فجر يتبعه فجر .. ساعات تركض وراء أخرى .. أيام تُهروِل بلا عودة وأسيل تُكمِل عملها نهاراً كحاملة للصخور .. لتعود ليلا لِتمكُث بِجوار مضيفها كَطبيبة يتسامران يتحدثان كثيرا يحدِثها عن رحلات بحر مينجا وعن عواصفه وأمواجه العاتية وهي تملُك قصة واحدة تنبثق منها باقي قصصها هذا الغريب الذي أتى إلى زيكولا عبر سرداب فوريك ليخطف قلبها دون موعد ..
تخبره ضاحكة بأنها لم تكن لِتُصدق قصة هذا الشاب لو لم تعيشها بذاتها أي عاقل يصدق أنَ هناك أرض أخرى وعالم آخر يعيش به أناس آخرون يتحدثون العربية الآن هي مَن تطمح لأن تصل إلى تلك الأرض الخيالية تُحدثه عن ذلك النجم الذي سماه باسمها ولم ترهُ بالسماء منذ يوم ترحيلها إلى أماريتا لا تنام إلا ساعات قليلة بعدما ينام هو كانت تُدرك أنَ وحشه وحدته هي سبيله لِعودته إلى خمره ..
حين إنتهى شهرها الأول بِعملها لم يعطيها السمين إلا خمس قطع نحاسية ذهبت بها ليلتها إلى حوانيت بيع الأعشاب والبذور الطبية وأبتاعت باثنَتَين منها ما إحتاجته لِعلاجه ثمَ باتت ليلتها تصنع مِن عصارتها وصفات مخلوطَه إحداها منشطة لكبده وأخرى مقوية لدورته الدموية وأوعيتها وكان إن توسل اليها كي يرتشف قليلا من الخمر تبرم وجهها ثمَ ابتسمت وسمحت له برشفات قليلة للغاية بعد أن يعِدُها بإلا يقترب منها في غيابها وأن يتناول وصفاتها الطبية التي صنعتها بأوقاتها التي حددتها..
***
يتعجب من نفسه بعدما شَعر أنهُ بات شخصا آخر ليس ذاك الشخص منذ شهر مضى، وَيندهِش حين ينتظر كطفل مرور ساعات النهار كي تأتي ضيفته ليلا فتجلس بجواره ليكملاَ ما إنتهى به حديثهما ليلتهما الماضية، يحب لَباقة حديثها وفلسفتها وَوجهها الباسم دوما ونظراتها الحادة إليه إن تذمر من وصفاتها المرة.
كلما مر يوم شَعر معه بتحسن عن يومه السابق، وَد لو حَدث جيرانه عن براعة طبيبته ثمَ تراجَع بعدما سألَته أَلا يفعل خشية إن تَلفت الإنتباه اليها، يكفيها عملها تلك الأيام بِجبال الرِيمِييوز التي إعتاد جسدها مشقته يتعجب من قوة هذهِ الفتاه وتحمل جسدها الضعيف الذي لا يليق إلا بكونه جسد إمرأة مُرفهة، لمّا عادت مُتبرمه ذات يوم بشهرها الثاني وبدأ على وجهها الضيق الشديد سألها للمرة الأولى أن يخرجاَ إلى حانات الشميل فوافقته على الفور..
كانت تعلم أنهُ لم يغادر بيته منذ دلفت اليه وتُوقن إن علاجها قد بدا يؤتي بثماره، وسارت بجواره متأبطة ذراعه بإحدى شوارع الشميل المضاءة بِقناديل نارية مثبتة على أعمدة خشبية رفيعة لا يشغل بالها فُستانها الرث أو حذائها الممزق بل داعبته حين أرتدى معطفاً أسوداً أنيقا بدا أنهُ لم يرتدهُ منذ عقود ودق قلبها فرحا ولمعت عيناها بدموعها بعدما رحب به كثيرون بمثل عمره أو أصغر قليلا في طريقهما وأجاب ترحابهم فرحا كانه لا يصدق نفسه..
حين جلسا بالحانه سألها عن ضيقها ذلك اليوم، فأجابته بأَنْلا يضع له بالا ثمَ أكملت متمتمه:
أنهُ ذلك السمين اللزج وكلماته القاسية كعادته..
فأخذ رشفة من شرابه الساخن الذي أحضره نادل الحانه ثمَ وضع كوبه على الطاوله أمامه بيد مرتعشة، وقال هامساً:
- ستغادرين قريبا على كل حال ..
فتوقفت عن رشف شرابها ونظرت إليه بترقب كأنها تَتيقَن مما قاله، فأبتسم وأومأ إليها برأسه إيجابا .. يؤكد لها ما سمعته فثغرت فاهها من المفاجئة، وقالت مازحَة:
إذن سأفتقد هذا السمين !
فسألها مداعباً:
حقاً؟
فضحكت وقالت:
لن أفتقده إلى تلك الدرجة تمنيت فقط لو جاء يوم وحكت شفتيه ببعضهما البعض لاغلق فمه إلى الأبد..
فقال مازحا:
ظهر الجانب الشرير من الطبيبة الآن، ضحكت وهزَت رأسها نافية وقالت:
لا لقد عفوت عنه وتركت تلك الأمنية ..
ثم تابعت :
تعلَل قلبي بأن زوجته لن تغفر لي صمت زوجها.
فضحك السيد سيمور .. وأكملا حديثهما عن أمور أخرى بعيدة عما قاله عن رحيلها القريب.
***
مضت أيام أخرى أصبحت معها صحة العجوز أفضل حالاً خف أصفرار عينيه وزادت سعادة أسيل كلما خرج معها أو خرج بمفرده فيعود ليلا ليتسامرا سويا عمن قابلهم تلك الأيام ممن كان يعرفهم وكانت تُكمل عملها هي الأخرى دون أن تغيب يوما واحدا وتقاضت أجرها عن شهريها الثاني والثالث بجبال الريميوز عشرين قطعة نحاسية ..
ثمَ جاء ذلك الفجر من شهرها الرابع وكادت تُغادر بيت المسن إلى عملها فوجدته يجلس على مقعد خشبي بالردهه مسنداً رأسه إلى كفه نائما فإندهشت وأقتربت منه ففتح عينه حين شَعر بها وبادرها قبل أن تنطق قائلاً:
أيتها الطبيبة لن تذهبي إلى عملك اليوم لقد آن الأوان..
قالت في دهشة:
أي أوان سيد سيمور؟
قال:
سَنُبحر غدا إلى شمال بحر مينجا..
فإتخذت مقعدا مجاوراً وقالت:
غداً .. حسب تسجيلي لِأيامي .. مازال هناك شهر على يوم زيكولا
قال:
أعلم هذا لكني أعلم مينجا جيدا أنهُ أكثر هدوءا هذهِ الأيام ولا أضمَن هدوءه لاحقا ولا أضمَن صحتي أيضا .. لقد إستاجرت مِن أحد أصدقائي القدامى قبل أيام سفينة صيد ستفي بِعبورنا بحر مينجا خلال أربعة عشر يوما كما سيُعينَني برحلتنا ولده أيضا صبي اسمه مضحك... أخبرته بأن ينتظرنا بالسفينة وإلا يخبر أحدا عن رحلتنا ..
ما إن نصل إلى شاطئ الشمال لن يتبقى لنا إلا أربعة عشر يوما آخرين حتى اليوم السابق لعيد زيكولا سنمكث بمركبنا تلك الأيام ومعنا ما يكفينا من طعام ومتاع لها، ثم أردف :
إنني أعد جيدا لهذهِ الرحلة منذ أسابيع وأدركت أن راسي لم يتمكن منه الصدأ بعد، ثم أكمل :
ترسو سفينتنا بين سفن الصيد بشاطئ أماريتا ستحملنا الليلة عربة ذات حصانين معبأه بِطعام جاف وشراب ومتاع كاف إلى هناك سَتَصل بنا مع فجر غد ..
ستعَبر معنا تلك العربة وأحصنتها بحر مينجا كما ستعبر بي وِبكِ باب زيكولا يوم يفتح ..
فحدقت به أسيل غير مصدقه:
هل ستعبر معي باب زيكولا؟!
فنهض وتباها بنفسه:
إَلا أبدو مثل تُجار الشمال؟
فضحكت وضاقت عيناها وهزت رأسها:
- تبدو
قال : حسنا سأعبُر بك باب زيكولا وبعدها تتولين أمرك سأترك لك حصانا وأعود بالآخر إلى بحر مينجا مجددا وأتمنى أن تَصلين إلى مرادك.
فانفرجت أسارير أسيل ثمَ نهضت وقبلت خده دون أن تنطق ثمَ أسرعت إلى حُجرتها وعادت ومعها سرة قماشية وأفرغت على الطاولة أمامه ما بها من قطع نحاسية وقالت:
هذا ما أمتلكه سيدي عشرون قطعة نحاسية أنها قليلة ولكنها كل ما لدي..
فقال السيد سيمور هادئاً:
لا أحتاج إليها ابنتي لقد نال كلٌ مقابله ..
فأندهشت وقالت:
إستاجرت سفينة صيد لشهر كامل وستدفع أجر مساعداً لك عن هذا الشهر وطعام وشراب يكفيان تلك المدة وعربة وحصانين مِن أين لك بالمال؟
فأبتسم وقال:
- لا تضعي لهذا بالا الآن ..
ثمَ أزاح بيده قطعها النحاسية تجاهها وأكمل:
اعيديهم إلى مكانهم قد تحتاجين إليهم لاحقاً
ثمَ أشار إلى صندوق خشبي متوسط الحجم بأحد أركان الردهه، وقال :
- أحضري هذا الصندوق.
فحملته أسيل إلى الطاولة أمامه فَفتحهُ وأخرج صديري لا أكمام له وقميصا واسعا طويل الأكمام وبنطال وقلنسوة صغيرة كانت جميعها مهترئه تميل ألوانها إلى الصفرة أكثر منها إلى البياض وقال:
لا تُبحِر النساء على سفن الصيد كان هذا الزي لي منذ كنت في عمرك أرتديه لن نجد اكثر من سفن الجنود الذين يتفقدون السفن والبحاره وصيدهم إن أبصرك أحدهم لا أعلم ماذا سيكون مصيرك ومصيري.
ثمَ أَخرج فُستانا أسود طويلا له غطاء رأس كبير وتابع:
كان هذا لِزوجتي سيساعدك غطاؤه حين ينسدل على جبهتك في إخفاء وجهك أثناء عبور باب زيكولا كإحدى نساء تجارة الشمال
فهزت أسيل رأسها وإبتسمت وكأنها لا تزال غير مصدقه لما يتحدث به فأكمل:
عليكِ أن تستعدي سنرحل مع غروب شمس هذا النهار..
***
مرت ساعات قليلة خَلَد خلالها المسن إلى نومه بينما دلفت أسيل إلى حُجرتها ونزعت فُستانها وإغتسلت بحوض الماء ثمَ بدأت ترتدي تلك الثياب التي أَخرجها السيد سيمور من صندوقه الخشبي وأوصاها بإرتدائها وعصرت حبل البنطال الواسع حول خَصرها النحيف وعقدته وارتدت القميص القماشي المهترئ فوق الصديري ثمَ لفت شعرها الطويل حول رأسها وثبتته وارتدت القلنسوه وما إن تحركت حتى إنزلق شعرها الناعم مِن أسفلها فرفعته ولفته مرة أخرى فإنزلق مجدداً وكلما حاولت فشل إن يرقد أسفل قلنسوتها الصغيرة فَنظرت إلى صورتها بالمرآة وتأملتها قليلا ثمَ خرجت وعادت ووقفت مجددا وبيدها مقص حديدي صغير وكادت تقص شعرها فتوقفت ثمَ وضعت المقص أمامها وحاولت أن تخفي شعرها مرة أخرى أسفل قلنسوتها فسقط على جانبي رأسها فنزعت القلنسوه جانبا وأمسكت المقص وأغمضت عينيها وأمسكت بأصابع يدها الأخرى خصلتاً من شعرها وبعد تردد ضغطت طرفي المقص ضغطى توقفت معها أنفاسُها ثمَ فتحت عينيها فوَجدَت الخصلة الأولة بيديها فتمتمت إلى نفسها:
لا عليكِ يا أسيل لا عليكِ سيعود كما كان..
ثمَ أمسكت خصلة أخرى وقصتها، لم تترك منها إلا سنتيمترات قليلة، ثمَ خصلة أخرى ثمَ أخرى.
كان شعرها الأسود المقصوص يتساقط ببطء كالحرير المحلق وسط شُعاع الضوء ذلك المتسلِل عبر نافذة الغُرفة وكلما قصت خصلة مررت يدها على رأسها وأمسكت خصلة أخرى بين إصباعيها وقصتها مثلما قصت سابقاتها حتى إنتهت ووجدته أصبح بالكاد يغطي أذنيها ومؤخرة رقبتها فهمست إلى نفسها :
- تأبى أماريتا أن أَخرج منها معي شيء يشبهني ..
ثمَ إرتدت قلنسوتها التي صارت تلائم رأسها ونظرت إلى صورتها بالمرآة وغمزت إليها باسمة:
أهلا بك أيها البحار....