خائنة ـ الحلقة واحد وعشرون

14.4K 912 15
                                    

لا أعلم سر ذلك القلق الذي أجتاح داخلي منذ عبورنا باب زيكولا .. إنني أثق بسيدي تمام الثقة ولكن ما رأيته مِن ثقة أهل هذهِ الأرض بقوة جيشهم وكأن خروجه حدث طبيعي جعل قلبي يدق خوفاً ولم يتوقف عقلي عن التفكير منذ خرج سيدي لبيع ذَهبه وتركني مع سيدتي النائمة وصندوق ذَهبه الآخر وحارسه النائم بالطابق السُفلي و وقفت بشُرفة الغرفة أُشاهد أهل المدينة الذين لم يكُفوا عن الإحتفال ولم يفارق خيالي مشهد يعود فيه جيشهن منتصراً بعدما عبر هضاب الريكاتا وأحكم قبضته على أماريتا لِتسري هناك أيضا لعنة وحدات الذكاء وقوانين زيكولا ومشهد آخر يغلق فيه بابها لأشهَر قادمة حتى يوم عيدهم ومشهد ختامي لِفتاه شاحبة حَليقة الشعر يستعد السياف لقطع عنقها لما كشف عن رأسها لم تكن سوى أنا الخادمة المطيعة لِملك أماريتا وحبيبته فإنقبض صدري وتحسست رقبتي وعُدت إلى الغرفة وجلستُ بجوار سيدتي وأمسكتُ برأسي علّه يتوقف عن التفكير وحدثتُ نفسي:

أسكت أيها العقل لطالما سمعت أن تفكيرك يستهلك مِن وحدات ذكائك أرجوك توقف..

ثمَ نظرت إلى سيدتي وهمست إليها في توسُل:

أرجوكي سيدتي لا تخذلينا أرجوكي.

ثمَ وضعت رأسي بين ذراعي بجانبها فغلبني النعاس دون إرادتي لم يوقظني سوى وقع أقدام سيدي الذي عاد مع منتصف ليلتنا فنهضت مسرعة وعُدت خطوات مبتعدة عن سرير سيدتي وإنحنيت أمامه حين دَلَف إلى غرفتنا بوجه مُتورد يشُع أملاً لم أره منذ مرض الطبيبة وإقترب منها متلهفاً ثمَ جثا على ركبتيه وأمسك بيدها وأغمض عينه وتحركت شفتاه ليهمس إليها بكلمات لم أتبينها ثمَ قبل يدها برفق فدق قلبي حين وجدت تورد وجهه يتلاشى كأنه يُسلَب منه ثمَ فتح عينيه ونهض ليقف بجوار سريرها توقفت أنفاسُنا جميعاً وحدَقنا بالطبيبة في إنتظار تبدُل لونها الشاحب لاكن شَيءً لم يحدث فَجَثاَ سيدي على رُكبتيه مرة أُخرى وأمسك بيدها وهمس إليها بِكلماته مجدداً وأغمض عينيه وقبل يدها فلم يتبدل شيء سوى وجهه الذي صار شاحبا قليلاً فكاد يمسك يدها للمرة الثالثة فَنطق الحارس مِن خلفنا:

- سيدي إنك الآن تفقد مِن ثروتك التي جئت بها مِن أماريتا .. لقد أنفقت ثروة الذهب بالفعل لكن جسد الطبيبة لم يتقبلها..

فجمدت حركته للحظات وضع خلالها رأسه بين يديه وأغمض عينه وكأن الزمن توقف من حوله قبل أن ينهض فجأه ويركل بقدمه صندوق ذَهبه المتبقي غاضباً فتناثرت سبائكه وبعضاً مِن السهام المضيئة كانت بالصندوق أيضا فإلتقطها والقاها بعيداً فتهشم بعضها وصاح:

اللعنة عليكِ أيها البلد اللعنة على قوانينكم..

ثمَ ضرب بيده على طاولة كانت أمامه .. ونظر إلى الطبيبة وقال:

أُقسم إنني لن أخذل إستنجادك بي .. أُقسم لك إنني لن أُغادر هذا البلد إلا وأنتي بجواري تَبتسمين كما كنتِ دوما ثمَ هدأ صوته وأكمل:

لم تعُد هناك حاجة للسهام المضيئة لم يعد هناك حل سوى عهد الرسل سيصل إلينا جيشنا ليكسر أنف هؤلاء الملعونين اللعنة عليهم .. اللعنة عليهم.

ثمَ جلس على أرضية الغرفة وأسند ظهره إلى حائطَها فأسرعت أُلَملِم سبائك الذهب والسهام المتناثرة لاضعها بصندوقها وتختطف عيناي نظرات إلى وجهه الشارد الغاضب وتتردد إلى أذني كلماته بِأن لا يغادر هذا البلد وكان ما جال بخاطري قبل ساعات قد بدأ في تحقُقه للتو.>, كنت قد لَمِلمِّت الذهب والسهام المضيئة المتناثرة وأعدتُها إلى صندوقها، وإتجه سيدي إلى غرفته بعدما نَصحُه حارسه بأن ينال قسطاً مِن الراحة بعد عناء يومه، وأطفئت مصابيح البيت لتغمض الأعين مع ظلام تلك الليلة العصيبة إلا عيني أبت أن تتلاقى جفونهما كلما أغمضتهما صرخ صوت الملك إلى الطبيبة بأذني .. لن أُغادر إلا وأنتي بجواري تَبتسمين ..

الليلة لم يعُد هناك مفرٌ مِن الحرب الكبرى بين زيكولا وأماريتا .. أي رجل هذا الذي يضحي بشعبه مِن أجل أمرأة وأولهم أنا؟

عاد إلى رأسي مشهد إغلاق زيكولا ونحنُ بداخلها لِنبقى عاماً كاملاً هنا أشتعل عقلي بأسئله دقت للمرة الأولى:

ماذا إن أنفق سيدي ما تَبقى مِن ذهبه وماتت الطبيبة؟

إلى متى يتحمل ذكاؤه نفقات معيشتنا؟

ماذا إن أصابه بُخل أهل زيكولا وتبرأ منا فجأة؟

لسنا سوى خدَمه، ماذا أفعل وقتها في هذا البلد الغريب بضعف جَسدي هذا؟ ولاح أمام عيني مجدداً مشهد احتفالات زيكولا بذبحي على مَنصة أمامهم، قبل أن أثب وأنهض وسط ظلام لأشعل مصباحاً صغيراً ثمَ وجدت نفسي أفرغ حقيبة قماشية كانت تحوي ثياب الطبيبة وأقتربت مِن صندوق الذهب فتحته برفق عبأت الحقيبة مِن آخرها بسبائك الذهب لم أترك إلا سبيكة واحدة لم يكن لها حيزاً ونظرت إلى الطبيبة النائمة والخوف يقتلني وهمستُ إليها:

عذرا سيدتي لن أدفع حياتي ثمناً لخطأك ..

ثمَ حملت الحقيبة الثقيلة وحدثت نفسي:

لن أعود وصيفة قصر الملك بعد اليوم .. سيجعلني هذا الذهب مِن أثرياء زيكولا ولن أكون في حاجة إلى مغادرتها..

ثمَ فتَحَت الباب بحذَر وأطمئننت إلى غلق باب غرفة سيدي ونَوم حارسيه بالأسفل وهبطت سُلم البيت الداخلي وعَبرت رُدهته على أطراف أصابعي حتى وصلت بابه الرئيسي وغادرته وسرت لا أعلم وجهتي أحمل حقيبة الذهب يدق قلبي خوفاً مِن تلك الشوارع التي سادها السكوت مع ذلك الوقت المتأخر مِن الليل وأتلفت بين لحظة وأخرى إن حرك الهواء شيئاً مِن خلفي، ثمَ رأيت جنديا يمر بعيدا فتواريت بِجسدي حتى مر ثمَ أكملت مسيرتي، و وجدتُ نفسي أمام الحانة التي توقفنا أمامها نهاراً ودَلّنا صاحبها إلى بيت نستأجره فدَلفت إليها فوجدت بضعاً مِن رجال زيكولا يجلسون على طاولاتها الخشبية ويقف صاحبها أصلَع ممتلئ البطن بأحد أركانها خلف طاولة رُخامية يُنظف أكواب شرابه الزجاجية فأقتربت منه وسألته عن غرفة أبيت بِها فأجابني:

لدي غرف بالأعلى عشرون وحدة ذكاء لِليلة تشمل طعامك .. فَأرتَبَكت لم أفقد ذكائي مِن قبل ولا أعلم كم أمتلك من وحدات ولكني وافقته وأخبرته إنني سأبيت ليلتين وسأدفع عن كل ليلة أخرى أبيتها بعد ذلك .. فأومأ إلي برأسه إيجاباً .. ثمَ أشار بيده إلى سُلم خشبي .. وحدثني بأن أصعد إلى الطابق العلوي وأختار أي غرفة شأت فصعدت ودلفت إلى أولى الغرف التي قابلتني وأحكمت إغلاق بابي وألقيت بجسدي على سرير نَتِن الرائحة أحتضنت بين ذراعي حقيبة ثروتي القادمة لتعطيني دفئاً لم أشعر به مِن قبل وأغمضت عيني في إنتظار حياة جديدة لا تعرف شيئاً عن كلمتي الذل والفقر.

خمسة أيام أخرى لم أُغادر الحانة، ولم تتوقف وساوسي عن ضجيجهَا، كلما هدأَت .. إشتعلت مِن جديد لِتُحدثَني بأن الطبيبة باتت على وشك الموت .. بعدما توقفت سوائلها المغذية مع هروبي .. وأنَ الملك يبحث عني بكافة أرجاء المنطقة الشرقية ليقتص مني .. ما يطمئنَني أنهُ لن يستطيع إخبار جنود زيكولا بِأمري .. ما يقلقني أنَ صاحب الحانة يستنزف من وحداتي يوما بعد يوم .. ولم أعرف بعد عن مناطق زيكولا وطرقها وتُجارها، ولن أستطيع مغادرة هذهِ المنطقة إلى منطقة أخرى وحدي قبل أن أجد مَن أثق به ويرافقني إلى مكان بعيد عن هنا .. ثمَ جاء مساء اليوم الخامس ودق بابي صاحب الحانة مُطالِبا بوحداته عن ذلك اليوم فدفعت له .. وكادَ يغادر فاستوقفته وفَلَتَ مني لساني وسألته إن كان يعرف تاجراً للذهب .. فأجابني:

أعرف كل شيء هنا .. لدي جميع الزبائن..

فقلت:
أُريدك أن تصلَني بأحدهم..

قال وهوَ ينظر إلى الحقيبة المغلقة على سريري:

خمسون وحدة ذكاء لي وسأجعلك تقابلينه الليلة..

فصمت ثمَ قُلت:
حسناً
مرت ساعات قليلة أخرى وطَرَق بابي مجدداً ليخبرني بأن تاجره ينتظرُني بالأسفل، فلَفَفت سبيكة داخل لُفافة قماشية ووضعتُها بين ملابسي وهبطت إلى الحانة .. فأشار إلى نحو طاولة برُكن بعيد كان يجلس عليها رجل لم أتبين ملامحه فأقتربت منه وسَحبت مقعدي جلست أمامه، كان رجلاً أربعينياً طيب الوجه .. توقف الشراب بِحلقه حين أَخرجت السبيكة مِن لُفافتها لتلمع مع ضوء مصباح الطاولة، وحدثته دون مقدمات:

أريد أن أبيعها

فَمَدَ يده وأمسكها منبهراً وقال:

ذهبٌ جنوبيّ!!

قلت:
نعم

فقال دون تردُد:

السبيكة مقابل أربع مائة وحدة ذكاء .. لن تَجدي هذا السِعر أبدا بِأي مكان آخر..

فإنفرجت أساريري وابتلعت ريقي بعدما حسبت كم سبيكة أمتلكها وكم سأجني بعد بيعهِم وقلت دون تفكير:

لدي الكثير .. أكثر من خمسين سبيكة..

قال:

إن أردتي بيعها جميعاً لدي خزائني ببيت مجاور..

فتساءلت فرِحة:

جميعها

قال:

نعم .. جميعها

فقلت باسمة:

حسنا يا طيب الوجه .. انتظرني.

ثمَ ركضت إلى أعلى والسبيكة بيدي ودلَفت إلى غرفتي .. حملت حقيبتي وعُدت بها إليه ثمَ خرجت معه ليحدثني عن عشقه بذلك النوع مِن الذهب وظل يُثرثر كثيرا حتى دق قلبي خوفاً مِن ذلك السكون بشوارع زيكولا .. فتوقفت قدمايْ كي أعود مجدداً إلى الحانة .. ففوجئت برجُلَيّن آخرين يُمّسِكاّن بي ويجذبان الحقيبة مِن يدي .. بينما لَكَم وجهي ذلك التاجر وسَبَّني ونزع أحدُهما الحقيبة وركضا .. فأطلقت صرخةً فأمسك التاجر اللص بشعري بقوة .. كَمَم فمي بيده الأخرى .. ثمَ جَرني إلى زقاق جانبي .. فعضضت إصبعه وصرخت مجدداً .. فأخرج خِنجرَه وكاد يطعنني لولا تلك اليد التي أمسكت بِمعصمه فجأة .. تلكُمهُ اليد الأُخرى تسقطَهُ أرضاً .. لينهض ويركض مبتعداً خلف صاحبيه، وأنا أقف ذاهلة تسيل الدماء مِن أنفي غير مصدقه إنني فقدت حقيبة ذهب .. ثمَ قطع شرودي صاحب اليد التي أنقذتني قائلاً:

لا تسير فتياتنا وحدها في هذا الوقت المتأخر مِن الليل..

مد يده يمسح تلك الدماء على وجهي .. فأرتعد جسدي وأبعدت رأسي وإلتفت إليه خائفة .. فوجدته شاباً قوياً أبعد يديه ورفعهما بِجوار رأسه مُطمئناً لي وقال:

يبدو أنكِ غريبة عن هذهِ المنطقة.

فأومأت برأسي إيجاباً .. وأنا أُغَمِغِم إلى نفسي باكية .. بأن كل شيء قد إنتهى .. فحدثني هادئا:

سيغدو كل شيء على ما يرام سيدتي.

ومد يده مرة أخرى ومسَح دماء وجهي برفق .. فلم أُبعِد رأسي ثمَ قال:

أنا أيضاً غريب عن هنا..

فَنَظرت إليه لأرى ملامح وجهه فأبتسم وأكمل:

اسمي إياد .. أعمل بتكسير الصخور .........

امـاريـتـا - مڪتملة √حيث تعيش القصص. اكتشف الآن