الفصل السادس

16.6K 425 10
                                    

جلس جوارها على طرف الفراش بحذر يتأمل ملامحها النائمة المستكينة...
هو يعلم أنها لم تنم إلا بعد الفجر...
فقد قضى ليلته على باب غرفتها وهو في حال عجيب...
لكن حالها هي كان أعجب!!!
وهل هناك أعجب من امرأة تحدث رجلاً ميتاً علي الهاتف؟!!!!
نعم...
هذا ما اكتشفه للأسف!!
عندما كان ماراً بالمصادفة جوار غرفتها في شقته التي جمعتهما بالأمس...
فسمعها تتكلم بصوت خفيض ...
فتح باب الغرفة فتحة صغيرة ليراها ممسكة بهاتفها...
أرهف سمعه ليعلم مع من تتكلم ...
قبل أن يصدمه حديثها صدمة لم يتوقعها في حياته...
لكن يبدو أنه لا شئ عجيب مع هذه المرأة!!
جنة كانت تكلم "حسن"!!!!
كانت تعتذر له وتشرح بإسهاب طويل كل الظروف التي دفعتها لهذه الزيجة....
كانت تتحدث بانطلاق وكأنه يسمعها حقيقة....
أحياناً كانت تضحك وهي تحكي عن كلماتها الجريئة التي قذفتها في وجه فهد....
وأحياناً كانت تبكي وهي تقسم له أنها على عهدها معه!!!!
مجنونة!!!!!
هذا ما خاطب به نفسه وهو يعيد غلق باب الغرفة وقتها....
لكنه لم يستطع منع نفسه من الإنصات لبقية حديثها الذي مس قلبه حقاً...
قلبه الذي ظنه قد مات ودفن تحت أنقاض خطاياه...
ليشعر به الآن قد عاد ليخفق من جديد!!!!
لم يستطع النوم بعدها حتى بعدما عاد لغرفته....
لكنه عاد إليها بعد الفجر ليجدها قد استسلمت لنومها وهاتفها في حضنها....
تناول منها الهاتف بحذر كي لا يوقظها ليسجل الرقم الذي كان ظاهراً أمامه...
والذي لم يرد عليها -بالتأكيد-
لكنه كان يريد التأكد من أنه حقاً رقم حسن هذا!!!!
أعاد الهاتف لمكانه...
ثم تركها لبضع ساعات حاول فيها النوم لكن دون جدوى...
حتى عاد إليها الآن مدفوعاً بقوًى لا يعرفها ليجلس متأملاً ملامحها باستغراب....
مد أنامله ببطء حذر يتخلل خصلات شعرها الثرية...
وهو يشعر بشوق غريب لسهام عينيها البندقية...
لكنه لا يريدها أن تستيقظ الآن فتبدأ حربهما الباردة من جديد!!
ورغماً عنه تسللت أنامله ببطء مغادرةً خصلات شعرها...
لتنحدر على ملامح وجهها كلها وكأنه يرسمها!
هو لا يدري بحق ما سر شعوره الغريب هذا نحوها...
لم تجذبه امرأة في حياته كهذه المرأة...
يريد أن يكسرها بقوة...
نعم....يريد أن يكسب رهانه على قلب هذه المتعجرفة العصيّة....
وقد كان هذا سبب زواجه بها من الأساس!!
لكن هذا الشعور ورغم أنه لازال قائماً...
صار مشوباً برغبة خفية في ترميم كسرها القديم!!!!
شعوران متناقضان يتناحران في صدره....
ولا يعرف كيف يؤلف بينهما....
ولا إلى أيهما سيرضخ...
لكنه واثق من شئ واحد الآن....
أن هذه المرأة ليست بالقوة التي تدعيها...
بل هي حقيقة في غاية الهشاشة...
امرأة لا تزال تحيا في وهم رجل ميت...
تلبس دبلته...
وتقضي الساعات جوار قبره...
بل وتحدثه على الهاتف!!!
هي امرأة حقاً في ورطة....!!!
وتحتاج لمن ينتشلها من جنون ماضيها هذا!!!
وعند خاطره الأخير ابتسم في شفقة ظاهرة وهو يربت على وجنتها برفق...
ثم لامسها بإبهامه في شرود...
مستغرقاً بكيانه كله في ملامحها التي صار يشعر أنها لا تنتمي للبشر...
بل هي صنف نادر وحدها...
أسعده القدر بأن يصادفه في طريقه!
صنفٌ سيروقه ترويضه...سيروقه كثيراً!!
بينما تململت هي في نومها أخيراً وهي تهز رأسها باعتراض ...
ثم فتحت عينيها فجأة لتجده أمامها...
بل...جوارها على السرير!!!!
شهقت بعنف وهي تقوم لتهتف بصوت مختنق لم يغادره النعاس بعد:
_ماذا تفعل هنا؟!!!
عادت ملامحه لسماجتها وقد اختفت شفقته ليقول ببرود ساخر:
_جائع...وأريد أن تحضر لي زوجتي الإفطار!!
اتسعت عيناها في استنكار لتلتمع عيناه بلهفة واضحة وهو يلتقط وهج البندق من جديد....
لكنها لم تنتبه لنظراته وهي تهتف بحدة:
_ماذا تقول؟!
أعاد عبارته بنفس البرود مخفياً مشاعره ببراعة...
فزفرت بقوة وهي تحاول تمالك غيظها...
قبل أن تأخذ نفساً عميقاً تمالكت به خفقاتها اللاهثة....
ثم قالت ببرود مماثل كي لا تمنحه فرصة التشفي:
_حسناً...انتظرني بالخارج وسأعده لك علي المائدة.
ارتفع حاجباه في دهشة تمتزج بالخيبة...
كان يريد المزيد من الجدال والمناوشات...
هذه الشرسة تبدو شهية أكثر عندما تفقد أعصابها...
وبرودها هذا أسوأ وجوهها...
أسوأها على الإطلاق...!!!!
لكنه تدارك خيبته بسرعة ليقوم من جوارها وهو يرمقها بنظرات غريبة لم تفهمها....
قبل أن يغادر الغرفة بخطوات واثقة...
زفرت بقوة وهي تتلفت حولها في قنوط...
لا تصدق كيف انقلبت حياتها هكذا بسرعة...
لتصير هي زوجة لوغد كهذا...
بجرّة قلم...
وفي غمضة عين!!!
دمعت عيناها وهي تشعر بنفسها وحيدة في هذه الحياة....
حتى شقيقتاها لم يشعرا بغيابها هذه المدة...
العلاقة بينهن شبه واهية خاصة مع إقامتها وحدها وانشغالها بعملها....
وهما أيضاً ...كل منهما مشغولة ببيتها وزوجها ولا تتذكرانها إلا في المناسبات....
ومع مشاكل قديمة بخصوص الإرث فالعلاقة بينهن شبه منقطعة.
الجميع تخلى عنها بعد وفاة حسن ورفضها هي للزواج بعده...
كلهم يزعمون أنها مجنونة فقدت عقلها وراءه...
لكنها لا تهتم!
أن تفقد عقلها وراءه خيرٌ لها من أن تصدق أنه حقاً رحل للأبد!!!!!
استغفرت الله سراً...
ثم قامت من فراشها لتتوجه نحو حمام غرفتها الفاخر...
غسلت وجهها وأدت صلاتها ثم توجهت نحو المطبخ الذي لا تزال لا تعرف شيئاً عن محتوياته...
فالخادمة حتى الأمس فقط كانت تعد لها طعامها وتحضره لها في غرفتها...
لكن يبدو أن هذا الوغد صرف الخادمة ليتعمد إذلالها بهذه الطريقة.
لكنها لن تمنحه فرصة الانتصار عليها...
ستواجهه بقوة برودها لعله يمل منها ويزهد لعبته الحقيرة ويدعها وشأنها...
أمضت وقتاً ليس بقليل في المطبخ حتى أعدت إفطاراً مناسباً...
ثم حملت صينية الطعام لتضعها أمامه علي المائدة.
ابتسم ببرود عندما رآها ليقول بسماجة:
_سلمت يداكِ يا أستاذة!
لكنها خفضت بصرها عنه دون رد...وهي تجلس على كرسيها لتتناول قهوتها دون إفطار كعادتها...

ماسة وشيطان   Where stories live. Discover now