثل سنها تقريبًا فوق جسر المدينة الساحلية الشهيرة

لم و لن ينسى حتى أدق التفاصيل لهذا النهار أبدًا.. فستانها الزهري المزيّن بالورود البيضاء.. شعرها الأشقر الطويل مرفوعًا على شكل ذيل حصان و مربوطًا بمشبكٍ من الصدف.. عيناها الواسعتان كمحيطٍ أسفل حاجبين مرسومين بدقةٍ.. و الأنف حادٍ صغير ينحدر إلى فمٍ مكتنزٍ تغطيه طبقة من طلاء الشفاة فاقع الحمرة

كانت بشرتها البضّة الناعمة حيث كانت مكشوفة الذراعين و الساقين متلألئة تحت آشعة الشمس الساطعة... ضحكتها الجميلة و المسموعة تعزز من تألقها و تميّزها بين قريناتها.. كانت أجمل منهن... بل أجمل نساء الكون في نظره يومها و حتى أخر عمره

بهذا الشكل إجتذبت إنتباهه.. و هي تمشي في خط و في يدها كأسًا من المثلجات تأكله و تضحك في آن... بينما هو يمشي بالخط الآخر مهرولًا يحاول اللحاق بمعيادٍ هام

لحظة أن وقعت عيناه عليها نسي كل شيء... حرفيًا كل شيء.. جمد بمكانه كالصنم يحملق فيها فقط.. مرّ الوقت و هي تتهادى في خطواتها بتمهلٍ

كانت تمضي و تذهب أمام ناظريه.. و لا يعلم أيّ قوة دفعته لتغيير مساره فجأة لينتقل إلى الجانب الآخر و يسير في إثرها متتبعًا خطاها دون أن يبدو عليه بأنه يراقبها

مشى بشوارع و أماكن لا يعرفها.. لم يكن يلاحظها أصلًا... تركيزه كله مصوّبًا نحوها.. قضى أكثر من ساعة في تقفي أثرها... لكنها و لحسن حظه كانت أول من وصلت إلى بيتها.. و الذي لم يكن سوى عمارة فخمة بضاحية راقية تعرّف عليها لاحقًا

ودعت صديقاتها مكتفية بالتلويح لهن.. ذهبوا... فدخلت هي.. ما كادت تصل أمام المصعد الكهربائي تمامًا إلا و أحست بتلك القبضة الفولاذية تحاوط رسغها على حين غرة

لم تعرف كيف كتمت صرختها الملتاعة، في نفس اللحظة تجتذبها القبضة بقوةٍ و تلصقها بالحائط الرخامي في زاوية معتمة... كان هناك شعاعٍ كفاها لتبيّن هوية ذاك الجريئ الذي حرى بها أن ترتعب منذ أول وهلة بين ذراعيه بل و تصرخ لتفضح أمره

لكن عوض ذلك بقيت ساكنة تمامًا تحدق، في وجهه الطويل ذي القسمات القاسية الجذّابة.. و تلك العينان العسليتان بمسحة غامضة

كانت مضطرة أن تتطلع لأعلى حتى ترصد كل هذا.. فقد كان طويل القامة و ضخمًا بصورة مخيفة و مطمئنة في آن... فهي للحق لم تكن تشعر بأيّ تهديد من جانبه.. إنما الاستسلام.. و الاستسلام التام فقط لسيطرة خفية تنبعث منه و تجبرها على الخضوع و الترقب هكذا ...

لم تشعر بالملل أو الخطر لدوام الوضع المريب الذي جمعهما.. لم تشكو و لم تتحرك قيد أنملة... حتى قرر أن يكسر الصمت ناطقًا بصوته الغليظ الجاف :

وقبل أن تبصر عيناكِWhere stories live. Discover now