Protagonist | بطل الرواية

By Yafamethyst

369K 15.1K 13.1K

لم أكن يومًا فتاةً تمتلك نظرة عادية ..لطالما آمنت بفكرة أن العالم أكبر مما نتخيل وأن داخل كل شخص فينا عالم آخ... More

•مقدمة•
Part 01 : قِلاع النبيذ
Part 02 : خريطة برشلونة
Part 03 : زحل يَلتهم إبنه
Part 04 : نركسيس يُقبّل إنعكاسه
Part 05 : لُمِسَ كعبُ آخيل
Part 06 : هوسُ إيروس
Part 07 : ثمانية و نصف
Part 08 : بوابة الخَطايا السبع
Part 09 : بين المَجرات
Part 10 : أحفادُ الأساطير
Part 11 : عبر عدسةِ إكستَاسي
Part 12 : البحثُ عن هايد
Part 13 : داخل بتلاتِ بانْسِيه
Part 14 : منجلُ المَلك
Part 15 : هز أطلسٌ كَتفيه
Part 16 : حواس الذِئاب
Part 17 : جوف عقلِ فان غوخ
Part 18 : طبقات التِيراميسو
Part 19 : فكُ شيفرة الأفعوانية
Part 20 : من الخِنصر إلى المعدة
Part 21 : جُثة أم حلوى؟
Part 22 : مغادرة القِلاع
Part 23 : سميرالدو أسفلَ البركان
Part 25 : الممر الثامن للإليسيُوم
Part 26 : تحت لِحاف نيفيكاري

Part 24 : حرشفة ذيلِ حورية

7.3K 393 316
By Yafamethyst

«لنغرق معًا قرب جزيرة نائية..
ونقفز لعالم موازٍ حيث باِستطاعتنا التحليق لكننا غير قادرين على التنفس..

فتُشفى فريدا من الشلل وتمنح بعضًا من أنفاسها لفينسينت..

ويختفي الكيان الأسود خلف أعناقنا فتكون أنت القرش وسأكون أنا الريمورا»

__________________________

"...ولكنني أكتب لأخبرك بأنني سأطلق سراحكَ وأنني سأبترك أيضًا مثل ساقي ..."

كتبت فريدا كاهلو آخر كلماتها لزوجها وكان هذا قبل دخولها إلى غرفة العمليات بدقائق، رسالة متضادة بكلمات متضاربة ما بين الحب والكراهية، الغضب والهوس، دونت فيها مشاعرها ناحية الخائن دييغو تعلمه بأنها على وشك الدخول ليقطعوا لها ساقها بعد أن أخبروها بضرورة البتر بسبب تفاقم المرض وتدهور حالتها.

فريدا تلك الرسامة المكسيكية التي ولدت في رحم المعاناة لم يكن المرض، الشلل والحوادث التي مرت بها في حياتها هي ما جعلتها تترسخ في عقول البشر فقط، بل كان تعلقها الشديد بزوجها رغم خيانته المتكررة لها التي لم تتوقف مع العديد من النساء فحسب فقد خانها حتى مع أختها، رغم كل هذا تمسكت فريدا به وأحبته متجاهلة قبح شكله وعدم إحترامه لها.

وبطريقة غير متوقعة لم تؤثر فيها أخبار استعدادهم لبتر ساقها بل قالت له في رسالتها أنها أصبحت بالفعل تلك المرأة المشوهة بعد فقده.

ذلك التناقض جعل رسالتها من أكثر الرسائل المؤثرة وأكثرها عمقا وترجمة للنفس البشرية التي تأبى إفلات ما يؤذيها في كثير من الأحيان، ورغبة البشر بالتعلق بشيء حتى وإن كان لا يستحق كل تلك المعارك القائمة من أجله.

وختمتها فريدا بأنها إذا كان هناك أي شيء ستستمتع به قبل موتها هو عدم رؤية وجهه وهو يتجول أمامها، مودعة إياه بكونها شخصا مجنونا يحبه بشدة، وكأنها تعرف جيدا تناقضها لكنها لا تأبه بإظهاره لآخر لحظة..

بترت ساقها وكل شيء متعلق بدييغو ذلك القبيح الخائن وعاشت بعدها وهي متأكدة من أن الشيء الجيد الوحيد الذي تعلمته من هذه الحياة هو أنها بدأت تعتاد على المعاناة، ذلك الإعتياد جعلها تتأقلم مع كل تلك المأساة بداية من مرضها إلى قصة حبها وهوسها بزوجها.

تركت لنا أيقونة الكفاح أقوالا وكلمات أصبحت تنعكس على البعض منا وتعبر عما نمر به من تجارب نفسية مؤلمة..

بعضها يمر دون أن يترك داخلنا أثرا، والبعض الآخر نضطر لاِستئصاله عبر بتر شيء ما فينا وخسارتنا لأعز ما نملك..

إما هجر مكان و التخلص من ذكرى، أو حتى فقدان العقل كله...فننسى وننتصر لكننا نُجن.

داخل براثن قلعة أغلقت أضوائها لأن شمس نابولي تسللت عبر نوافذها العالية تنشر نورها لتُظهر الصور المعلقة على طول جدرانها، أشعة صفراء باهتة سطعت على صور أسلافهم و الزعماء السابقين لعائلة عريقة بسطت أجنحة سُلطتها في العالم السفلي..

عبر ضوء الشمس من الزجاج المعشق يكشف عنهم، بداية من الجد ماوريسيو إلى غاية آخر إطار ضخم إحتضن صورة اُلتقطت بكاميرا عتيقة الطراز بالأبيض والأسود لأكبر أفراد عائلة ميندوزا، أول حاكم وزعيم للجانب المظلم لإيطاليا، أول من جمع المنظمات الإجرامية ووحدها، لورينزو فرانكو ميندوزا.

لذا وبعيدا عن وجه مؤسس عائلة الجبال الجليدية الذي كان يقف بلباس فارس بسيف وخنجر على خصره يبث رهبته داخل قلعته القوطية، مرورًا بكل تلك الأوجه وعبورًا بجانب الحائط أين علقت شهادات تثبت أن كل فرد في العائلة كان جراحا معروفا داخل إيطاليا، جميعهم على حد سواء إختصوا واتبعوا مجالا واحدا وهو الطب بكل تخصصاته، كان أمرا آخرا قد حرصوا على توارثه بعد الزعامة وهو الشيء المعاكس لها، نقيض جانبهم المظلم أين قطعوا الأعناق ليلا في الخفاء كانوا ينقذون الأرواح صباحا ممارسين مهنتهم بكل صدق وإتقان.

بجانب شهادات ماوريسيو في إختصاصه بجراحة القلب التي رُتبت بجانب بعضها البعض، بجانب ورقة وحيدة خاصة بإبنته ماريانا المهتمة بدراسة علم الأحياء والتي كانت تثبت تخرجها من الثانوية و إلتحاقها بجامعة خاصة في روما..

عُلقت لوحة كُبرى بإطارها الذهبي المنمق تحمل بين زواياها لوحة «المساء» للفنان الإيطالي فيتوريو ريجيانيني، رسام ميّزته قدرته الفائقة على إظهار لمعان الساتان في لوحاته فأصبحت تبدو وكأنها حقيقة تنبض بالحياة.

«La Soirée by Vittorio Reggianini»

مسحت أشعة الشمس على بريق القماش مبرزة براعة رسامه لتسطع أكثر وتنعكس على الجدار الآخر أين رُسمت الخريطة النجمية بكل تفاصيلها ونجومها المشعة والمنطفئة منها.

بزغ فجر يوم جديد وأشرقت القلعة من كل زاوية ككرة بلورية، أصوات أقدام الخدم في الردهات والأروقة هي أول ما تجلى بوضوح وإنتشر شيئا فشيئا كلما صعدوا وتفرقوا داخل الغرف، بينما أصوات التدريبات، اللكمات على أكياس الرمل والتنفس السريع تلك الخاصة بالنجوم أتت مكتومة بعيدة لا تُسمع..

كان ذلك لوجود قاعة التدريب في الأسفل أين وجد عالم آخر مغاير تماما لما يظهر في الأعلى، في مكان كان أشبه بقلعة سفلية أخرى تسمى بالإليسيوم.

أخذت اسمها من الأساطير القديمة فسُميت على اسم الحقول الإليزية التي كانت منطقة أشبه بالنعيم حيث يتم إرسال إليها أرواح المحاربين والأبطال عند اليونانيين القدامى.

فهنا أيضا ولأن المكان في الأسفل كان ساحرا كالأساطير و أشبه بالخيال سُمي بالإليسيوم، عالم فسيح مليء بالقاعات الكبرى والغرف المرفقة بالأجهزة، أين تتم جميع إجتماعاتهم السرية و توضع المخططات وتوجَه الأوامر وتوزع المهمات، هناك حيث يتجهز كل نجم لمهمته، ويتدرب كل شخص منهم ليخرج للعالم كنجم أسود مستعد للقتال.

بُثت الروح داخل القلعة عكس هدوئها ليلا واستقيظ الجميع ليباشروا بروتينهم المعتاد لسنوات، استيقظ كلهم عدى شخص واحد فُتحت شبابيك شرفته ليتغير جوها، نفض الممرض بلباسه الأزرق الستائر على الجانبين و تنفس عندما لفحته نسمات الهواء الباردة الصادرة من الخارج ثم ألقى بصره للجانب حيث وُجد السرير..

في المكان الذي استلقى فيه جسد آرون بلا وعي ولا إدراك لما يحدث من حوله، أين كانت روحه تسبح داخل فضاء خاص به بعيد عن العالم أجمع، نظر ذلك الممرض لمن كان يغط في نوم عميق وكُلف هو بمراقبة حالته، رصد العلامات الحيوية الخاصة به، تغيير الضمادات وتنظيف الجروح التي بدأت في الإلتئام..

وقف بجانبه وحرك قناع الاكسجين الذي غطى فمه وأنفه كي يتفقد أنفاسه، ثم نظر إلى الشاشة يقرأ الأرقام والعلامات الظاهرة عليها، تأكد من عدم وجود أي خلل وإبتعد يضع يديه أمام صدره يحدق بوجه الآخر في الأسفل ويتسائل عما يجول داخل عقله الآن، أين هو وما الذي يفعله داخل مخيلته وأحلامه.

صوت طرق على الباب جعله يفصل نظراته عن آرون ليأذن للواقف خلف الباب بالدخول، ولم ينتظر طويلا كي يتعرف على هويته لأن إحدى الخادمات تقدمت تحمل قنينة زجاجية لتسقي النبتة في الزاوية بجانبه، أومأت له في صمت وعبرت خلفه تضع ما بيدها فوق المنضدة لتلتفت للطاولة الأخرى وتوصل الأسطوانة بآلة الفونوغراف العتيقة التي نقلوها سابقا من غرفة ماريانا لهذه الغرفة بأمر من أغوستينو..

هذا إن صرفنا النظر عن حقيقة أن آرون الآن نائم في جناح شقيقه أيضا، أي أنه منذ اللحظة التي دخل فيها إلى القلعة كانت الغرفة التي جهزوها له تلك الخاصة بآركتوروس فيما مضى، كان يستلقي في مكان لم ولن يتخيل أبدا أن الكون سيلتف بطريقة عكسية ويرمي به هنا داخله.

ناهيك عن البلد بأسره الذي كرهه منذ الصغر، وعن القلعة المليئة بالقتلة المأجورين، عن تواجده الآن في غرفة زعيمهم والحاكم الجديد للمنظمات الإجرامية الكبرى بإيطاليا، كان كل هذا تابع لشقيقه، شخص كان قد حاول مرارا وتكرارا إفساد أعماله وتخريبها، حرق الكروم والتسبب بإفلاسه، كان يكره فكرة أن له أخ، يكره حقيقة أن أغوستينو قد تربى معها عكسه..

لكنه الآن هنا برفقته داخل قلعته في جوف بلده، غارق في قلب كل ما هو مرفوض ومستبعد بالنسبة له.

وُضعت إبرة الفونوغراف على الأسطوانة لتبدأ بالدوران وتنتشر نغمات الموسيقى الكلاسيكية خافتة في الأرجاء، بجانب التحدث معهم كانت هذه أيضا طريقة أخرى مدروسة وفعالة تساعد على إفاقة ضحايا الغيبوبة بسرعة.

سُقيت النبتة التي لم يضع مثيلتها يوما داخل مكتبه، وإشتغلت سيمفونية لم يستمع لها مطلقا أثناء عمله، فُتحت الستائر ودخل هواء مدينة كان قد وضع فوقها علامة حمراء يحجبها في خارطته منذ سنوات عديدة.

حملت الخادمة القنينة وغادرت تاركة الممرض يرتدي قفازا طبيا كي يغير الضمادات لأخرى نظيفة، أغلقت الباب خلفها وعبرت متخطية الخدم الذين كان البعض منهم يمسح الدرابزين الخشبية اللامعة الخاصة بالسلالم، والبعض الآخر يحمل شراشف وملاءات نظيفة مطوية بمثالية، متوجهين بها نحو الغرف ليغيروها مثلما إعتادوا فعل ذلك يوميا.

هنالك من حمل سِلال ملابس متسخة وملطخة بالدماء وغادر بها نحو الأسفل، وهنالك حتى من كان يجر عربات أشبه بتلك الخاصة بخدمة الغرف الفندقية، بأدوات تنظيف وأغطية إضافية فقط لكون القلعة ضخمة واسعة مليئة بالغرف كفندق من العالم الآخر.

حينها وداخل إنشغال كل واحد بعمله في صمت وإنضباط، عبرت نفس الخادمة بجوار سيريوس بنفس هيئته المعتادة واضعا بين كفيه صينية نحاسية إحتوت على أدوية ماوريسيو، الجد الذي كانت غرفته ومكتبه في نفس الطابق أين كان يمكث آرون داخل غرفة شقيقه.

بنفس الرواق فقط فصلهما جناح دوناتيلو والذي كان جناح والده كانوبوس سابقا قبل أن يتخلى عن منصبه له، وغرفة كبير الخدم والنجم الثاني سيريوس، بعض أبواب الشرفات المفتوحة والطاولات الجانبية هي ما فصل بينهما، ما فصل بين غرفة الجد وحفيده في سبات عميق.

لذا وعند وصول تلك الخادمة لتمر بجانب رئيس الخدم بصينيته الصباحية المجهزة، إنحنت له بخفة وأومأت بإحترام ثم إتجهت نحو السلالم المتفرقة لتنزل إلى الأسفل، تلك السلالم نفسها التي كانت شبيهتها الأخرى تؤدي إلى الأعلى، للطابق الأخير الخاص بالزعيم، هناك فوق أين عم الهدوء أكثر وإختفى شيئا فشيئا ضجيج الصباح..

هنا حيث كان من المفترض أن يستقر ماوريسيو وخدمه كونه الزعيم للفترة السالفة، لكنه فضل أن يبتعد عن كل ما يذكره بإبنته وتفاصيلها الموجودة كما هي لحد الآن، إبنته الوحيدة ماريانا التي كان باب غرفتها الأخير في الممر بنجمته الذهبية متوسطة إياه بلمعانها الملفت، في آخر طابق حيث الأبواب قليلة وموصدة..لسبب ما كانت السكينة فيه أمرا مريبا ومرعبا.

في جوف ذلك الهدوء والرهبة، جسد أنثوي كان يقف أمام مرآة حمام ذات طراز ملكي، سيقان عارية وأقدام حافية أمام مغسلة رخامية، وسط خصلات شعر بُني بتدرجات لون الكراميل مقصوصة متناثرة حولها على الأرض الباردة.

أجل كانت هي تماما، صاحبة الغرة تنظر إلى إنعكاسها على المرآة، إلى أطراف شعرها التي أصبحت قصيرة تنتهي تحت فكها بإنشات قليلة، تنظر إلى هيتايرا أخرى بنظرات هامدة وأعين صفراء شاحبة.

وضعت يديها على حواف المغسلة أين كان المقص موضوعا في الزاوية والشعر يغطي سطحها، بينما الأخرى فلازلت تتأمل نفسها وحالتها هذه وكيف حدث كل شيء بسرعة لم تستوعبها إلا عند إنتهائها ورؤية الشكل النهائي، لم تكن أعينها متلألئة بدموع متحجرة مثل كل مرة، لم تكن ترتجف أو تتحسس نبض قلبها المتسارع بين الفينة و الأخرى، كانت كيانا مغايرا لكل صفة فيها، تنظر إلى إنعكاس أصبح نقيض الماضي.

هيتايرا وهي تتأمل شكلها هذا كانت تعرف جيدا أنها لم تفعل هذا إنتقاما منه فهي ليست بتلك الحماقة التي تجعلها تغير مظهرها بسبب شخص ما، بل وقفت بشكلها هذا لأنها أرادت ذلك أرادت أن تترك نسختها القديمة أن ترى هيتايرا أخرى عندما تنظر إلى المرآة، علها بهذا ستقنع عقلها أنها تغيرت بالفعل وأن تلك الضعيفة الخاضعة لقلبها قد بُترت منها نهائيا.

أجل تماما كفريدا كاهلو، وكأنها تخلصت من حِمل ثقيل مرهق لروحها، بعد أن بكت طوال الليل وقفت على أقدامها من جديد، لملمت ما تبقى لها من ثبات كي تستمر وقصت شعرها، ألم تقل لها والدتها أن الشعر يحمل الذكريات؟ ها قد عملت بكلماتها وبترت شيئا منها، بترت هيتايرا القديمة وتخلصت منها رفقة كل ذكرى لها معه، كفقدان فريدا ساقها وتخلصها من زوجها الخائن دييغو..كانت هي أيضا تفعل المثل وتؤمن به.

وبجانب ما آمنت به كان عقلها يردد جملة واحدة، أول استحضرته وما خطر على بالها منذ إقدامها على فعل كهذا هي عبارة قد قالتها نفس الإمرأة التي أرسلت لزوجها رسالة متناقضة بلغة عميقة غريبة.

«A besos entiendo a veces no»
«أحيانًا أستوعب الأمور بالقبّلات وأحيانًا لا»

كانت تقصد بهذا أنها لطالما كانت قدرتها على فهم الأمور والتعبير عن مشاعرها بشكل أفضل من خلال لغة اللمس والقبلات، مقارنة بالكلمات وكثرة الحديث كانت هذه الطريقة العميقة بالنسبة لها.

لأن عمق العواطف التي كانت تعيشها فريدا لم يكن بإمكانها تفسيرها بسهولة من خلال اللغة اللفظية العادية.

لكن تغير هذا بعد خيانة زوجها لها فأصبح معتقدها متذبذبا هشا، شعرت بعدها أن ليست كل العلاقات تنجح على هذا النحو، وأننا أحيانا ننخدع سواء بلغة الكلمات أو اللمس والعواطف، وأن رغم إيمانها في الماضي أن قبلة ونظرة واحدة كفيلة لجعلك تفهم الشخص أمامك، قد يكون هذا أيضا غير واضح ومفهوم في بعض الأحيان.


لذا فهيتايرا شعرت واستطعمت تلك العبارة الآن، لأن رغم كل ما مرت به مع أغوستينو، الماضي والحاضر، كل قبلة وتلامس، جل تلك العواطف التي ظنت أنها حقيقية إنهارت فجأة وجعلتها تدخل في حيرة وعدم استيعاب.

تحطم قلب أميرة القلاع بحبها الطفولي للحياة، تكسر إلى ملايين القطع التي كانت زجاجية براقة، تحولت إلى رماد..

بينما ذلك الدم الذي كان يُضخ ذهبيا لامعا عبر شرايينها متدفقا إلى قلبها المُزهر، تحول إلى سائل كقطران ثخين أسود، حمل معه الكراهية والمشاعر الباردة أرسلها إلى قلبها المتفحم.

هذا ما أصبحت عليه من كانت تغني وترقص حتى وسط أزمتها، من سردت قصصا وقرأت أخرى كي تخرج من وحدتها، باتت ممكسورة تؤذي من يلامسها، ولا تشعر هي بشيء.

رمشت بثقل تسحب نفسها من بئر التفكير والشرود ومدت يدها تحمل بعضا من خصلات شعرها، جمعتها على شكل حزمة صغيرة وكأنها تُشكل ذيل حصان بحجم السبابة ثم رتبتها بطريقة مثالية، بملامح ثابتة جادة لو رآها شخص ما لنعتها بالمعتوهة بسبب فعلها هذا.

عبرت فوق الشعر في الأسفل وسارت نحو المخرج حافية الإقدام بملابس داخلية وشعر قصير عكس الذي دخلت به إلى الحمام سابقا ملامسا أسفل ظهرها..

حينها وما أن وقفت وسط الغرفة الفارغة من أي كائن نابض غيرها، مررت محجريها على الفراغ تبحث عن شيء ما، نظرت تتفحص المكان بهدوء تحاول أن تسترجع بذاكرتها أين رأته موضوعا أو بمعنى أدق أين وضعه الخدم عندما جهزوا الغرفة لها ورتبوا ملابسها وكل ما سافر معها من إسبانيا..

لبضع ثوانٍ فقط و وقع بصرها عليه فوق مكتب ماريانا في أحد أركان الجناح الفسيح، صندوق خشبي صغير بحجم الكف، بتصميم مميز يشبه صناديق الكنز من القصص الخيالية، بنقوش وزخارف كثيرة وألوان بدأ بعضها يحول بسبب السنوات التي مرت عليه..

وقفت أمام المكتب المرتب بطريقة توحي أن شخصا ما كان يعمل عليه قبل ساعات إلا أن لا أحد كان هنا غيرها، لا أحد جلس على الكرسي ورفع قلما واحدا هنا منذ سنين عدة، لكنها أصبحت تعرف جيدا أن الخدم مبرمجين على نظام محدد وهو ترتيب الجناح وكأن ماريانا ستعود يوما، معرفتها لهذا هو أن الأمر ظاهر بوضوح، بداية من خزانة ملابسها المغلفة بعناية إلى مكتبها والسرير المنعش برائحة الورود دلالة على تغييرهم للملاءات والأفرشة بشكل يومي.

بالتالي ولأنهم مارسوا مهنتهم دون أن يتعدوا على أي من حدود الغرفة، كانت هيتايرا الآن هي أول شخص يجلس على كرسي مكتب ماريانا من بعدها هي شخصيا، لم تغفو على سريرها ولم تأخذ مكانا لها غير الحمام الذي جلست فيه لساعات وخرجت منه للتو، أما في هذه اللحظة بدة وكأنها وضعت أول خطوة داخل عالمهم.

تموضعت بنفس الهيئة وقربت منها إصبع الشمع الأسود الخاص بالختم، سحبته أمامها كما سحبت معه الشمعة المرفوقة بملعقة ذهبية صغيرة فوقها أين يقومون عادة بإذابة الشمع وسكبه فوق الظرف لإغلاقه قبل أن يضغطوا عليه بالرأس النحاسي للختم الخاص بهم..

لذا أشعلت تلك الشمعة مباشرة وكسرت جزءًا من الشمع لتذيبه فوقها، إنتظرت لثوانٍ ثم أطفأتها وحملت الشعر الذي جمعته قبل دقائق، رتبته مجددا وغمست أطرافه في الشمع الأسود، مرة وإثنتان ثم ثلاث تأكدت من غمر ذلك الطرف جيدا كي يلتصق ببعضه البعض..

حركتها بهدوء لتجف وأثناء ذلك سحبت بيدها الأخرى الصندوق من الجانب، وببطء لفت مفتاحه لتفتح معه ماضيها وحاضرها، طفولتها ومراهقتها وبعضا من أحداث لم يمر عليها الكثير، نظرت إلى ما إحتواه بأعين رقت للحظات على ما شعرت به على حين غرة، ذلك الألم بسبب الحنين إلى الماضي، تلك الرائحة المنبعثة منه كانت لعطور عديد ممزوجة ببعضها البعض، رائحة خشب وحلوى الفانيليا، رائحة صيف ونبيذ..

كانت مزيجا من كل شيء، رائحة لطيفة غمرتها لدقائق عندما فتحت بوابة أخذتها في نزهة إلى أحداث كثيرة، مواقف وأشخاص، أصوات ونظرات وملامح خرجت على شكل أرواح بيضاء كانت عالقة بداخله.

حينها حملت تلك الشعيرات الملتصقة ببعضها البعض ووضعتها في أحد زوايا الصندوق..

كانت هذه إحدى عاداتها، فالبعض كانوا هواة بجمع طوابع البريد أو العملات النقدية أو ربما تشكيلة نادرة لشيء ما، كانت هيتايرا تمتلك هوسا من نوع آخر، هوس الإكتناز.


فبجانب أنها تواجه صعوبة في التخلي عن أي شيء إمتلكته يوما من طفولتها إلى غاية يومها هذا، كل ممتلكاتها من ألبسة، ألعاب وكتب بغض النظر عن قيمتها لمجرد أنها أشياء رافقتها في يوم ما فهي تخبئها ولا تتخلص منها مهما بدت قديمة، كانت أيضا تجمع داخل صندوقها الخشبي تفاصيلا لا يعرف قيمتها والقصة الحقيقية ورائها غيرها وحدها..

فمثلا كانت تحتفظ بأول ملصق لَمَّاع كسبته في طفولتها عندما كانت تحرز كل أسبوع المراتب الأولى في الفصل على حسن السلوك والنقاط الجيدة.

تحتفظ بدبوس شعر الكشافة على شكل يعسوب أخضر، وأول قشر كستناء تناولتها في حياتها وهي في السابعة عشرة بعد أن أقنعها فرناندو شقيقها بذلك كونها ضلت لسنوات تتجنب تذوقها لسبب غريب لا أحد يعلمه حتى هي نفسها.

كانت تحتفظ بقطعة صغيرة من تمثالها الذي تحطم، أخذته بصعوبة من الأرشيف في يومها الأخير بالجامعة كآخر أثر من ذلك المكان، وزرار قميص بلون كريمي أصفر أعطاه لها مانويل في الليلة التي كانت عائلة كاستيلو على وشك مغادرة قصر غوستافيو بعد إنتهاء الزفاف، عندما حان وقت وداعهما طلبت منه أن يعطيها شيئا ما يخصه رغم أنها لن تكون المرة الأخيرة التي يراها فيها.

ورغم أنها كانت ستتزوج وتستقر داخل مدريد ولن تبتعد عنه إلا أنها مهووسة تمتلك عادة لا يمكنها التخلص منها، حينها لم يعرف مانويل ما الشيء الصغير الذي سيتسع داخل صندوقها السحري ذاك عدى أزرار قميصه، لذا سحب لها آخرهم محررا عنقه أكثر ومشوها بذلك مثاليته على حسب قوله، كما أعطتها كاثرين في نفس الليلة أحد أقراطها، من وقعت أعينها عليه داخل الصندوق بجانب ريشة جيتار سوداء مرصعة برسوم زهور عباد شمس صفراء زاهية، سرقتها عندما دخلت لغرفة فرناندو كي تأخذ شيئا مميزا يخصه حينها لفتت تلك إنتباهها من بين كل الريشات برسوماتها المتنوعة.

لذا كانت هذه غنيمتها من الحياة، تفاصيلا صغيرة ترسل إلى روحها قليلا من الدفء كما الأيام الخوالي، تأملت كل تلك القطع الكثيرة الغير متشابهة ثم لمحت من بينهم لونا مشعا، جزءًا صغيرا ظاهرا مدت يدها له وإلتقطت بين أناملها صدَفة براقة بألوان خاطفة للأنفاس وكأنها حجر قد وقع من الفضاء من شدة غرابة شكله وندرة مزيج ألوانه.

مسحت عليها بهدوء وملامح خاملة ومر خلال ذلك طيف إبتسامة على وجهها سرعان ما إختفى عندما أدركت أين تغير حالها الآن، نظرت إلى شعرها الذي أضافته قبل قليل إلى مجموعتها ثم أغلقت الصندوق ترجعه لمكانه السابق، خبأت شعرها الذي حمل مع ذكريات الماضي، فكانت كأنها تخلصت منه دون أن تفعل ذلك فعليا.

وقفت وحملت من ظهر الكرسي قميصا واسعا قصيرا من الصوف الأبيض، إرتدته تستر جزءها العلوي محررة سرب الفراشات وسيقانها وما تبقى من جسدها مكتفية فقط بملابسها الداخلية الرياضية، عبرت للطرف الآخر من الغرفة كي تبحث داخل الخزانة عما ترتديه لكنها توقفت في منتصف الطريق بنفس الملامح الثابتة الباهتة لتلتفتت للجهة اليسرى، للجدار أين عُلقت رسمة لم تنتبها لوجودها إلا الآن..

محيط بتدرجات اللون الأزرق متداخلة ببعضها البعض تصبح أكثر قتامة كلما وصلت إلى الأعماق، أسماك كثيرة متناثرة في كل مكان بألوان دافئة، دلفين ظاهر في الخلفية، أخطبوط بني اللون بمجسات ملتصقة بالصخور في الأسفل، طحالب خضراء داكنة موزعة في القاع مع جسد غواص بأنبوب خلف ظهره وخوذة خاصة بالغطس، وبسبب خبرتها في هذا المجال علمت فورا أن جسد الأخير قد أضيف حديثا إلى اللوحة.

لوحة صغيرة لم تأخذ حيزا كبيرا في الجدار، مجرد إطار أسود مستطيل الشكل إحتضن تلك الورقة المجعدة قليلا داخله.

تأملتها لبرهة من الوقت إلى أن لمحت في مكان بعيد وبحجم صغير سمكة قد رسمت بطريقة جميلة، سمكة ذهبية كانت واضحة بسبب لونها المختلف في الصورة.. إقتربت ومسحت بلطف عليها لتهمس لنفسها بسهو.

" ستكونين سمكة ذهبية، ستفقدين ذاكرتك كل ثلاث ثوانٍ".

كتلك السمكة الذهبية قررت أن تكون، أن تنسى كل شيء كل ثلاث ثوانٍ وتبدأ من الصفر.

قررت أن تهدأ وتستكشف المكان، أن تُعرِف نفسها كي تتعرف الغرفة عليها وتجد مكانا لها هنا ريثما تجد هي أيضا أجوبة لأسئلتها، تلك التي تضاعفت وتضخمت أكثر ليلة البارحة، عندما شعرت هيتايرا أن السيء لم يكن أغوستينو بل كان كل شخص حولها، عندما أدركت أنها الوحيدة التي لا تعرف أي شيء عن الأشخاص الذين أحبتهم و وثقت بهم..

Flashback

"هل تحاولين الهرب؟"

لم يأتيه أي رد منها، صمت ونظرات حادة مظلمة رمقته بها من رأسه إلى أخمص قدميه، كان من تحدث ليندر الذي أصبح المسؤول عن خدمتها طيلة تواجدهم هنا، عكس ما كان متوقع أن يرسل لها أغوستينو إحدى الخادمات كونه لا يثق في أحد هنا غير رجاله والممرض الخاص بآرون القادم معه من إسبانيا، وكانت مهمة ليندر مراقبة هيتايرا وتوفير لها كل ما تطلبه.

فكان المشهد الأول الذي لمحه عند دخوله إلى الغرفة هو ظهرها المنحني إلى الأمام عند الشرفة، عندما كانت تُطل برأسها إلى الأسفل متأرجحة على الحافة وكأنها تدرس الإرتفاع والطريقة المناسبة للهرب، رغم أن الباب لم يكن مغلقا من الخارج، لم يكن موصدا كما فعلوا معها سابقا في الملجأ بل كانت كل الطرق مفتوحة لها..

لكنها وسط قلعة ضخمة داخلها معقد أكثر من خارجها، كمتاهة ولغز مليء بالقتلة والوحوش، فلم تفكر بالخروج بشكل مباشر والتسلل بين أروقتها، هي حتى لم تحفظ طريق العودة إلى مدخل الباب من شدة اتساعها وكثرة ممراتها، فكان الشيء الوحيد الواضح بالنسبة لها هو المنظر الذي أطلت عليه شرفة غرفتها.

ويبدو أن هذا أيضا لا فائدة منه لأن الإرتفاع لا يسمح كونها في الطابق الأخير وكأقل إحتمال للضرر ستصاب بكسور وشلل كُلي، ولأن أيضا ليندر قد دخل للتو وأفسد عليها مخططاتها.

وقفت بإعتدال فور شعورها بالباب يُفتح ورائها، نظرت إلى ليندر الذي تقدم ناحية الطاولة التي توسطت المقاعد، أزاح رقعة الشطرنج قليلا ووضع الأكل جانبا، بينما دخلت هي من الشرفة تطوق صدرها بذراعيها عاقدة إياهما دون أن تفصل بصرها عنه..

"هل حان وقت إطعام حيوانكم الأليف؟" نبست بها تزفر هوائها بسخرية تنظر للجهة الأخرى بحنق..

لم تأكل شيئا طوال اليوم ورغم أن الوقت قد تأخر بل ولم يتبقى الكثير على منتصف الليل إلا أنه بأمر من أغوستينو أخذ لها ما يسد جوعها لهذه الليلة، في حين ليندر وقف صوبها بإحترام وأومأ برأسه وهو على وشك المغادرة متجنبة الرد على ما قالته قبل قليل، إلا أن صوتها الخافت هذه المرة قد استوقفه.

"لما أنا هنا ليندر؟" رفع أعينه من البلاط إليها لتفصل هي ذراعيها عن صدرها تتحرى ملامحه علها تجد الجواب فيها، حينها رد عليها بنفس النبرة الخافتة وكأنه يخفي صوته قدر المستطاع.

"ثقي بي، إن المكان الوحيد الآمن هنا هو أن تكوني بجانبه.."

" ما الذي تريدونه مني..أخبرني لما أنا هنا؟؟ لا بأس إذا كنت سأقتل أريد فقط معرفة ما سيحدث لي ولماذا؟ " قالت كل ذلك دفعة واحدة ثم تنفست بعدها بعمق وإرتجاف داخل صدرها لتكمل بهمس وتعب بادٍ على وجهها جعله يتنهد باِستسلام لها.

"حتى من سينفذ عليه حكم الإعدام يكون على دراية بموعد شنقه..أخبرني لما أنا هنا؟"

" كان بإمكانكِ الهرب في إسبانيا، حينها ربما كنتِ ستنجين..
لأننا مجرد نجوم حارسة، لا نُعد نجوما إن صح القول بل رجاله المدربين على تنفيذ أوامره.."

نظر داخل عينيها هذه المرة بعد أن كان يتجنب ذلك طوال وقوفه أمامها وأردف..

" هنا...الأمر يختلف...أنتِ هنا داخل قلعة مليئة بالقتلة...كل من حمل نجمة سوداء على ياقته هو قاتل سيفصل رأسكِ عن عنقكِ بكل برود إذا اُمر بهذا.." لَمح إرتعاش بؤبؤيها عند قوله آخر كلماته مما جعله يُنهي جملته مباشرة وهو ينوي الخروج لأن حديثهما قد طال أكثر من اللازم.

"لذا ولأننا لا نعلم بعد من هو العدو الحقيقي...إبقي بجانبه..

تماما عند كتفه...تلك هي المنطقة الوحيدة الآمنة هنا".

قالها وهو يوليها ظهره ليغادر وكأنه يهرب منها ومن نظراتها تلك، لكن مجددا لم تستسلم عن أخذ جوابها هي التي لمحت داخل عينيه الصدق وبعض التعاطف معها، أدركت أنه يريد أن يتحدث لكنه عاجز، لذا فقد افرغت كل ما بقلبها من أسئلة خرجت منها بتأثر ومشاعر مرهقة رصدها ليندر فورا.

"لما أنا هنا من الأساس!! لماذا تحول كل شيء فجأة !! ما الذي حدث أخبرني لما قد يأتي بي إلى هنا؟؟، لقد ..لقد تقبلت كل شيء و وضعت إحتمالات خلف كل فِعل صدر منه، لكن أن يجرني معه لبلد آخر رغم كل تلك المعاملة السيئة!! بحق الرب سأجن ما شأني أنا من كل هذا؟"

وضعت كفيها على وجهها توازيا مع لفظها لآخر كلمة، حركت يديها بعصبية تمسح على ملامحها وتنهدت بإرهاق جعله يلتفت لها هذه المرة قائلا.

"لقد رأيتِ السيد آرون بالفعل! " أجابته بخفوت خلف كفيها دون أن تنظر إلى وجهه.

"أجل رأيته وأخبرني إينزو أنه مصاب بطلق ناري..ولم أفهم عن أي لعنة يتحدث"

"إذا أخبرتكِ...هل تعدينني أنكِ لن تتصرفي بتهور وتجلسين هنا حتى يقرر الزعيم ما سيفعله!؟"

أزاحت يديها تكشف عن ملامحها بفضول وهدوء عكس عصبيتها السابقة، ثم بحركة تكاد لا تُرى حركت رأسها إيجابا له ليسترسل هو بمجرد أن أخذ جوابه.

" إصابته لم تكن مجرد حادث...ليسوا قطاع طرق حاولوا سرقته ولا أعداء عمل اِستهدفوه لمنصبه...إن الأمر أعمق من هذا...إنها مؤامرة"

" أجل كل شيء راجح، أعلم هذا لكن أنا..نتحدث عني هنا ليندر ما شأني من هذا..أ يعقل أنكم...
هل تشكون بي بحق الرب؟!! ..لا..لا يعقل هذا ..لقد فقد زعيمكم اللعين عقله حقا.."

زينت وجهه إبتسامة خافتة مسحها عندما رفع يده يمسح على عينيه واضعا إياها عن فمه بتردد ظاهر على تقاسيمه، أراد أن يقوم بعمله ويخرج لكن شيء ما فيها، شيء في ملامحها يحثه على التخلص من عبء الموضوع وإشباع فضولها، حينها وبكل جدية أردف دون أن يقطع كلماته واضعا تلك الحقائق أمامها جاعلا من الصدمة ترتسم على وجهها.

" ما سأقوله قد يبدو غريبا، جنونيا وربما لن تصدقيه..
لكن ثقي أنها الحقيقة الوحيدة التي بحوزتنا لحد الآن، ما حصل للسيد آرون نحن نشك بأن لرونيا يد فيه..والدتكِ هي المشتبه الأول في هذا"

فلتت منها ضحكة، فجأة ودون سابق إنذار ضحكت ثم تحولت تلك الضحكة الخافتة إلى قهقهة جعلت نظراته تتغير كمن صعب عليه حالها..

همست باِسم والدتها وسط تلك الضحكات تؤكد لآذانها أن ما صافح سمعها كان واقعيا وأن ما قاله بكل جدية الآن قصد كل حرف منه، أحست بقشعريرة تسري على طول عمودها الفقري جعلتها تفقد توازنها وينخفض جسدها تماما كإنخفاض نبرة صوتها أثناء الضحك رويدا رويدا إلى أن جلست أرضا بإبتسامة بلهاء تشق وجهها..

كانت تصرفات شخص على وشك أن يفقد عقله، تردد اسم والدتها بهمس لا يُسمع بإبتسامة غريبة وكأنها إنتظرت هذا اليوم طوال حياتها، لأن رونيا بتصرفاتها الغير منطقية أحيانا كانت مثيرة للريبة، سفرها منتصف الليل دون سابق إنذار، صرامتها الشديدة على أولادها في أمور قد تبدو لآباء آخرين أنها لا تحتاج كل ذلك التضخيم، خوفها الدائم وإحتياطاتها المدروسة وتخطيطها لكل شيء حتى وإن خرجوا في نزهة للحديقة المجاورة للقصر..

كانت تهاب شيئا ما، تجهز نفسها لأمر وحدث هيتايرا الصغيرة حينذاك لم تفهم ماهيته، الآن إشتعل ذلك القنديل داخل عقلها المظلم وأنار لها ما كانت تغض بصرها عنه منذ طفولتها، رونيا الأم الغامضة والجافة في تعاملها مع صغارها قد إتضح الآن سبب ذلك، إتضح أنها لم تكن إمرأة عادية..

ظلت هيتايرا تنظر إلى نقطة بعيدة في الأرض، بنظرات خاملة بدأت تنطفئ أكثر من قبل، بلغة جسد تترجم عدم تصديقها لما إلتقطته أذناها الآن، كانت ردة الفعل هذه ستتغير إذا سمعت خبرا كهذا قبل أشهر ربما..

لكن بعد أن إكتشفت أن أخاها هو الآخر متورط في حادثة لاريوخا عندما وضعته كمشبه به في قضية طعن أغوستينو، حتى الصدمة تقلصت الآن وكأنها في كل مرة تُصعق فيها بخبر ما، كان يمتص منها طاقة كبرى لتجلس في النهاية خائرة القوى عاجزة عن فهم ما يدور من حولها..

جلست أرضا ترخي أطرافها بعجز، واضعة يديها أمامها مغمضة عينيها بقوة، كانت تشعر بأنها لا تعرف أحدا من عائلتها، تشعر بأن حياتها تلك كانت عبارة عن فقاعة ضخمة إنفجرت الآن وإكتشفت أنها تعيش في عالم مظلم قذر عكس الذي رأته سابقا، ظنت أن أغوستينو وحده من كان حظها العثر في هذا الحياة، ظنت أنه الوحيد الذي أخفى عنها حقيقته وفكرت بالهرب في أقرب وقت، لكنها أدركت للتو أنها تجهل الكثير حولهم جميعا.

لربما أيضا لا تعرف بعد إبنة من تكون، ما نوع الأمهات التي عاشت معها طوال تلك السنوات، ربما خوسيه ليس كما يبدو لها هو الآخر! ما صنف العائلات التي يكون أكبر أولادها متورط في طعن زعيم مافيا سابق بينما الأم مسؤولة عن إصابة شقيقه! لما قد يستهدفا الإخوة معا! لما بحق الرب عائلتها العادية بروتينها الممل ومشاكلها الصباحية المعتادة أصبحت تبدو كعصابة لا تختلف عن العالم السفلي الذي وقعت فيه!

تساؤلات فتكت بعقلها في صمت، عُقد كثيرة تشكلت داخل جمجمتها جعلتها تصاب بصداع حاد رفعت على اثره يدها تدلك المنطقة بين عينيها بألم واضح..

بينما تغطى جو الغرفة بالهدوء مجددا، حتى أنفاسها المتسارعة هدأت وإختفى صوت نبضها العنيف..

مشى ليندر صوب الباب ليغادر عندما رأى أنها تحتاج بعض الوقت بمفردها كي تجمع أفكارها، وكي لا تسأله مجددا عن مصيرها والغاية من إحضارها هنا لأنه هو ذاته لم يكن يعلم أكثر مما قال لها..

وصل إلى آخر الطريق وتوقف بقليل من التردد شعرت هي به دون أن ترفع رأسها له، إلتفت إليها وهمس لها كمن يعطيها سرا، دون أية فواصل قال كل شيء بلا تكرار، فإذا تذكرته فهذا أمر جيد سيساعدها مستقبلا، وإذا لم تفعل فهو قد فعل ما بمقدوره على أكمل وجه.

" في الطابق الأخير...الممر الثامن عند آخر باب بلون أسود ونقوش فضية..

سيأخذك إلى سلالم تنتهي عند الإليسيوم...هنالك ستجدين ممرات وقاعات كبرى كثيرة...الممر الأول ثم الإلتفاتة الثانية ستجدين بابًا سريا في الجدار مقبضه على شكل رأس ذئب ذهبي يشبه تلك الموزعة في كل ركن من القلعة..أميلي أذنه عكس عقارب الساعة...ذلك الممر السري الذي سيظهر لكِ يؤدي الى الغابة..

إذا أردتِ الهرب يوما ما".

إلتفت لها برأسه كونه كان يتحدث وهو ينظر للجانب دون أن يراها، قابلها ليجدها تنظر إليه طوال فترة حديثه، إبتسم لها بجانبية وأردف.

" هذا لأنكِ هزمتِني في الشطرنج عديدا من المرات، لم تطلبي أي مقابل ونحن النجوم لا ندين لأحد بشيء أبدا" وضع يده على مقبض الباب وقبل أن يخرج أكمل يحدق في عينيها كيف زارهما بريق إمتنان لما فعله من أجلها، لتصرفه هذا الذي أظهره لها كمن يعطيها بعض الأمل أو يواسيها ربما.

"...لأنني مدين لكِ، ولأنني لا أريد من هيرو أن تصاب بالجنون وهي تنتظر عودة حبيبها ليندر.."

وهنا رمشت لأنها استوعبت ما يرمي إليه من نظراته دون الحاجة للاستفسار أكثر، لم يكن يقصد نفسه بقوله هذا، بل كان يقصد إنتظارها لعودة أغوستينو الذي إختفى وظهر مكانه شخص آخر تماما.

" قد أكون ورطت نفسي بسبب هذا...لكن كما قال لنا الزعيم دائما..إننا طيور مهما هاجرنا مهما تُركنا ومُنحت لنا الحرية، إذا كنا ننتمي لمكان ما سنعود إليه..لأن مصير الطيور العودة إلى أعشاشها " رفع لها يده الأخرى يُظهر لها وشمه مردفا..

"هذه نصيحة من طائر السنونو ".

فُتح الباب وإختفى خلفه جسد ليندر مغلقا إياه تاركا هيتايرا جالسة على الأرض بجانب المكتب، وحيدة رفقة أفكارها ومشاعرها التي عجزت عن فهمها، مشاعر غضب وخوف، برود وإنطفاء روح، كلها داخل قلب واحد يكاد ينفجر من كثافتها.

فما كان منها إلا وضع رأسها المثقل على جانب المكتب مستندة عليه بنفس الوضعية، بإرتخاء أطراف وأعين إنسدلت جفونها لتعيد كلمات ليندر داخل عقلها بتركيز كي لا تنسى حرفا منها، لأن حرفا واحدا سيسقط سيقلل من فرصة نجاتها من هنا إذا أرادت ذلك.

كررت كلماته داخل عقلها إلى أن وصلت لآخر ما تفوه به، عندما أخبرها بأنها إذا أرادت الهرب فلتفعل ذلك ببساطة، إن كانت تنتمي إلى هنا فستعود..

لسبب ما..لسبب غريب تجهله كانت تشعر بأن البلد بأسره يشبهها، وأن فيها شيء يتشبث بالمكان وكأنه هنا الأصل والإنتماء، وأن الجو لم يضغط على رئتيها بل كان منعشا، وكانت هي كشخص عاش في غربة وعاد ليتنفس هواء الوطن.

لم تعلم شيئا بعد، لا زالت في بداية تلقي الصدمات واحدة تلو الأخرى، لا زالت تجهل بعض الحقائق، والتي كان أهمها أن عبارة "الذي ينتمي إلى مكان ما سيعود إليه" لم تكن مجرد كلمات تقال لترجمة معنى الإغتراب والعودة.

بل قيلت لأن المغناطيس داخل القلب لطالما كان أقوى من أي شيء آخر في هذا الكون.

وأننا مهما هربنا سنُجذب ونعود إلى حيث ننتمي.

End the Flashback

________

أصابع تحرك بطاقة بحركات خفة وكأنها بطاقة كوتشينة، على أريكة توازي السرير الذي حمل فوقه آرون جلس أغوستينو يحني ظهره للأمام قليلا مستندا بمفقيه على ركبتيه يلعب ببطاقة ما منذ وقت طويل، كان ذلك عندما دخل كي يجلس مع شقيقه لدقائق لا يدري كيف طالت فجأة..

داخل غرفة لم يكن فيها سوى هو ومن كان يتمنى طوال حياته أن يلمحه من بعيد فقط، من تحدث مع والدته عنه لساعات دون ملل هنا في نفس القلعة، أصبح الآن أمامه لكنروحه تسبح في مكان بعيد،أبعدمن قبل..

صوت تلك الموسيقى الكلاسيكية المفضلة لماريانا كانت تُعزف في الخلف بخفوت مختلطة مع صوت الأجهزة المتصلة به، شرفة مغلقة وجو معتدل عكس البرد الذي أعلن عن هطول الثلوج في الخارج..

رفع أغوستينو رأسه من البطاقة لوجه آرون مرة أخرى كي لا ينسى ملامحه، كي يستغل كل ثانية في سرقت بعض اللحظات معه قبل أن يتغير كل شيء مجددا، حدق بجانب وجهه لدقائق دون أن يزحزح بؤبؤيه عنه وأطلق نفسا ساخنا يفرغ صدره من ثقل ما تكون داخله.

وقف ببطء وتقدم منه بهدوء وهو يمرر بصره من البطاقة بين يديه إلى جسده الشاحب أمامه، وعند آخر خطوة كان قد وصل إلى حافة سريره ليقف عند رأسه تماما، عند وجهه وجفونه المنسدلة، نظر إلى رموشه وكيف كانت والدته تصفها له على أنها كثيفة وشقراء داكنة عكسهم هنا من إكتسوا بالسواد في كل شيء، إلى خط أنفه المغطى بقناع الاكسجين، ذلك الذي لطالما وصفته بأنه حاد يشبه أنفه تماما، فكه الحاد وشعره المتسللة خصلاته فوق جبينه..

تأمل شقيقه بهدوء وهو يتذكر أول مرة قابله فيها، يتذكر الكره والمعاملة السيئة التي بدرت منه عكس ما كان يتوقع..

حتى تلك ال1581 مرة التي سجلها عنده لم تكن حوارات طويلة، لم تكن أحاديثا اِسغرقت ساعات، بل أغلبها كان كلمة أو إثنتان..

في كل مرة خرج من فاه شقيقه حرف وجهه له قام بتدوينه، طوال إحدى عشر سنة إلى غاية آخر لحظة سجلها كلها بلا كلل.

لذا رفع البطاقة لمستوى نظره وقرأ الاسم بنبرة خافتة ونطق حروف خرجت بلكنة إيطالية بحتة.

"ديو لانواريوس ميندوزا".

قالها كأنه يخاطبه، مرر عينيه محجريه من الصورة والاسم صوبه إلى الأسفل حيث شقيقه وأعاد الاسم مجددا كمن أعجبه وقعه، أعجبه إختيار والدته للاسم..

وأجل هذا ما حدث بالفعل، ذلك الإيطالي قد غير الاسم واللقب معا، ولم تكن تلك حركة أنانية منه، لم تكن بغية إثارة استفزاز شقيقه ولا لأن والدته أوصته بفعل هذا، بل لم تخبره أن والده خوان قد غير الاسم عند هربها وفضلت أن تناديه لانواريوس كلما تحدثت عنه مع أغوستينو، واكتشف الأخير أن أخاه أصبح يحمل اسم آرون فقط عندما قابله لأول مرة وناداه باسمه الحقيقي..

حينها صعق بردة فعله العنيفة وتلك اللكمة التي تلقاها وأردته أرضا، بسبب اسم تأكد أن الشخص الذي يقف أمامه لم يكن كما تحدثت عنه والدته يوما، كان نسخة أخرى تُكِن له الحقد الدفين لسنوات.

لكنه الآن أعاد له هويته، وليس إنتقاما منه أيضا بل لأن آرون قد سُجل في قائمات الوفايات داخل إسبانيا، أي أنه رسميا شخص ميت قد قُرأت وصيته في مدريد هذا الصباح..

زُورت شهادة وفاته وإختفى أثره من موطنه، فما كان على أغوستينو إلا تكملت الخطة وإنهائها بشكل نظيف مثالي عبر تغيير هويته أيضا، فليس من المنطق أن يُقتل ويُدفن في مدريد ويعيش داخل إيطاليا ويتجول فيها بنفس الاسم واللقب.

أصبح رسميا شخصا آخر، بلقب ذو رهبة ومكانة لطالما جعلت أهل إيطاليا يقفون عند سماعه، إما إحتراما لآل ميندوزا الأطباء والجراحين الأشهر والأعرق في البلاد، أو رعبا إذا كانوا على إطلاع بتاريخ العالم السفلي وما فعلته النجوم السوداء على مدار سنوات طويلة..

بالتالي فالآن آرون أصبح يحمل اللقب والاسم معا، كما كان يحمل داخل شرايينه دمائهم ها هو الآن يتوغل داخلهم دون أن يدرك ذلك بعد..

بينما كان ينام بسلام إبتسم الآخر عندما تخيل رد الفعل الصادر منه عند إكتشافه لشيء كهذا فور استيقاظه، إبتسامة إختفت تدريجيا لينحني بتقاسيم وجه قد شقها طيف الألم وكأنه سيستعد لكل شيء وسيقبل كل تصرف فقط كي يرى تلك الأعين الحادة مفتوحة مرة أخرى..

إنحنى وطبع قبلة على جبينه كما كان يفعل في كل مرة يدخل فيها إلى الغرفة، وضع البطاقة جانبا على المنضدة وهمس له قبل أن يغادر.

"أعلم أنك الآن تلاكم سباتك هذا، أعلم أيضا أنك تمتلط قبضة لعينة لانواريوس"

قالها وإبتسم في نهاية حديثه عندما تذكر تلك اللكمة المباغتة منتصف وجهه قبل سنوات، إعتدل وغادر بخطى وئيدة يغلق خلفه الباب على شقيقه..

على من تردد الاِسم الأخير حوله، بجانبه و في كل مكان تكرر وقعه خافتا إلى أن تحول لوقع أنثوي وبدأ في الظهور والوضوح أكثر وأكثر، وكأنه شخصا ما يناديه من بعيد، صدى من مكان، أشبه بصوت شخص تحت الماء، أشبه بصوت داخل نفق راح يتكاثف ويعلو شيئا فشيئا داخله، في أعمق بقعة في عقله.

"ديو..لانواريوس ..أين أنت أيها العنيد أ لم أقل لك أن تنتظرني عن مدخل السوق؟"

بقميص فضفاض ذو أكمام بيضاء تصل لمرفقيه، خفيف بأزرار أغلق اثنان منها في الأسفل و بسروال صيفي قصير أزرق منقط ومتسخ ببقع ألوان مائية والكثير من رمال البحر الملتصقة به، تماما كأقدامه الصغيرة وسيقانه العارية التي إكتسبت سمرة البحر غُلفت كلها بحبات رمل قد جفت عليها..

راكع على ركبتيه بتركيز ينظر إلى الورقة الموضوعة فوق الكرسي القابل للطي الخاص بالبحر، كان قد قام بطيه و وضعه كحامل لوحات كانفاس، ما إختلف عن الحامل العادي هو أنه يجلس أرض كي يستطيع الرسم بطريقة جيدة..

كان هذا آرون، الطفل الذي هرب وعاد إلى الشاطئ لاِستئناف رسمته التي بقيت في منتصفها، كانت تلك المنطقة في ستينيل، تابعة لعائلة روسادو، أين إعتادت عائلة غوستافيو قضاء عطلتها هنا عند معارف خوان قبل أن يتزوج صديقه المقرب من روزاليا.

ذلك الشاطئ قد أغلق جانبه بفعل الصخور الكبيرة العالية بينما الجانب الآخر فكان عبارة عن مطعم تابع لروسادو، أي أن المطعم يقابل البحر تماما يفصل بينهما شاطئ من الرمال البيضاء والكثير من المقاعد المخصصة أين يقضي الجميع سهراتهم وإحتفالاتهم الليلة هنا.

لذا فآرون تسلل عندما كانوا قد خرجوا إلى الأسواق الشهيرة هنا رفقة العائلة، غادر الشوارع المكتضة بالسياح والإسبان من كل مقاطعة كون ستينيل مكانا يُقصد في العطل الصيفية بكثرة.

ترك ماريانا خلفه وها هو الآن ينحني ليكمل رسمته التي بدأت تجف بسبب الرياح القادمة من البحر خلفه..

دفن الفرشاة في كأس المياه الذي كان قد أخذها من البحر وحفر له في الرمال مكانا كي يثبته ولا يسقط أرضا، ثم مسح على اللون الأخضر الداكن من لوحة الألوان ليرسم الطحالب في أسفل الورقة بجانب الصخور الرمادية.

"أ لا أتحدث معك أيها السيد؟ أناديك منذ ساعة لما لم تقل أنك خلف الصخور هنا؟"

وقفت ماريانا عند رأسه تحجب عنه الشمس التي بدأ لونها يتحول مودعة السماء للغروب، استقامت بشعر قاتم تطايرت بعض خصلاته مع الرياح تماما كفستانها واضعة يديها على خصرها بأنفاس شبه مسلوبة تنتظر منه تبريرا، لكنه وبنفس وضعيته مركزا مع الورقة حت يده تحدث ولم يكلف نفسه عناء رفع رأسه لها، بل وبنبرة هادئة تخللها المكر نبس لها.

"لقد إنزلقت يدي"

"أيها ال..."

ضحك رافعا لها عينيه لتبتسم بعدما عجزت عن ضم شفتيها أكثر، لأن بقوله هذا بتلك الطريقة وكأنه طفل أحمق قد ضل الطريق عندما إنزلقت يده عن يد أمه في السوق، كان وغدا يعرف أين يضع قدمه جيدا رغم صغر سنه، يعرف كل ركن هنا كونها قرية ليست بذلك الكبر.

لقد هرب ولم يستمع لكلامها وهي تعرف جيدا هذا لكنها تنهدت بتعب وأخذت مكانا بجانبه لترى ما يفعله منذ الصباح، الشيء الذي لم يستطع أن يصبر كي يعودا إلى المنزل ويكمله بل غادر باكرا لإنهائه بكل هذا الحماس.

استقرت محاذاته تماما وأمالت رأسها تتأمل التفاصيل التي رسمها، بأعين خضراء لامعة وشفاه كان يعضها كلما تردد في إختيار ألوان المرجان في الأسفل، لذا وفي صمت مدت له ماريانا سبابتها تشير إلى اللون القرمزي في زاوية العلبة، دون أن تنبس بكلمة قامت بالإشارة له ليضع فرشاته في كأس المياه بجانبه ينظفها من لون الطحالب ثم أخذ يلون المرجان لتعتدل هي تراقب حركاته تلك بإبتسامة خافتة زينت وجهها بملامحه الفاتنة تلك.

"أتعلمين! إن المرجان أقوى من مادة المورفين، لأنه يسكن الألم بطريقة سحرية، بل هو أفضل من المورفين لأنه لا يملك أثر إدمان"

همس لوالدته خلال إنشغاله بوضع الألوان بطريقة جعلت إبتسامتها تتسع كونه يشرح لعالمة أحياء وكأنه هو المثقف هنا، تلك الثقة في طرح أفكاره أرغمتها على تحريك رأسها له عندما نظر إليها ثم عاد مجددا ليكمل عمله، حينها عجزت عن كبح نفسها إنحنت تطبع قبلة على شعره الأشقر نقيض خاصتها.

"كما أننا..يعني نحن البشر..باِستطاعتنا زراعتها تحت الماء..لأنها تشبه المحاصيل"

"لم أكن أعلم هذا، إنها كائنات مثيرة للإعجاب"

"أتعلمين ما هي الكائنات المثير للإعجاب حقا!!"

نظر إليها وتوقفت يده عن تحريك الفرشة، بينما هي نفت برأسها له وهي شاردة في لمعان عشبيتيه تحت ضوء الغروب، أعين لطالما أعجبت بلونها وظلت تحدق بها تتأمل تدرجاتها دون ملل.

خرجت من شرودها فيه عندما إلتفت يشير إلى الكائن المرسوم بجانب الحبار في الاعلى، لمسه بظهر الفرشاة قائلا بإعجاب وحماس لا يظهر على وجهه إلا عند حديثه عن البحر وما يتعلق به.

"إنه قنديل البحر..ما أراه أنا مثيرا للإعجاب حقا..هنالك نوع من القناديل خالدة..

هل تتخيلين هذا أمي؟"

"أ حقا يوجد شيء كهذا؟" سألته رافعة حاجبيها باِستغراب وقد راق له ذلك ليعتدل قليلا يجيبها بإيمائة مردفا.

" أجل..هنالك نوع منها لا يموت، أي أنها كلما تتعب وتتقدم في السن تقوم بعملية تجديد خلاياها وتصغيرها لتعود أكثر صحة من قبل..لهذا فهي كائنات خالدة لا تفنى"

"إلهي، إن طفلي نابغة"

حك أنفه كحركة إعتاد فعلها كلما شعر بالخجل وأشاح نظره للورقة متجنبا نظرات والدته المعلقة به، بينما إرتخى جسده لا إراديا على اثر لمساتها كلما دفنت أناملها داخل شعره من الخلف تداعبه بهدوء مستمتعة بمنظر إنسدال جفونه من شدة الاسترخاء الذي شعر به.

بدلت نظراتها إلى موضع عمله فوقع بصرها على عدد الكائنات البحرية المتنوعة في كل زاوية، لتسأله بإستغراب.

" لماذا لم ترسم سمكة قرش؟"

"بربك أمي، كيف سأفعل هذا ! إذا رسمتها بين كل هؤلاء ستقوم بإرعابهم ولن تكون هنالك صورة كهذه"

" اه إذن أنت لا ترسمها بل تقوم بإلتقاطها كصورة الآن؟"

" أجل..لكن.."

قالها وإرتفعت زاوية فمه بمكر ليعض شفته حاملا الورقة من الحافة ليديرها للجهة الأخرى، حينها إبتسمت ماريانا رافعة حاجبيها بإعجاب توازيا مع همسه.

"رسمته على الجهة الأخرى من الحوض.."

كانت سمكة قرش في ظهر الورقة، وحيدة وسطها بعيدة عن الأسماك الأخرى كي لا تقوم بإخافتهم، تأملتها والدته وسألت عاقدة حاجبيها بحزن.

"لكنها وحيدة.."

"أ ليست كل أسماك القرش هكذا؟"

"بالطبع لا"

"أتقصدين أن أرسم قرشا آخر؟"

رفعت الفرشاة من بين أصابعه، وضعتها على الورقة ترسم سمكة فوق ظهر الأخرى قائلة وسط ذلك لآرون الذي استمع بكل فضول يراقب براعة والدته في فعل كل شيء.

"حتى سمكة القرش تمتلك أصدقاء، وصديقتها تسمى سمكة ريمورا الطائرة..تلتصق فوق ظهرها وتتبعها أينما ذهبت..أتعرف ما تسمى علاقة القرش بسمكة الريمورا؟"

توقفت أثناء رسم زعانف السمكة ونظرت إليه لتأخذ رده مباشرة عندما حرك رأسه بسرعة نفيا، حينها بدلت أعينها صوب الورقة مردفة.

"تسمى التكافلية..تشبه علاقات البشر في التعايش مع بعضهم البعض..علاقة يستفيد منها كلا الطرفين، فالسمكة الوحيدة التي لا يأكلها القرش هي الريمورا، لأنها تتغذى من الطفيليات على جلده وبهذا فهي تبعد عنه كل ما يهيجه ويثير أعصابه.."

توقفت وغيرت اللون للأرجواني كي تضيف لمسة لامعة للزعانف، ثم أكملت بتركيز.

"في المقابل تعيش سمكة الريمورا على ظهر سمكة القرش ملتصقة بجسمه لهذا فهي تحصل على فتات طعامه وعلى حمايته لها من الحيوانات المفترسة.." إبتسمت وسط حديثها لتضع الفرشاة جانبا قائلة.

" إن الأخيرة تحظى ببعض المتعة أيضا فهي تمتلك تذاكر سفر وحرية التنقل عبر محيطات العالم كله فوق ظهر القرش.."

ربتت على رأسه تحدث بشروده في قلادتها بحبة لؤلؤ واحدة زهرية متدلية حول عنقها، تلك التي إشتراها لها صباحا عند وقوفهما أمام بائع المجوهرات.

رفع بؤبؤيه نحوها عندما استرسلت مجددا مستحوذة على إنتباهه.

"جميعنا نمتلك سمكة ريمورا ملتصقة بنا ولا نشعر بها".

أبعدت يدها عن رأسه عندما إنحنى يحمل أدواته يجمعها واحدة تلو الأخرى، بهدوء راح يرتبها دون سابق إنذار وقد علمت والدته على الفور أن صاحب المزاج المتقلب قد تحول للشخصية التي لا تريد فعل شيء.

" هيا لندخل، لقد غابت الشمس"

ماريانا في تلك الأثناء وبينما كان الآخر يتمتم لها بأن الجو بارد وأنها لا ترتدي ملابس ثقيلة، كانت تبتسم له بأعين لامعة، كيف له أن يفكر فيها دون أن يهتم لنفسه وكأنه هو والدها يوبخها على إرتدائها لفستان خفيف وكأن ملابسه هو أكثر سمكا من خاصتها، نظرت لتأففه وهو يجمع الألوان ونفضه الرمال العالقة على سيقانه بعصبية إتجاه الشاطئ مخاطبا إياه وكأنه شخص..

وسط كل تلك الحركة في جانبه إلتفت لها عندما استشعر هدوئها الغريب ليجدها تتأمل بريق عينيه وذلك الشعر الذهبي الذي وقع بعضه كغرة يغطي إحدى عينيه، حينها مدت يدها تبعده للجانب وهي على نفس وضعيتها جالسة رافعة رأسها له عند وقوفه أمامها.

"لقد نسيت شيئا مهما..أهم ما في المحيط " بنبرة خافتة خرج صوتها فرفع الآخر الورقة ينظر إلى الرسمة دون أن يفهم ما تقصده، نظر إليها مطولا ثم إلى والدته.

"ما الذي نسيته؟"

"الغواص..لم ترسم غواصًا.. أنت أهم ما بالمحيط لذا يجب أن تتواجد ضمن الصورة أيضا"

إتسعت إبتسامته وراح ينظر مجددا إلى الزوايا عله يجد مكانا يتسع لشكل غواص، نظر وقرر أين يضع نفسه رفقة الأسماك، قرر في أي بقعة سيتواجد الغواص في الصورة ثم تحرك خطوة للجانب وهو بصدد المغادرة منتظرا وقوف والدته التي سرعان ما استقامت بجانبه مستمعة لكلماته التي قالها تحت أنفاسه.

"معك حق ينقص الغواص لتكتمل الصورة..سأفعل ذلك لاحقا..ليس الآن..الان بدأت اشعر بالملل..أو ربما لأنني متعب.."

" هذا ليس مللا، إنه جوع، أنت جائع ولا زلت فاشل في ترجمة مشاعرك.. إنه جوع أريوس لأنك لم تأكل شيئا منذ الصباح وأنت هنا بجانب المياه كسمكة".

عبرت بجانبه يسيران نحو السلالم الصغيرة المؤدية إلى المطعم المتصل بمنزل عائلة روسادو، بينما كانت ماريانا تترجم مشاعر إبنها للمرة الثانية لهذا اليوم ضحك هو على تشبيهها له بسمكة.

" لقد أعدت والدة جوانا فطيرة مربى التفاح" إنتهى حديثها بغمزة لأن الجميع يعرف أن تلك الطفلة الصغيرة معجبة به.

"أمي بربكِ توقفي عن هذا، ثم تعلمين أنني لا أحب المربى"

"أي نوع من الأطفال أنت! كيف لك أن تكره المربى لحد الآن؟"

"سأصبح غواصا..يجب أن أبقى بصحة جيدة..إن كمية السكريات فيه خرافية..أنا أميل لما هو صحي أكثر..كالفواكه الطازجة عوض هذا مثلا"

"حسنا سيد رياضي ممل" صفعة مؤخرة رأسه ليهسهس بتذمر يدلك رأسه في حين تباطأت حركته ليقف عند السلالم مباشرة رافعا الورقة عند الجهة حيث القرش وتلك الريمورا الملتصقة به، نظر إليها ثم أطلق نفسا ساخرا وأكمل تقدمه للأمام تحت أنظار أمه.

"إنها سمكة غبية"

" لما؟"

" أنظري إليها ملتصقة فوق ظهره..من الذي يريد أن يلتصق أحد بظهره بحق الرب"

" جميعنا أسماك غبية".

" ما العلاقة!"

"ستعرف هذا عندما تكبر وتقع في الحب".

"وما دخل الحب في هذا !"

" لأنك ستنظر إلى شخص ما وترى فيه شيء يدفعك لإرتكاب الحماقات".

وكان هذا أول درس يتعلمه طفلها ذلك اليوم، أننا سنلتصق بأشخاص، وسنحمل البعض منهم بكل سرور..

وأننا جميعا أسماك غبية عندما يتعلق الأمر بالحب.

________

الإيطاليون، كلمة قد يختلف موضع ذِكرها إعتمادا على المتحدث، فإن سألت شخصا منحدرا من القبائل والإمبراطوريات التي خاضت صداما مع الرومان على مع العصور الماضية فأول ما سيفكر فيه هو التاريخ.

والبعض الآخر سيرى أنهم يحملون تراثًا ثريًا ومتنوعا يُظهر كم أنهم يشكلون جزءًا كبيرًا من ثقافة العالم، من الفن والموسيقى والأسماء البارزة التي قدموها للكون، إلى الطهي والأدب والعلوم، وأن عاداتهم وتقاليدهم جعلت منهم شخصيات ودودة محبة للتواصل داخل المجتمع.

لكننا هنا سنسأل من هم الإيطاليون حقًا؟ ليسوا أولئك الذين وقفوا خلف الأفران الحجرية، ولا أولئك الذين إبتكروا غرف تخزين الأجبان المعتقة، لا عن جودة نبيذهم الأول عالميا ولا عن طرازهم الفخم في العمارة..

سنتحدث الآن عن الإيطاليين المكروهين هنا، من كانت سيرتهم تذكر على الألسنة لتخويف أهالي البلاد، أولئك الغير مرغوب بهم بسبب تاريخهم الدموي...أفراد المنظمات الإجرامية وزعماء العالم السفلي.

تاريخهم المتعلق بالإجرام قد جعلهم مشهورين بطريقة غير مرغوب فيها في عالم المافيا، سعيهم للسيطرة بالقوة، توسيع نفوذهم وسطوتهم وحتى التحكم في سياسة وإقتصاد البلاد، ولن نذكر هذا دون أن نشدد تحت أكثر الأشياء المرتبطة بهم وهي اِستخدامهم للعنف والترهيب كوسيلة لتحقيق أهدافهم بل ولم تشمل هذه الأفعال التهديدات فحسب بل وصلت حتى لإغتيالات كبرى قاموا بها بكل دم بارد.

وتلك المنظمات الإجرامية عُرفت بإتباعها قواعد غير مكتوبة ونظاما هرميا من التنظيم، أي أن العالم بأسره يعلم أن ما يظهر للعلن وما يُكشف ليس إلا جزء صغير وقربانًا قاموا بالتضحية به ليعيش القادة والزعماء ويكملوا مسيرتهم من أنشطة الغير شرعية من تهريب مخدرات وإتجار بالأسلحة، إبتزاز وغسيل الأموال وسفك دماء كل من يعارض طريقهم.

لكن ما يجهله الكثير أن تلك القوة والعنف لم تكن الصفات وحدها التي حملوها فوق أكتافهم..

داخل تلك القلعة أول فكرة ونهج غُرس في عقولهم كان الولاء...قواعد غير مكتوبة نُقشت على جدران أدمغتهم كانوا يتبعونها بكل جدية، أنهم يضعون العائلة والشرف في مقدمة كل شيء، فيسير كل فرد منهم وكأنه درع لأخيه، لا يقتل نجم نجما آخر تحت أي ظرف إلا بأمر من الزعيم، إلا في حالات لا تغتفر.

كل من حمل دبوس نجم أسود، كل من حكم منطقة وسير أعمالا تحت الزعيم لتلك المنظمات، يعيش بمبدأ أن الخيانة هي الخطيئة الأعظم وشعوره بالولاء والإنتماء الشديد، ذلك الذي تجاوز الولاء للقانون.

وكانت العبارة التي تقال يوميا على طاولاتهم وكأنها إحدى صلوات الشكر قبل كل وجبة، عبارة تكررت يوميا حتى حفظتها جدران القلعة.

«الدم يجعلك جزءًا من العائلة، والولاء يجعلك جزءا منا».

في وقت واحد خرجت تلك الكلمات من أفواه النجوم الذين وقفوا بأياديهم خلف ظهورهم مستقيمين على كل جهات الطاولة في إنتظار جلوس ماوريسيو أولا والذي صدح صوت عكازه من الخلف بضربات بوتيرة منتظمة، بدأت تعلو شيئا فشيئا كلما إقترب أكثر.

كانت هذه طاولة مستطيلة كبرى موجودة في الحديقة يلتمون حولها مرتين في اليوم، والآن وبما أن الوقت لازال باكرا وقد إنتهى كل واحد منهم من تدريباته في الأسفل، صعدوا واستعدوا بلباسهم الأسود الموحد الذي يشبه ذلك الخاص بالجنود، وسيجلسون الآن لأخذ التعليمات بشأن حفل الليلة.

وقف ماوريسيو ليقف خلفه مباشرة سيريوس وسحب له الكرسي كي يأخذ مكانه المعتاد صدر الطاولة، لكن الآخر توقف ينظر لهم واحدا تلو الآخر وبدت تلك حركة لم يتعودوا عليها منه لذا حل صمت غريب إلى أن إقترب منه سيريوس يهمس له يجيبه عن السؤال الذي لم يطرحه.

"إن ميموزا ونجمها الحامي رال والنسر الطائر ونجمه الحارس فابيو لازالوا مع آركتوروس، يبدو أنه أقام إجتماعا خاصا برجاله أولا قبل أن يأتوا الى هنا"

"جاء ليتسبب بموتي"

قالها ماوريسيو تحت أنفاسه توازيا مع وضعه لعكازه يسنده على الحافة كي يجلس ويشير للرجال والنساء الواقفين أمامه بالتموضوع في أماكنهم هم أيضا، كعساكر بنظام غير طبيعي وهيئة منظمة كانوا، لكن ما أن أخذوا إذنه تغيرت حالتهم الصارمة الجادة إلى أخرى معاكسة تماما، ذلك الجمود والجفاء تحول لملامح أكثر إرتخاء وبدأ كل واحد فيهم بحمل صحن من مكان معين وأخذ ما سيتناولونه بعفوية مع إنتشار بعض الهمسات كونهم يتبادلون أطراف الحديث كأي عائلة على مائدة الإفطار.

تحرك الخدم من خلفهم ليقوموا بخدمة الجد وسيريوس من أخذ مكانا بجانبه تاركا كرسيا فارغا في الجهة المقابلة له، كونه مكان النجم كانوبوس ذلك الذي طلب أغوستينو رجوعه مكان إبنه دوناتيلو، ويبدو أنه قد عاد لأن صوته من الزاوية إقترب يستقطب إنتباه الجميع إليه، صوت رجل في الخمسينات من عمره لم يبدو عليه التقدم في السن ببذلته تلك وتسريحة شعره التي أبرزت شكل وجهه بطريقة مثالية.

"حمدا للرب أنني وصلت في الوقت المناسب لكنت الآن معاقبا" نبس بكلماته بإبتسامة وهو ينظر إلى ماوريسيو الذي لم يبدأ في تناول إفطاره، وكان هذا ما يقصده بالعقاب كون الآخر إذا جلس أولا على الطاولة وتناول بالفعل ما وضع أمامه حتى وإن كانت رشفة قهوة، كان سيعاقب كل من يتخلف بثانية بعده، لذا فوجود الجميع هنا عدى أولئك الذين خرجوا في مهمات قبل أيام دليل على أنهم ملتزمين بالوقت والنظام بتقديسهم لكل ثانية.

"لست أنا كانوبوس، أصبح هنالك شخص آخر من يجب حقا أن تقلق بشأنه" رفع الجد فنجان القهوة يرتشف منه بعد أن لفظ تلك الكلمات له ليسحب بدوره الكرسي ويجلس موازاة لسيريوس بعد أن ألقى التحية على النجوم، ولم يقف له أحد كونه تخلى عن منصبه لإبنه، كونه هنا برتبة أقل من السابق كنجم مثلهم، صحيح أن أغوستينو طلب من المجيء ويعود لمكانته السابقة رافضا وجود إبنه هنا، لكن كل هذه كانت قرارات لم تُطبق بعد.

بالتالي عاد كانوبوس واستقر كل واحد في مكانه، فقط سِت أماكن ظلت شاغرة، الكرسي الذي قابل ماوريسيو في الطرف الآخر وخمسة على الجانبين، كانت تلك الخاصة بأغوستينو ورجاله..

لذا بينما كانت القلعة شبه فارغة بسبب وجود سوى العمال والخدم فيها وإجتماع كل النجوم في الحديقة الخلفية، فسنبتعد عن كل هذا مرورا بمدخل الحديقة الواسع بأعمدة الكورنثي الروماني على الجهتين، وكل تلك الأعمدة المتشابهة المرصوفة على طول الحديقة وكأنها حديقة مسحورة من العصور الرومانية القديمة، تيجانها بأوراق نبات الأقنثا وطرازها التوسكاني التي إلتفت حولها جميعها نبتة متسلقة محتضنة إياها بزهورها الملونة.

خروجا من حديقة تبدو كأنها سُرقت من كتاب سحري من العصور الوسطى، داخل القلعة وتحديدا في آخر طابق فيها أين فُتح باب المكتب ليخرج منه كل من توفانا وفابيو أولا ليليهما ليندر وفاليريان الذي كان يتحدث مع أغوستينو حول أمر ما بإحترام واضح.

وقفوا بعد أن تلقوا تعليماته بينما هو وبملامح مرهقة رفع يده يمسد المنطقة بين عينيه كون أعماله لم تنتهي منذ الصباح الباكر عندما غادر ليضع الوشم الخاص بتنصيبه.

حينها وعندما صمت الجميع يراقبون هدوئه يعطونه الوقت الكافي ليجمع أفكاره، بينما كانوا بجانب السلالم أمام باب مكتبه وسط تلك السكينة الخاصة بذلك الطابق البعيد عن كل الضجيج والحركة في الأسفل، فُتح بابها..

آخر باب أين سطعت منتصفه شمس ذهبية براقة، فُتح وخرج إينزو وهو يتحدث معها كمن يحاول تغيير رأيها كي لا يدخل بسببها في مشاكل مع زعيمه، زعيمه الذي أمال رأسه لجانبهما بنفس وضعيته السابقة، إلتفت بخفة ناحية الصوت كما فعل الجميع بجانبه..حينها فقط وعند اللحظة التي برز جسدها من خلف الباب تدفع كتف إينزو للخارج بعد أن أبى الذهاب دونها، وقفت فجأة تنظر إلى من تعلقت أعينه بها..

إلى من أحس بأن الوقت قد توقف عندما نظر إلى شعرها، إلى قصته الجديدة وهيئتها التي لم يرى مثلها طوال حياته، تلك اللحظة التي بدت قصيرة للجميع كانت بالنسبة له دهرا، تأمل فيها طول خصلاتها القصيرة وعنقها الداهر بوضوح له، إلى شاماتها وكتفيها اللذان بدت كمن حررتهما من الأغلال.

حدق بها كما فعلت هي مطلة على الممر بجسدها بينما لازالت تمسك الباب بهدف الدخول، في حين البقية مررا أنظارهما منها إلى أغوستينو ثم منه إليها إلى أن أومأ لها فاليريان لتفعل المثل بدورها تبدل بؤبؤيها منه إلى الآخر الذي إعتدل دون أن يزحزح سوداوتيه عنها، بحاجبين قد إرتفعا بخفة على المنظر الذي راق له بشدة، بيدين داخل جيوبه وهدوء جعل الجو يشحن ويزيد غرابة من قبل.

تلك الغرابة كُسرت بها، بصوتها عندما خاطبت إينزو دون أن تبعد أعينها عن الآخر في الطرف الموازي لها.

"إينزو، تأكد من إغلاق الشرفة والباب جيدا، أنا لا أثق بأحد هنا"

"حاضر سيدتي"

قالها ودخل خلفها للغرفة كي ينفذ أوامرها، نبرتها الجادة تلك جعلت أغوستينو يرفع حاجبه بخفة وهو يتأملها كيف خرجت بشكل كامل هذه المرة لتقابله بمعالم ثقة لم تشبه يوما ثقتها المعتادة، رصانة لم تشبه هدوء وثقل هيتايرا في الماضي، هذه المرة كانت مختلفة، كانت ممزوجة بحِدة في النظرات وتقاسيم وجه ثابتة وباردة..تماما كمن يقف أمام عدوه.

مشت صوبهم بنفس القميص القصير قليلا مظهرا بعضا من فراشاتها، وبنطال إحتضن شكل سيقانها بمثالية لينتهي كل هذا بحذاء رياضي عكس أحذية الكعب العالي التي لطالما إعتادت إرتدائه.

لذا راقبها من رأسها حتى أخمص قدميها إلى أن وصلت أمامه لكن وعلى غير العادة لم تكن تنظر إليه كما فعل هو بل ولم توجه كلماتها له هذه المرة، تحدثت وحديثها كان موجها لتوفانا..

" عارضة أزياء إذن؟، أ ليس من المفترض أن تختاري عملا آخر، بعيدا عن الأضواء؟"

مررت توفانا محجريها لأغوستينو كي يأذن لها بالحديث، وتلك الحركة جعلت هيتايرا تنظر إليه لتلمح كيف أغمض عينيه بخفة ويفتحهما كإشارة لتجيبها..

أجل لم يكن مسموحا لأحد بالمبادرة والحديث أولا في حضور الزعيم حتى يأخذ الإذن منه، وهذا جعل الأخرى تكتب على الهامش تلك التفاصيل في أن الجميع هنا لن يتنفسوا إلا إذا سمح هو لهم.

" تتبع النجوم السوداء سياسة مختلفة، يضعوننا في المقدمة دون الحاجة لإخفائنا عن أعين المجتمع، بل تخفينا خبرتنا في التمويه ومسح آثار الجريمة"

"أجل أرى ذلك" تلك العبارة خرجت مع تمرير هيتايرا عينيها على طول توفانا كاملا، على كيفية إخفاء هويتها عنهم طوال تلك الفترة دون أن يلاحظ أحد شيئا أو حتى يشك بأنها تتصرف بغرابة، كانت بارعة وقد إعترفت لها بذلك بطريقة غير مباشرة.

حينها همست لها توفانا وسط تأمل أغوستينو ونظراته التي لم يبعدها عن جانب صاحبة الغرة، تلك التي رفعت يدها تضع بعض خصلاتها خلف أذنها مبرزة أكثر طول عنقها وجانب وجهها الذي بدى له مثاليا من تلك الزاوية.

"لا أعلم كيف سأعرف نفسي الآن! لكن أرجو ألا تكون بيننا ضغينة هيتايرا"

"لا داعي للشعور بالأسف تجاهي، في النهاية لست أنا من واعدتكِ، ثم لا بأس من الطبيعي أن نأخذ وقتًا في التعرف إلى الأشخاص..أ ليس كذلك؟"

نظرت إلى فاليريان من أومأ بخفة ثم نظر إلى أغوستينو وبرر له لأن الآخر حتى وإن لم يسأل ففاليريان كان على معرفة كافية بسيده.

"تحدثنا بضع مرات في قصر عائلتك بإسبانيا عندما كنت أذهب للقاء آرون هناك"

"فليغادر الجميع، سنلتقي في الأسفل"

تكاد تؤمن أنك تخطيت حتى يفزعك وخز قلبك عند ذكر اِسمه، تنتفض ذاكرتك عند اِستحضار صورته وتقفز خلايا جسدك عند سماع صوته بغتة.

كان ذلك ما حدث لها عندما لفظ كلماته بالإيطالية عكس اللغة التي تحدثوا بها جميعهم، عكس نبرتهم التي بدت عادية كانت خاصته هادئة مثقلة بالكثير، ببحة غريبة لم تكن يوما زائرة صوته، بنبرة رجولية غليظة قالها ورأت كيف لم يستغرق الأمر وقتا طويلا ولم يتبقى غيرهما في تلك الردهة..

فقط هي والسبب في إنتفاض جسدها، وفارق الطول بينهما.

لم تنتبه يوما لفارق الطول ذاك إلا في هذه اللحظة كونها ترتدي حذاءً رياضيا على غير العادة، أو ربما لأنه تغير فأصبحت هيئته كلها غريبة بالنسبة لها.

إختفى الجميع وذهب خلفه إينزو وتُركت هي لتستدير إليه تنظر دون أن تُظهر له أي مشاعر أو رد فعل واضح، كل ما بدر منها هو التحديق به كيف صعد ببؤبؤيه من عنقها، شاماتها الصغيرة إلى أطراف شعرها ليستقر عند عينيها قائلا مباشرة مع إلتقائهما بخاصتها.

"سيرسلون لكِ كل ما تحتاجينه للحفل الليلة، تجهزي وقف ذلك"

"لن أغادر غرفتي"

"لن تجلسي هنا بينما أنا في الأسفل لساعات"

"لماذا؟ أتخشى حدوث شيء ما لي؟"

رفعت حاجبها وزين طيف إبتسامة محياها، كانت تتعمد السخرية في حين هو ظل ثابتا بنفس الملامح الهادئة يرمقها بنظرات خاملة متتبعا حركة شفاهها تلك، رفع رموشه المنسدلة لعينيها مع لفظه لإجابته.

"ستكونين في القاعة هذه الليلة..مكانكِ بجانبي"

بغض النظر عن مدى تعلق عينيه بها منذ خروجها من الغرفة، عن خوفه عليها حقا وعدم رغبته بتركها وحيدة بعيدة عن أنظاره بينما هو سيقام تنصيبه، بغض النظر عن كل هذا شيء واحد لم يتغير، وهو الغضب والملامح الباهتة بنظراته الخاملة صوبها، الغضب الذي كان يكبر ويتضخم، غاضبا منها لأنها جعلته يريدها مجددا وهو الذي تخطى هذا منذ زمن...أو ربما هذا ما ظنه.

في حين هي لم تكن هيتايرا التي تجهل الكثير هذه المرة، كانت تعلم تماما لما قد جاء بها إلى هنا، تعلم أن لوالدتها يد فيما حصل وأنها مشتبه به، حتى تبرر نفسها ويتضح الأمر، تعرف سبب تصرفاته وأسلوبه هذا لكن معرفتها للأسباب لن تغير موقفها ولن تنسى كلماته التي وخزت قلبها يوما.

أما صمتها للتو ليس دليلا على رغبتها العارمة بالتواجد معهم، بل لأنها استحضرت حديث ليندر حول أن المكان مليء بالقتلة الذين لن يترددوا بقتلها اذا امروا بذلك، تذكرت ما قاله حول المكان الأكثر أمانا هنا ألا وهو بجانب كتفه، لذا وبناءً على ذلك قررت إلتزام الصمت والموافقة.

ولأن أغوستينو لم يلمح أية ردة فعل واضحة استنتج انها توافقه، تقدم إلى الأمام خطوة بصدد المغادرة لكنه توقف فجأة كمن عجز عن السيطرة على نفسه أكثر..

سل يده من جيبه ومدها صوب وجهها يبعد غرتها للجانب كما إعتاد دائما فعل ذلك، حركة واحدة، حركة واحدة لعينة جعلتها تتصلب دون حركة تنظر إلى أنامله وهي تتحرك على طول وجهها بداية من الغرة وصولا إلى فكها حيث أبعد شعرها خلف أذنها كما فعلت هي سابقا، أزاحه ليكشف عنقها أكثر وهو يتأمل حركته تلك بأعين هامدة ثم رفع رموشه لعينيها لتتعلقا بخاصتها وكأنها المرة الأولى التي يعيشان فيها موقفا كهذا..

إلتزمت الصمت وتوقفت يده عند عقنها بعد أن وضع شعرها خلف أذنها، نظرت إليه تحاول قدر الإمكان الحفاظ على ثباتها ثم وقبل أن تتسبب أنامله الباردة بإنهيارها مدت يدها بحركة سريعة تصفع يده تطردها عنها دون أن تتزحزح إنشا واحدا من مكانها، دامت لأجزاء من الثانية لكنها كانت كفيلة بأن يستشعر خفة يدها وسرعتها فيها، كفتاة قد كانت حقا ضمن مدرسة فنون قتالية منذ الصغر، نفسها التي قامت بضرب دومينيك من قبل.

لذا وقبل أن يستوعب أن يده قد صفعت للتو، نفضت هي شعرها للجانب ورفعت سبابتها أمامها ليتعقبها مع سماعه ما قالته بملامح غاضبة وبهمس وبكل ثقة تنافيها.

"إياك، لن ترتفع يدك تجاهي أبدا"

نفس عبارته، نفس ملامحه وأسلوبه لكن في موضع وتوقيت مختلف، قالتها وتخطته تتركه خلفها هذه المرة، تماما كما فعل هو لها سابقا.

وكأنها تنتقم لنفسها المرمية في الداخل على أرضية الغرفة، نفسها من الماضي ذات الشعر الطويل والقلب النابض.

نزلت من مكانها عبر السلالم إلى أن وصلت لآخر طابق، للمحطة الأولى حيث قابلها إينزو الذي ظل ينتظرها ليرشدها نحو المكان ولأنها لم تتعرف بعد عن الطرقات ومدى كبر القلعة، وبينما أغوستينو كان يسير خلفها واضعا يديه داخل جيوبه أومأ برأسه لإينزو كي يدلها على الطريق قبله..

أجل كان الآخر ينتظر الإشارة أولا، وكانت هي لحد تلك اللحظة لا تستوعب مدى الراحة التي تتصرف بها معه، بينما كان الجميع يضعونه أولا كزعيم لهم هنا، بينما يضعون كل حركة ولفظ يخرج من أفواههم في الحسبان كانت هي لا تدرك ما يحصل من حولها، لا تعرف حقيقة منصبه وما هو عليه الآن.

وصلوا إلى الحديقة حيث كان الجميع وهذه المرة شغرت المقاعد كلها عدى إثنان، أين كان من المفترض أن يكون الأول له وهي على جانبه، تلك التي مشت بجانب إينزو حتى توقف يشير لها للطاولة.

إقترب أغوستينو وفي لحظة واحدة، في ثانية واحدة وقف الجميع بإحترام له جعلوها تنتفض بخفة دون أن تنتبه لذلك، دون أن تستوعب أن السبب كان يقف مباشرة خلفها..

وقف النجوم كما وقفوا سابقا لماوريسيو لكن هذه المرة كان الأخير كمن انتبه لأمر ما بتحديقهم بهم وهو على نفس وصعيته جالس على صدر الطاولة..

ماوريسيو وعند جلوسه سابقا لم ينتبه لترتيبهم، لم ينتبه بأنهم لم يجلسوا مرتبين كما إعتادوا سابقا من النجم الأشد لمعانا لآخر نجم في القائمة، كانوا مبعثرين بطريقة عجز عن فهمها ولم يحلل داخل عقله لما كانوا هكذا وعلى أي أساس قد تغيرت أماكنهم، وبينما كان يراقبهم واحدا تلو الآخر أدرك أيضا أن مكانه لم يكن للزعيم كما ظن في البداية وأخذ مقعده المعتاد، بل كل شيء قد خُطط لأغوستينو وجُهز من أجله، ذلك الكرسي هذه الطاولة وترتيبهم ووقوفهم عند حضوره..كانت كلها من أجله.

وقف كانوبوس بعد أن وقع بصره على سيريوس الذي وقف بدوره معهم وأدرك أن ترتيبه الأكبر هنا لا يعني عدم الوقوف للزعيم حتى وإن كان النجم الرابع أقل منه سنا وكفاءة لمجرد أنه حمل دماء ميندوزا كان سيدهم جميعا.

تقدم من خلفها ليحتك كتفه بكتفها جاعلة منها تلتفت له وهي تحاول السيطرة على نظراتها كي لا تثقل وتضعف تجاه رهبته، تخطاها ووقف صوبهم يمرر بصره عليهم قبل أن يشير بيده ليجلس الجميع كما وقفوا قبل قليل.

على صدر الطاولة استقام يحدق بجده الذي وضع المنديلا جانبا واستعد للانسحاب وهو يمرر عينيه لها، من وقفت ترى طول الطاولة وعدد الملتفين حولها تفكر فيما تفعله، أما الجد فكان بصدد حمل عكازه للقيام قبل أن يأتيه صوت حفيده بنبرة جعلت كانوبوس يرفع حاجبيه باِستغراب لطريقة حديث المراهق الذي لم يراه منذ سنين طويلة.

"نعلم أن منصبي أكبر هنا لكن لا تنهض كلما رأيتني سيد ماوريسيو أنا أحترم كبر سنك على الأقل"

كان ذلك استهزاء وهو يعرف ذلك جيدا، ويعرف أيضا أنه مدرك لرغبته في عدم البقاء هنا، أي تواجدها معهم كان سبب تصرفه وحفيده على علم بهذا لذلك رمقه ماوريسيو بنظرات حنق بينما الآخر بادله التحديق لكن بدى عكس الطريقة التي تحدث بها، كان يتحداه وكأنه يقول له إبتعد عن الطاولة إن تجرأت.

تبادلاها لثوانٍ ليضع الجد عكازه على حافة الطاولة مجددا ويسحب أغوستينو الكرسي لها مشيرا برأسه كي تتقدم وتجلس تحت أنظار كانوبوس الذي ظل يراقب بصمت..

أخذ كل شخص مكانه كحجارة جدار استقرت في مواضعها، وبسط ابن ميندوزا جناحيه معلنا عن زعامته مجددا قبل حتى أن يقام حفل تتويجه بها، بهدوء وأعين متفحصة أعطت الإذن للجميع بإكمال فطورهم كل هذا تحت أنظارها.

تأملت كل حركة منه حتى تلك الصغيرة، حتى حمله لكأس المياه بجانبه وتحديقه بجده في الطرف الآخر، نظرت إلى كل ما بدر منه وكأنها مرتها الأولى.

لأنه ولسبب ما كان أشبه بالفـن، حتى وإن لم تفهمه يوما سيثير فيك رغبة تأمله.

التفتت إلى جانبها أين جلس فاليريان وإنتبهت لوجوده فقط في تلك اللحظة، إقتربت منه وهمست له بينما كان على وشك أن يرتشف من كأسه.

"أ هذا ما تسمونه إفطارا؟" كانت تقصد كمية الأكل الكثيرة والمتنوعة، قالتها ونظرت للأطباق في كل زاوية، في حين الآخر وضع ما بيده وشرح لها نظامهم هنا بإختصار.

" قد لا يعتبر إفطارا لكننا نسميه هكذا بسبب التوقيت، كما ترين يكون باكرا بعض الشيء..ولأننا لا نجتمع هنا للغداء لذا فيكون الإفطار ثقيلا.."

كان يهمس لها في حين انشغل كل شخص بنفسه، حتى تحدثت إمرأة بالإيطالية كباقي الحاضرين هنا، كانت تجلس بينهم بدت أكبر منها بقليل، بدت في مثل سن أغوستينو المعني بحديثها عندما استأذنت للحديث وسمح لها بذلك.

"لم نرحب بك بشكل لائق سيدي، مرحبا بعودتك مجددا، بالنسبة للحفل أخبرنا الجد ماوريسيو أنك من ستضع التعليمات وتوزع الأوامر"

" يجلس الجميع مرتين في اليوم.. في هذا التوقيت ومساء للعشاء.. ولا وجود لإفطار عادي كونهم يحتاجون للأكل الكافي بما أنهم يتدربون يوميا إلا نهاية الأسبوع.."

كان فاليريان هو الشخص الثاني الذي يتحدث بخفوت لهيتايرا، وطبعا الأخيرة لم تسمع شيئا كونها إنتبهت لنظرات الأخرى من كادت تسقط أعينها وتتدحرج صوب أغوستينو.

"سأنتظر جميعكم في القاعة، أريد كل نجم هناك حينها ينتحدث حول كل شيء"

" لذا من أراد أي شيء إضافي في أوقات أخرى بإمكانه طلب ذلك من الخدم وسترسل إليه وجبته إلى جناحه ..كخدمة الغرف"

ومجددا كان الثاني فاليريان الذي لا زال يشرح لهيتايرا الوضع بالإسبانية ظنا منه أنها تستمع له لكنها كانت تراقب نظرات الفتاة تلك وتبدل بصرها بينهما وكيف شقت وجهها إبتسامة بلهاء فقط كون زعيمها قد خاطبها، كانت تعتصر الشوكة دون أن تدرك ذلك إلى أن قطعت كلمات الروسي بجانبها مقتربة منه للحد الذي جعله ينتفض بتوتر رافعا عينيه لأغوستينو.

"من تلك؟"

"من؟ فالنتينا؟ "

"كيف سأعرفها وأنا أسألك؟"

"إنها مجرد نجم حارس، مات نجمها الذي كانت تحرسه سابقا لذا فبقاؤها هنا يعني حراسة كل من يحتاج للحراسة ببساطة"

"تقصد أنها ستكون نجمه الحامي؟"

"آركتوروس ؟"

"حسنا اِنسَ الأمر"

أبعدت رأسها من جانب فاليريان الذي إعتدل بدوره يرفع بؤبؤيه مجددا كي يرى ملامح القابع صدر الطاولة، ذلك الذي طالعه تحت رموشه بهدوء قبل أن يأتي صوت كانوبوس برصانة من الجهة الأخرى كي يفصل الصراع القائم بين الجد وحفيده عندما لم يبعد ماوريسيو نظراته عنه منذ قدومه.

"سعيد برؤيتك مجددا آركتوروس، تغيرت كثيرا عن آخر مرة خرجت فيها من هنا رفقة لوكا"

تلك الكلمة الأخيرة، تلك النبرة والنظرات التي قد تبدو لشخص آخر نظرات عادية كانت لأغوستينو أشبه بصب الزيت على النار، لربما قد قالها بعفوية لكن هيتايرا رمت عينيها للجالس بجانبها كأنها استشعرت الحرارة المنبعثة من مكانه، كانت تتسائل حول الشخص الذي غادر معه قبل سنوات، لكنها بعد رؤية ملامحه التي بدت مشتعلة محتدمة أدركت شيئا واحدا أكيدا وهو أن ذلك الاسم لا يجب أن يذكر هنا.

لأن فاليريان نظر إلى فابيو كي يغير الموضوع وبصفته نجمه الحامي فمن الطبيعي أن ينفذ الاوامر دون إعتراض.

"سيدي، لقد عاد دوناتيلو من العاصمة، أي أنه سيتواجد في الحفل الليلة"

"بالمناسبة أ لن نتحدث حول قرار عزل إبني من منصبه وإعادتي بعد كل هذه السنوات" قطع كابونوس حديث فابيو لمجرد ذِكر اسم ابنه في الوسط، ليضع أغوستينو الكأس جانبا وتلاحظ هيتايرا ضغطه عليه بطريقة جعلتها تبتلع ريقها بتوتر شديد.

" لن نتحدث هنا كانوبوس، مر إلى مكتبي لاحقا"

ما قاله لم يكن غريبا على مسامعها بقدر غرابة حركته وسط الحديث، عندما فصل قبضته التي إعتصرت الكأس سابقا ليمدها نحو أحد الصحون ويقربه منها، قربه دون أن يأبه لنظرات أحد وسط تقاسيم وجهه الجادة المميتة تلك، خالية من أية مشاعر سحب الصحن لها لتنظر لما بداخله وتتفاجئ من الأمر.

أهذه صدفة أم هو يعرف جيدا ما يفعله، لأن ما رأته أمامها كان طبق ملفوف بروكسل ذو الحجم الصغير بجبنه بارميزان على سطحه أو ما يسمى بلغتهم هناك كافوليتي دي بروكسال بارميجيانو، أشهر أطباق ذلك النوع من الملفوف بنابولي.

هيتايرا في تلك الأثناء بينما مرت أجزاء الثانية وأبعد هو يده عن الصحن دون أن ينظر إليها، لم تدرك أنه ومنذ تواجدهما في لاريوخا أصبح يعرف ما تحبه وما تمقته في الأكل، ومانويل ساعده في هذا عندما كان يحمل الملفوف الصغير هذا من صحنه ليضعه في صحنها كلما صادفه، اكتشف حينها عن طريق الصدفة بعض تفاصيلها وحفظها جميعا دون أن يُسقط منها شيئا.

"لكننا لم نتعرف لحد الآن عن الآنسة! ، ما علاقتكِ به؟" وهنا فقط كانت المواجهة الأولى بين هيتايرا والجد، من سألها بلغته الأم بنظرات حادة وأعين تكاد تطلق شرارا لتذيب من أمامها، ولأنها لم تتوقع أن السؤال موجه لها مررت بصرها إليهم جميعا وتسرق لمحة عن الفتاة المدعوة فالنتينا لترى كيف رفعت حاجبها بطريقة فاجأتها، حينها فحسب تحولت تقاسيم وجه هيتايرا لأخرى اسودت أكثر، إلتفتت لماوريسيو وإتكأ أغوستينو بظهره على الكرسي يشاهد الحوار الذي إنتظر حدوثه طويلا.

أخذت نفسا وردت عليه لكن ما جعل الصدمة تعلو وجوههم هو ردها بالإسبانية، باللغة التي كرهها ماوريسيو ولم يتحدث بها أبدا، ردها يعني أنها فهمت ما قاله ومعرفتها تعني انها تجيدها لكنها تحدثت بلغتها الأم.

"كنت سأقفز من الشرفة البارحة، أظن أنك تعرف علاقتي به الآن...اه ولست روميو إذا كنت تفكر في هذا" نظر إليها أغوستينو لتستدير له كمن تؤكد أنها كانت ستهرب ليلا، حينها أردف الآخر مجددا.

"تريدين إنهاء حياتك على البقاء هنا إذا! أصبحنا نعلم أنك لستِ هنا بمشيئتك، هل قام بخطفكِ؟"

نظرت إلى أغوستينو الذي اكتفى بالصمت بملامح فارغة، ثم إلى الجد لتفهم أن سؤاله لم يكن عاديا بل كان يريد رجم حفيده بالحقائق، كانا يتحدثان بلغتيهما كل واحد منهما يفهم الآخر لكنه لا يتحدث لغته كنوع من الإعتزاز وعدم تغيير أصله، أو ربما لأن الأمر تحول لتحدٍ.

" لما لا تسأل حفيدك؟ أم أن علاقتكما متدهورة لدرجة استجواب الضحية!!؟" إرتفع جانب شفة أغوستينو بإبتسامة لا تُرى بينما الجالسين بجانبها حاولوا إخفاء توترهم وتفاجئهم من ردها لماوريسيو الذي إعتدل كمن دخل في حرب.

" وهل جميع الإسبان وقحين هكذا؟"

"لا، أنا التي لم تتلقى التربية الكافية"

وكأنها لا تأبه بقدر ذرة، تلك التي سعت طوال حياتها لإظهار صورة حسنة وشخصية بسمعة جيدة، الفتاة المرشدة التي لا تشوبها شائبة جلست كمتمردة وقحة ترفع شوكتها ناحية فمها تضع ما بها ببطء وهي تنظر داخل عيني ماوريسيو الذي لم يبعد خاصته عنها هو الآخر.

" أجل هذا واضح" قالها مؤكدا وقاحتها لتهمس تحت أنفاسها وهي ترتشف من الماء.

"ماذا لو رأيت عمي، ستنبهر".

" يبدو أنها لم تتعود بعد عن المكان ولم تتعرف عن الأشخاص فيه لهذا يفتقر حديثها إلى الإحترام الكافي" جاء صوت كانوبوس من طرف الطاولة لترفع له حاجباها تسأله بنبرة تخللتها بعض السخرية في إدعائها للجدية، وإلتقط هذا ذلك الذي لم يبعد عينيه هنا ينظر إليها بفخر شديد عجز عن مسحه من وجهه، بل استند على ظهر المقعد وترك لها المجال لتنخرط فيهم بطريقها الخاصة.

" عذرا من أنت ثانية؟؟"

"كانوبوس النجم الثالث، مستشار ومساعد للزعيم طيلة السنوات الماضية قبل أن يأخذ ابني منصبي "

"اه جيد، ها قد أصبحت أعلم الآن.." رفعت المنديل تمسح جانب فمها لتكمل بهمس.

"ولم يتغير شيء"

وهنا نسي الجد هوية القابعة صوبه، نسي من يخاطب كونها أصبحت تشبهها كثيرا بقضة الشعر تاك، تشبه المراهقة التي حملت نفس الطباع الردود القاسية، نفس الشعر وطريقة الجلوس، لذا تحدث بكل جدية جاعلا منهم يستغربون ما قاله للتو.

"أ لم يعلمك أحد كيفية مخاطبة الأكبر سنًا ألكساندرا"

وفي تلك الثانية رفع حفيده بؤبؤيه ببطء عنها ناحية جده، عند ذكر ذلك الاسم الذي لم يتعرف على صاحبته غير كانوبوس وسيريوس اللذان نظرا إلى بعضهما البعض ثم إلى ماوريسيو وما قاله من مصيبة ستفتح على رؤوسهم الآن.

سيريوس كان يعلم هويتها وأنها إبنتها، بينما كانوبوس هو من ظل يحدق بهم بنظرات ثابتة يحاول فهم السبب الذي جعل ماوريسيو يذكر اسم رونيا الآن بعد كل هذا الوقت، جهله ذلك كان بسبب تنحيه عن منصبه لسنوات غير مدرك لما كان يحدث بإسبانيا في غيابه.

" لست ألكساندرا بل هيتايرا..أرجو ألا تطمس هويتي هنا أيضا".

لم يبعد عينيه عن جده لثانية، تحدث بهدوء يبرر مؤقتا ما تفوه به القابع أمامهم، من إلتزم الصمت يجهل ما سيقوله.

"إن السيد ماوريسيو لا ينادي شخصا باِسمه الحقيقي هنا، إما اسم النجم أو الحارس له"

دخل في تلك الأثناء عاملان وإقترب واحد منهما بإحترام مطأطئا رأسه قائلا.

"سيدي لقد وصلت فساتين الآنسة وما طُلب منا قد وضعت جميعها في غرفتها فوق"

اشار لهم ليغادروا ووقف بعض النجوم للاستئذان للخروج أيضا لاتمام أعمالهم، بينما هي أبعدت كرسيها لتقف بصدد الذهاب ايضا إلا أن أعين فالتينا المعلقة بأغوستينو جعلتها تتوقف تنظر إليه لترى ما ان كان يحدق بها هو أيضا، حينها وما ان احتضنت أعينها خاصته وجدته شاردا في جانب وجهها، في شعرها القصير وهيئتها التي لا تنفك تروقه في كل مرة.

كان يعلم أنها تراقب فالنتينا دون الحاجة له لرؤية ذلك لكنه إكتفى بتأملها فقط، لتغادر تصطنع اللامبالاة وكأنها لم تكن تراقب حتى خروج أنفاسه.

غادرت وغادر خلفها إينزو الذي كان يقف عند مدخل الحديقة بإنتظارها، كانت تلك مهمته هو وليندر وحدهما من سُمح لهما بمرافقتها والدخول لغرفتها في القلعة.

وقف كانوبوس يأخذ الإذن منهم ليعيد ترتيب أمتعته في غرفته مجددا بعد سنوات، بينما ظلا الإثنان على صدر الطاولة يتبادلان النظرات الحارقة، كل منهما يتسائل حول شيء ما داخل عقل الآخر عن ألكساندرا وهويتها وعن ما سيفعله الحفيد من مصائب وما يخطط له.

"هل وضعت وشم الزعامة؟" سأله مغيرا الموضوع كي لا يعلق به وينبش خلفه أكثر، ويدعي هو أن الشيخوخة قد أثرت بذاكرته.

"تعلم أن لا رجعت في هذا الآن؟"

"تعلم أنني ابن ماريانا أليس كذلك؟"

"بالحديث عن والدتك، هل سيظل ذلك هنا؟ أصبحت الزعيم ولن تغادر مجددا، متى سيغادر المكان؟"

"اسمه لانواريوس، ناديه آرون إذا أردت أيضا لكنك لن تتحدث عنه بتلك الطريقة أبدا"

وقف توازيا مع آخر كلمة، أغلق زر بذلته ونظر إلى من ضرب الطاولة معارضا ما صافح سمعه.

"أنا لن أناديه بأي اسم لعين، إنه إسباني دخيل لا ينتمي إلى هذا المكان حاله كحالها، ستنتهي مراسم التنصيب وسنتحدث حول هذا طويلا فقط تأكد من أنني رافضا لكل أفعالك"

"أكتب مذكرة إعتراض وضعها في قسم الشكاوي، سيسلمها لي النسر الطائر لاحقا أنا مشغول حاليا"

بسخرية واضحة نبس بجملته وغادر دون أن ينظر خلفه، ذهب كي يرتب أمور الزعامة والحفل، كي يكمل ما يخطط له منذ أيام، ليس فقط لإيجاد من حاول قتل شقيقه ولا لقاتل والدته الحقيقي، بل جاء ليعرف حقا ما حصل في الماضي..

ماضي والدته الذي ظن أنه يعرفه، اتضح أن ماريانا لم تسرد له معظم الأحداث وحذفتها لقسم البالغين، ها قد أصبح راشدا وبإمكانه الآن مشاهدة الصور الدموية دون حذف.

______

-إسبانيا، مدريد-

"كاثرين كفي عن النواح، ما الذي كنت أخبرك إياه للتو، لم يمت بحق الرب لم يمت لا زال حيا "

"كنت أعلم أنه لم يتخلى عني، لكنني.. أنا لم أتوقع أن...هذا..هذا كثير"

"أنظري إلي كاثرين، أميرتي أنظري داخل عيني..تنفسي..من أجل طفلتكِ توقفي عن هذا ستؤثرين عليها.."

رفعت رموشها المبللة لتلتقي أعينها المتورمة بعينيه الثابتتين صوبها، كان مانويل يقبع داخل كنيسة وسط أحياء مدريد القديمة، كنيسة فارغة قد جلس فيها بين صفوف المقاعد رفقة كاثرين التي تحمل بين يديها هاتفه الذي فُتحت شاشته على صورة ما.

كان يلف كفيه على كلا خديها يثبت وجهها للأمام كي لا تحدق طويلا في الصورة التي لم تتركها قرابة الساعة، ظلت تتفحص كل زاوية منها وتبكي بحرقة وكأنها ترى جثته وليس جسده المستلقي فوق السرير الخاص بالاسعاف.

منذ أن فتحت عينيها صباحا جاء بها مانويل إلى الكنيسة بعيدا عن القصر، عن فرناندو وخوسيه اللذان لم يفهما بعد سبب دخوله كإعصار وإنتشالها من تحت الأغطية، ترك الجرو أوسو عند فرناندو وأخذها دون شرح، دون تبرير أو أن ينبس بكلمة، لتجد نفسها في الكنيسة التي لم تحفظ حتى الطريق إليها كونها ظلت تسأل عن والدتها وعن حالته الغريبة تلك.

أما رونيا..رونيا مختفية كالعادة، إختفاءً قد كان غطاؤه المزيف هو سفرها من أجل إنجاز أعمالها..

لا أحد يعلم بعد أنها داخل إيطاليا الآن لأسباب يعرفها أغوستينو وحده.

" ويل.. أنا أتألم.. هنا يتألم بشدة.. ليته تركنا وظل آمنا فحسب..ليته كان وغدا ولم يصاب بأذى"

وضعت يدها على قلبها تشير إليه وهي تنظر إلى وجه مانويل الذي تكونت عقدة طفيفة بين حاجبيه ليسحبها من وجهها نحوه أكثر بينما لا زال يكوره بين كفيه وهو يمسح بإبهامه دموعها المنسابة..

أنف و وجنتان إنبث فيهما الإحمرار، أعين منتفخة ورموش مبللة، شعر ذهبي مبعثر على كتفيها وخاتم أماثيست قد لمع حجره بسبب الضوء المنبهث من نوافذ الكنيسة عندما رفعت يدها تضعها على يد مانويل فوق خدها وهي ترتجف بسبب بكائها المتقطع وأنفاسها المتذبذبة.

"سيكون كل شيء بخير، سيختفي ذلك الألم، توقفي عن البكاء الآن واستمعي لي دعيني أشرح لكِ الأمر لا أملك وقتا كثيرا ستقلع طائرتي بعد ساعتان"

"هل.. هل ستتركني وتذهب أنت أيضا.. لماذا يذهب الجميع..لمـ..."

"سأشرح لكِ كل شيء الآن، إخرسي وأسمعيني كي لا أعيدك إلى القصر..
اللعنة أريد أن أتحدث منذ ساعة"

مسح دموعها بأصابعه وإقترب يضع قبلة على جبينها عندما صعب عليه حالها، ليس بكائها ولا حالتها بسبب آرون بل لذكرها بأن الجميع قد ذهبوا وتركوها وحيدة، تلك الكلمات آلمت العم الذي لطالما حاول أن يكون الصديق والأخ الأكبر الداعم لأبناء شقيقه.

احنت رأسها للأسفل فسقط بصرها مجددا على الهاتف داخل حجرها ليتجدد بكائها قبل أن يكتمه مانويل واضعا يده على فمها يحرك لها رأسها بالنفي كي لا يدخل معاها في ساعة أخرى من النواح والأنين المكتوم كلما رأت جسد آرون، أمسك لها شفاهها وظل ينتظر أن يتوقف جسدها عن الإهتزاز إلى أن سكنت قليلا، سرعان ما حررها لتسأله بكلمات مرتجفة على اثر البكاء المتواصل سابقا.

"هل تظن.. أنه..هل يتألم.."

"بالطبع يتألم.. لم يدخل غيبوبة من شدة الضحك"

عُقد جبينها وإرتجف ذقنها وإمتلأت أعينها دموعا مجددا ليقلب مانويل عينيه للجهة الأخرى كونه لم ينتبه لكلماته، صراحته تلك لم تكن تساعد أبدا.

"هل تحبينه لهذه الدرجة؟" سألها بنبرة تخص شخصية مانويل الأخرى، لم تكن استجوابا ولا نظرات سخرية، لم تكن باردة فارغة كان يسأل بإهتمام ينظر داخل عينيها تماما، يرى كيف لمعت أكثر تحرك له رأسها مجيبة إياه دون أن تلفظ حرفا واحدا.

رفعت الهاتف تمسح على وجه آرون الذي بدى غير واضح بعيد وشاحب في الصورة، نظرت إليه مطولا قبل أن يختفي من أمامها عندما إنتشل الهاتف من يدها يغير الموضوع للجدية.

"حسنا يكفي..ناوليني الهاتف جولييت"

" أخبرني ما حدث من البداية"

" لقد أخبرتك أم أن أذناك تعطلتا عند سماع اسمه"

إعتدلت تمسح دموعها تبعد شعرها للجانبين، قابلته بجسدها في مقاعد الكنيسة وبكل تركيز قررت معرفة ما حصل له، ما حدث بعيدا عن خروجه تلك الليلة وعلى أنهم أقاموا له جنازة لأن كل هذا قد قاله مانويل في البداية، أرادت أن تعرف التفاصيل الأخرى التي لم يخبرها إياها كونها بدأت بالبكاء فور رؤيته وكونه ظل يتحدث عن طبيعة علاقتها بآرون،تلك العلاقة التي كان يعلم بشأنها منذ لاريوخا.

ولم يتحدث، لم يحاسبها ولم يتدخل، لكن الآن جاء ليشرح لها الأمر قبل سفره.

"إلى أين أنت ذاهب؟ أين أمي وكيف سمحت لك بأخذي دون أن تعارض، أنت تعلم أنني معاقبة، أين هيتايرا ولماذا أنا هنا مع في الكنيسة لماذا لم تخبرني في القصر، ما الذي حدث مانويل ! سأجن..إلهي حقا سأجن..لما قد يزيفون خبر موته!؟ أين هو الآن؟"

"إيطاليا..إنه في إيطاليا"

أجابها على آخر سؤال بثقة وكأنه لا يحتاج لرؤية ذلك كي يتأكد من مكانه، قالها لتجفل الأخرى بغير تصديق، ظنت أنه قريب، أنه هنا وبإمكانها زيارته بطريقة ما، لكن أن يكون في بلد آخر بعيد عنها لم يزد الأمر إلا سوءا، تلألأت أعينها وهي تفكر في السبب، حينها استرسل مانويل مردفا.

"أخبرتكِ بشأن تزييف موته وتلك الجنازة التي كانت مثالية لدرجة أن لا أحد من أهله قد شك بشيء حيال الأمر، كل هذا من تخطيط أخاه أغوستينو..

تحدثت مع الحارس الخاص بآرون، ماريو هو من أعطاني ما بحوزته من أدلة جمعتها مع بعض التفاصيل التي توصلت إلبها طيلة أسابيع مع ما وجدته الشرطة بشأن شقيقتك وإكتشفت أن هيتايرا مخطوفة أيضا"

"تمهل قليلا لا أفهم أي شيء الآن، ما شأن هيت بالأمر أ ليست غائبة بسبب طلاقها؟"

"بربكِ كاثرين هل حقا ترين أن زواجها المبنية على مصالح وصفقة عمل واضحة للعلن قد يؤثر عليها لدبجة إختفائها لأشهر؟ الأمر لم يكن منطقيا منذ البداية"

"لكن.. هذا غير منطقي ليس لها أعداء ولم تكن يوما فتاة ذات مشاكل"

"أنظري، دعيني أشرح لكِ بإختصار كي أوفر على نفسي عناء الإجابة على كل الأسئلة.."

إعتدل في جلسته ونقر على الهاتف بإصبعه مشيرا لما بداخله قائلا.

أولا تلك الصورة التي رأيتِها قد ألتقطت من كاميرا السيارة الخاصة بعائلة غوستافيو، في الجنازة حضر الكثير من الأشخاص لدرجة أن ماريو لم يجد مكانا أمام الكنيسة، لذا قام بالإلتفاف للباب الخلفي ولأن الوقوف هنالك كان ممنوعا بسبب سيارة الإسعاف والتي كانت مزيفة هي الأخرى، قام بركن السيارة الخاصة بهم في مكان بعيد عن الكنيسة، في الطريق السريع المؤدي إلى الغابة، ركنها في الأسفل ودخل مثل البقية.."

توقف يمسح على وجهه بتعب كونه لم يأخذ قسطا من الراحة طوال أيام، بل ولم ينم لساعات بسبب تجهيزات سفره، رفع عينيه لمن بدأت ترتخي وتهدأ قليلا ليكمل لها تحت نظراتها التي رقت عند سماع اسمه وحالته تلك.

"حينها كان كل شيء مثاليا، آرون نائم داخل النعش يعزله عنا زجاج سميك، ثم إنتهت الطقوس وغادر الجميع للدفن وغطى التراب الصندوق وكان كل شيء عاديا إلى أن أخذ ماريو السيارة للقصر وقام بمراجعة الكاميرا الموصولة بها..

كان المشهد عبارة عن نعش أسود مطابق تماما لذلك الذي وضع فيه جسده، لكن هذا قد خرج من الباب الخلفي للكنيسة وادخلوه لسيارة الاسعاف التي اتضح انها مزيفة ليست تابعة لأي مستشفى..

الصورة التي يظهر فيها وجهه قد حاول توقيف المقطع ليأخذها عندما كانوا ينقلونه من النعش داخل السيارة ويضعون الاكسجين عليه..

لهذا السبب كان النعش مغطى بالزجاج في الداخل، ليست أسبابا شخصية أو أمنية بل لأن الصندوق مزود بأكسجين"

"لماذا سيفعلون كل هذا؟"

"لما قد يزيف أحد جنازة شخص ما برأيكِ؟ لأن القاتل غير معروف وهذا واضح، لا زال القاتل يتجول العدو الذي جعله يصاب يبدو أن هويته غير معروفة، لهذا فخطة شقيقه هي تزييف موته وإنتشار الخبر في كل مكان بإسبانيا"

وضع سبابته على الجريدة الموضوعة فوق الكرسي بينهما والتي حملت صورة آرون وخبرا عن وفاته، حينها نظرت كاثرين للصورة أين مسحت على وجهه بحزن ليأتيها صوت مانويل مسترسلا.

"لولا وصول الأمر لهيتايرا، لما كنت سأهتم بمشاكل تلك العائلة..لكن أحد أفراد الشرطة المسؤولة عن التحقيق في قضية إختفائها إتصل بي بعد حديثي مع ماريو أخبرني أنهم وجدوا سيارتها في مكان ليس ببعيد عن قصر غوستافيو، كانت نظيفة خالية من أي بصمات قد مُسحت وكأنها لم تستعمل يوما..

لدي بعض التفاصيل الأخرى لا داعي لمعرفتها المهم الآن أن هيتايرا اختفت في نفس اليوم الذي اختفى فيه آرون"

تلك التفاصيل كان اتصالها به ليلا ليتكفل بموضوع طلاقها، نباح الكلاب في الخلفية والشكوك التي راودته حينها، جمع كل تلك الخيوط الصغيرة وصنع منها حبلا، حبلا تسلق من خلاله وقاده إلى شيء واحد «آنيما» الملجأ الذي تحدث عنه ماريو عن طريق الصدفة وسط حديثه حول الكاميرات، أخبره حينها أنهم باستطاعتهم البحث هناك أولا لربما يجدون شيئا ما يخص أغوستينو.

لم يبحثوا وحتى وإن فعلوا كانوا سيجدون المكان فارغا نظيفا كنظافة سيارة هيتايرا، لكن مانويل وبمجرد أن ذُكرت ملاجئ الكلاب تذكر تلك الليلة..

"لم أفهم بعد ما علاقة هيتايرا بالأمر، آرون أخفاه شقيقه خوفا عليه لكن هي؟؟ ما شأنها من كل هذا؟"

وهنا فقط كانت اللحظة التي رفع مانويل عينيه من المقعد أين كان شاردا إلى وجهها المتسائل، هو متأكد من السبب لهذا كان يتحكث بكل ثقة حول أن هيتايرا قد خُطفت واختفت في نفس اليوم، حتى وإن لم يتوقع أن يصل الأمر لهذا الحد لكنه متأكد أن أغوستينو قام بأخذها كي يستفز رونيا، أو كي ينتقم ربما..

مانويل يدرك حقيقة رونيا التي لا يدركها أحد، لكنه لا يعرف لحد الآن أن الموضوع كان أعمق من مجرد إنتقام بل هنالك ماضٍ لا أحد يعرفه، ظن أنها قامت بمحاولة قتل آرون بعد اكتشافها علاقته بإبنتها وقام شقيقه بخطف ابنتها على ذلك الاساس كنوع من الانتقام..

هذا كل ما فكر به وتوصل إليه، حاليا..

"لهذا أخلقت ملف قضيتها هنا وسأذهب للبحث عنها ومعرفة السبب"

"أين؟"

"إيطاليا"

كان يحاول تشتيتها كي لا تتعمق أكثر وتكتشف جانب والدتها خاصة وهي حامل لم يتبقى لها الكثير على الولادة، لكنها وما ان صافح سمعها موضوع سفره إنتفضت تعارضه بكل غضب.

"أنت لن تذهب في ظروف كهذه، لا ، هذا لن يحدث أنت لن تتركني أيضا لقد ذهب الجميع مانويل، لا اعلم مكان أختي لا أعرف في أي لعنة هي الآن، أمي..أمي غائبة كالعادة هل حقا سأبقى وحدي وألد هنا بمفردي؟ أنت لن تفعل هذا بي"

سحبها وسط دموعها تلك يعانقها بقوة لتتشبث بظهره تضغط على قبضتها كمن تأبى إفلاته، دفن رأسها داخل صدره لتكتم شهقاتها التي كانت الشيء الوحيد المسموع داخل فضاء الكنيسة الفارغة، مسح على شعرها يتمتم لها بكلمات كي تهدأ وهو يفكر في طريقة وحل آخر يجعله يطمئن هذه بين ذراعيه ويبحث خلف الأخرى التي يجهل حالتها بعد..

لم يخبر كاثرين أن توفانا أيضا إختفت، وظهرت في الفيديو المسجل عبر كاميرا السيارة، لم يخبرها أن فابيو كان هناك أيضا وأن لا أحد منهم قد حضر الجنازة، وأن شكوكه ناحيتهم قد زادت أكثر عندما بحث خلفهم ووجد أن كل هؤلاء إشتركوا في شيء واحد أكيد وهي جنسياتهم الإيطالية..

فلتت منها شهقة مصحوبة باسم شقيقتها، بكائها تحول لبكاء طفل يريد حضن أمه، كانت ترتجف وهي تكرر اسم هيتايرا كونها اشتاقت لها وادركت أنها لم تكن بعيدة بسبب رغبتها في الابتعاد ولا لأنها أنانية تفكر في نفسها فقط كما ظنت سابقا في لحظة غضب وهي متروكة وحيدة داخل قصرها، استوعبت أن الأخرى غائبة عنهم منذ زواجها، منذ خروجها لم تعد أبدا...وأيضا...استوعبت أنها تشتاق لها أكثر من أي شخص آخر..

"أريد..أريد أختي..لا أريد أن أكون وحيدة بعد الآن"

"اسمعيني كاثرين.."

أبعدها عن صدره يمسح وجنتيها وهو ينحني للأمام قليلا كي يرى عينيها من ذلك القرب، بريق العسل داخلهما جعله يبتسم يحرك رأسه بقلة حيلة مستشعرا ارتجاف جسدها بين الفينة والاخرى.

"أقسم أن رأس الدمية كان سيحل الكثير" مسح عليها مجددا وأكمل يحاول قدر الامكان اقناعها بما سيقوله قبل أن تعترض.

"بينما نحن هنا ستكون الآن عائلة غوستافيو هناك تفتح وصية آرون، بمجرد إنتهائهم ستأتي لوسيا لتأخذك إلى منزلهم، لن تكوني وحيدة كاث لديكِ من يهتم لأمرك..

إنها تعرف كل شيء بالفعل إلتقيت بها وشرحت لها الأمر برمته كل ما عليكِ فعله هو أن تتجهزي وسنذهب إلى قصرهم" نظر داخل عينيها وأكمل بمكر عكس جديته قبل ثوانٍ.

"..سأسافر إلى إيطاليا للبحث عن شقيقتك وعن ذلك الماموث المحنط وسأعود من أجلك "

ما ان لفظها فلتت منها ضحكة جعلت إبتسامته تتسع لرؤيتها تعود لكاثرين الطبيعية، عكس المكتئبة منذ الصباح، كور وجهها بيديه أكثر وقربها منه كي لا تجد فرصة لتفكر في الأمر وكأنه ينومها مغناطسيا..

"لا أستطيع البقاء هنا بينما هيتايرا..لا أعلم في أي قعر جحيم قد تُركت"

"يبدو أنه الوحيد الذي كان يهتم لأمري، حتى أنت لم تفكر بأخذي معك على الأقل"

"هل قمتِ بمقارنتي به؟ أقسم أنني سأصفعكِ إن قلتها ثانية، تتكلمين وكأنني لا أهتم، كل ما بالامر أنني لا أستطيع المخاطرة، ماذا إن اصابكِ مكروه ما؟"

"ماذا ان أصابني هنا؟ ماذا ان كانت ولادتي مبكرة؟؟ ماذا لو حدثت مضاعفات أثناء الولادة وحدث أمر لي أو لأماثيست؟"

"هل وضعتِ اسما حقا! أ لم أقل أنني من سيسميها؟"

"هل سنتحدث عن هذا حقا!؟"

"و الاسم من إختياره؟"

"أجل، والدها واختار اسما لها"

"أصبحتِ تتحدثين عن الأمر بطلاقة تامة وكأنه موضوع بسيط! عدم اعتراضي أو مناقشة علاقتكما والتدخل فيها هو أمر مؤقت"

"لم يكن هذا موضوعنا اللعين من الأساس"

"لن يصيبك مكروه لا تتحدثي عن هذا الآن حبا بالرب"

"أتعرف كم بقي على ولادتها حتى؟ لا أحد يعلم شيء بشأني جميعكم منشغلون بكل شيء عداي، لن أذهب لقصرهم لن أتجول داخل منزله وأرى طيفه في كل زاوية يكفي أنني أمسك نفسي بصعوبة هنا كي لا أبكي مجددا"

رفعت يدها تمسح دمعة قد تشكلت فوق رمشها، ليتنهد مانويل مخللا أصابعه داخل شعره بإرهاق يفكر في حل لما سيفعله معها، إستندعلى المقعد بينما هي وقع بصرها على صورة آرون على الجريدة، إبتسمت بحزن تمسح عليها برفق وشرود بينما الآخر ظل يراقب حركاتها تلك في صمت دون أن ينبس أحد منهما بكلمة..

صُفع الباب وصدح صوت سعال من بعيد جعل كاثرين تنتفض واضعة يدها لا إراديا على بطنها البارزة بينما إلتفتت مانويل تماما مثلها إلى الخلف حيث فتحت دفتي باب الكنيسة على مصراعيهما و إنبعث الضوء من الخارج مظهرا ظل الجسد الأنثوي بإنحناءاته المثالية الواقف في المنتصف.

"لما اِستدعيتني لمكان كهذا، أكره التواجد في الكنائس، أنظر إلي أنا حتى لا أرتدي ملابس ملائمة الآن"

تقدمت لوسيا ناحيتهما تتذمر بينما تنظر إلى الأرجاء وهي تحاول إنزال تنورتها القصيرة بيد وترفع قميصها لتغطي صدرها بيدها الأخرى، تتمتم بعبارات تمجيد الرب بملامح ندم وكأنها قد دنست المكان فور دخولها..

وصلت عند المقعد وحينها فقط نظرت إليهما بوضوح كون الضوء كان يغطي مستوى نظرها، كان مانويل أول من رمقها بنظرات متفحصة يمرر بؤبؤيه عليها في حين كاثرين عقدت حاجبيها بحنق عندما تذكرت أنها لم تحاول الوصول إليها لإعلامها بما حدث لآرون.

"لما البدين بيتر غريفن ينظر إلي هكذا؟" شهقة درامية خرجت من كاثرين على ما قالته لوسيا بينما رفع مانويل حاجبه ممررا نظره بينهما.

"أيتها الساقطة، لم تتكبدي عناء الوصول إلي"

"مثلما فعلتِ أنتِ بعدم حضورك جنازته"

"كنت معاقبة، لم أكن أعلم ثم لا تقولي جنازته هو لم يمت"

"أيا يكن، كان من المفترض أن تشعري، أ لستِ حبيبته؟ أين هي أحاسيسك؟"

"لقد شرحت لكل واحدة منكما ما حصل للأخرى، لذا إن لم تتوقفا عن هذا سأغادر" كان يجلس بذراعين عقدهما أمام صدره ينظر إلى لوسيا التي إقتربت منها دون أن تجلس بل سحبت كاثرين من رأسها لترتطم بمعدتها كونها لازالت واقفة، عانقتها تربت على شعرها بينما الأخرى لم تقاوم وكأنها انتظرت ذلك طويلا، إنتظرت حضنا كان من المفترض أن يكون حضن والدتها أو شقيقتها المفقودة.

" لما المكان مشرق لهذا الحد هل وضعوا ألف مصباح لإنارة كنيسة واحدة؟"

قالتها لوسيا رافعة رأسها للأعلى تحدق في كمية الأضواء المنتشرة فوقهم، ليتحدث الآخر كمانويل التقليدي ذو الطباع التي لا تتغير ولا تزول.

"ثلاث مئة وعشرون"

"هل يقوم بِعَد الأضواء؟"

"ربما" غمغمت بها كاثرين داخل صدرها حيث كانتا يتهامسان وسط العناق لتردف الأخرى.

"بجانب كونه وسيم وذكي، إن عمك مريض أيضا"

"وسادي"

أجابتها بنفس الوضعية والطريقة السابقة دون أن تبعد رأسها عن أحضانها بينما الأخرى كانت تربت على شعرها الذهبي لتكمل وهي تنظر إلى مانويل المستند على المقعد بإبتسامة جانبية باهتة لم تفارق وجهه.

"أنظري إليه..يبتسم رغم أنني نعته بالمريض"

"أجل، لأن سمعه تعطل بعد وسيم وذكي"

" إجلسي"

أمرها بنبرة هادئة لكنها لسبب غريب جعلتها تصاب بالقشعريرة بسبب عينيه الثابتتان عليها.

"بحق الكنائس، لما هو متسلط هكذا؟"

أزاحت عنها كاثرين لتجلس بجانبها وتعيد ضمها إليها مجددا، حركة عفوية جعلت إبتسامة كاثرين تتسع بسعادة كونها لم تكن تريد الإبتعاد وأعجبها شعور التربيت على رأسها ذاك، ذكرها به وكيف كان يفعل لها نفس الحركة كل ليلة لتنام.

" هل فُتحت وصيته؟"

سألها مانويل وهو يرفع هاتفه يبحث عن شيء ما، كان يكتب بسرعة وينتظر وصول أمر مهم، قد قرر فعل أمر ربما سيندم عليه لكنه الحل الوحيد الذي استطاع التوصل إليه الآن، خاصة بعد رؤيتهما هكذا.

" أجل ومرت أسرع مما ظننت"

"إذا!! كيف سار الأمر؟"

"حسنا من أين أبدأ..

قد ترك مبلغا ماليا محترما لخافيير لتكاليف دراسته مستقبلا رغم أنه لم يكن يعرف بشأن موت جوانا لأنهما توفيا في نفس الليلة، أي أن ما فعله كان تصرفا نبيلا منه"

رمت عينيها للأسفل، إلى كاثرين التي حركت رأسها داخل أحضانها تغمغم بكلمات شبه مفهومة.

"أعلم..لقد أخبرني مانويل عن موتها، شعرت بالسوء ناحيتها..لكن لا أستطيع التفكير سوى بخافيير و عن حاله الآن"

"تركته مع دومينيك يلعبان ألعاب الفيديو، لا زال طفلا وهي لم تكن الأم المقربة منه لهذا لم يتأثر كثيرا، قضى جل طفولته برفقة الخدم"

توقفت عن الحديث لبرهة وعم الصمت بين ثلاثتهم وكأن كل واحد منهم تذكر شيئا أقام عليه حدادا خاصا به لثوانٍ، رفع مانويل عينيه عن شاشة هاتفه لتتذكر لوسيا ما كانت تتحدث حوله وتكمل.

" ترك النادي الرياضي التابع لأحد فروعه ببرشلونة باِسم دومينيك..

وكل ثروته، فنادقه، شركته، سياراته ومنازله لكاثرين وطفلته أماثيست وأصبح الجميع يعرف بشأنكِ عزيزتي، حتى اسم ابنتكما قد ذُكر كاملا"

وعكي ردة الفعل المتوقعة منها، لم تنتفض، لم تتوتر ولم تتحرك من بين ذراعي لوسيا بل لم تهتم بمقدار ذرة حول الأمر، وكأن معرفة الجميع أصبحت لا تهمها الآن بعد كل ما عانته..

كل ما فكرت به هو عدم تخليه عنها، حتى وصيته ذكر فيها إبنته واسمها الكامل، ما دغدغ قلبها كان اهتمامه بالتفاصيل وإدخالها لحياته لتصبح فردا من عائلته الصغيرة، لم ينساهما حتى في أمر كهذا، لم تعرف أنه قد جهز وصيته مجددا بعد معرفتهما لجنس الجنين واختيار اسما له..

" بل أكاد أجزم أن أمي تتصل بوالدتكِ لتتحرى عن موضوع علاقتكما ومنذ متى وأنتما معا.."

كان مانويل لا يزال منغمسا في إتمام أمر ما بينما بين فينة وأخرى يتوقف كي يستمع لحديث لوسيا، ذلك الذي راق له وتأكد من صدق علاقتهما للتو استنادا على الرؤية بعيدة المدى الخاصة بآرون.

" المهم الوحيد الذي لم تبدو عليه علامات الصدمة كانت جدتي ألفيرا..بل ضحكت وأعجبها الوضع"

إبتسمت كاثرين وسط دموعها، تذكرت فجأة همساته له كل ليلة عندما تكون على وشك أن تنام وهي غاضبة منه لأي سبب تافه لا يتطلب كل ذلك التضخيم، تذكرت لمساته وتلك القهقهة بنبرته الرجولية التي تخرج من بين شفتيه مسببة لها الثمالة على حين غرة، ذكريات تهاطلت عليها لتغمض عينيها بقوة تمنع نفسها من التعمق أكثر تطرد عنها صورته وهو نائم في السرير الخاص بالاسعاف..

حينها أطفأ مانويل هاتفه يضعه داخل جيب معطفه وتحرك يحمل الجريدة مستقطبا تركيزهما لتبتعدا عن بعضهما ينظران إليه كيف بدل نظراته بينهما قبل أن يدحرج محجريه للجهة الأخرى رافعا يده يمسح على وجهه بضيق، غير قادر على قول تلك الكلمات لصعوبتها وصعوبة موقفه وأين وضع نفسه.

" بعد أربع ساعات هنالك 297 راكب على متن الرحلة آن تي 4170 المتوجهة إلى روما لمدة ساعتان و38 دقيقة...

سنكون نحن من ضمنهم"

"أ لا يمكننا الذهاب بعد خمس أو ربما سبع ساعات؟ لن يكفي الوقت لجمع أغراضنا"

"سنشهب بعد أربع ساعات، جهزت التذكار للرحلة الأخرى..

أنا يجب أن أذهب لأعرف ما الذي يحصل وأجد هيتايرا، لكن لا يمكنني تركك هنا، لن تفارقي ناظري أبدا خاصة وأنت على مشارف الولادة..لهذا ستأتين معي..وسترافقكِ هذه كي لا أنشغل بهرموناتك اللعينة"

" مهلا ماذا؟؟ هل سنذهب حقا إلى إيطاليا!؟"

أما هذه فكانت لوسيا من وقفت أمام في الممر بين المقاعد بجفول وعدم تصديق لما يحصل الآن، في حين الأخرى شقت وجهها إبتسامة لم تستطع إخفائها.

"أجل سنذهب، ستخبرين عائلتكِ أنكِ بحاجة لقضاء الوقت بعيدا عن البيت، لا يهم ما ستختلقينه كعذر إذا لم تتواجدي في المطار بعد أربع ساعات سأغادر برفقة كاثرين..غادري الآن لتتجهزي"

سحقا لخلق الأعذار، سأذهب حتى وإن تطلب الأمر هروبي معكما، لا أريد البقاء هنا أنا أيضا"

وضع يديه داخل جيوب معطفه بينما تحركت لوسيا قليلا ثم توقفت فجأة وإلتفتت إليه كمن تذكر شيئا.

" إنتظر لحظة هل قلت أتجهز الآن؟؟ سنذهب الآن؟ ما الذي تقصده بالآن!!"

كانت كاثرين لأول مرة تضحك بصوت عالٍ منذ وقت طويل، ضحكت على ملامح مانويل ونظرات لوسيا المرتعبة وكأنها قد تلقت خبرا مفجعا، عندما يتعلق الأمر بالسفر وتجهيز الحقائب تكاد تفقد عقلها، فلن يتخيل أحد رد فعلها إذا قُيدت بوقت قصير لا يكفيها لتقرر ما لون الحقيبة التي ستأخذها معها.

" أنت تمزح، كيف سأجهز أمتعتي في أربع ساعات!؟ لدي العديد من الملابس التي لم ألبسها.. تركتها لأماكن كهذه..لن تكفيني ساعاتك اللعينة هذه"

"بربك لوسي كفي عن التذمر، دعينا نذهب وسأخرج معك لنتسوق هناك"

"أنظروا من يتحدث! من يمتلك مؤخرة مكان بطنه، بالطبع لن تهتمي بالملابس وأنتِ ترتدين حمالة صدرك بصعوبة"

"إخرسن"

"سأغادر لجمع أغراضي"

عبرت قبلهما قبل أن يسير خلفها مانويل بعد أن رفع كاثرين والتي كانت تقف بصعوبة بسبب عرقلة بطنها البارزة، ليستوقفها صوته ورائها عند وصولها إلى الباب.

"أغراض؟ هل سنحضر مهرجان الموضة؟"

وضع يده على الباب يمنعها من الخروج لتنظر إليه باستغراب كما فعلت ابنة شقيقه في إنتظار إبتعاده عنهما أو الحديث، بدل نظراته بينهما ثم أردف بكل جدية.

"سأوصل كاثرين للقصر لتجمع أغراضها خلسة وسأجهز لكما وثيقتين في تلك الأثناء، إعتبروه عقدا بيننا، ستقرأون كل بند فيه وستوقعون عليه دون إعتراض"

تبادلا النظرات بعدم فهم قبل أن تسأل كاثرين.

"عن أي نوع من العقود تتحدث؟"

"ينص على أنني لست مسؤولا عليكما وعلى ما سيحدث لكما وأنكما ستذهبان معي بقواكن العقلية" تغيرت ملامحهما في الوقت ذاته لتنفعل لوسيا بينما الأخرى كانت تتوقع كل شيء من عمها كونها تعرفه أكثر من أي شخص آخر.

" أحقا ستقدم على فعل أمر حقير كهذا!؟!"

" أجل ".

فتح الباب وسار قبلهما يخرج مخلفا وراءه آثار أقدامه على الثلج الذي غطى أرض مدريد ملونا إياه ببياضه كبياض معطفه الطويل الذي كادت أطرافه تلامس الأرض...

بينما كاثرين في الخلف أغمضت عيناها تستنشق هواء بلدها للمرة الأخيرة، فمن بين كل تلك البلدان والتذاكر التي قدمها إليها ستذهب إلى البلد الوحيد الممنوع بالنسبة إليه، إلى المكان المحرم لآرون من سنين طوال..

خرجت كل واحد منهم يفكر في أمر يخصه وحده، في سر لم يبح به لأحد غير نفسه، خرجوا ليذهبوا إلى البلد الآخر أين إجتمعت أسرارهم في قلعة واحدة..

" منذ متى يمتلك عمكِ جسدا كهذا؟ ربما يجدر بنا إرسال رسالة شكر إلى مدربه الخاص".

وكانت هذه لوسيا...كابوس مانويل الجديد.

___________

خاؤوس، كان أول كائن في الوجود استنادا إلى الأساطير الإغريقية، الهيولي أو اللاتكون كما يقال عنها وهي بداية ظهور الكون بطريقة لا يتخيلها العقل البشري.

بعد فترة من وجوده في مكان وزمن بعيدان وبطريقة ليس بمقدرة البشر استيعابها أنجب خاؤوس الأنثى نوكس والتي كانت الليل الحالك، ثم أنجب من بعدها الذكر أريبوس والذي كان الظلام العميق الدامس.

مرت سنوات وكان كل شيء مستقر إلى أن إرتمت نوكس في أحضان أريبوس و وقعوا في الحب، وإنقضى الوقت على حالهما هذا يلتقيان بطريقة تفوق التفكير البشري..

وبطريقة ما وضعت نوكس بيضة كانت نتيجة لقائتهما المتواصلة، حينها وبعد مرور فترة على حالها فقست تلك البيضة وخرج منها مخلوق صغير لطيف بجناحين من الذهب..

ذلك المخلوق الجميل كان إله الحب إيروس.

إيروس الذي كان إله الحب، خُلق نتيجة تزاوج إثنان من الأشياء السوداوية، الليل الحالك والظلام الدامس الذي كان الموت، فتصبح هنا على يقين تام أنه لم يكن أبدا شعورا مثاليا، فكما له جانب مليء بالفراشات، له أيضا جانب سوداوي باِستطاعته أخذك إلى الهلاك، باِستطاعته جرك إلى حتفك، جانب سيؤلمك بقدر ما صنع لك أجنحة ذهبية لتطير بها في البداية.

تماما كما كانت غايا الأرض، الأم الحنون التي فرشت تربتها لأولادها، من كانت ترعاهم وتأويهم داخلها حيث الدفء، وكان أورانوس السماء ذلك الأب المتعالي الذي لم يعاملهم بنفس الحب والإهتمام.

غايا الأرض المسطحة الواسعة وأورانوس الأفق البعيد العالي، رغم تناقضاتهم وكيف كان لقاؤهما إلا أنهما كانا معا، فكان هذا أيضا مثالا آخر عن الحب.

فليس من الضروري أن يكون الشخص الذي سنقع في حبه يشبهنا بل دائما ما يكون نقيض ذاتنا الذي غالبا ما سنتخلى عن مبادئنا من أجله دون أن ندرك ذلك، ونقطع لأجله تلك المسافة بين الأرض والسماء، منجرفين له غير آبهين لما يحصل.

وأحيانا ما نحيط به علما أن استحالة العلاقة يعني استحالتها دون أن نضيف تنميقا عليها ونعود للنقطة الأولى حيث بدأ كل شيء، أين إلتقى الظلام بالموت وأنجبا لنا الحب بكينونته السوداوية، نعود إلى نقطة البداية ونستنبط أن تلك الفراشات التي شعرنا بها في الأسفل تداعب حواسنا قد تطير لتصعد إلى الحلق فتكتظ وتتكاثر وتقوم بخنقنا دون أن تترك لنا المجال لنتنفس.

وندرك أيضا أن رغم شعور الفراشات المثير، حيث تدغدغ أجنحتها جدار المعدة من الداخل ستتسارع حركة رفرفتها فجأة وتبدأ بخدشه ليصاب بالنزيف، لتحفره وتُحدِث فيه ثقبا وتتحرر لتطير عاليا تاركة صاحبها يبصق دماءً قانية بطعم الحب.

الحب الذي كان وليد الظلام والموت.

بشِق صغير قد أحدثته ستة أرجل لفراشة واحدة، توسع ليصبح ثقبا ظهر على جانب معدتها وسرب منه الفراشات الأخرى، لتخرج وتهرب كسرب ملون فوق بشرتها البيضاء الشاحبة.

بثغرة وحيدة خرج منها خضب عواطفها، وألف علامة استفهام محفورة بلون أسود داخل عقلها، وقفت هيتايرا أمام المرآة التي توسطت جناح ماريانا تنظر إلى هيئتها بفستان أخذته من إحدى تلك التي وجدتها معلقة على حاملات الملابس الحديدية..

كانوا قد وضعوا لها علب الأحذية والحاملات المليئة بالفساتين وكل ما قد تحتاجه للحفل، طلبت منهم الخروج لتهتم بالأمر بنفسها دون الحاجة لأحد وأخذت أول ما وقعت عليه أعينها، وها هي الآن تقف تتفحص مظهرها بتلقائية وعدم إهتمام فقط تريد أن ينتهي الأمر بسرعة وتعود إلى غرفتها بعيدة عن أماكن تواجدهم.

نفضت جانب الفستان حيث كانت ساقها عارية تماما صعودا إلى فخذها ، ثم قامت بتعديله من فوق أين إنتهى بحمالات رفيعة مبرزة جمال كتفيها خاصة وأن شعرها الآن أصبح لا يغطيها كالسابق بل ويكاد لا يلامسها بسبب قصر طوله.

لبرهة من الوقت سكنت أمام المرآة بشرود تفكر في والدتها وماذا إن كانت حقا متورطة بما حدث لآرون، لم تستطع هضم ذلك ولا يمكنها تصديق هراء كهذا لكن لسبب تجهله كان هنالك صوت عميق يهمس لها بأن لرونيا يد في الأمر، وشوشات متواصلة تحاول إقناعها أنها لم تعرف بعد حقيقة أمها..

ذلك الصوت إختفى عندما رمشت تخرج من شردها فجأة، إندثر ذلك الطيف من حولها عندما إعتدلت في وقفتها وإلتفتت تنظر إلى الأرجاء بعد أن تذكرت ما كانت ستفعله، البحث عن سلاح أو أي أداة تصلح لتكون سلاحا داخل هذه القلعة لعدم شعورها بالأمان بينهم.

دخلت أولا إلى الحمام وبحثت بعشوائية وهي تعرف مسبقا ما وجد فيه كونها استعملت صباحا المقص، لكن حجمه كان أكبر من أن يُخبأ تحت فستان خفيف كالذي ترتديه الآن..

لذا حملته تقلبه بين يديها وهي تفكر في حل آخر، أن تكون داخل قلعة مليئة بالقتلة المأجورين الذين سنحرون عنقها إذا تلقوا أوامر لفعل ذلك هو أمر راجح كما قال لها ليندر صباحا، لذلك يتوجب عليها الآن التفكير كفرد منهم..

فأن تعيش داخل حوض مليء بالقروش يجب أن تكون سمكة ريمورا.

بالتالي فتشت في كل مكان عن شيء يحميها أو حتى يعيق حركة من سيعتدي عليها في حال تعرضت للخطر هنا، أمر منطقي وهي تعرفه تمام المعرفة أن قتل أحد منهم أو التغلب عليه أمر مستحيل ويعد ضربا من الجنون أن تفكر في هذا، لكن وضعت كل الإحتمالات على الأقل كي تنجو.

خرجت واتجهت للمكان الوحيد الذي لم تبحث داخله، بل ولم تكتشف بعد ما وضع فيه طوال هذه الفترة، كانت تلك خزانة ماريانا، واول ما قابلها فور وقوفها عند الباب هي الملابس ذاتها التي كانت تراها معلقة على الجدران مغلفة بالأكياس السوداء الخاصة بها، حقائب منظمة بجانب بعضها البعض، صناديق أحذية في الأسفل وأخرى وضعت وسط الغرفة فوق المنضدة تحتوي على الحلي الذي كان ظاهرا كونها صناديقا زجاجية شفافة، بلمعانه وكأنه قد صنع البارحة..

تقدمت تنظر بإنبهار لأول مرة منذ دخولها إلى القلعة، تلك النظرات زارتها إلى عند رؤية زجاجات العطور المستعملة والساعات الفاخرة التي مر على تواجدها هنا سنين عدة..

كان كل شيء يضج بالذكريات والكثير من القصص حول كل قطعة وكأنها دخلت إلى متحف، شعرت بذلك كونها تعمل في مكان يحمل التاريخ على جدرانه تماما كالآن..

ذلك الهواء المثقل بالماضي وتلك التفاصيل أخذت بها إلى مكان بعيد وزمن آخر حيث كانت ماريانا تقف مكانها تختار ما سترتديه للخروج ومقابلة صديقتها ليكسي..

حينها وقع بصرها على الصناديق الموضوعة على الأرض بعيدا، كانت بجانب بعضها البعض لذا إنحنت لها هيتايرا وجلست القرفصاء لتفتحها واحدة تلو الأخرى، وكلما رفعت غطاء واحد منها قابلتها الكتب والموسوعات والصور الخاصة بالحشرات والزهور والكثير من الحيوانات ءات الأشكال الغريبة، كانت كلها تحتوي على ما يخص عالمة أحياء..

رفعت غطاء آخر وقابلتها أدوات عديدة، بعض الأقلام، أواني زجاجية مخبرية ومجهر، والكثير من القصاصات الورقية الخاصة بالملاحظات، وما جعل هيتايرا ترفع حاجبيها باستغراب هو أن جميعها مستعملة، أي أن كل ورقة قد كتبت عليها ملاحظة تخص أعمالها لكنها لم ترمى بل جمعوها كلها هنا وكأن صاحبها سيعود يوما ما كان غريبا هو حتى وإن كان سيعود لما قد يحتفظوا بشيء كهذا؟..

إلا إذا كان هذا شخصا مهووسا بتفاصيل إبنته.

أغلقت آخر غطاء سترت به أغلفة الكتب الجلدية وكانت ستنهض لولا أن صندوقا في الزاوية بعيدا عنهم قد لفت إنتباهها، إنحنت أكثر تحاول سحبه لكنه بدى أثقل من سابقيه، أبعدت كل العراقيل أمامها ورفعت غطائه وحينها فقط إتسعت إبتسامتها لما رأته أخيرا، الكثير من الأسلحة وعندما يقال الكثير فكان العدد لم يكن متوقعا على الإطلاق، أسلحة بيضاء، خناجر وسكاكين لم ترى يوما مثيلتها، بزخارف وأشكال تبدو ملكية وبتفاصيل وتصاميم لا تشبه بعضها البعض..

كان بعضها قابل للطي والبعض الآخر بوجهان، بعضها حاد على الجهتين والآخر مسنن من جهة، كانت متنوعة لدرجة أنها لم تتخيل أن يأتي يوم وترى فيه حتى الأسلحة تلك الخاصة بالنينجا فكانت الشوريكن هي أول ما لمحتها بينهم، تلك النجوم المقذوفة ذات لون أسود وشفرات حادة.

لذا ولأنها إبتلعت ريقها فجأة من رهبة الموقف وشعورها بالأدرينالين يتدفق داخل شرايينها سارعت بحمل تلك الأفعى الذهبية الملتفة حول نفسها كدائرة، رفعتها تقلبها بين يديها كي تفهم نوع السلاح المخبأ بها لكونها الشيء الوحيد الذي يبدو مموهًا كقطعة مجوهرات راقية مرصعة بالأحجار الملونة.

وبحركة لم تكن تتوقعها سحبت رأسها ليظهر خلفه خنجر بجانبين حادين عكسا لون عينيها كمرآة، حينها أعادتها كما كانت ونظرت إلى هيئتها وكيف كان حجمها أكبر من أن يكون عقدا على الرقبة بل ودون تفكير كثير علمت أنها تلبس حول الساق لشكلها المميز هذا.

لكن وقبل حتى أن تفكر في فعل ذلك شعرت بوجود أحد في الداخل، شعرت وكأن حواسها أيضا بدأت تتغير لتصبح كحواس قاتل هنا..

كأنها وبنية الإندماج بينهم كسمكة ريمورا خرجت لها أنياب قرش.

وضعت الأفعى جانبا وخرجت ببطء تتفحص المكان الذي تركته فارغا وهي تبحث عن سلاح فعال، وأول ما قابلها كان جسده يقف بشموخ وحالة لا تناسب أحد غيره هنا..

متكئا بكتفه على باب شرفتها المفتوحة يقابلها تماما، يديه داخل جيوبه ونظراته داخل روحها، يحدق بها بطريقة جعلت أوصالها تختلج..

ولأنها لا تكاد تنفك تنسى ما ترتديه في حضوره كل مرة أنزلت عينيها إلى فستانها بعفوية ليفعل هو المثل ينظر معها إلى ما إلتف حولها، بداية من صدرها البارز البارز فوق إلى خصرها الظاهر بفراشاته كون الفستان كان مفتوحا من تلك الجهة، إلى ساقها العارية في الجهة الأخرى..

إلى كعبها العالي في الأسفل ثم إلى عينيها المتعلقتان به في الأعلى، ببطء شديد مميلا رأسه بخفة عبَر على كل إنحناء فيها ليصل إلى شعرها في نهاية المحطة ويعتدل مجددا بنفس الهدوء..

بينما هيتايرا في تلك الأثناء لم تستطع مقاومة الحرارة المفاجئة التي تسللت إليها فكان أول رد فعل لها أنها عبست في وجهه، تغيرت ملامحها وقطبت حاجبيها للرجل الذي تركتها مع الكثير من الأسئلة والغضب سابقا.

من خرج صوته هادئا كعادته محمول صوبها مع عطره الثقيل الذي نقله الهواء البارد خلفه من الشرفة رفقة ندفات الثلج المتساقطة في الخارج لتستوعب أن ذلك كان السقوط الأول له..

"غير مسموح لكِ بالتجول بملابس كهذه"

"أ لن تتوقف عن فعل هذا؟"

وعوض أن ترد على كا قاله بشأن ملابسها سألته وعلم على الفور ما تقصده بقولها هذا.

"فعل ماذا؟ رؤيتك شبه عارية دائما؟"

أما هو ولأن لعبة المراوغة كانت اللعبة المفضلة لديه سألها بسخرية ظاهرة في نبرة صوته، كانت تقصد تسلله الدائم لغرفتها، بينما هو لا زال موضوع فستانها يثير استفزازه.

"أتدري؟ إفعل ما تشاء أنا لن أتناقش معك الآن"

نبست بكلماتها وعبرت للمرآة تحمل من تحتها صندوقا كي تغير كعبها العالي، لتكمل تحت نظراته التي تتبعت حركاتها تلك بكل ثبات وبنفس الوضعية.

"يخيل لي أحيانا بأنني أتوهم وجودك، لذا سأتجاهلك وكأنك سراب الآن"

"لن تكون عيني عليكِ طوال الوقت لذا لن تحتكي بأحد هنا، إذا إحتجت لأي شيء أطلبيه من إينزو، إنه في الخارج سيرشدكِ لمكان القاعة "

"أحتاج لعدم التواجد معك في مكان واحد، هل يوجد خيار كهذا في الوقت الراهن؟"

قالتها وتوقفت وسط الغرفة أمامه مباشرة، تحمل الحذاء وتمسك طرف الفستان بيد أخرى مبرزة فخذها كاملا غير مهتمة لنظراته صوبها، ذلك الذي تحركت أعينه للأسفل قليلا حيث الوشم الظاهر ونظرت هي لحركة بؤبؤيه كيف إنزلقا هناك وأعاد رفعهما لعينيها، ليتحدث فور إلتقائهما مجددا بلغته التي لم يخاطبها بغيرها منذ أن وطأت قدمه إيطاليا.

" لا يمكنكِ إرتداء هذا الفستان، تعري".

توازيا مع جلوسها على المقعد المخملي أسفل السرير وضعت ساقا فوق الأخرى كي تغير الحذاء،حينها سقط الفستان أكثر وبرزت بشرتها كلها، أمالت رأسها تنظر إلى الكعب العالي لينساب شعرها القصير من الجانب جاعلة من عقل أغوستينو ينساب معه كلما تحرك.

" تحدث معي بإحترام، لا تلقي علي أوامرك وكأنني أحد خدمك"

"لقد أسأتي فهمي هذا لم يكن أمرا، إذا لم تغيريه الآن سأقوم أنا بذلك"

وعند تلك النبرة الخافتة رفعت رأسها له تنظر إلى جديته، ملامح فارغة ونظرات ثابتة صوبها وكأنه يخبرها بأنه مستعد لفعل ذلك بكل بساطة، حينها ولأن بعض المواقف بينهما كفيلة لتجعلها تدرك ما باِستطاعته فعله وقفت ترمي الحذاء جانبا تهسهس بألفاظ لن تتجرأ على قولها في وجهه.

"من أنت؟ من تخال نفسك حتى تتحكم فيّ بعد كل ما قلته البارحة!؟ جديا أ ليس من المنطق أن أفعل ما أشاء الآن؟ حتى وإن كنت أسيرة هنا ما الذي سيتغير إن إرتديت هذا أم غيره؟ ما شأنك؟"

مع كل كلمة كانت تقترب منه أكثر، مع كل عبارة غيظ تقدمت خطوة إلى أن وقفت أمامه مباشرة، لا تفضلهما سوى خطوة واحدة كانت سببا في رفعها لرأسها كي تنظر داخل عينيه، بثقة وشموخ لم تواجهه به يوما..

أعينها الغاضبة تعلقت بخاصته الساكنة عليها من ذلك القرب، إنسدلت رموشه نحو الأسفل أكثر وشعر بأنفاسها الساخنة تلفحه ليرمش بكل هدوء قائلا.

"أنا من يقرر كل ما يحصل في هذا المكان..

يجب أن تكوني على علم بأنني لا أتعامل مع هذه التصرفات باِستخفاف، خذي هذا كتحذير لكِ"

"وإلا ماذا؟"

"لن يعجبكِ ما سأقوله"

زفرت هواء صدرها بسخط وأغمضت عينيها تحاول التحكم في غضبها كي لا تتمادى معه أكثر، تنفست ونظرت إلى تلك الأعين الخامدة لثوانٍ تأملت كيف كان يحرك محجريه ببطء يتبع حركة شفاهها، وفكرت لما قد تصمت ولما قد يتحكم بها رفم كل ما قاله؟ وحينها فقط إحتدت نظراتها وقالت أسوء ما قد يقوله شخص ما في موقف كهذا.

"تتحدث بثقة وتتدخل فيما أرتديه وكأنك نسيت من أنا سيد ميندوزا، كنت زوجة أخاك أتعرف ما معنى هذا؟ " إقتربت قليلا منه تضغط على كل حرف خرج منها بضغينة وكره بادٍ على ملامحها تحاول استفزازه بأي طريقة ممكنة لتنتقم لنفسها ولمشاعرها المنسكبة هناك على الأرض من البارحة، لكنه استمع لها دون أن يقاطعها، بهدوء مريب زاد من إنقباض قلبها أكثر.

"هل الفستان يهمك حقا؟ من يدري ما الذي حدث بيني وبين دومينيك؟ فلتفكر في هذا..ربما.."

توقفت عند تلك الكلمة عندما لاحظت إنسدال رموشه واسوداد نظراتها لدرجة أنها في ثانية ما أرادت الإبتعاد، الانسحاب وعدم اتمام جملتها، إلا أن الحب كان وليد الظلام فأظلمت عيناها كخاصته عندما تذكرت آخر كلماته وكيف صدها عنه بتلك الطريقة.

"..كان زواج مصلحة والجميع على علم بهذا..لكن من يعلم ما قد يحدث في لحظة ضعف.."

وهنا فقط تنهد بهدوء، نفس ساخن حرق به وجهها دون أن ينبس بكلمة بل برز فكه دليلا على ضغط أسنانه في محاولة للتحكم بأعصابه، كان يعرف أكثر من اسمه أن علاقاتهم كانت عبارة عن صفقة عمل، زواجهم كان سطحيا وشكلي لا مشاعر خلفه بل ومتأكد من أنها لم تتشارك معه المكان ذاته كونها تضع الصاعق بجانب وسادتها ليلا، كان يعرف كل شيء..

في حين هي تعمدت أن ترش بعضا من الزيت على الماء وأكملت ما بدأته لآخر حرف، عندما استدارت برأسها ناحية السرير قائلة.

"كنا ننام على سرير واحد، من يضمن أننا لم نتمادى" نظرت داخل سوداويتيه بتحدٍ تبذل جهدا في التحكم بأنفاسها وغضبها العارم عكسه من همدت أعينه أكثر ليلفظ كلمات شعرت بها تتسرب إلى قلبها من شدة الحِدة والثقل، من شدة الهدوء الذي لا تنفك ترتعب منه أكثر من قبل.

"كلمة أخرى واحدة، و سأكسر بنا هذا السرير خلفكِ"

تبادلا النظرات في صمت، لبرهة من الوقت ظلت أمامه تنظر إلى الفراغ الذي غزى نظراته، ظلت تسمع تردد تلك الكلمات داخل عقلها، صداها كان كلما تكرر جعلها تصاب بقشعريرة غريبة على طول عمودها الفقري، ربما كان البرد المنبعث من خلفه بسبب باب الشرفة المفتوح، ربما لأنها تقف حافية القدمين أو ربما كانت نبرته تلك من جعلتها ترتجف..

لذا وقبل أن تنقضي دقيقة واحدة على حالهما وكي يتجنب قول أكثر من هذا ويكسر قلبها بدل السرير، إعتدل في وقفته بنفس الهيئة واضعا يديه داخل جيوبه يضغط على قبضته بقوة، ألقى نظراته الأخيرة عليها ثم إلتفت ليغادر..

لكن وما ان تخطى كتفها همست له بنبرة نقيضة سابقتها.

"قلت لي إن إنقطعت السبل إبحثي عن ظلي...لازلت أبحث عنه..

لكن يبدو أنك قررت الوقوف في الظلام"

إلتفت إليها ينظر لها فوق كتفه بنفس الثبات لكن هذه المرة لمحت داخل عينيه بريقا غريبا، بينما هي نظراتها تغيرت لأخرى عندما تذكرت تلك الليلة التي أخبرها أن تبحث عن ظله إذا لم تبصر جسده يوما، أخبرها ألا تستسلم لكنه لم يخبرها أنه سيقف داخل جانب أسود ومظلم حيث سيختفي الجسد ويندثر الظل.

همس لها هو الآخر دون أن يغير من وضعيته.

" هذا ما أنا عليه، هذه حقيقتي التي أخفيتها عنكِ منذ أول ليلة"

"ليست حقيقتك، هذا ما تود أنت أن تكونه، لا أحد منا يولد وحشا..

لكن هنا..
هنا يصنعون الوحوش".

دقتان على الباب جعلتها ترمش صوب وجهه، ليأذن هو بالشخص الواقف خلفه بالدخول دون أن يبعد عينيه عنها، فُتح الباب وإلتفت له أغوستينو ليقابله إينزو الذي أومأ بإحترام ووقف يضع يديه أمامه قائلا.

"سيدي، عذرا على المقاطعة لكن الأمر طارئ"

" تحدث"

رفع إينزو عينيه له ثم إلى ظهر هيتايرا تلك التي رفعت يدها تنفض شعرها للجانب تهدئ من أعصابها، تلك النظرات الخاصة به كانت بسبب ما سيقوله أمامها، لكن أغوستينو أردف له مجددا.

"تحدث إينزو"

" لقد دخل كل من مانويل، كاثرين ولوسيا إلى روما..قبل سبعة عشر دقيقة"

لحظتها إلتفتت لإينزو الذي نظر إليها ثم إلى أغوستينو وكأنه كان يتوقع ردة الفعل هذه لهذا فضل عدم الحديث أمامها قبل قليل، تفحصت وجه المتحدث ثم نظرت إلى الآخر بجانبها وأدركت أن ما قيل أمامها الآن كان حقيقيا، حينها فقط رفعت يديها تحجب وجهها تغمغم مستنجدة الرب.

"لا يعقل هذا، كل ما كان ينقصني"

نظر أغوستينو بكل هدوء وهو يفكر، ثم وجه عينيه للآخر الذي فور إلتقاء أنظارهما تحدث.

"سيدي، ما أوامرك؟"

"غادر، سنتحدث حول هذا لاحقا"

إختفى بعد ثوانٍ وأغلق الباب خلفه ليترك من زار بريق عينيها عندما تذكرت أختها فجأة، وقد لمح هو ذلك اللمعان لكنه تجاهل كل شيء واتجه أيضا للباب كي يغادر قبل أن تخاطبه ليتوقف.

"إفعل شيئا ما..يبدو أن مانويل قد وجد مكاني لا يمكن أن تكون هذه مجرد مصادفة..كاث..كاثرين حامل في الشهر الأخير و لا أدري ما تفعله تلك اللعينة هنا في وقت كهذا"

" لقد أتت من أجله"

نظر للجانب بينما يوليها ظهره عندما لفظ تلك الكلمات التي بدت لها غريبة لم تفهم منها أي شيء.

"من أجله؟"

"إنها حامل من آرون، لقد أتت من أجل الرجل النائم في الداخل"

وهنا فحسب تذكرت اليوم الذي لمح لها بأنه على علم بالشخص الذي كانت أختها حاملا منه، تذكرت أن أغوستينو كان يعرف الرجل الذي قضت معه كاثرين تلك الليلة في الفندق كونه كان يراقبه وظنت هي أن الرجل ليس إلا عدو أو رجل عصابات مثله، أدركت أن المُراقَب من قِبل أغوستينو كان آرون.

لسبب تجهله كان الخبر عاديا يكاد يسجل في الخانة الأخبار المتوقعة، وكأنها قد تخدرت كل حواسها لدرجة عدم الشعور بالصدمة ناحية تلك العائلة وأفعالها، شعورها بالخيانة تجاههم جعلها لا تفكر في أحد منهم سواها الآن، فقط في طريقة لتخرج من كل هذا غير مهتمة لما يفعله كل أفراد كاستيلو، لأول مرة تركت العائلة جانبا وأرادت أن تنبش قليلا حول حقيقتها وما تكونه..

لذا وعندما لاحظت تحركه مجددا صوب الباب ودون أن تدرك هذا سألته ليتصلب ظهره على ما صافح سمعه.

"ألهذا السبب حاولت أمي قتله؟"

ضحكة ساخرة خافتة خرجت من بين شفتيه دون أن يستدير ليراها، حرك رأسه بقلة حيلة والكثير من الإعجاب، أجل كان غريبا لدرجة إعجابه الآن بطريقة حديثها وكأنها سعيدة بكونهما أعداءً، وكأنها غير مهتمة بالأمر بل تريد معرفته بدافع الفضول، لكن الأكثر غرابة هو توقعه معرفتها بذلك..

لم يستغرب بل وقع الكلمة على مسامعه ما جعله يصاب بذلك الجمود لا غير، قولها لها ومعرفتها المسبقة بها لم تشكل له عائقا وكأنه كان يعلم بالفعل.


"ها قد أصبحت تعلمين إذن لما قد تحاول والدتكِ قتله"

"بما أنك أعطتني سرًا سأعطيك سرا أنا أيضا"

كلمات لا تناسبها، لا تشبهها ولم يعهد يوما طريقتها هذه في الحديث، ما راق له أكثر ليلتفت لها بطيف إبتسامة قد زين وجهه ينتظر سرها هذا مستمتعا بتغيرها وتشكلها السريع على شكله، لتصبح هيتايرا القوية بالكثير من الجرأة، أما سره فكان علاقة آرون بشقيقتها بينما سرها إقتربت منه وهمست له به.

"فلتسأل جدك لما قد يناديني ألكساندرا، إسأله كيف يعرف الاِسم الذي كانت ستعطيني إياه أمي عند ولادتي ثم غيرته لهيتايرا!!"

بينما كانت تتحدث كان هو غارق في الكثير من التفاصيل الخاصة برونيا، في البداية اكتشف أن أصولها إيطالية، ثم أنها فرد سابق من ثلاث أشخاص قد فتحوا الياقات البيضاء في الماضي، المشتبه به الأول في محاولة قتل شقيقه وطريقة قتلها لأحد رجاله بدم بارد داخل قصرها دون خوف، أما الآن اكتشف أن جده يخفي أمرا وقد قرر بالفعل أن يضعه على طاولة التحقيق هذه الليلة.

لذا إبتسم بخفة يومئ لها كأنه يخبرها بغنهما متعادلان الآن، نظر داخل عينيها، عيني من أصبحت تعرف حقائقا واتخذت صفها بالفعل، عدوته التي استمتعت وهي تلفظ كل كلمة.

" رفض والدتي لعلاقة آرون وكاث لدرجة محاولتها قتله -وأشك أنها ستفعل هذا- ..

هذا يعني أنها لم ترفض كأي أم عادية، هذا يعني أن الأمر أعمق..

وبدأ يروقني الأمر"

"لا تسعدي بما يحدث، يكون عمقها بعمق الطعنة"

"إنني أنزف بالفعل"

رمشت وهي تقولها داخل عينيه يتأمل عسليتيها ويتكرر معه ذلك الشعور الغير محبب، ذلك النبض والألم الذي لا يود أن يعيشه معها في كل مرة، كان يكره حقيقة أنها تجعله يرغب بها، يرغب بعناقها وتقبيلها الآن..

لذا فتح الباب خلفه لتردف تذكره بشقيقتها.

"مهما حدث لا تدخل كاثرين في كل هذا، تلك الغبية لا تعرف بعد في أي لعنة ستتورط"

خرج وأغلق الباب خلفه، نظر إلى الممر الفارغ صوبه وإبتسم عندما تذكرها، ليهمس لنفسه قبل أن يتوجه لغرفته.

" لهذا تعجبني"

________

الشر ليس شخصا ولا شيئا حيا، إنه ذلك الصوت الموجود في مؤخرة رأسك، يطلب منك، يقترح عليك، يطالبك، ويتوسل إليك أن تفعل ما يطلب منك أن تفعله..

أولاً، يبدأ الأمر على شكل همسة خفيفة ثم يطول شيئا فشيئا ليس لأنه يشعر بعدم تفاعلك فيُصر على عدم الاستسلام، بل لأنك بدأت في الاستماع إليه زاد من وتيرة وشوشاته، وبمرور الوقت تبدأ في الموافقة على كلماته دون أن تدرك ذلك.

فكان الشر عبارة عن هالة سوداء كثيفة، دخان قاتم ملتف خلف أعناق جميع من وقفوا هنا..

بفساتين فخمة وبذلات مصممة خصيصا تحت أيادي أشهر الإيطاليين، بهيئة النبلاء و وقوف القياصرة، وكؤوس نبيذ ذات أعناق عالية.

وبدخان أسود خلف عنق كل واحد منهم، دخان يقترب ويهمس داخل آذانهم حول مخططات إجرامية تنتهي بمجازر، بينما إبتساماتهم الخافتة لا تغادرو وجووهم مطلقا.

كانت القاعة الفسيحة في الأسفل تحمل ذلك القدر من الشر أكثر من أي وقت مضى، في أحد الأروقة الكبيرة بالنوافذ الملامسة للسقف، بأضواء فاقت الألف موزعة على طول الممرات والقاعة بثرياتها المتدلية..

بالطاولات التي جمعت أعتى وأكبر عائلات الإجرام في إيطاليا، بأجسادهم المتفرقة ولمعان الأرضية كلمعان دبابيس النجوم السوداء على ياقات بذلاتهم، كان المنظر في الأخير عبارة عن لوحة فنية لحفل رسمها فنان داخل البلاط الملكي.

كان مشهدا بجمال مرعب، ذلك الذي تنبهر به وترتجف قبله.

بعيدا عن الحاضرين من كافة الأماكن الكبرى في البلاد، كان النجوم يقفون متجمعين في كل زاوية، بكؤوسهم وهيئتهم التي لا تشوبها شائبة..

أجساد لا تشبه بعضها البعض وملامح مختلطة تُظهر أن صاحب المكان قد أخذ بذرة من كل بلد ليزرعها داخل قلعته، شقار روسي وأعين رمادية صربية، إمرأة سمراء من كوبا وأخرى بلون بشرة أكثر شحوبا من البرازيل، كانوا ملتفين حول الطاولات في كل صوب مهيئين مترقبين لما يحدث من حولهم.

لذا وبعيدا عن الإكتضاض الخانق، عن الطاولات الكبرى التي إحتوت على كؤوس مملوئة مرصوفة كهرم عالٍ بلونه الذهبي، بعيدا عن العطور الإيطالية الثقيلة وعن لفافات التبغ المضاء آخرها، عن الأسلحة الموضوعة قرب مدخل الباب بعد أن جُرد كل ضيف من سلاحه قبل أن تطأ قدمه القاعة، وعن الحراسة المشددة وأولئك الواقفين كعمالقة تحرس الأبواب..

فوق أين وضعت هيتايرا قدمها على أول درجات السلالم مستعدة للنزول، رافعة فستانها الطويل بيديها وشقت طريقها من آخر طابق إلى الأسفل حيث كان إينزو دليلها يسير أمامها مباشرة..

وصلت للطابق الثاني وقبل أن تتوجه خلفه للسلالم الأخرى المؤدية لآخر محطة توقفت ليتوقف بدوره عندما شعر بإختفاء صوت كعبها..

نظرت إلى الغرفة الموازية لها أين خرج الممرض يأخذ زجاجة مياه وأسطوانة أخرى لآلة الفونوغراف، سيمفونية بحيرة البجع التي أمرهم أغوستينو بتشغيلها ليلا عكس الأخرى..

نظرت هيتايرا للمشهد أمامها وعبرت متجنبة إينزو محاذاتها، الذي ما ان فتح فمه كي يتحدث مشيرا بيده للسلالم في الإتجاه الآخر بسطت له كفها على وجهه كي يخرس..

تخطته دون أن تنظر إليه حتى كون أعينها قد عُلقت بالباب صوبها، ليتنهد الآخر ويتبعها ليقفا خارجا، نظرت إليه وأمرته بأن ينتظرها في الخارج وبحركة سريعة لم تعطه مجالا للحديث أو الإعتراض فتحت الباب ودخلت تتوارى عن الأنظار.

دخلت وأول ما قابلها كان الممرض الذي إلتفت لها مستغربا بينما يده وضعت بتلقائية الإبرة فوق الأسطوانة لتشغيلها، نظرت إليه ثم إلى آرون النائم بجواره على السرير بنفس الحالة التي رأته بها آخر مرة عند دخوله إلى القلعة.

"إنتظر في الخارج"

"آنستي، هذا مخالف لأوامر السيد أغوسـ.."

"غادر قبل أن تُضم لقائمة ضحاياه، لقد خالفت أوامره بالحديث معي"

تغيرت نظرته وإبتلع ريقه بخوف وهو يرى كيف بدلت نظراتها الفارغة منه إلى آرون، وضع ما بيده وغادر يتركهما لوحدهما.

تقدمت تتأمل حالته تلك، صوت السيمفونية قد مزج مع صوت الآلات والشاشة بألوان أرقامها بجانبه، إلتفتت للجهة الأخرى وهي تفكر فيما إذا كانت حقا والدتها سببا في هذا، شعرت بغصة ورغبة عارمة في الصراخ لإفراغ غضبها، شعرت برغبة في الحديث معه حول علاقة بكاثرين واذا كان حقا يحبها أم أنها مجرد ليلة عابرة وقلب شقيقتها قد كُسر منذ زمن، فكرت في لو أن الأخيرة لازالت تحبه في مشاعرها وكمية الوجع الذي ستشعر به عند رؤيتها إياه بهذه الحالة..

تأملته وتضاربت كل أفكارها لدرجة أنها تنهدت وخرج ذلك بصوت مكبوت داخل صدرها لأيام، نظرت إلى عينيه ورموشه المنسدلة وإبتسمت عندما تذكرت دحرجته لبؤبؤيه كلما لمحها داخل القصر، استرجعت تلك اللحظات عندما كان يتعمد استفزازها وكيف تحدثت روزاليا حول علاقتهما أنها أشبه بالصداقة، كونه لم يحصل يوما على أصدقاء..

تنفست بغصة أحست بها تتضخم في حلقها وهي تتسائل عن السبب، أحقا تشعر بالشفقة عليه الآن؟ أم أنه حزن لعدم استيقاظه وممارسة أساليبه الحقيرة في اغضابها؟ أكان ذلك بسبب إحتمالية تورد والدتها بالأمر أم لأن كل شيء تضارب وأصبحت تجهل ما ستتنهد بعمق بسببه وتبكي عليه.

لذا نفضت أفكارها ورفعت يدها تدفن طرف الغطاء في الجانب تغطيه جيدا، وضعت يدها على ذراعه وهمست له.

"يجب أن تستيقظ بسرعة، أنا أنتظر ذلك بفارغ الصبر..كي ألكمك وسط وجهك أيها القبيح"

قالتها مستعينة ببعض من كلمات مانويل وإلتفتت لتغادر، لكن وبمجرد أن أمالت رأسها وقع بصرها على البطاقة الموضوعة فوق المنضدة بجانبه..

وبكل تلقائية رفعتها تنظر إليها بعدم إكتراث وكأنها ستلقي نظرة خاطفة ثم تعيدها إلى مكانها، لكنها تجمدت وأعادت رفعها بطريقة جيدة كي يتسنى لها رؤية ما قابلها، صورته وتاريخ ميلاده واسمه..

ديو لانواريوس ميندوزا.

حدقت بالاسم مطولا ثم إلى الصورة كي تتأكد أن ما تراه حقيقة وأنه حقا صاحب البطاقة..

"لقد كان أنت " ضحكت بسعادة، سعادة وصلت لعينيها ليلمعا وكأنها وجدت ما كانت تبحث عليه لسنوات.

"أجل..بالطبع كان أنت..إنها نفس الأعين الخضراء والنظرات الحادة..

لقد كنت بجانبي طوال هذا الوقت، تتجول بنفس نظراتك ولم أنتبه لذلك..كيف لم أفعل!! "

توازيا مع قولها هذا رفعت يدها بنفس الإبتسامة تلمس تلك الندبة الصغيرة فوق حاجبها، ندبة ستينيل التي رافقتها طيلة طفولتها..

نظرت للبطاقة مجددا وهذه المرة قد إنزلقت تلك الغصة لقلبها، قرأت سنة ميلاده وأن سنه الآن قد وصل للسابع والثلاثين، ولا تدري لما أول خطر على عقلها هو فان غوخ الذي غادر الحياة في نفس السن بطلق ناري هو الآخر..

نظرت بحزن له تحاول ألا تمسح إبتسامتها كاملا، تحاول قدر الإمكان استرجاع ذكريات طفولتها مع صاحب السابع والثلاثين عاما، صاحب السن المشؤوم، مدت يدها تمسح على ذراعه برفق وهمست له بخفوت.

"لقد كنت أبحث عنك كل صيف يا صديقي"

Flashback

"..إلهي هذا يؤلم..سحقا أ كانت هذه أفعى؟"

بين الصخور العالية خرج صوت طفولي يتذمر بنبرة يكاد صاحبه ينفجر من البكاء، خوف وألم والكثير من تمثيل القوة وإدعاء أن كل شيء تحت السيطرة..

كانت تلك هيتايرا التي وقعت بين الصخور وعلقت، في الحقيقة كانت قد خرجت أخيرا لكنها لم تشعر بحجم الألم إلا عندما صفعها الهواء البارد ومياه الأمواج العالية، حينها فقط أدركت أنها تنزف ويبدو أن الجرح عميق ولن يتوقف كونها وضعت يدها تتحسس المكان لتجد أن جانب الصخرة الحاد قد شق حاجبها من فوق..

"هل من أحد هنا!! هنالك فتاة عالقة هنا"

اهتاجت الأمواج مجددا وصفعت الصخور لتتطاير المياه عاليا وتبللها، وكانت سببا آخر لتصرخ مجددا بألم ونبرة بكاء توبخ البحر.

" تبا..لما تفعل بي هذا أنت أيضا؟؟! ظننتك صديقي..مياه غبية..بحر منافق"

وضعت يدها تحاول الخروج لكن الصخور المبللة كانت ناعمة للحد الذي يجعلها غير قابلة للتسلق، ظلت بينها تصرخ وتتألم وتمسح الدماء كي لا تغطي جانب عينها وتمنع عنها الرؤية، بخوف وبرد ظنت أن لا أحد يسمعها..

لكن..

جسد ذلك الطفل في الجهة المقابلة لها، كان يقف ينتظر أن تلمحه كونه لا يتحدث، يقف مطلا برأسه عليها بهيئة مراهق في مرحلة البلوغ، بشعر أشقر داكن وأعين خضراء حادة نظر إليها كيف أبعدت غرتها التي إلتصقت بجبينها بسبب الدماء ورفعت رأسها فجأة بملامح متألمة ليقع أخيرا نظرها عليه..

"لقد أفزعتني، لما لم تتحدث، أ لا ترى أني عالقة هنا! ساعدني.."

رفع لها حاجبه وإلتفت ليختفي فظنت أن أسلوبها ولغتها الحادة هي السبب، كانت صغيرة ضئيلة الحجم لكن ما تأكد منه أن لسانها سليط.

"..حسنا عد أرجوك.. أنا آسفة..وخائفة..لا تتركني هنا وحدي ..هنالك شيء في الأسفل أشعر به يتحرك"

أطل برأسه مجددا لكن هذه المرة رمى لها قميصه، أجل ذلك الجاف الذي بدى وكأنه غير مهتم لم يكن سيغادر بل كان ينزع قميصه ليجعله متدليا لجهتها كي تتمسك به ويسحبها إليه.

تمسكت بطرفه بعد أن مسحت الدماء المنسابة فوق عينها، أحكمت عليه وسحبها نحوه ببطء إلى أن وصلت لجهته، أمسك يدها وقربها منه لتقفز متشبثة به خوفا من السقوط.

وقفت بصدر يعلو وينخفض وأنفاس مسلوبة، بوجه شاحب وخط دماء عبر على طول فكها، عدلت بنطالها الصيفي القصير وقميصها الذي تمزقت ياقته، نظرت إلى السماء خلفه التي غطتها الغيوم وبدى الجو بالتغير ليحجب الشمس في الأفق، تفحصت حالتها تلك ثم رفعت رأسها إليه بذقن يرتجف كونها بدأ الألم يعود مجددا لترفع يدها تحاول الضغط على الثقب الذي لا زال يسرب الدماء بغزارة.

كانت تظن أنه سيغادر، بنظراته تلك التي لا تحمل داخلها أية مشاعر، بصمته المريب كانت تظن أنه سيساعدها ويغادر لكنه فاجأها لترتجف كرد فعل عندما إلتفت وجلس القرفصاء واضعا يده على ظهره يربت عليها كإشارة لتصعد عليه.

نظرت إلى ظهره ثم إلى المكان هنا وهناك، ثم إليه مجددا ليستدير إليها واضعا يده مشيرا برأسه كي تصعد، ولم تأخذ وقتا طويلا لتستوعب أن الدماء بدأت تغطي عينها ويجب عليها الاستسلام، لذا صعدت تلف يديها على عنقه ليرفع سيقانها وينهض ممسكا إياها بقوة.

"سيقتلني مانويل على هذا، لكن حياتي على المحك"

قالتها وتشبثت به أكثر واضعة رأسها على الجانب في تجويف عنقه، عبر بها الصخور واحدة تلو الأخرى يحفظ الأماكن كلها كونه معتاد على التسلل هنا منذ صغره، يعرف أين يضع قدميه إنتشلها من بينهم ليسير بها على طول الشاطئ الفارغ..

كان هنا رفقة عائلته مثل كل عام، عند عائلة روسادو ليقضوا العطلة الصيفية هنا، وعند مروره على المكان هنا بعد خروجه من مطعمهم عندما شعر بالملل سمع صوتها، تذمرها الطفولي وتأملها الذي كافحت لطمسه كي تبقى قوية، في البداية لم يكن مهتما بالأمر تركها تتخبط لتجد طريقة وتخرج لكن شيء ما فيه، شيء داخلي في أعماقه كان يدفعه لمساعدتها.

بالتالي إنتهى الحال بآرون الذي لا يتعامل مع أي بشر ولا يتحدث معهم منذ رحيل والدته يحمل فتاة غريبة لا يعرف عنها شيئا، أو ربما أصبح يعرف الآن كونها لم تتوقف عن الحديث.

"ما اسمك؟ تبدو كأولئك الفتيان الذين يتجولون لسرقة السياح، لكن أنبك ضميرك وقمت بإنقاذي..مهلا..مهلا لحظة ربما تخطط لسرقتي بعد أن تظهر لي جانبك الطيب..أتظن أنني غبية لا أعرف حيلكم هذه؟ إن عمي يخبرني الكثير.."

قلب آرون عينيه بضجر وكانت تلك المرة الأولى التي يفعل فيها شيئا كهذا، معها وحدها منذ الصغر كانت تلك حركته المعتادة، لتتواصل ثرثرتها قرب أذنه تماما كونها ملتصقة بجانب وجهه.

"ما الذي كنت تفعله في مكان كهذا في وقت الغروب، أ رأيت ؟؟ لأنك سارق لعين" حاول زم شفتيه كي لا يبتسم كونه أراد قول نفس الأمر لها وعن سبب تواجد فتاة صغيرة بين الصخور بعيدا عن البلدة.

"لدي أقراط من الألماس، يمكنك أخذهم"

تنهد بتعب بعدما تأكد أنها لن تتوقف عن هذا حتى وهي فوق ظهره ذاهبان لأقرب مكان بنية معالجتها، لكنها لا زالت مصرة على أنه سارق رغم أن مظهره لا يوحي بهذا، بينما رفعها قليلا خلف ظهره وهو يمر بها داخل الأزقة الضيقة تحت الصخرة الكبرى التي غطت أسقف بيوت أهالي ستينيل، أردفت هي بنبرة مغايرة.

"هل أنت أبكم؟؟ أعرف بعضا من لغة الإشارة..علمتني أمي"

ظل هادئا يسير بها بثبات وكأنها بوزن ريشة، في حين وضعت رأسها بخمول على كتفه لتنساب بعض قطرات الدماء على قميصه ملطخة إياه، صمتت لبرهة وظن أنها نائمة أو فاقدة لوعيها إلا عندما همست قرب أذنه.

"أجيد الفنون القتالية..أقول هذا تحسبا اذا فكرت بخطفي..لن أشفق عليك وأقول أنه لا يتكلم..سأبرحك ضربا"

تحرك صدره على اثر خروج ضحكة خافتة سرعان ما إختفت عندما إلتفت ووصل إلى أقرب مكان ليسارع بتضميد الجرح قبل أن تخسر دماء أكثر، ولأنها شعرت هي بخطواتها التي بدأت تتباطئ رفعت رأسها تنظر أمامهما، وحينها فقط صرخت قرب أذنه جاعلة منه يميل برأسه للجانب بإبتسامة مكر إتسعت أكثر على ردة فعلها تلك.

" ماذا!؟ إلى أين تأخذني؟؟ لن أدخل إلى هناك..سحقا ضعني أرضا الآن.. هل أنا همستر؟؟

لا أريد الدخول لبيطري..

سيتنمر مانويل علي طوال حياته"

كل تلك اللكمات خلف ظهره، كل ذلك الصراخ لم يجدي نفعا لأن آرون دخل واضعا قدمه داخل عيادة بيطري عبارة أيضا عن جانب كمتجر لبيع الحيوانات ومستلزماتها، دخل بها يشدها له أكثر كي لا تهرب كونها الطريقة الوحيدة لتضميد الجرح بأسرع وقت، لأن المستشفى كان على بعد عشرون دقيقة من مكانها هذا، ولأنه يحفظ كل أماكن البلدة هذا هو الحل الذي رآه مثاليا.

أمسكت رأسها بوهن بعد أن شعرت بآثار جانبية لارتطامها بالصخرة و وقوعها مما جعلها تتحرك وكأنها ستفقد الوعي.

كان البيطري يعرفه بحكم أنه يزور ستينيل كل صيف، قريب لوالدته ويعتبر صديقا لها بسبب حادثة قد حصلت هنا عندما أحضرت ماريانا جروا جريحا للمكان وقامت بعلاجه بنفسها، خبرتها في هذا المجال بسبب عائلتها التي مارست مهنة الطب، جعلتها تكون صداقات كثيرة هنا خاصة مع الذي تقدم من هيتايرا وآرون مستفسرا على ما حدث.

"أهلا بك مر وقت طويل أيها الوسيم، يمكنك أن تضعها أرضا"

قالها وهو يتفحص حاجب هيتايرا التي جلست على المقعد تنظر إلى آرون بجانبية تنتظر أن يتحدث.

"ليس جرحا غائرا، غرزة واحدة وسينتهي الأمر"

إبتسم لهيتايرا وإلتفت يرتدي قفازه الطبي ويجهز ما يحتاجه في خين هي وعند سماع كلمة غرزة إبتلعت ريقها وإمتلأت أعينها بمياه ساخنة، وضعت يديها فوق حجرها تفرك أصابعها بتوتر وأنفاسها متسارعة وكأنها ستدخل في نوبة ذعر..

لذا عندما لمح آرون حالتها تلك تأفف وإقترب ببطء ليقف بجانبها دون أن يظهر لها أنه قد وقف بجانبها بالفعل، حركة صغيرة لكنها حملت الكثير، كمن يخبرها أنه هنا بجوارها، كمن أراد أن يملأ الفراغ ولأنه ما ان استقام في تلك الزاوية رفعت يدها تمسك ذراعه بقوة تضغط عليها.

كانت قوية منذ الصغر، لا تُظهر ضعفها ولا خوفها تجاه الأشياء، التي تكبح بكائها في أسوء الحالات، من ستعتمد على نفسها دون الحاجة لأهلها في الأرجاء، لكن وجوده الآن قد غير الكثير،

أمسكت يده وأغمضت عينيها لتشعر بذلك الوخز عندما وضع الآخر معقما حول الجرح، ذلك الشعور اللاذع الذي كان يحرقها أرادت أن يختفي عندما صفعت يده بدمعة تسللت على طول خدها.

"إذا كنت لست أبكما حقا، قل شيئا، ما اسمك؟ "

ظل هادئا ساكنا بجوارها وكأنها لم تتكلم، في البداية إكتفى بالصمت لكن تلك الدمعة الأخرى التي سقطت فوق حجرها عندما غرز البيطري الإبرة، خرج صوته، لأول مرة منذ سنوات تحدث وكانت هي السبب في ذلك.

" لانواريوس..ديو لانواريوس"

ولسبب لم يعرف هو الآخر، لم يقل اسمه الثاني، الذي غيره والده خوان، ربما لأنه أراد أن يلفظ اسمه شخص غريب، أن يأخذ معه الاسم ويغادر إلى الأبد دون رجعة..

فتحت عينا واحدة تلك التي لم يغلقها الرجل ليخيط الحاجب فوقها، فتحتها ورمقته بنظرات سعادة عارمة كون شعورها كان حقيقيا وأنه يتحدث بالفعل، وإعجاب باسمه بادٍ عليها بوضوح، وهناك فقط عندما كررت الاسم بهمس استوعب آرون أنه بعد كل هذا الوقت قد تحدث.

"كيف حدث هذا؟"

سألها البيطري وهو يضع ضمادة فوق حاجبها كي يباشر في تنظيف الدماء الجافة على عنقها.

"كنت عند تلك المرتفعات وإنزلقت قدمي بسبب صخرة غبية زلقة"

"ما الذي تفعلينه بجانب الصخور في وقت كهذا؟"

وهنا تنهدت هيتايرا تحرك يديها داخل حجرها بخجل لتجد طريقة تروي بها ما حدث دون أن تبدو غريبة الأطوار.

"قال لي عمي أن الحوريات تخرج في هذا الوقت، قبل غروب بدقائق وأنا أريد بشدة أن أسرق حرشفة من ذيل الحورية بما أننا سنعود إلى المنزل غدا ولن يكون بإمكاني العودة إلى هنا حتى الصيف القادم"

قهقهة الطبيب تردد صداها في الأرجاء بينما آرون إبتعد قليلا يضع يده في جيبه عندما قفزت هي من الكرسي بعد أن أنهى الآخر عمله، وضع لها ملصقا على شكل نجمة على حاجبها وودعها لتقف أمام الباب في الخارج بجانب ذلك الذي أبى أن ينظف الدماء من عليه ليعود إلى البيت ويفعل ذلك بمفرده.

وقفت بجواره ورفعت رأسها له بإبتسامة تلمس الضمادة فوق حاجبها، رتبت غرتها المببلة وهي تنظر له كيف فصل تواصلهما البصري ليخرج يده من جيبه يحمل شيئا ما داخل كفه.

مدها إليها وفتحها لتظهر لها صدفة رقيقة بلون فيروزي جذاب تبدو كأنها حقا حرشفة مسروقة من ذيل حورية، إتسعت أعينها وقفزت من شدة الفرح وعدم تصديق أنه قد حصل عليها حملتها من بين كفه وبعفوية إقتربت منه تعانقه من الجانب تهمس له تحت نظراته المستغربة على إندفاعها ذاك.

"هل إلتقيت بها حقا؟"

رفعت رأسها إليه وهي محتضنة جانبه ليهمس لها.

"أجل"

"هل كانت جميلة حقا كما في الأفلام؟"

"أجل"

فصلت العناق تقلب الصدفة هنا وهناك تتفحصها بسعادة غمرت قلبها لتردف له أثناء إنشغالها.

"عندما تلتقي بحورية وتكون طيب معها ستعطيك أمنية..أمنية واحدة سيذهب مفعولها عند الغروب..أسرع لا زال الوقت باكرا على سقوط الشمس..تمنى أمنية هيا"

قلب عينيه للجهة الأخرى للمرة الثانية، كان ذلك هراءً وهو لن يؤمن بشيء كهذا حتى في حياة أخرى وأكوان موازية، لكنها لكمته بسرعة على بطنه وهي تنظر أمامهما نحو الأفق البعيد بين المنازل الصغيرة خوفا من أن تكون الشمس قد غابت وذهبت فرصته في أن يتمنى شيئا ما..لكمته مجددا ليتألم هذه المرة كون الضربة لم تكن خاصة فتاة صغيرة بل كانت يدها حقا يد شخص قد أخذ دروسا في الفنون القتالية.

"هيا أغمض عينيك وتمنى أسرع"

أغمض عينيه بضجر لثوانٍ بينما نظرت إليه بترقب وإهتمام، فتحهما وإلتفت لها لتبتسم له بعد أن نالت غايتها..

في تلك الأثناء صدح صوت شخص آخر من بعيد، صوت سرعان ما إقترب منهما ليقف ساحبا يد هيتايرا بقوة وخوف واضح يرفع رأسها عاليا متفحصا الضمادة فوق حاجبها..

بشعر حمل نفس لون شعرها، وأعين مطابقة للون عينيها، بهيئة تشببهها تماما كان ذلك آرون الذي بدى بنفس طوله لكن أصغر سنا بقليل، نظر بافحص لآرون كما فعل الآخر الأمر ذاته..

لتتوقف عشبيتيه على أنامله الموضوعة فوق جبين هيتايرا التي كانت تثرثر دون توقف تسرد لمانويل ما حدث لها، نظر لأنامله وكيف كانت جميعها ملفوفة بضمادات، العشرة جميعها مغطاة، ليرفع عينيه لوجهه ويلمح خطوطا بارزة خلف عنقه، خطوطا حمراء من الخلف مرتفعة كنبتة متسلقة لتظهر بوضوح..

رغم استغرابه إلا أنه إكتفى بالصمت والإلتفات ليغادر قبل أن يسمع مانويل الذي ظل يتفحصه بشك.

"هل فعل لكِ شيئا ما؟ هل أنتِ بخير؟"

"أجل لقد ساعدني أحضرني إلى هنا، وأعطاني هذه"

"لندخل" قالها يدفعها إلى الباب خلفها وهو ينظر إلى ظهر آرون يبتعد عنهما شيئا فشيئا، دفعها للداخل وهو يلمسح الجرح ويتسائل عما حدث عله يجد أجوبته عند الطبيب كون إبنة شقيقه كانت خارج نطاق التغطية تقلب الصدفة بإنبهار وكأنها حجر من الجنة.

" إن اسمه لانواريوس، أ ليس اسما جميلا؟"

"أشبه بأسماء البكتيريا، إخرسي"

دخلا وإختفى طيفهما من الشارع، كما إختفى جسده بعيدا داخل الأزقة، كما إختفت الشمس رويدا رويدا وغادرت الحوريات تسبح نحو الغروب..

كانت هي حوريته وكانت الأمنية أن يتحدث مجددا، كانت سمكة ريمورا الغبية وكان هو سمك القرش الذي سمح لها بأن تلتصق خلف ظهره..

كان فان غوخ البائس ذو السابع والثلاثين في الحاضر وهي فريدا كاهلو من بترت جزءًا منها لتعيش وتتأقلم..

فماذا لو إختلطت الأزمنة وإمتزج الماضي بالحاضر، وإلتقى فان غوخ بفريدا كاهلو، ماذا لو ضمدا جراح بعضهما البعض، لكان الأول لن يقدم على الإنتحار وكانت هي ستعيش ما تبقى من حياتها بسعادة..

لوجدت فريدا الصديق الذي سيبادلها الهموم فتشكتي له زوجها دييغو الخائن، ويعثر فينيسنت أخيرا عن حضن صديق يحتويه.

يتبع...

___________

التكملة هذه الليلة، الفصل القادم بعد ساعتين.

Continue Reading

You'll Also Like

3.9M 31.7K 24
ذهبت الي وكر الشيطان بقدميها وأشعلت نيران جحيمه بمفاتنها وبعد ليلة جحيمية مشتعلة بينهما ألقت كلماتها الباردة كقلبها في وجهه قبل أن تغادر وبملامح باهت...
9.8M 457K 43
راقصة باليه هاوية للرسم ، و رجل مافيا ..أليس هذا متناقض !! بالفعل إنهما كذلك .. "انتِ ترسمين بفِرشاتك ،وانا أرسم بسلاحي ، انتِ ترقصين على أطراف أصابع...
511K 50.9K 26
إرقُصي.. ما أجملَ خطوات الفلامنكو بساقيكِ حين ترقُصي.. إرقُصي.. وليحملني رقصُك للعُمر الرّاحل مني.. إرقُصي.. (#1 في الفانفكشن)
10% By نَ

Short Story

6.9K 623 5
[مكتملة] " عندما تصبح الطبيبة أليسون مسؤولة عن اللاعب المتعجرف جايمي " Short Story. P:5July2018 F:6July2018