أماريتا | الحلقكنا جميعاً في إنتظار إفاقة أسيل .. لم تُغادرُنا إلا نادين وأخبرتنا إنها سَتبحث عن عمل بالمنطقة الشرقية حتى يوم رحيلنا إلى أماريتا أو حسبما يقرر يامن حين يعود، ثمَ هبطت إلى الرُدهه السفلية تبعتني منى .. التي لم تنطق بكلمة واحدة منذ دَلَفّنا إلى زيكولا .. بينما بقى الأماريتي وخادمته بجوار اسيل .. ودَلَف إلينا إياد مع غروب الشمس .. فاحتضنني غير مُصدق لعينه ورحب بِمُنى مندهشاً، ثمَ رَكَض يخطو الدرج إلى الغرفة العلوية لِيرى أسيل .. وهبط مجدداً بعد دقائق وأسارير وجهه منفرجة .. وجلس يحدثني عن حياتهم التي تبدلت كثيراً بعدما غادرتهم.
***
وكان الليل قد حل حين أبصرت الأماريتي يهبط الدرج تمسِك يده جراباً قماشياً .. علمت فيما بعد أنهُ لِسِهام المضيئة وقوسها المطلق، ثمَ غادرنا ممتطياً جوادهُ في اتجاهه إلى صحراء زيكولا.. وصعدت مُنى إلى غرفة أعدتها لنا الوصيفة قمر .. ثمَ أخبرت إياد عن حديث الأماريتي بأن نرحل جميعاً إلى أماريتا في خلال الأيام القليلة القادمة .. فقال:
أنا لن أرحل
وأكمل:
لا أستطيع العيش خارج زيكولا .. وأعتقد أنَ يامن لن يفعل ذلك أيضاً
وسألّني:
هل سَترحل معهْ؟
فقلت:
لا أعلم .. لم تمُر إلا ساعات لي بزيكولا
وتابعت:
بعد اتهامي بالخيانة .. لن أستطيع مغادرة هذا البيت .. وَمُنى ضعيفة لن تتحمل العمل في زيكولا، ليس أمامي إلا مغادرة زيكولا، إما إلى بلادي أو إلى أماريتا..
فسألني:
كم أعطيت الطبيبة مِن وحدات
قلت:
الفَي وحدة
قال:
لقد أعطتك الكثير حقا يومها .. أنك مازلت غنيا بعد إعطائها الفَي وحدة .. على الأقل لَديك ألفين آخرين..
فأومأت برأسي وقلت:
نعم أدركت ذلك بعد لحظات مِن إعطائها وحداتي
ثمَ سألته:
إن إنتهت الحرب هل سيعود يامن إلى المنطقة الشرْقية؟
قال:
نعم .. ولن يستطيع أحد الاقتراب منه .. بعد ذلك الوشم، لقد نجا صديقُنا مِن تهمة الخيانة..
فسألته متعجباً:
ولماذا لم تفعل مثله .. وتنضم إلى الجيش؟
قال:
لا أحب الدماء .. أنا سعيد بتكسير الصخور هنا .. ولا احد يعرفني غير يامن بهذه المنطقة..
ثمَ تساءل:
خالد هل تحب زوجتك؟
قلت:
نعم
قال:
وَأسيل ؟
فسكت ثمَ قلت:
أُحبها أيضا
فقال:
إذن .. لن تستطيع العيش في أماريتا يا صديقي
فواصلت صمتي فقال:
أتعلَمّ لماذا لا أُحب؟
أجاب نفسهُ حين نظرت إليه:
الحب يجعل الرجال حمقى
وتابع:
لقد رأيت حُب هذا الملك لِأسيل، لقد حرك جيشه إلى بلادنا مِن أجلها .. وكان يوَد الذَهاب عبر سردابك .. لولا أرشدنا يامن إلى نادين خِشية ألا يعود .. فتصبح الحرب قَدرا محتوْما
قلت:
رأيت ذلك الحب في عينيه
وأكملْت:
لابد وأن هناك طريقا آخر إلى سرداب فوريك..
فضحك إياد وهز رأسه نافياً:
- تريدنا أن نعيد الكَرةً مرةً أخرى.
وكاد يكمل كلماتهِ .. لولا صاحت إلينا قمر مِن أعلى قائلة:
لقد حركت الطبيبة يدها
رَكضنا أنا وَإياد إلى الأعلى ودلَفّنا إلى غرفة أسيل، كانت قمر تُناديها:
سيدتي إننا هنا.
ولاحظت حركة أصابع يدها .. لكن عيناها كانت لا تزال مغلقة، فقلت لِقمر:
مازال عقلها ينشط تدريجي .. ستنهض في وقت قريب..
ثمَ أتجهت إلى الشُرفة .. ووقفت خلف ستارة بابها القُماشية دون أن أخطو إليها ونظرت إلى الخارج عبر فرُّجةٍ بين شطريها المُنسدلَين كان الشارع أمام البيت صاخباً .. تنيرهُ المصابيح النارية .. والقَمر المُكتمل بالسماء، فباتت تفاصيله جميعها واضحة جلية، أمتلأ بكثير مِن أهل زيكولا السائرين .. رجالاً ونساء، فَمَكَثت مكاني متوراياً خلف الستارة خوفاً أن يَراني أحدهم ويشي بي إلى جنودهِم .. لعنة حقاً أن يعرفك الكثيرون.
دار بخُلّدي أن يصيح أحدهم بصوته قائلاً؛ الغريب الناجي من الزيكولا فيندفع الجنود إلى البيت وينتهي كل شيء بالنسبة لي وِلِأسيل وَلِإياد وَمُنى، قبل أن ينشغل عقلي بحديثي مع إياد وطريقي إلى سردابي مجدداً وعادت إليَّ رأسي تفاصيل المنطقة الغربية مرة أخرى، ثمَ احتبست أنفاسي وتشتَت تفكيري حين رأيت تلك العيون تُحَدق بي، كانت لِسيدة في عِقدها الخامس جلست فجأة بجانب الطريق أسفل مصباح ناري مواجِهاً لِلشُرفة كانت ملامحها تختلف عن باقي نساء زيكولا، كان وجهها أحمر ممتلئاً بالتجاعيد، تنسَدل على جانبه خصال مُجّدَلة مِن شعرها الرمادي الأشيَب وإلتف حول رقبتها وِشاح قماشي كان قديماً مثل معطفها الأسود البالي الذي تَكَّمَت بداخله فبعدت عيني عنها لِلحظات .. ثمَ نظرت إليها مجدداً فوجدت عينيها لا تتحرك عني فعُدت خُطوات للخلف فاختفت عن بصري .. ثمَ تقدمت بحذر مرة أخرى فإلّتقت عيناناَ، فحبست أنفاسي وحَدقت بِعينيها التي كانت تُشبه عيني الصقر.
عدت إلى الخلف وأغلقت شطري الستارة .. فسألني إياد حين لاحظ اضطراب وجهي:
ماذا هناك؟
قلت:
هناك إمرأة غريبة كانت تُحملِق بي..
فنهض إياد ودس عينَيه بين شطرَي الستارة وسألني وهوَ ينظر إلى الخارج:
أين؟
فقلت:
تجلس أسفل مصباح على جانب الطريق أمامك مباشرة .. إمرأة مُسنة .. ترتدي معطفاً أسود.
قال:
لا أرى أحداً..
وعاد بجسده فمَدَدْت رأسي .. ونظرت إلى مكانِها .. فلم أجدها .. فقلت:
كانت تُحَدق بعَينَي بِغرابة .. أتمنى أن يسرع الأماريتي .. علينا مغادرة هذا البيت .. لابد وأنها أسرعت لِتُخّبِر جنود زيكولا..
وكاد قلبي يتوقف حين وجدّتُها تَدلف إلينا فجأة بُحُجرة أسيل، وَتُحدق بي بِعينيها العميقتين الزرقاوتَين كأنها لا ترى غيري بالغُرفة .. فاحتبست أنفاسُنا أنا وَإيّاد وقمر .. قبل أن تظهر منى مِن خلفها وتقول بلهجتنا المصرية:
كانت بتخبط على الباب بدون توقُف .. ومحدش منكم سمعها .. نزلت فتحت لها .. فطلعت على الأوضة مباشرة بدون ما تنطق ولا كلمة..
فتقدمت إليَّ السيدة .. كان نعلها الجلّدي يصدر صوتا مع أرضية الغُرفة الخشبية .. وأنا لا أُحرِك ساكناً .. تُحَدِق عيناي بِوجهها .. ثم توقفت أمامي ونَطقت إليَّ مُتلهِفةً بِلُغه لم أفهمها .. فنظرت إلى إياد علهُ فهِم ما قالته .. فبدى على وجهه أنهُ لم يفهم مِثلي .. وأعادت كلماتِها ذاتها إليَّ .. وإنتَظرَت حديثي وهيَ تُحدق بي .. فلم أنطق .. فأعادت كلماتها للمرة الثالثة وتساقطت دموعها على وَجنَتيّها ..
لم أكن أفهمها .. لكني أدركت أنها تَتوَسل بشيء .. فَنَظرّت إلى منى التي طالما فاّقَتّني في اللغات الأجنبية علها فهمت ما قالته هذهِ السيدة التي تشبه أوروبي عالمُنا .. فَهزت رأسها لي نافية بِأنها قد فهمت أي شيء .. فقال إياد:
ليست زيكولية .. يبدوا أنها دخلت إلى زيكولا هذهِ الأيام..
كان ذلك واضحاً لا يحتاج إلى تفكير، ثمَ ضمت السيدة أصابع يدها اليمنى قبل أن تَفرد الثلاثة الأوسط مِنهم فقط .. وتضرب بيدها اليسرى على صدرها باكية .. وقالت جملة جديدة لم نفهم كلماتها المُتشابكة، ثمَ سكتت فجأة ومسحت دموعها مُهَروِلة ونظرت إلى وجوه الآخرين بالغُرفة المحدقين بِها، ثمَ إلّتفتت برأسها نحو باب الغُرفة ونظرت عبره بإستطلاع، ثمَ زحفت بجسدها كطفل أسفل سرير أسيل واختبأت ولم تَمُر لحظات حتى وجدنا الأماريتي قد عاد وكأنها قد شَعرَت به فإندهشنا.
كان وجهه مضّطربا ليس كما رأيته قبل ساعات، دَلَف إلينا وكان الجِراب القُماشي بِيده فسأله إياد:
هل أطلقت السِهام المضيئة؟
قال:
لا.
فسألّته في دهشة:
لماذا؟
أجابني متوتراً:
لم يكن الطريق النائي إلى وادي بيجاناَ خالياً.
وأكمل:
كان هناك ثمةَ جنود يَقتلون أحدهم بعيداً عن باقي جيش زيكولا .. ثمَ رَحلوا، فَنظرنا إليه ودقت قلوبنا خشية أن يُكمل ما حدثتنا به وساوسنا، فأكمل متجهِماً:
كان القتيل صديقكم يامن.....