دومينا مملكة للنساء فقط +١٦

By Avuona_X

48.5K 3.5K 1.4K

في العصور الغابرة، كان وأدُ البنات وقتلهن عادةٌ سائدةٌ، لكن ماذا إذا انقبلت الأدوار، وكان للنساءِ السيادة ولل... More

إهداء
لمحات
ثمانِية عشَر
ليلة سقُوطِ الشَرف
أَذهَانٌ جَدْبَاء
قِسمَةٌ ضِيزَى
نِصفُ الأنثى المَفقُود
بُيوتٌ مُشيَّدةٌ على عُصِي
البُقعةُ المُحَرَّمة
جبرُوتُ حَوَّاء
لَا ذُكورَ بعدَ اليوم
أنتِ ذُكُورِية رَجعيةٌ
مِنْحَةُ مِحْنَة
دقَّت القَارِعَة
ذكرى سنوية دومينا

سُيوفٌ وعطور

1.9K 241 111
By Avuona_X


صوت الخشخشة العالي ذاك لفت انتباهي، استغرقت بعضًا من الوقت كي أجد مصدر الصوت، أخذت أتتبع الخشخشة حتى وصلت إلى عتبة بابي شبه المفتوح التي تجاور رسالة ورقية.

مددت يد الفضول والقلق إلى الرسالة التي يعلوها ختم صعب الفتح؛ حتى لا يفتح أحد الرسالة قبلي، حتى أني اضطررت أن أمزق أجزاءً من الورقة، كي أتمكن من فتحها.

«دارنده موقعیت الملكة فتون!»

سمعت صوت عدنان وهو يصيح في الخارج ينبه الجواري بأن الملكة فتون تمر من هنا، رميت الورقة بعيدًا تحت كومة القماش الذي سيُفصل منه فستان الأسبوع القادم، فكلمة «دارنده موقعيت» كلمة اعتدنا على قولها منذ الاحتلال الفارسي، وتعني صاحب المنصب، فعندما تسمعها تعرف أن أحد أصحاب المناصب يمر من هنا.

وقفت أمامها وهي تنظر إلي من فتحة الباب الصغيرة، وسرعان ما فُتح الباب وأخذت ترمقني بنظرات استعلاء تسطو على كرامة أي أدمي.

«أين كانت الملكة أسمى هذه الظهيرة؟»
تجلت نبرة متغطرسة فيها لهجتها الحادة، أبعدت أطراف شعرها المجدل عن كتفيها وسمحت له بالاختباء تحت الخرقة التي كانت ترتديها.

«كنت أُروِّح عن نفسي وأشتم بعض الهواء.»
لا أدري حقًا من أين لي بهذه الجرأة، لكن هذا ما قد قلته بعد لحظات صراع مع ذاتي.

«ألا تعلمين أن هذا ممنوع؟»
اقتربت ببدنها صِوبي دون أن تُزعزع قدميها عن الأرض، بينما يكاد قلبي يقفز ليسكن ما بين نهديها كلما تُقبل علي.

«أعي ذلك، لكن أعتذر منك، مثلما هو ممنوع علي أن أخرج من القصر، فكذلك ممنوع أن يجبرني أحد على شيء أنا لا أتقبله، أليس كذلك؟ أظن ما حدث لي منذ مدة هو مخالفة لقوانين القصر، ألست محقة؟»

هربت من جيوبها الأنفية ضيقة الفتحات أنفاس بطيئة متقطعة، قبل أن ترسم ابتسامة مستقيمة أشك بصحة إطلاق مسمى ابتسامة عليها.

«أما زلتِ غير قادرة على النسيان؟ دعك من هذا كله، يبدو أنك درستِ القواعد جيدًا، ماذا عن رئاسة الجواري؟ هل هو منصب شرفي كما تنص القواعد؟ اعتبري هذا تحذيرًا يا أميرة، إن لم تهتمي بشؤون عملك سيسحب منك المنصب عما قريب.»

نُحتت على ملامحي ابتسامة متيبسة مبادلةً إياها هذه الملامح الجامدة، كوَّرت وجتني وثبتت على هذا الوضع إلى أن استدارت وأكملت طريقها إلى حيث تذهب.
كنت على وشك أن أرد عليها، لكنها باغتتني بتوقفها المفاجئ وقالت:

«عندما تُنهي دروسك سأبعث لك بجارية ترشدك إلي في الغد؛ أحتاجك في خطب مهم.»

ما أن استوعب عقلي طلبها وجدت نفسي فَزِعة وبدأ قلبي يخفق، لم أنطق بشيء، فقد صرت أهاب الغرف المعلقة؛ خاصةً إذا كانت هي فيها.


على أي حال لن يحدث لي أسوأ مما حدث مسبقًا، لكنني سعيدة بتغلبي على خوفي منها ولو بقليل في ذلك الموقف.

_________

«اسمعيني بتمعن يا أميرة؛ فكل ما سأسرده عليك خطير، وقد تُطيَّر رِقاب، يُسجن أُناس وتنصب المشانق بسببه، أنا ألقي على عاتقك مسؤولية وطنية، لن يَقوى على مجابتها والتصدى لها غيرك.»

وجَّه عيناه المبطنتان تلك لتقابلني بتركيز، وهو يشير إليَّ بأصبع سبابته المرتعش من الهَرم.

«نعم يا معلمي، أسمعك!»
عدا اللعاب في حلقي، وتسللت الحَمية إلي، نظرت إليه بجدية كما بدت ملامح وجهي.

«تذكرين أول درسٍ لنا منذ شهر تقريبًا؟ تذكرين عندما قصصت عليك قصة الفارس القوي ذاك؟»
سار متبخترًا أمامي، وبيده عصا خشبية نحيلة كنحالة ساعده الذي يحركه بعشوائية على ذكر هذا الفارس.

«نعم أذكر، وأرجو ألا تطيل عليَّ ولا تغرقني في وحل الغموض.»

ابتسم ابتسامة لا تحمل أيَّ مدول، لكنها كانت عريضة لدرجة جعلت أضراسه الخلفية متآكلة الجوانب تنتأ بوضوح، ثم قال:

«لن أطيل عليك؛ فكل بُرهة تمر، يزداد الخطر معها من حولي، وتدنو رقبتي من حبال الإعدام. لكن أعذريني؛ لقد كنت كاذبًا!»

تجاهلت السؤال عن كذبته تلك؛ لست مضطرة لسماع أشياء أخرى تشتتني عن الموضوع الأساسي، فقلت:

«تفضل!»

«كل ما سأحكيه هو كلام كثير ورثته عن آبائي، حقائق أُغلق عليها صندوقٌ أسود، وحان وقت فتحها.»
زفرت بملل، أملت بوجهي عنه وقطبت جبيني؛ قد سئمت الطلاسم التي يرويها.

«واحتنا المعظمة دومينا، والواحاتان أو المملكتان المجاورتان لنا، كلهن سيان، نفس القصة لهن.»
داعبت أناملي خدي برفق تمهيدًا لاستقرارهم عليه، وكلما مر الوقت، شعرت بفتور يتخللني.

«منذ أكثر من مائة عام، فرت ثلاث فتيات آثمات، أو بالأحرى مشعوذات دجالات، طوين الطريق إلى الصحراء القحطاء، تعاهدنَّ علي اقتراف الجرائم وتعاونَّ على الفرار.»
لف وجهه، وتباعًا له جزعه وكل جسده.

«وما الإثم الذي فعلنه؟»
قَطبت جبيني؛ متفاعلة متأثرة بما يقول، استوعبت ما يتحدث عنه، هو يسرد تاريخ نشأة الممالك الثلاث.

توجه إلى مكانه مرةً أخرى وهو يقول بصوت خافت:

«لم يكن إثمًا واحدًا، بل آثام...»

«وما هي الآثام تلك التي ألقت بهم في الهاوية وجعلت منهن أقصوصةً للعبرة؟»

«تعلمين أن السحر في كل الممالك ممنوع! صحيح؟
أيضًا الزنا، البغاء والفواحش كل هذا ممنوع!»

«نعم، كذلك!»

«هن أقترفن كل هذا!»

«كيف؟ كفى مقدمات وغموض، بعد إذنك.»

قلب بؤبؤي عينيه وعقب على ما سبق بتنهيدة  أزاحت بعض الغبار عن الكتاب المفتوح أمامه.

«لكِ ذلك، هل سمعتِ من قبل عن مملكة لاكرين؟»

«أهذه المملكة العظمى القريبة من نطاق الممالك الثلاثة؟»

«نعم، ومن هنا بدأت قصتنا.»

«مهلًا، هل مملكة لاكرين تمت بصلة للممالك الثلاثة؟»

«لاكرين هي الأرض التي انبثقت منها كل هذه المتاعب!
كانت -ولا زالت- مملكة قوية، علاوة على مساحتها الشاسعة فهي تمتلك قوانين صارمة، وحكامها تمتعوا بالجسارة والإقدام.»

«أتعني أن الممالك الثلاثة (دومينا، رشار ومجورا) تفرعن من المملكة العظمى لاكرين؟»


«نعم، وهذه الأسماء هي أسماء الساحرات، كنَّ ثلاثة، اعتصمن بفاحشتهن وفخرن بها، وحين ضاقت عليهن الأرض بما رحُبت، وضاقت عليهن بلادهم فَررن إلى الصحراء؛ بعد ما تم ردهن وطردهن من البلاد.»

«كيف قلت؟»

«كل المصائب هذه من السحر، الدجل والشعوذة كل هذه الجوائح هي السبب في كل ما تعيشه النساء الآن، والسبب في اعتبارهن حَمَّلاتٍ للإثم.

إذا قلنا أن النساء هن السبب في انتشار الزنا دون الرجال، هل هن يمارسنه مع أنفسهن؟ بالطبع لا، إن لم يكن هناك رجال زناة فلن تكون هناك عاهرات، أليس كذلك؟»

شعرت بالتفاجؤ عندما فتح هذا الموضوع، أومأت له بالإيجاب ليكمل حديثه.

«كانوا كالزرع الفاسد في وسط المحصول المُنيع المزهر، خلقن فتنة ليست بهينة أبدًا، وكل من تبعهن سيظل حاملًا للإثم.»

«كيف؟»
سحبت بعض الوريقات التي كانت في جعبتي وأخذت أدون ما يقول بحذر.

«أحيانًا -إن لم يكن دائمًا- يكون الممنوع مرغوبًا فيه، هن خرجن عن طوع مَلكهم، وأخذن يتعلمن الدجل، تواصلن مع الجن والمَردة؛ ليحصلوا على منشودهم، شفرتهم السرية التي لا يعرفها سواهن، جعلتهن يملكن كل شيء.»

«وما كان مبررهن لفعلتهن التي تتحدث عنها؟
أقصد ما الذي دفعهن لفعل هذا؟»

«حركتهم قوة شهوانية، قِيدَت بداخلهن، قد يكون احتياجهم للنقود كذلك دفعهم، الشعلة هذه عجزت سياستهم القمعية عن إخمادها، مجرد حبهن لكسر القواعد، شرارة شغف للتمرد لا أكثر.

القوانين المشددة في لاكرين تمنع جميع أعمال الدجل والشعوذة، لكن ليس معنى هذا أنه لا يوجد ساحر واحد على الأقل! هناك فرق شاسع بين الكبح والكبت، الكبح ناجم من رغبة شخصية من الفرد، ولا يولد رغباتٍ منحرفة، أما الكبت فهو شعور مجبر عليه الفرد، أحيانًا قد يدفعه إلى العناد، وقد يقوده إلى الصواب لكن بأساس متهالك، وهذا ما حدث في قصتنا.»

استمر في سرد هذا الكلام الغامض، وانا أحاول جمع المعلومات بأي طريقة، كنت أدون أشياء لم أعيها، لكنني كنت متيقنة أن كل حرف يلفظه له أثر على الحكاية.

«أخوات ثلاثة، عندما قضى والدهم نحبه بعد عبث طويل مع الجِنَّة والمَرَدة، حينما بدأ العمل مع الجن -كأي ساحر- أخذ المواثيق والعهود على الجن، هددهم بإيذاء ابنائهم بأن يحرقهم، فصار الجن تحت طوعه، لكن هذا لم يدم طويلًا، إذ أن الجن سئم خدمته، فقام بالتأمر عليه بالاستعانة بأقرانه من الجن وقتلوه!
مات موتة بشعة بسبب العبث وأعمال الشعوذة تلك، لحقت به والدتهن من قهرها وأساها، فصرن كالبعير بلا لجام يقوده!»

«أتعني أن والدهن كان مشعوذًا دجالًا؟»
شعرت أن الحكاية بدأت بالتبلور في مخيلتي وبدأت أفهم رويدًا رويدًا، ازحت شعري الطويل الأسود جانبًا واعتدلت في جلستي قبل أن يردف قائلًا:

«نعم، كان كذلك...
ومثلما ما يقولون فرخ البط عوام، رحن يتعلمن السحر والشعوذة، وكن أهل له، كان البعض بقول إنهن فرنسيات الأصل؛ من شدة جمالهن، بعدما ترك لهم والدهم كتابًا يحكي عن كل أعمال السحر الذي قام به، ومع تفشي الجهل في كل نحو في المملكة، كان رجلًا كسيبًا؛ فأغلب سكان لاكرين يؤمنون بالدجل ويتخذونه ملاذًا لهم بالرغم من الجهود المبذولة من قِبل الملوك وكبار المملكة لمحو هذه المعتقدات.»

«فعزمن على أن يكملوا مسيرة والِدهن، ويتخذن الدجل مصدرًا لكسب لقمة العيش، حتى وإن كان الأمر سيعرضهم للخطر؛ فشمرن عن سواعدهن وعملن في الخفاء بعيدًا عن أعين كبار المملكة، تعرفين إما أن يعملن في أعمال الواحة المجهدة، وإما في البغاء -في السر بالطبع- أو يمتن جوعًا فلا يوجد من يعولهن.»

«ألم يترك لهم والدهم إرثًا يعيشون عليه؟»
تنهدت في ضجر وقطبت جبيني، بينما قابل سؤالي بابتسامة خبيثة.

«هو لم يترك لهم شيئًا! بل كل شيء!»
قام من مقعده واستدار مقابلًا النافذة، حاولت تجاهل تصرفاته المريبة التي تثير فضولي.

«ماذا تقصد؟»
حاولت أن أرفع نبرة صوتي؛ لتنم عن السَأم من غموضه، مضت عدة ثوانٍ ساد فيها الصمت، قبل أن يعيرني بعضًا من اهتمامه، فأردف قائلًا:

«سحر معقود معقد، لم يقوى أحد على فكه إلى لحظاتنا تلك! ترياق ملعون ليس للارتواء، قالت الأسطورة أن من يشربه يكتب له العمر الطويل، عطر سام يتملك جسد الواحد منا، فيجعله الولهان الضعيف الذليل...»

«مازلت لا أفهم!»

«لم يكن بدراية أن هذه اللعنة ستظل ترافقهم إلى أبد الدهر!
لقد عانى من قُصر البصيرة، ولم يعي أنه يحضر جانًا لن يستطيع صرفه.»

صمت لبرهة ثم أخذ يحدق بي وهو يقول:
«أميرة أسمى، مستقبل المملكة بين يديك، عندما أنهي رسالتي في تعليمك سأهرب بعيدًا، أو أتناول بعض السموم التي تخلصني من روحي.»

«دقيقة بعد يا سيدي، ألم تخبرني أن الممالك الثلاث من صنع فارس لاكرين؟»

«ليس بالضبط، الفارس جواد كان محتلًا، وهذا لا يعرفه الكثير، قدم من مملكة لاكرين الفارسية؛ بعدما سمعوا أن الساحرات أسسوا ممالكم، رغب في الانتقام لا أكثر.»

«وكيف تأسست هذه الممالك؟»
دخلت معه هذه الأجواء الملحمية بعد أن بدأ يجيب عن أسئلتي دون أن يسرح بخياله بعيدًا.

«تعلمين أن السحر قوة هائلة؟ بالطبع، هذا هو محور الحكاية، دعيني أخبرك أولًا ما الذي يخبئونه.
في البداية بعدما هربت الساحرات الحسناوات كانت معهن كل أدوات السحر، كل ما يخطر على بالك، كل أساليب السحر وطرقه استعملوها؛ خَلفوا لنا أثمهم الكبير، وصارت النساء من نسلهن يحملن الخطيئة إلى يوم الدين مثلهن تمامًا، استعملن عطرهن المعلون، بعد أن خبأن الترياق المضاد، تربصن لقبائل ويجر التي ترتحل كل صيف؛ هربًا من حر لاكرين الذي يفوق دومينا، رششن عطورهن المسحورة التي تجعل من يشتمها الخاضع الولهان، هذه العطور اختفت ولا نعرف عنها أي شيء، تأهبن وأمرن الجن أن يحضر لهن قوتهن في مقابل عدم أذية أبنائهم، وبالفعل نجحن، وما بالك بسحر فوق جمالهن الساحر، عامل الوقت ساعدهن كثيرًا، كلما أنجبن طفلًا وأنهين فترة نفاسهن حملن المولود الثاني، كان المولود دائمًا أنثى؛ لهذا النساء في دومينا يعتبرن ملعوناتٍ آثمات، وهكذا مر الزمن، الجن ساعدهن في كثيرٍ من الأحيان، فجر لهن العيون؛ كي يتجمع الناس حولهن في هذه الصحراء؛ فيسحروا لهم كي يساعدوهم في بناء دولتهن، أقاموا الخيام ومن بعدها مبانٍ ضعيفة، وهكذا استمر الوضع حتى غابت شمسهن.»


علا وجهي ملامح التفاجؤ وقلت:
«هذا بالفعل كلامٌ لم أسمع به من قبل!»

«صحيح، الفضل يعود في البداية إلى الشاهدين على كل ما حدث، ونقلوا ما سمعوه بكل أمانة.»

سكت قليلًا ثم عاود الحديث قائلًا:

«الكل يتبرأ منهن ومن خطيئتهن، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن نبيدهن أو نذيقهن الهوان كما حدث.»

«صحيح، لكنهن ساحرات زانيات يا معلمي، على حسب ما فهمت هن لسن آلهة كي لا يتم عقابهن.»

«هذا صحيح، لكن بعد موتهن، وجدنا في أحد نسخ كتاب قواعد دومينا -التي شهدت العديد من محاولات الحرق- أنهن تبن عن خطيئتهن وتزوجوا آباء بناتهن، بعد أن قتلهن فارس لاكرين، لقد تبن! قتلهن وهن بريئات.»

«لحظة! هل يمكنك أن تمنحني دقيقة واحدة لأحضر شيئًا مهمًا يا معلمي؟»

«بالطبع، تفضلي يا أميرة!»

هرولت سريعًا إلى جناحي، أردت أن أحضره بيدي؛ فقد كان متهالكًا وسهل أن يقطع.

«ها هو، هذا الكتاب الذي حيرني، صفحات مشطوبة ومنها المفقود، أخبرني ماذا يعني كل هذا!»

تناول الكتاب بين يديه، وأخذ يقلب فيه وهو منبهر، انتظرته طويلًا كي يعقب على ما رأه، لكنه ظل يحدق في الصفحات.

«سيد صفوان، ماذا بك؟»

«أنت محظوظة! محظوظة لامتلاكك هذا الكنز، رغم كل محاولات طمسه.
هذه هي النسخة الأصلية المتبقية من قواعد دومينا، لطالما سمعت عنها وحفظت صفاتها التي سردت على مسامعي عن ظهر قلب، لا أصدق أنني أمسكها بيدي!»

«دعك من هذا كل بعد إذنك، أريد أنا أعرف ما هذه الحروق؟ ما هذا الشطب؟ لماذا يبدو هذا الكتاب متهالكًا؟ أليس هذا دستور البلاد؟»

«كل ما تحت الشطب هذا هو ما أخبرتك به منذ قليل، الفارس وأتباعه أرادوا طمس هوية الساحرات ونسب المملكة إليهم، كانت هناك محاولات لتغيير اسم الممالك كذلك، عندما أخبرتك بأصل تسمية المملكة، أخبرهم أنها تعود لأصله الفارسي والتي تعني فيه أن النساء ثانويات في الحياة، لكنها محاولاته تلك فشلت؛ فالجميع يعلم أن الساحرات لهن أصل فرنسي، لذا من المنطقي أكثر أن تكون دومينا تحريفًا لكلمة (dame) الفرنسية.

هذا الرجل كان يكره النساء بسبب والدته، يكره أن يشعر أنهن أفضل منه، يُحكى بين صفوف جيش لاكرين، أنه كان ضعيفًا، لقد فشل في الالتحاق بالصفوف الأولى من الجيش، فقرر أن يخرج بسَرِية صغيرة؛ كي يبسط قواه على الساحرات.

وبالفعل، نجح في فعلته، قتل الفتيات الثلاث بدم بارد وحجته أنهن آثمات، خاض في عرضهن بعد أن رجعن إلى رشدهن، استعبد بناتهن وكل من كان في المملكة، يُقال أن هذه النسخة التي بين يديك هي النسخة المحصنة بالعطر الملعون، لذا، لم يتمكن من إتلافها بالكامل، فقط بعض الشطب والقطع، كل هذا ليبرر عنفه البشع ضدهن!»

«لم يكتفِ بهذا وحسب؛ وضع قوانينه، وشطب فوق القواعد التي يجد أنها من مصلحة المرأة، بدأ يبث سمه اللعين في أنحاء الممالك، تحكم بالنساء كأنهن متاع له، أخذ يستعبد جزءًا منهن، ويتعب الأخريات في أعمال شاقة، واختطف أي إنسي يمر في نطاق دومينا، أخذ يروج فكرة كونهن كائنات دونية لا قيمة لها، ولا يجب أن تجند أو تنال شرف الدفاع عن الوطن لمجرد أنها آثمة وتعمل ذنبًا لم تفعله، على الرغم من تفوق النساء في دومينا بالكتلة العضلية والقوام القوي.»

نظرت إلى تلك الساعة الرملية التي قارب نصفها العلوي أن يفرغ معلنةً عن قدوم السادسة بتوقيت دومينا.


«حسنًا، الآن فهمت، هل لي بسؤالٍ أخير؟»


«تفضلي يا سمو الأميرة.»


«ما سر قطرات الدماء هذه؟»

«في الحقيقة... أنا لا أعلم الكثير عنها، يقال أن وزير جواد روى أنه قد قُتل وهو يحاول حرق الكتاب للمرة الثانية، وهناك أقوال أخرى تقول أنه كان يصطحب الكتاب في إحدى معاركه ووضع قطرات الدماء تلك كي يتباهى بفتوته.»

أنا بالفعل في حالة انبهارٍ من سرده لكل ما حدث، كل هذا كان مدفونًا في هذه الصفحات؟
أنا سعيدة أن هذا العجوز كف عن سرد الألغاز لأنني لن أتحمل الفضول الذي ينهشني.

«يبدو أنه لم يكن السؤال الأخير، فقط أود أن أسأل عن خطب آخر، أخبرني، لماذا تود أن تقتل نفسك وأنت تقول الحقيقة؟»

«لأن الحق لا ينتصر دائمًا، يخسر معاركَ عديدة، لكن في النهاية سيفوز، لكنني هرمت في هذه المعارك الصغيرة ولم يتبقَ سوى الحرب التي سأتركها للنشء الصاعد.»

وها قد عدنا لسرد الأحجيات من جديد.

«سيدي، لا أفهم ما تقوله.»

«هناك أنصار لفارس لاكرين (وهم الرجال) يكرهون ما قلته عنه ووصفي له بالقاتل؛ لأنه في نظرهم المنقذ والمحرر، كذلك، هناك أنصار للساحرات (وهن النساء) يكرهن أن أخبر بسحرهن أو وصفهن بالسحر أصلًا، لكن هذه هي الحقيقة، لذا سأرحل؛ إن لم يقتلني سليم، ستقتلني فتون، أنا ميت لا محالة، لقد سلمتك الأمانة وسأموت بسلامٍ الآن بعد أن كفرت عن ذنبي.

هيا يا أميرة، لقد اقتربت الساعة السادسة، تعلمين موعد انتهاء كل الأعمال في دومينا، وينتهي عملي تمامًا هنا، وداعًا...»

________________________________

ها قد دقت السادسة، موعد دخولي في هذه الحالة، لكنني لم أسمع صوتًا اليوم، لا صراخ، ولا دبيب، هذا خطب يثير الريبة، هل أنا بخير؟ أنا لست مجنونة؟ أيعقل أن تكون الأصوات من مصدر خارجي؟

أو هل تحسنت حالتي النفسية قليلًا؟
غريب! أنا بخير، لم أسمع تلك الأصوات المزعجة التي جعلت جُنوبي تتجافى عن المضاجع، ولم أكتحل بنوم هنيء بسببها.

يبدو أنني سأنام جيدًا لأول مرة الليلة، بعد شهر من الأرق والنوم المتقطع، لكن قبل أن أنام تذكرت شيئًا يجب أن أفكر فيه ويجب أن أفعله في الصباح الباكر؛ سيوفر عليَّ الكثير من المشقة، وسيخلصني من تلك التي تتدخل في كل خطوة أخطوها.
صباح ماذا؟ الآن!

قمت من على فراشي الحريري الذي ساعدني في الانزلاق إلى الأسفل بعيدًا عن هذا الوضع المرتفع، وأخذت ورقةً وأخذت أدون خطابًا ملكيًا.

غمست طرف ريشة سوداء تلك في محبرة مطلية بالفضة، وجرت الكلمات على أطراف الريشة لتسقط بعنف على الورقة قبل أن يعثر عليها شبح النسيان.

بعد أن انتهيت تذكرت معلمتي وقدوتي آصال، اشتقت إليها؛ فهي من علمتني كل ما أعرفه عن الفلسفة، حق المرأة في الحياة، وكذلك حقوق الإنسان والحريات العامة، كل هذا علمته لي، لم أكن وحدي من تأثر بها، فقد حاولت جاهدةً أن تغير في دومينا، لكن منذ أن بدأت أمي تحضر معي دروسي وتراقب ما تقوله لي، اتهمتها بالإلحاد والفجور، وطردتها من القصر، لم أستطع أن أفعل أي شيء سوى أن أبكي على فراقها، كنت ابنة الخامسة عشر آنذاك، ولم أكن أعي تمامًا ما خطورة الذي تقوله، ولم أكن بدراية ما الصواب؟ لكنني مؤخرًا اهديت إلى طريقي، أحتاجها الآن أكثر من أي وقتٍ مضى؛ أريدها معي بجانبي لتشد عضضي.

سحبت علبة المداد مجددًا ولطخت بها ريشة الكتابة، كتبت بكل جوارحي ليس أناملي فقط، خاطبتها بخطاب شوق وامتنان، طلبت منها أن أقابلها في أي مكانٍ خارج القصر، أتمنى أن تكون ما زالت في دومينا ولم تتركها، طويت الرسالة آملة أن تصلها الرسالة وتلبي دعوتي.


سرعان ما تذكرت تلك الرسالة التي ألقيتها تحت القماش، فأسرعت أتفقدها بقلبٍ يخفق بعنف، أمسكتها بيدي وناولت أحد الحراس رسالتي، آمرة إياه أن يبعث بها إلى منزل آصال.


تفقدت الرسالة مقطوعة الطرف تلك، تفحصت الختم الأحمر الذي يعلو طرفها الذي قطعته، يبدو أنه ختم لأحد الأمراء، أخذت أدقق فيه، فتبين لي أنه لأيهم؛ فأنا أحفظ شكل خاتمة الذي يغمسه في الشمع الأحمر ويختم به خطاباته.


كنت مترددة، أود أن أفتحها، رغم أن هذا المشهد مر أمام مخيلتي كأنه حدث للتو، ما قاسيته بسببه لم يكن هينًا، في الحقيقة، اللوم علي؛ فأنا من صدقته، إن كان يريدني فعلًا يطلب الزواج؛ لم يعد صغيرًا.

«نور عيني ومهجة فؤادي، آسرة روحي وحياتي، علمت بما حدث لك بعد لقاءنا الأخير منذ شهر، أنا لا أجد ما أقوله، فقط أشعر بالذنب تجاهك، لذا يجب أن أرحل عنك، لا يعني أنني أريد أن تنهي علاقتنا، لا! حبك في قلبي يزداد كل ثانية ولا ينقص مقداره مطلقًا، فقط لنقطع الحديث حتى تهدأ الأمور.»

كاذب! بائع للكلام المعسول، حتى كلامه الذي كنت أذوب عندما أسمعه لم أعد استشعره من الأساس، لن أصدقك مرة أخرى.
مضحك! يظن أنني لم أقطع العلاقة بعد، حتى طريقة إرساله للرسالة وسيلة جبانة مثله، من المفترض أن يبعث لي رسولًا بخطابه يمشي أمام كل من في القصر، لا واحد من الخدم يضعها من تحت عقب الباب كالمجرمين!

ابتعد عن مساري، ابتعد عني، أنا لست لك ولا لأي رجل، لا أريدك، ارحل بعيدًا واتركني أعيش بسلام، بلا كشوف عذرية أو فضائح أمام سكان القصر، ملعونة تلك العواطف التي تجردنا من إنسانيتنا.
كنت أقول كلماتي تلك بصوت عالٍ نسبيًا، حتى قطع صوتٌ لم تألفه أذناي حديثي.

وقفت الفتاة أمامي يكسو الذعر كل ما يبدو منها، لا أعلم أهي مذعورة من صوتي وما كنت أنطق به، أم من شيءٍ آخر تود إعلامي به.

«أميرة أسمى، هل لي أنا أطلب منك خدمة سريعة؟»

«ماذا بك أسيل؟ تحدثي بسرعة!»

«لا أعلم من أين أستأنف الحديث، لكن الأمر خطير للغاية، أرجوكِ اتبعيني بسرعة.»


لكنها بدت كالحِصن المبني من الهشيم، إن هبت أرياح القدر أو شرار غضبه، تمكنت منها فهدمتها.

_____________________________

مرحبًا، كيف كان الفصل؟

دعونا نلعب لعبة بسيطة، هل يمكنكم أن تحزروا أنماط شخصيات الرواية؟

ما هو نمط أسمى؟

ماذا عن فتون؟

هند؟

أيهم؟

صفوان؟

Continue Reading

You'll Also Like

10.5K 691 19
حياتها كطبيبة في إحدي المصحات النفسية الكبرى كانت ناجحة و مستقرة، بخلاف تعاطيها للمخدرات بشكل إدماني في الخفاء بعيدا عن الأنظار!! هو ليس الشخص الذي ك...
الغامض By sally

Mystery / Thriller

5.8K 787 29
نظرت له بعشق وجرأة أنثى ثم لاحت بعدها بكلماتها الخفيفة ... " سأحبك بالمقدار الذي أريده أنا ..."... رفع أحد حاجبيه باستغراب ... " ولماذا بالمقدار ا...
178 54 12
في هذا المستقبل المظلم .. تستثار المصائب والجرائم .. في حرب تخوضها للبقاء حيا ..مع تقدم البلاد وتزايد السكان .. ونقص الموارد .. تحت رحمه القوانين الص...