دومينا مملكة للنساء فقط +١٦

By Avuona_X

49.3K 3.5K 1.4K

في العصور الغابرة، كان وأدُ البنات وقتلهن عادةٌ سائدةٌ، لكن ماذا إذا انقبلت الأدوار، وكان للنساءِ السيادة ولل... More

إهداء
لمحات
ثمانِية عشَر
ليلة سقُوطِ الشَرف
سُيوفٌ وعطور
قِسمَةٌ ضِيزَى
نِصفُ الأنثى المَفقُود
بُيوتٌ مُشيَّدةٌ على عُصِي
البُقعةُ المُحَرَّمة
جبرُوتُ حَوَّاء
لَا ذُكورَ بعدَ اليوم
أنتِ ذُكُورِية رَجعيةٌ
مِنْحَةُ مِحْنَة
دقَّت القَارِعَة
ذكرى سنوية دومينا

أَذهَانٌ جَدْبَاء

2.1K 267 66
By Avuona_X

«ضوابط دومينا»

كان هذا عنوان الكتاب الذي أُهدِي لي من قبل والدي، زادت عزلتي، وزاد معها حزني على نفسي، لم أستطع أن أعبر عن هذا حتى؛ فقد فقدت النطق ليوم كامل! لم أتلفظ بأي كلمة، فقط بعض أصوات الأنين المُلجم.

الحروف محشورة في جوفي، لكنني فاقدة للقدرة على الحديث. بعد بضعة أيام مما حدث، استطعت أن أغادر فراشي وأكف عن البكاء، لم تعد لي سوى هذه الكتب.

تأخرت في استلام عملي كثيرًا، حالتي النفسية لم تكن على ما يرام، كان من السهل أن أدخل في نوبات بكاء حادة لا إرادية، مرت أيامي هكذا بنفس الوضع، ثقيلة بطيئة، أسبوع كان كالدهر، أيام، ساعات، كنت أقاوم، هند كانت بجانبي، كل ليلة تحاول أن تخفف عني، لكن كلما تذكرت ما فُعل بي زاد الوضع سوءًا، أنا فقط أريد بعضًا من الرضا عن نفسي التي أهينت وذُلت.

صوت الصراخ ذاك لا يفارقني، يتأرجح في ذهني ويعلو صداه أكثر كلما استحضرت الموقف...

كيف أواجه العالم وأنا مخلوق أعز ما فيه غشاء لا قيمة له؟

لا شيء جديد في أيامي، سوى عندما تدق الساعة السادسة مساءً، أدخل في حالة غريبة بلا وعي، تبدأ أصوات الصراخ في اقتحام عقلي، تعلو وتعلو، أحيانًا تفقدني صوابي وتجعلني أصرخ مثلها، أضع يدي على رأسي؛ متفاعلةً مع هذا الصوت الذي يحوم في عقلي، صوت الدبيب الصاخب هذا على الأرض يتداخل مع الصراخ؛ ليحدث صوتًا لا أطيق تحمله، صرخة تتلوها دبة عالية على الأرض، يتكرر الصوت أكثر وأكثر، قد يستمر أحدهما دون الآخر، ويعاد هذا المشهد الأليم صوب عينيَّ، وأنا أتجرد من حُرمتي ومن بعدها أعود إلى رشدي، أظن أنني قد جننت.
يتكرر هذا كل يوم، أحيانًا يصاحبه الدبيب، وأحيانًا لا.

بفضل مساعدة هند ورعايتها لي، -رغم أنها كانت متعبة للغاية وتعاني من وعكة صحية تتقيأ ليل نهار-، استعدت بعضًا من صحتي، وعليَّ دراسة القواعد جيدًا؛ لأضمن ثباتي في سلطتي كمسؤولة عن جواري القصر، نفسيتي ليست مستقرة تمامًا، لكني لن أترك المنصب لقمة سائغة لغيداء، التي ستدفع عمرها كي تأخذه، وستصطاد في الماء العكر لتصل لمرتجاها، هي تكرهني منذ كنا صغارًا، تكرهني لأنني أحب أخاها، تكرهني لأنني كنت أُفضَّل عليها في كثير من الأشياء، تكرهني لأنها لم تأخذ المنصب، تكرهني لأنني دائمًا في الصدارة، تتربص لي في كل مكان، تنتظر أي هفوة كي تلغي وجودي.

بالرغم من مقتي لأصحاب المناصب الذين لا يقومون بشيءٍ سوى جمع الأموال وظلم الشعب، إلا أنني سأعتبر منصبي رسالة أقدمها لشعبنا البسيط، وإن كنت ذات تأثير شبه منعدم عليهم.

منذ نعومة أظفاري وأنا أتطلع إلى رؤية العالم، يا تُرى، أين نعيش نحن؟ من بجوارنا؟ هل يعيشون مثلنا؟ دائمًا ما تجذبني الروابط الاجتماعية، خاصةً جلسات النساء وهن يحكين عن أزواجهن وكيف تسير العلاقات الأسرية، أشعر أنني تغيرت ونضجت أكثر، خاصةً بعد ما تعرضت له، أسمى المراهقة المندفعة لم تعد هنا.

كنت أجمع كتبي وأصنع منها سورًا وأضع أقلامي في المنتصف؛ لتمثل الشعب، كنت أتخيل نفسي ملكة تحرص عليهم، أساعدهم فأسعدهم، وهأنا أحاول الوصول إلي هدفي، غير راغبةٍ في منصب ولا جاه.

عاودت النظر إلى الكتاب، كان كتاب متربًا، نزلت دمعة من عيني لتأخذ مكانًا بين ذرات الغبار التي كانت بين هذا الكتاب مَثْني الصفحات، عديد الأوراق. كتاب ُ ذو غلافٍ خشبي صلب، عتيقٌ حبره، وتفصل بين فصوله خيوط العنكبوت.

فتحت فهرسه؛ لأعرف عمَّ تتحدث آلاف الصفحات البدائية تلك.

«قواعد الزواج للمواطنين الدومينين، قواعد دفن الميت، قواعد العمل في المملكة، صفات سكان دومينا..»
هذا ما كُتب بالفهرس، بالإضافة إلى العديد من الأجزاء التي لن أتطرق إليها الليلة، كل ما حرك فضولي وشغفي هو الأخير؛ صفات سكان دومينا.

أيمكن أن تكون دومينا مكتظة بالدخلاء؟

تنهدت قبل أن أُدني الصفحتين المفتوحتين على مصرعيهما من عينيَّ؛ حتى توضح الرؤية لي.

أخذت أقرأ بصوت عالٍ وأنا أتجول في الغرفة:

«مواطنو دومينا -نساؤهم بالأخص- يحظون بشعر أسود داكن اللون، بالإضافة إلى طوله المهيب، كذلك طول القامة.»
نظرت إلى شعري وقوامي الذي يحمل نفس الصفات المذكورة، أنا دومينية!

عقدت حاجبيَّ متسائلة، لحظة! كيف للرجال أن يكون شعرهم طويل؟ أليس هذا مُخِلًا برجولتهم بعض الشيء؟

وسرعان ما وقعت عينيَّ على نقطة تخمد شغفي.

«يكتفي الرجال بتطويل شعرهم إلى الكتفين.»

استوعبت الكلام وحاولت ربطه بما أعاصره في القصر، بالفعل الجميع هنا يتوشح بخصيلات شعره، سواء كان رجلًا أو امرأة.

شردت قليلًا، بينما ذاكرتي تعرض صورًا لأعمامي، الأمراء والأميرات، الكل يملك شعرًا أسودًا كالليل وطويل كالحربة.

لكن جواري القصر -اللائي هن خليط من أعراق عديدة- أيضًا يتمتعن بشعر طويل، أذكر أني تابعت يومًا لهم، كان من ضِمن عملهم أن يقوموا بتمشيط شعرهن وربطه جيدّا؛ حتى لا يعوق أداء أعمالهن.

الأمر غريب حقًا، لماذا بذات يتمتعون بصفة الشعر الطويل المسترسل؟ وكيف لهؤلاء الجواري أن يحظين بشعر سكان دومينا المميز وهن لقطيات أُسِرن في الحروب؟


أخذت أقلب بشيءٍ من العشوائية، هناك صفحات التهمت ألسنة اللهب أطرافها، صفحات أخرى مقطوعة تمامًا، وصفات نصفها فقط الذي تواجد، نقاط دم تعلو إحدى الصفحات، حبر مقيَّد بين صفحات، شطب مُثَقَّل مُكدس، أهناك من يحاول تغيير القواعد؟


كان كل هذا ما أفكر به، أغلقت الكتاب وقمت من على الكرسي الخشبي، شرعت في الغوص في أفكاري بخصوص هذا الكتاب، يا ترى ما الذي يخبئونه عنا؟ سأسأل معلم التاريخ عن هذا الخطب فيما بعد.
لكن ساعة العمل قد دقت، لن أترك نفسي للأحزان تنهش روحي!


تذكرت أن أضع التاج الذي اعتدت علي تجردي منه؛ فهو كالسيوف الغارزة في البِنان، لكن ما انفك أن أُعيد مشهد أمي وهي تخلع عني التاج وعندما أعادته لي بعد كشف العذرية، تلاه بيان وهي تنتهك حرمتي، شعرت بنغز خفيف في صدري، ولمعت عيناي، ليس لإني خسرت تاجًا معدنيًا مرصعًا لبعض الوقت، إنما خسرت ثقة والدتي التي لا تقدر بأي حلية.

وقفت أمام المرآة أضع لمساتٍ أخيرة على مظهري، رجعت إلى الخلف كي يظهر كامل فستاني في المرآة، أخذت أراقب شكلي، ملامحي البسيطة الصغيرة وبشرتي القمحية، وزني الذي بدأ يزداد بشكل ملحوظ لسبب أجهله.

لكنني رأيت شيئًا في المرآة يميل إلى الاحمرار، يعلو مقعد قماشي فاتح خلفي، يقتحم طلتي أمام المرآة، صُعقت وتوسعت عيناي ذات النظر القوي عندما اقتربت منه وبدا لي كقطرة دم لا أستطيع وصف لونها من شدة تقاربها من عدة ألوان أخرى.


«هند، تعالي بسرعة، ما هذه الدماء؟!»

ركضت الفتاة رغم أن حركتها بدت ثقيلة ووقفت أمامي تنظر إلى المقعد في قلق بالغ.

«سيدتي، لا داعي للقلق، إنها مرام! هي من...»
أخذت تتلعثم كالأطفال الذين تعلموا الكلام توًا، وظلت تحول نظرها إلى أي مكان غير عينيَّ.

«هي ماذا؟ تحدثي!»
حاولت أن استحثها لتتحدث.

«قد تكون حائض.»
بنفس النبرة المترددة أجابت عن سؤالي بهذه الجملة التي أثارت العديد من التساؤلات داخل عقلي.

«وما المشكلة في ذلك؟ لمَ تتلعثمين؟ هل تكذبين؟»

«لا لا، العفو منك، أنا فقط مُحرجة، إنها جارية مسكينة لم تتقصد أن تتلف المقعد، لعلها أُجهدت في العمل، فقررت أن تستريح لبرهة من الزمن.»


تعجبت من حديثها، منذ متى وأنا أقسو على إحداهن إن اتلفت شيئًا؟

«ولم الخجل من هذه الأمور؟ لمَ قد نشعر بالخزي من أمرٍ هو السبب في استمرار البشرية؟ اعتبريها فترة مرض كأي مرض.»

«تعلمين... الحيض يعتبره عندنا في دومينا تطهيرًا لأجسادنا النجسة وتدفع عنا ذنوبنا وخطايانا بنات حواء.»

«من يظن أنه قد قَدِم من جسدٍ نجس، فهو بحد ذاته النجاسة!»

كانت نبرتي حادة للغاية وأنا ألقي كلامي وعلى الجانب الآخر هند تهز رأسها بعدم اكتراث، بينما اقتنعت قليلًا بتفسيرها لوجود هذه البقعة؛ فمرام حديثة السن ولا تقوى على العمل، وقد يكون الإجهاد عاملًا مهمًا في ظهور هذه الدماء الفريدة من نوعها، أخذت أنظر إلى هذه البقعة إلى أن طرق تساؤلٌ باب أفكاري.

«ماذا عني يا هند؟ أنا لم أحض بعد، أما زلت نجسةً ولم أطهر؟»
أذعنت رأسها باحباط ولم ترد على تساؤلاتي، فأردفت قائلة:

لكن هذا اللون ليس لون الدم الطبيعي أبدًا، شكله غريب للغاية، هل تأذت الفتاة؟»

أجابت بنبرة تلاشى منها القلق الذي كان في بداية الحوار:

«قد يختلف لون دم الحيض قليلًا عن الدماء العادية، كذلك قد تكون في بداية أيامها، من يدري؟»

مع أن كلامها كان معقولًا إلا حدٍ ما إلا أنني ما زلت قلقة، لا سيما أنني لم أرَ دم حيضٍ مسبقًا.


تركتها ونزلت إلى الطابق الأرضي، إلى حيث تنام الإماء، مساحة كبيرة، ينتصفها ممر يتسع لشخصين على الأقل، وعلى جانبيه تفترش الجاريات الأرض، ولا يحول بينهن وبين أرضية القصر المُمهدة سوى بساط قماشي رقيق.


كل ما شغل بالي تغير سلوك هند، أصبحت أكثر تحفظًا في حديثها، هذا إن كانت تتحدث من الأساس، كما أنها كفت عن تبادل أطراف الحديث معي فيما يخص هذه المعتقدات السائدة. ما الذي يجعل بعض قطرات الدماء وصمة عار تُعير بها النساء؟

ما الأمر المخيف فيه الذي يجعلهن يكتمنه وكأنه إثم مبين؟ لا أريدهن أن يتحدثن عنه طوال الوقت، لكن على الأقل إن أردن المساعدة فيما يخص هذه الأمور لم قد يخجلن من طلبها؟


«يا فتيات، قُمن لاستقبال الأميرة أسمى!»
صاح عدنان بقوة كي تظهر أسنانه الفضية نتيجة لهذا الصوت الصخب الذي ظهر. جدير بالذكر أن عدنان نائبي في رئاسة الجواري وكان برفقتي وتولى أمرهن في غيابي.


وجدت الجواري يصتففن أمامي، هرعن إليَّ وطأطأن رؤوسهن مع ضم كفوفهن خلف ظهورهن.

«طاب صباحكن يا فتيات، لدينا الكثير من الأشغال هذا الأسبوع، آمل ألا تثيرن لي المتاعب وتكددن في أعمالكن.»
قلت بصوت جَهوري حاد كملامحي، أعلم أني أتقمص دورًا لا يليق بي؛ فإن لم أفعل، سيظنوني لقمة سائغة، خاصة بعد ما سمعوه عني.


«هل باشرتِ العمل من اليوم؟ ظننت أنك لا تريدين المناصب كعادتك.»

التفت إلى مصدر الصوت المتعجرف هذا، الذي كان من الطابق الأعلى، فإذا بها ابنة عمي غيداء.

وقفت ثابتة، أخذت نفسًا عميقًا؛ لأفكر في طريقة لإسكاتها دون أن أفقد صوابي.

«أجل، هل تريدين شيئًا يا جلالة الأميرة؟»
تقدمت نحوها بعد أن ألقيت كلامي، وإذا بها تدلى إلى أسفل، ضممت يديَّ خلف ظهري، زفرت بملل وأتبعته بعبوس في وجهها الحسن الذي يربو وجهي أضعافًا مضاعفة، وكثيرًا ما عابتني به.


«ولماذا لم أحظ بمنصبك مع أني قد أكون أسن وأكفأ منك؟»
بادلتني العبوس وهي تحرك حاجبيها كأنها تستجوبني.

«نحن في نفس العمر تقريبًا، كما أن هذا المكان ليس مناسبًا لمثل هذه الأحاديث.»
مططت شفتي بسأم راجية أن يخرجني الرب من هذه الحوارات الغبية.

«لم لا تعترفين أمامهن أنني أميرة مثلك تمامًا؟ بل وأجمل منك كذلك، ولم تنشر لي فضيحة في القصر كأُناس نعرفهم!»

بدا عليها الارتباك؛ فقد ظنت إنني سأخوض معها جدالًا غبيًا، فحاولت استجماع قواها التي تخور مع تطور الحوار.

«عيبٌ في خَلْقك خيرٌ من ألف عيبٍ في خُلُقك يا غيداء، ما دخل الشكل بالمناصب؟

«ألا يجب أن نتجادل أمام الإماء؟»
نحَّت يديها التي كانت تتوسط جذعها، وغيرت الموضوع عندما شعرت بالحرج من فشلها في استفزازي.

لأكون صريحة هي لم تفشل، بالفعل أزعجتني بهذا الهُراء الذي تردده كلما رأتني، وجددت آلامي كأنها حرقتها بكحول مركز، جعلتني أود أن أرد عليها برد يردع لسانها المسموم ذلك شيء مثل:

أنتِ من بدأتِ النزاع، لا تلعبي معي؛ لأنني لست ندًّا سهلًا، لتذوقين المرار يا غيداء، أقسم لك.
وسَيُرد لكِ الصاع صاعين.

لكن هذا الحديث لا يليق بي، حمدًا للرب أنني تمالكت نفسي ولم تظهر أمارات الغضب على وجهي، زيادة على ذلك لا أريد أن أساعدها في ممارسة هوايتها المفضلة في تصيد أي خطأ أو سهو مني، فاكتفيت فقط بقول:
«أنت محقة، عن إذنكِ.»

استدرت بهدوء تام، وتوجهت إلى جناحي مرة أخرى وكل تركيزي ألا أعكر صفو ذهني هذه الليلة على الأقل.


«هند، تعالي أريدك في خطب مهم.»
جلست على كرسي جانبي في غرفتي، ووسعت ملابسي التي تكاد تكسر أضلعي، ما باليد حيلة، يجب أن أرتدي هذه الملابس الرسمية.

«ما الأمر، سيدتي؟»
مثلت بين يديَّ واضعةً يديها خلف ظهرها لتسنده، عوضًا عن إلصاقه بجذعها مستقيمة، تجاهلت هذه الوضعية؛ فلا أعير هذه الشكليات اهتمامي.

«أريد منك أن تطلبي من عدنان أن يعد لي تقريرًا عن جميع الجواري بالقصر، ما أسماؤهن؟ كم أعمارهن؟ كيف أتين إلى هنا؟ ريثما أتابع دراستي للقواعد.»

طغت علامات الأسف على وجهها قبل أن تعيد تنبيهي إلى ما أسلو عنه:

«تعلمين يا سيدتي، لا أحد هنا يتقن الكتابة والقراءة سوى الأمراء مثلك، والملوك مع قليل من ذوى المناصب العليا، الجهل طاعون متفشٍ في أنحاء المملكة.»

انتقلت عدوى الأسف إلى ملامحي أيضًا، فوجدت نفسي أقوس شفتي كما فعلت.

«صحيح، لقد تذكرت هذا، أيعني أنه من المفترض عليَّ أن أمر على جارية جارية؛ لأحصل على معلومات عنهم.»


«لا، عدنان يعلم الكثير عنهم؛ لذا فسيعينك في تدوين المعلومات عنهن، يمكنك الاستعانة بمكتبة الديوان كذلك.»

«حسنًا، لنؤجل هذة المهمة لغدٍ، أريد منك أن تجهزي هودجًا لي أريد التجول قليلًا في المملكة.»

«سمعًا وطاعة يا سيدتي، لكن هل أخذتِ إذنًا من الملكة فَتون؟
تعلمين، ليس مسموحًا لأي من الأمراء الاختلاط بالعامة كما تنص القواعد.»
أخفضت نبرة صوتها بعض الشيء لأنها تعلم كم أن هذا الخطب يغضبني ويُمغص عليَّ حياتي، لذا تجنبت أن تتحدث بنبرة توحي ببعض الامتهان.


«هند، أنا لم أعد تلك الصغيرة التي تأخذ الإذن قبل شربة الماء، افعلي ما تؤمرين!»

«حاضر، سيدتي.»
طأطأت رأسها وسحبت نفسها وهي ثابثة على هذا الوضع إلى أن خرجت من الجناح.


عدت إلى قراءة القواعد، أخذت أقلب في الصفحات بعشوائية، مجرد حبر مبعثر يسمونه قواعد!

من هذا الذي وضع هذا الهراء؟ ما الذي أهَّله لأن يتحكم بالناس بهذه الطريقة المزعجة؟

كل ما يغيظني قاعدة الحب ممنوع في دومينا! وليس هذا فحسب، هناك لعنات عديدة تصيب الفاعل، مثل تساقط الشعر أو التقزم، وهاتان مصيبتان؛ لأن ذلك يعني عدم انتمائك للمملكة.


لماذا؟ ألا يكفي ما حدث لي؟ علاوة على تدخلهم في كل شؤون الشعب حتى في طول شعرهم!

استوقفني شطب في عدة صفحات، أهناك من يحاول تغيير القواعد؟

استمررت في التقليب، لكني توخيت الحذر والدقة أكثر، فتارةً أجد سطورًا مشطوبة، وتارة أجد عبارات مكتوبة فوق مكان الشطب، وكان لصفحاتٍ أطرافها التُهِمت من قِبل ألسنة اللهب نصيب في هذا الكتاب الضخم.

هذة القواعد أحجية عليَّ فك شفرتها؛ فأنا لم أعد أفهم شيئًا!

أغلقت الكتاب بقوة، فاندلع منه غبار عظيم، قمت لتجهيز نفسي لتفقد المملكة، أشعر أني عملي لا يقتصر على تفقدي للجواري، واجبي يمتد إلى أوسع من جدران القصر.

خرجت في خفية؛ خشية أن تكون أمي تتجول في إحدى طوابق القصر، أفضل قاعدة وضعت في دومينا، أن الخدم لا يسمح لهم بإفشاء أي سر ملكي، من يذع سرًا من أسرار القصر وخفاياه، عقوبته الإعدام، قانون صارم يجعلني أطمئن قليلًا.

دخلت إلى الهودج الخشبي، الذي يُغطي بالقماش الفاخر المزين، كان صندوقًا خشبيًا، مغلق من ثلاث نواحٍ؛ فحين أرغب بمطالعة الأجواء خارجه كل ما عليَّ أن أزيح الستار جانبًا.

سرعان ما تحرك موكبي غير المتكلف؛ فخروجي اليوم ليس رسميًا، لم أُطِق الانتظار لرؤية دومينا من جديد، مرت عدة سنوات لم تسعد عيناي بمشاهدة واحتنا المعظمة، نعم، فدومينا ليست تلك الصحراء الجدباء فقط، فهي واحة شاسعة، تزدان بأعمدة النخيل الباسقة التي يتراقص جريدها بفعل النسيم العليل الذي يشح مجيئه، وطَلعها النضيد، كما أنها تُسقى بأمواه الآبار الجوفية.

أخذت أقلب بصري يمينًا ويسارًا، كان الجو رطبًا على غير العادة، نسمات هلَّت لتلاطف وجهي وتعانقني، وكأن الواحة ترحب بي وتتأهب لِلُقياي.

كل ما دفعني للخروج هو ما قرأته في ضوابط المملكة، كيف للنساء بأجسادهن الرقيقة وسجيتهم اللينة أن يجابهوا تلك الظروف المعيشية الغليظة؟
لماذا يُفرض عليهن أن يُؤَدِين أعمال الرجال؟ وليس أي رجال، بل الرجال الأشداء الأقوياء! كيف؟

لم أكتفِ بتقليب صفحات الكتاب المسمى بقواعد، بل وددت أن أرى هذا بأم عيني، وما لبث أن تأخر المشهد، رجل في سن الأربعين في رفقة زوجته، هي تسير الأغنام حِذاء قرص الشمس الوهاج، وهو مستلقٍ جانبها، ينتظر غذائهم. مسكينة هي، ما بيدها حيلة، إن خالفت النصوص، فستحرم من الغذاء والشراب حتى تقضي نحبها.

وقعت عيني على امرأتين تمسكان بفأسيين ثقيليين، رأيتهما من بعيد، تحفران في التراب علَّ الأرض تتفجر ذهبًا، فيرويان به ظمأ فقرهما وعَوزهما.

أخذت أراقبهما والهودج يدنو منهما شيئًا فشيئًا، كانت هنالك امرأة يبدو عليها الفتوة والجسارة، لك أن تتخيل، جسد غليظ مع ملامح أنثوية، وأخرى بدت متقاعسة متواهنة لكنها في قوام مشابه تقريبًا، أشرت بالوقوف أمامهم؛ تمهيدًا لنزولي وإجراء حوار بسيط معهما.

لحسن الحظ هما لا يعرفان من أكون، لن يتعرفوا على هيئتي، يمكن فقط أنهن قد سمعن عني على أقصى تقدير، ولحسن الحظ أيضًا أن موكبي لم يكن ذاك المتكلف، قد يحسبوني ابنة القاضي أو أي أحدٍ ذي منصب رفيع، مما سيمكنهم من التكلم بصراحة عن أحوالهن، دون أي تكلف أو مجاملة.

«عِمْتُن صباحًا!»
قلت بعد أن اقتربت منهن، فرفعهن وجهيمها الذيِّن كانا يصتببان عرقًا، وملامحها شاحبة باهتة.

«من أنتِ يا امرأة؟»
قالت إحداهن بصوتها الخشن، بعد أن وضعت فأسها جانبًا بواسطة ذراعها مفتول العضلات المتصل بقوامها الصلب الذي يفتقر إلى معالم الأنوثة.

«لا يهم من أنا، يمكنكم اعتباري عابرةُ سبيل تريد الترويح عن نفسها بالحديث معكن؛ لتهون على نفسها رحتلها الشاقة.»
قلَّبت جفنيها غير متمهلة، وأمعنت النظر في الهودج خلفي كأنها تبحث عن شيء يفك هذه الأحجية أمامها.

«ولماذا أنتِ مَعنية بنا إن كنتِ عابرة سبيل كما تقولين؟ قواعد مملكتنا لا تشفق علينا، وملوكنا ينعمون بالعيش الرغد، ونحن نَكِد هنا من أجل جرعة ماء، لا تعطلينا عن عملنا ووقت راحتنا رجاءً.»
قالت الأخرى بعد أن أسقطت جسمها دون أناة متخذةً التراب مفرشًا من فرط التعب.

«لعلي أساعدكما ببعض المال الذي تحصلان به على قوت يومكما.»
حاولت أن أريح نفوسهما تجاهي فعقبت على كلامي قاطعة هذا الفراغ السمعي الذي اتضجع بيننا:

«أمتزوجتان أنتما؟»

«لا، لسنا كذلك.»
أجابتا في صوت واحد.

«ولِم تعملان بهذا العمل المُجهد؟»
حاولت أن أتظاهر أنني لا أعلم أي شيء عن قوانين المملكة؛ كي أبعد أي شكٍ أو شبهة عني.

«وماذا عسانا أن نفعل معشر النساء؟ نموت جوعًا وعطشًا؟ نعمل في صمت وكَبد حتى لا نتطرد من بيوت آبائنا؛ فهم غير مسؤولين عن إطعامنا وسُيقانا، إن لم نحصل على أُجرة يوم واحد، نَبيت جوعى عطشى، نأكل من عرق جبيننا إن أصبناه؛ حتى لا نُهان.»

«وهل سيخفف عنكِ إن كان هناك أسرة ترعاك وتتعاون في توفير الطعام والشراب؟»

«بالطبع نعم، وهل هناك ذي لُبٍ أن يرفض أمرًا كهذا؟»
أجابت تلك الواهنة في عجلة وظهرت بجانبها بقع دم حمراء جريئة ظهرت بوضوح على الرمال الصفراء، اضطربت دون مقدمات، وكأني كوخ رملي ضربته أمواج البحر ومن ثم انهار، لم أدرِ كيف أتصرف، شعرت بالشفقة علي حالها، وما أوجعني أكثر قلة حيلتي؛ فأنا اخفي هويتي كأميرة، فقررت تجاهل الأمر كي لا أتسبب لها في حرج.

«صه يا امرأة، ما الذي تقولينه هذا؟ أجننتِ؟ تريدين رجلًا يتسلط عليكِ ويتحكم بك بأمواله؟ الفحت في الأرض حتى اللحد أهون عليَّ من أن يستذلني مخلوق!»
ردعتها تلك الشديدة وكذلك بدت العروق في التي تظهر من بشرة رقبتها البُرنزية.

استحضرت ما روته لي الأميرة مريم بالنص، كان الحوار أشبه بفرصة لاحلت أمام عينيَّ كي أمرر بها أفكاري، ولم ألبث أن بدأت أناقشهن فيه.

«ومن قال لك أن القوامة تنقص منك؟ بل هو حق لكِ أنتِ من المفترض أنك تطالبين به، شخص يخدمك ويعاونك، هناك فرق بين القوامة والتسلط؛ فالقوامة للرجال -الذين على دراية تامة أن إهانة المرأة هو انتقاص منهم قبلها، ولا يعنفها ولا يتحكم فيها، ولا يتلاعب بها بأمواله-، وليس الذكور غير الأسوياء، وحين يقوم عليك شخص، فهو يرعاكِ ويخفف عنك، لا يحملك فوق طاقتك، يتفرغ لخدمتك وتوفير سبل الراحة لكِ، لا يتركك تموتين لأنك لم تدفعي ثمن طعامك.

وإذا عاونتيه ببعض مالك فأنتِ صاحبة فضل عليه، ويظل مالُك دَيْن معلق في عنقه، وليس هذا تقليل من شأنك، بل على العكس، العلاقة قائمة على الود والاحترام المتبادل، والتشارك في إرشاد الأسرة وبالتالي المجتمع، وهذا لا يلغي وجودك أبدًا، بل يفتح لك المجال كي تظهري ذاتك التي لا يعكر صفوها مسؤوليات تؤرقها وتعوق تقدمها، عندما تجد الواحدة منا احتياجاتها الأساسية لن تكون تحت رحمة أحدهم ليستغلها لصالح شهواته مقابل المال، ولن تضطر لقبول وظيفة مؤذية لمجرد أنها ستموت من الجوع، بل ستعمل فيما تحب دون أن يُلوَى لها ذراع.

والأصل في القوامة هي الشراكة بين الرجل والمرأة لا السيادة ولا التملك؛ فإن غاب أحدهم سيترك فراغًا كبيرًا، ويضع على الطرف الآخر مسؤوليات وضغوطات قد لا يطقيها.


كما أنها أعم وأشمل من العلاقة بين الرجل والمرأة، إنما هو مبدأ الكفالة والتكافل، وإرساء مفهوم الأسرة والجماعة؛ فالمجتمعات القائمة على الفردية تخسر كثيرًا.

وفي المقابل له عندك تقديم الحب والتوقير الناجمين عن التقدير والاحترام المتبادل بينكما؛ كي تستقيم العلاقة، ولا تصبح من طرف واحد هو من يعطي كل الحقوق الواجبة عليه، ولا يحصل على بعض مما يستحقه، يجب أن نتذكر قبل أن نطالب بحقوقنا يجب علينا أن نقدم واجباتنا كي لا نوهم أنفسنا بأشياء ليست لنا.


كذلك، الإسلام لم يحكر عمل جنس معين على وظيفة معينة؛ لأن كل جنس له ظروفه ومتطلباته الخاصة التي قد لا تناسب غيره، فترك لنا متسعًا بما يلائم أحوالنا.

علاوة على ذلك، هناك من لا تجد من يعولها؛ فالوضع ليس سواء عند كل الناس، أتصبح عالة على نفسها قبل أحد؟ بالطبع لا! من تعول نفسها وذويها هي امرأة تستحق كل تقديرٍ واحترام، لذا يجب أن نتعلم الاعتماد على أنفسنا واكتساب المهارات، وإن توفر لنا متنفس يعفينا من بعض مسؤولياتنا لِم قد لا نستفيد منه؟

لكن هذا المبدأ قد لا يلائم الجميع، هناك القعيدة والمريضة، اللائي لا يقوين على مشقة العمل وقوامة أحدهم ورعايته قد يخلصهن من وعثاء
حياتهن، بفضل الأسرة والأهل، وكل هذا يتشعب من الفهم العميق للقوامة.


وبما أن حالنا صعبة هنا وتسلل إلينا أشباه الرجال، فأذكركن أنه لا قوامة لهم علينا أيضًا  بسبب عدم توافر الشروط التي تؤهلهم لرعايتنا، وإن تعرضنا لأذى منهم فلا حياة لنا معهم، فلنتعتمد على أنفسنا ونسيّر حياتنا بأيدينا.»


تذكرت أيضًا ما قرأته في إحدى الكتب عن تاريخ البشرية، فاندمجت وقررت أن أزيد على كلامي، مستغلةً وصلة التحديق والذهول اللذين يحومان في الأرجاء.

«تعلمون؟ الحضارة البشرية لم تظهر سوى عندما استقر الإنسان ووجد قوت يومه ومصدر رزق شبه ثابت له، بعد أن توقف عن الترحال والتنقل، كذلك الاستقرار يفتح المجال للإبداع، وكذلك قد يظهر الإبداع في المواقف العصيبة؛ فالحاجة أم الاختراع، لكن ما أظنه أكثر شيوعًا أننا إذا استقررنا سيظهر أكثر.»

«كلام جيد، لكن من الذي يطبق هذا القوانين؟
هل يطبقونها في مملكتك؟»
أجابت الشديدة في تأنٍ وهي تسترق النظر؛ محاولةً أن ترى هل شعري طويل أم لا، لحسن الحظ كنت أخفيه تحت قطعة قماش من قتاد ثقيل.

«نعم، يطبقونها في ممكلتي.»
هززت رأسي باستجابة وأصحبتها بإماءة مترددة.

«راقني كلامك يا أميرة، لكننا هنا مستضعفون، فاقدون للحول والطول، ليت هذه الضوابط تُطبق علينا، فتخلصنا من هذا الكَبَد والشقاء.»
قالت تلك الضعيفة.

«أتمنى هذا.»
تنهدت واستدرت لأعود أدراجاي، قبل أن تردف قائلة:

«تعلمين؟ أفضل أن أكون أمة في قصر الملك على أن أفحت في الرمال اللامتناهية.»

«ويحك يا امرأة؟ أتؤثرين العبودية والرق على حريتك وخلاصك؟»
نهرتها تلك الشديدة بعنف، لم تتمهل أن تكمل جملتها وتلتفظ أنفاسها على الأقل.

التفت إليهما مرةً أخرى وأنا أقول:
«ليس هذا ما تقصده، من يحب أن يكون تحت إمرة أحدهم ولا يتصرف بحريته؟ كل ما أرادته أن تجد مأوى لها من بطش المعيشة، وهذا أثر غياب مفهوم الأسرة والتعاون.
ولا أحثك على أن تكوني جارية، هذا غباء، الإنسان من حقه أن يكون حرًا، والعبودية شيءٌ ملغي في بلادي، نحن عباد الله فقط.»


رأيت الذهول يتراقص في عينيهما على ألحان شفتيهما المتباعدتين، فأردفت قائلة:

«في حالة الحرب فقط، احتمال وارد، حينما تقعين أسيرة في حرب، من المفترض أن يبطش بك آسروك ويذيقونك الهوان، بعد مقتل أفراد أسرتك، فلا جُنة لك منهم، ولا ندري في أي أمر آخر قد يستغلك فيه، أما طبقًا لما شاع بيننا، فأنت ستعيشن بقصر الحاكم، تعملين في ترتيب شؤون القصر، وتحظين بغذاء يسد رمقك، وإن استولدك سيدك، صرتِ حرة طليقة، ومولودك كذلك، فيقام لك عقد زواج رسمي ومن ثم تصبحين ملكة، ليس النساء فقط من يقعن في شباك الإماء، كذلك الرجال، إذًا إنها مشكلة مجتمع وليست حكرًا على جنسٍ معين، يمكنك الهروب كذلك، أنا أؤيد العبودية أبدًا، لكنه أفضل حل مع السفاحين والقتلة، تسقط الكثير من الثوابت وقت الحرب، يحاول الإنسان أن ينجو بأي شكل كان.»

«وبنسبة كبيرة هكذا ننتشلكن من شباك البغاء والفاحشة دون أن نهين بعضكن في أعمال مجهدة قد لا تقدر عليها بعض النساء.»

«صحيح، أعرف صديقة لي اتجهت إلى الفاحشة، لم تقوَ على عملنا الشاق، خاصةً أن الرجال هنا لا يعملون باعتبارهم الجنس الأعلى، ونحن الآثمات؛ لذا لديهم متسع من الوقت ليمارسوا الجنس حتى بالطرق غير المشروعة.»
قالت الأخرى عندما شعرت بالاقتناع.

«هذا صحيح، الضغط المهول على الشخص أن ينتج دائمًا -خاصةً النساء- يجعله يبحث عن شيء يحقق غايته بصرف النظر عن الوسيلة، صار الإنسان سلعة تباع وتقدر بمدى إنتاجيته، للأسف، هذا الواقع المرير، أنا واثقة ستشرق شمس الإنصاف، ولو بعد حين.»

سرعان ما صعدت الهودج من جديد، مر
بسرعة، أخذ الهودج يصعد وينزل بي متأثرًا بحركة الجمل.

الواقع صعبٌ تغيره، بل شبه مستحيل، هاتان المرأتان عينة مصغرة من المجتمع، ومن الجهل والتطرف المترسخ في أذهانهم، الوضع خارج قصر المملكة مختلف تمامًا كأنه عالم موزاي، كان إدعاء كوني أميرة من مملكة أخرى قرار مُحكم.

أخذت أفكر قليلًا فيما قلته، لست مقتنعة تمامًا بما قلته، صحيح أنه قد يكفل أعدادًا كثيرة
من أسرى الحرب -سواءً كانوا ذكرانًا أو إناثا- لكن هذا في حالة الحرب فقط كذلك كما قرأت في الكتاب أن الأسر يقع على الكافر المقاتل فقط، أي لا تأسر النساء رغم اكتظاظ القصر بهن؛ لأنهن لا يقاتلن، الآن نحن لسنا في حروب، فقط بعض المعارك الصغيرة بين الحين والآخر، وهذا نظام ليس إنسانيًا بالمرة، كيف أمتلك روحًا وأبيعها وأشتريها كالجماد؟ أشعر أنني أبرر لهم العبودية وأزينها، لم هربت مني التعبيرات الدقيقة؟ شعرت أني قد ضللتهم بكلامي وزينت لهن الاستبعاد.

ليتني فقط أستطيع أن أحررهم...

زيارة الأميرة مريم، أميرة في مملكة مسلمة، أتت مع والدها في زيارة لمملكتنا لعقد معاهدة سلام، كان هذا منذ خمس سنوات تقريبًا، استضفتها واستمعت لحديثها عن الإسلام وتعاليمه السمحة التي راقتني، كما أني أولعت بهيئتها وتقليل زينتها التي تظهر جمال ملامحها أكثر، وحجابها الذي يختلف تمامًا عن الذي نرتديه، فهي تسدله إلى الأمام، أما نحن هنا نرجعه للخلف ونظهر بعضًا من شعرنا الأسود الذي يعبر عن هويتنا الدومينية.

تركت معي كتابًا لا يقل قيمة عن أفكارها وحديثها، أثرت فيّ بقوة ناعمة للغاية، واستساغت أسلوبها الرقيق في الحوار، ليت مجتمعنا يستقيم مثلهم.

عدت إلى القصر، وهرولت إلى جناحي قبل أن تدركني الأبصار. كان وقت الظهيرة قد ولى دخلت جناحي، وسرعان ما سمعت صوت خشخشة عالٍ يخيم على الهدوء المستقر في القصر.

_____________

لقد كان فصلًا طويلًا!
فقط أريد أن أوضح جزيئة ذكرت في هذا الفصل، في الحقيقة، من أجمل ما يميز مجتمعنا العربي هو مفهوم الأسرة الواحدة، رغم كل السلبيات التي تطغى على المجتمع، إلا أننا منذ قديم الأزل ونحن هكذا، عائلة تتكون من رجل وامرأة وابنائهم، لا يتعدى فيها أحد على الآخر، والإسلام يكفل حقوقهما خاصة المرأة، لكن نتيجة لاختلاط الثقافات وسهولة التواصل، تأثرنا كثيرًا بالغرب ومعتقداتهم، ولعل أكبر مصائب عصرنا هي الرأسمالية التي هي من اختراعنا، هدمت مفهوم الأسرة تمامًا في مجتمعات كثيرة؛ فهذا المبدأ يقوم على الفردية فقط، لا وجود لفكرة التعاون ولا أي من أشكالها خاصة الأسرة، الفرد فيها يقدر بمدى إنتاجتيه وثروته فقط بصرف النظر عن الوسيلة، لا وجود لأي تقدير لعقل الفرد، وأحيانًا أراها صورة مصغرة للنازية؛ حيث لا وجود لذوي الاحتياجات الخاصة مثلًا، الذين لا يقون على العمل ومواكبة التطور السريع الذي يحدث، بدأت تتسلل إلى الحركات النسوية كذلك، بدأت تضع المرأة تحت ضغطٍ كبير، يجب أن تكون منتجة طوال الوقت حسب معاييرهم الخاصة، يجب أن تكون طوال الوقت جميلة، وتركت الساحة لمن يتربصون للمرأة ويريدون أذيتها واستغلالها في صالح شهواتهم، بالطبع الرأسمالية لها مميزات عديدة، لكنها كذلك تهدد استقرار المجتمع، ومع تطور الوقت سنجد الرأسمالية التي كانت تحمينا تستبدلنا بآلات تنتج أكثر منا.

Continue Reading

You'll Also Like

562K 40.2K 34
فوريت ديفير أو غابة الشتاء ........ كاسمها فهي غابة لا يتوقف فيها الشتاء طوال العام ......... فما نوع الأسرار التي تغطيها الثلوج ....... فقط الساحرا...
12.1M 653K 199
نوفيلا تكميلية لسلسة العشق جنون ( أسير عينيها الجزء الثالث)
795K 72.8K 88
هي قد نظرت لعينيه وعاهدته أنها ستقتله.. وكانت تلك المصيبة الكبرى التي لم يستطع أيٌ منهما التخلص منها ! ما هو شعورك أن تكون غريباً عن كل شيء ؟ كل ما...
11M 521K 59
_إن انقضت هذه الثلاثة أشهر دون أن أذرف دمعة واحدة بسببك يا كريس .. فسوف تعتذر لي ولعائلتي أمام باب منزلنا في مدينتي ، جاثيا على كلتا ركبتيك في حيّنا...