الرابع والثلاثون

13.8K 340 9
                                    


_مساء الجمال!
قالها عزيز بمرحه الذي ما عاد يفارقه وهو يدخل عليها الشرفة الخارجية في بيت رحمة حيث جلست تراقب الشارع كعادتها...
فالتفتت نحوه بابتسامة واسعة وهي تتحسس بطنها البارز في شهر حملها الأخير لتقول بمزيج من دلال وارتياح:
_مساء الخير!
ابتسم بحنان وهو يجلس على الكرسي أمامها فسألته باهتمام:
_هل نامت أمي؟!
أومأ برأسه إيجاباً لتختفي ابتسامته تدريجياً مع قوله بأسف:
_نامت بعد ما هاتفت ماسة وأخبرتها أنها ستعود إلى مصر أخيراً بعد علمها بما حدث لعاصي الرفاعي!
هزت ميادة رأسها بتعجب وهي تقول :
_من كان يصدق أن يحدث له كل هذا؟!لقد انقلب حاله كله في غمضة عين!
فزفر عزيز بقوة ليرد بشرود:
_مسكينة ماسة...تكاد تجنّ منذ علمت عن الأمر...ورغم أنه طلقها لكنني أعرف ماسة جيداً...لن تهدأ حتى تعود إليه.
تأملته ميادة بتفحص وهي تقرأ ملامحه بقلبها قبل عينيها كما تعودت منذ زمن...
نعم "قلبها" الآن يغلب "عقلها" السديد في استكشاف بواطنه...
ليجيئ أوان اعترافها بأن قلبها صار معه "سيد الطاولة"!!!
غيرة؟!!
لا لا لا!!!
هي الآن تثق أن مشاعره نحو ماسة لا تتجاوز إحساسه بالمسئولية نحوها ...
وأن "حياة عزيز" لم تعد إلا ل"ميادة" و "ميادة" كما يخبرها دوماً!!
لكنه التفت إليها أخيراً من شروده ليسألها وقد عاودته ابتسامته :
_قولي لي...لماذا تحبين الجلوس هنا؟!
تنهدت بحرارة وهي تعود ببصرها نحو الشارع الضيق المزدحم بالمارة والأطفال رغم الوقت المتأخر نسبياً من الليل لتقول بابتسامة راضية:
_تفاصيل المكان تخطف قلبي يا عزيز...جو حميمي دافئ كنت أفتقده طوال عمري...ذاك الرجل الذي يقوم بتأجير الدراجات للصبية...والآخر الذي يبيع "غزل البنات"...أصوات الساهرين في المقهى...مع صوت "أم كلثوم" المميز...ثرثرة النساء في الشرفات بصوت مسموع وصراخهن على أطفالهن في الشارع...أمان حقيقي يا عزيز...أمااااان!
ثم صمتت لحظة لتردف بشرود:
_خرجت صباحاً لأشتري بعض لوازمي...وأثناء عودتي قابلت إحدى صديقاتي على ناصية الشارع القريب...تعجبت من سكنايَ هنا...ولا أخفيك قولاً أنني شعرت ببعض الحرج لكن نظرةً واحدة لهذه الشرفة من الخارج أعادت لي سكينتي وثقتي في صحة قراري.
ومع ابتسامتها التي فاضت بالسعادة استطردت:
_أنا أحب هذا المكان يا عزيز...أحبه بحق!!
اتسعت ابتسامته وهو يتأملها بحنانه المعهود لتتسع عيناه بدهشة وهو يجدها تشير بإصبعها نحو شئ ما هناك مع تساؤلها الفضولي:
_ما هذا ؟!
التفت برأسه ليرى ما تشير إليه ثم ضحك بانطلاق وهو يرى الرجل الذي حمل قارورة الشراب الضخمة مع ذاك الصوت المميز لقطعتيه المعدنيتين عندما يخبطهما معاً ...
ليقول أخيراً بمرح:
_إنه "عرقسوس" يا سيدتي...مشروب شعبي أصيل...أراهن أنكِ لم تجربيه من قبل!
التمعت عيناها كطفلة منبهرة فانطلقت منه ضحكة أخرى قبل أن يقف مكانه لينادي الرجل:
_"عمي جمال"!!احجز لي كوبين حتى أجئ إليك.
ثم تركها بسرعة ليخرج إلى الرجل حيث تناول منه "حمولته الثمينة" ليعود إليها بها ...
لكنها ما كادت تمد كفها نحوه حتى تلفت حوله قبل أن يهمس لها بخفوت:
_عيب! "العرقسوس" لا يُشرَب هكذا في الشرفات!!
ورغم أن العبث كان يفوح من كلماته لكنها تصنعت تصديقه وهي تضع كفها خلف ظهرها بحركة "الحوامل" الشهيرة لتنهض من مكانها قبل أن تتبعه إلى غرفتهما ...
ثم تناولت الكوب منه لتقول بدلال:
_والآن علمني كيف يشربون هذا؟!
لكنه اقترب منها ليقول مشاكساً :
_هل صدقتِ حقاً أن له طريقة خاصة؟!
ثم رفعه لشفتيها ليقول بعينين ملتمعتين:
_أنا فقط لم أحب أن تشربيه في الشرفة!
ثم امتدت أنامله لشعرها ليقول بنبرة دافئة وقد وجدها فرصة ليحدثها بأمر يشغله منذ وقت طويل:
_تعلمين أنني لم أتدخل يوماً في مظهرك كي لا أقيدك بما لا ترغبين...لكنني لا أحب أن يراكِ أحد تجلسين بشعرك المكشوف هكذا!

ماسة وشيطان   Where stories live. Discover now