الثاني والعشرون

Start from the beginning
                                    

ولم يكادا يقتربان من الأطفال حتى تركوا اللعب بالكرة ليتجمعوا حولهما متسابقين بلهفة لحمل الصغير الذي كان يضحك الآن بانطلاق عبر سنتيه الأماميتين في ثغره الذي خلا إلا منهما...
وهو يلوح لهم بكفيه الصغيرين محاولاً التملص من ذراعي والدته ليلعب معهم!!!
فوجدت نفسها تبتسم تلقائياً مع شعور الدفء والحميمية الذي طوقها لتتحسس بطنها باشتياق هامسةً في نفسها:
_لأجلك يا صغيري فعلتها...لأجلك رضيت بالبقاء هنا!!
ولم تكد تتم فكرتها حتى شعرت بكف رحمة يربت على كتفها وهي تقول بحنانها المعتاد:
_كيف حالك اليوم يا ابنتي؟!!
التفتت نحوها بحدة وقد استعادت طبيعتها المتنمرة لترد باقتضاب :
_مثل كل يوم!!
تنهدت رحمة بحرارة ثم استندت بدورها على السور جوارها لتراقب الطريق مغمغمة بشرود:
_لا أدري عن شعوركِ الآن وأنتِ تقفين مكانكِ هكذا...لكنني أنا أشعر بالأمان في وقفتي هذه...عمري كله قضيته هنا في هذا البيت مع هؤلاء الجيران...ورغم أن والد عزيز تركني في وضع صعب لكنهم لم يبخلوا عليّ بمساعدتهم يوماً...وحتى عندما قررت أن أتبنى ماسة يوم وجدتها أمام ذاك المسجد هناك وقفوا جميعاً جواري وأيدوني...وكأنهم كانوا يشعرون بحاجتي لهذا بعدما هرب زوجي بابني الوحيد.
اختلست ميادة نظرةً مشفقةً إليها وقد بدأ قلبها يرق نحوها نوعاً...ثم سألتها ببعض التردد:
_لماذا فعل عمي شاكر هذا؟!!
ابتسمت رحمة بمرارة وهي ترد عليها بنفس الشرود:
_هذا هو السؤال الذي ظللت أسأله لنفسي طوال هذه السنوات ولم أعثر له على إجابة سوى الغدر!!!
انعقد حاجبا ميادة بتفحص وشعورها بالتعاطف نحو رحمة يزداد بينما أردفت رحمة بنفس النبرة:
_هل تدركين شعور زوجة أمضت يومها تنظف البيت وتغسل الملابس وتعد الطعام لتنتظر زوجها الذي غادر مع ابنها ثم لم يعودا أبداً!!
دمعت عينا ميادة رغماً عنها ورحمة تكمل ذكرياتها الموجعة:
_ظللت بعدها لأيام عاجزةً عن التصديق...رغم الأخبار المؤكدة التي وصلتني عن سفره مع عزيز وزواجه بأخرى لكنني كنت أنتظرهما كل يوم مكذبةً الواقع حولي...ولولا عطية السماء لي وقتها بماسة ربما كنت قد فقدت عقلي خلفهما!!!
أطرقت ميادة برأسها وحديث رحمة يشعل ذكرياتها القديمة...
كم تراها الآن تشبهها رغم فارق العمر...
كلتاهما جربت شعور النبذ ممن تحب وذاقت مرارة الوحدة بعدهم...
لكنها عرفت كيف تنفض عنها غبار ضعفها لتعاود الحياة بقوة تليق بها...
ومع هذا تبقى في القلب مرارة جرحٍ قديم لازالت تعكر مذاق شهد انتصاره على حزنه مهما طال العمر!!!
لكن رحمة قاطعت أفكارها عندما التفتت نحوها لتقول بابتسامة حنون:
_ولأن البِرّ لا يبلى..والذنب لا يُنسى والديان لا يموت ...عاد ابني إلى حضني بعد كل هذه السنوات ليعوضني عن كل لحظة حزن عشتها في غيابه...وفي أشد أوقات عمري احتياجاً إليه!!!
هنا شعرت ميادة بتأنيب الضمير وهي ترى الأمر من هذه الزاوية لأول مرة...
هي كانت تريد أن يعود عزيز لوالده وأمواله ومكانته الاجتماعية التي تليق به وبها...
لكنها غفلت عن مكان رحمة وسط كل هذا...
تلك المرأة الصابرة التي تحملت وحدتها وغدر زوجها طوال هذه السنوات...
وقد آن الأوان أن تحصد ثمار هذا الصبر في أواخر أيامها..
وعزيز أيضاً الذي عاش عمره السابق محروماً من أمه وهي على قيد الحياة يحتاج الآن أن يشعر بدفء حضنها..
"العقل" يقول أن عزيز أخطأ عندما ترك ثروة أبيه خلفه...
و "القلب والضمير" يحكمان أن يندفع عزيز في حضن رحمة أمامه!!!
لكن ماذا عنها هي؟!!
هي التي وجدت نفسها فجأة وسط هذا الصراع...لكن من تلوم سوى نفسها وهي التي اختارت من البداية للنهاية...؟!!!
لكن رحمة بدت وكأنها قرأت أفكارها فعادت تقول لها بحنانها المعهود:
_لا تتصوري سعادتي بإقامتكما معي يا ابنتي...يعلم الله أنني أحبك الآن كعزيز وماسة تماماً...لقد حرمني القدر ابناً يوماً ثم رده إليّ ثلاثة!!!
ولأن كلماتها كانت صادقة فقد لامست ذاك الوتر الحساس بقلب ميادة التي ابتسمت هذه المرة ابتسامة حقيقية لكنها عجزت عن إيجاد كلمات...
فضمتها رحمة لصدرها بقوة حنانها لتردف بعاطفة جياشة:
_عزيز يحتاجكِ جواره يا ابنتي...يحتاج قوتكِ ليستند عليها في بناء نفسه من جديد...أنا أعلم قدر التضحية التي تحملتِها لأجل طفلكما...وغداً عندما تحملين ابنك بين ذراعيكِ ستدركين أنه حقاً كان يستحقها!!!
=============
_هل ستخرج اليوم؟!!
هتفت بها ماسة وهي تتعلق به بجزع فزفر بقوة ثم هتف بضيق بالغ:
_هل تنتظرين أن أبقى حبيس البيت كالنساء؟!!
دمعت عيناها بقلق حقيقي وهي ترمقه بنظرات راجية...
لن تنسى هذا الرعب الذي عاشته ليلة زفاف دعاء عندما أطلق عليهما النار مجهولون ولولا ستر الله ثم يقظة الحرس لكانت مصيبة...
لقد أصابتها ليلتها نوبة اختناقها المعتادة في الأزمات واضطر هو لملازمتها طوال اليومين السابقين ...
ولأول مرة تشعر بالامتنان لمرضها الذي جعله يبقى معها طوال الوقت فيكفيها شر هذا القلق الذي يكاد ينهش صدرها عليه...
لكنه يريد أن يخرج الآن وهي لا تدري كيف تمنعه...
فازدردت ريقها ببطء وهي تلصق راحتيها على صدره هامسة برجاء:
_ابقَ معي اليوم فقط.
أشاح بوجهه وهو يقول بتذمر واهٍ:
_أنتِ تقولين هذا كل يوم...وأنا لديّ أعمالي .
دمعت عيناها بعجز وهي لا تجد رداً سوى انقباض قلبها خوفاً عليه...فأزاحت كفيها عنه لتهمس باستسلام كاره:
_حسناً...كما تريد.
عاد يلتفت إليها بترقب ليلتقط نظراتها التي فاضت بعاطفتها وقلقها...
مشاعرها الماسية باهظة القيمة والتي يدرك هو قدرها جيداً...
وكيف لا؟!!
وهو الذي عاش عمره -على غناه- لكن قلبه كان يشكو فقر احتياجه لهذا الشعور!!!
فابتسم رغماً عنه وهو يجذبها من خصرها ليقربها نحوه هامساً بنبرة عاد إليها حنانها:
_تخافين عليّ؟!
أخفت وجهها في صدره وقد خانتها كلماتها كالعادة....
لكنه رفع ذقنها نحوه لتغوص نظراته في كنوز عاطفتها الفضية التي التمعت الآن ببريق خاص...
ثم همس بنبرة غريبة:
_لقد اعتدت أن يخاف الناس مني...هذه أول مرة أشعر فيها أن أحداً يخاف عليّ!!
ذابت الكلمات على شفتيها لكن نظراتها حملت إليه مشاعرها كلها ...
فاتسعت ابتسامته وهو يربت على وجنتها هامساً بلهجة شاحبة:
_لا تخافي!! مَن هو مثلي لا تمنحه الحياة رفاهية الجروح...إما حياةٌ أو موت!!
تأوهت بخفوت وهي تعاود دفن وجهها في صدره ليضمه ذراعاها بكل قوتها وهي تهمس بجزع:
_أنت تخيفني أكثر بحديثك هذا ...أنا...
قطعت عبارتها عاجزة عن إكمالها وهي تشعر بالقنوط من وضعهما هذا...
لقد ظنت أن الأيام ستحسم حيرتها بشأنه لكن العكس هو ما حدث...
كل لحظة لها معه تزيد قلبها عشقاً لكنها تلهب عقلها قلقاً...
وهو واقف كالطود مكانه لا يتحرك...كل مساعيها لتغييره تفشل أمام قناعاته الراسخة بأن القوة والبطش هما سبيله الوحيد لفرض سطوته وحماية نفسه...
هي تقف وحدها بعلاقة لم تتجاوز بضع شهور أمام سنوات عمره السابقة كلها...

ماسة وشيطان   Where stories live. Discover now