الفصل السابع عشر

ابدأ من البداية
                                    

_هذا العمل لا يناسبها...سأبحث لها عن عمل أفضل.
لكن "الفاتنة" بدت وكأنها تتعلق بأي قشة فهتفت بسرعة:
_على العكس...السيدة تبدو شديدة الطيبة وسأكون مرتاحة بالعمل لديها.
بينما التفت الصغير نحو صفا ليهتف بفرح :
_هل ستبنين لنا بيتاً جديداً؟!
ضحكت صفا من قلبها وهي تقبل وجنته لتقول بحنانها الفطري:
_أنا لن أبنيه...هو موجود بالفعل...لكنني سأمنحك مفتاحه لأنك ستكون "رجل البيت" ...صحيح؟!
ضحك الصغير وهو يصفق بكفيه ...بينما ارتسمت على ملامح "الفاتنة" أمارات الارتياح رغم الحزن الذي حفر أخاديده وسطها...
فقلب عبد الله بصره بين الجميع وهو يشعر أن اعتراضه الآن سيبدو غير منطقيّ...
لهذا قال ل"الفاتنة" دون أن ينظر إلىها :
_إذا كان هذا العمل يناسبكِ فتفاهمي مع السيدة على التفاصيل...أنا لا شأن لي بالأمر.
قالها وهو يقوم من مكانه ليغادرهما...
عندما سمع صفا من خلفه تسألها بطيبتها :
_ما اسمك؟!!
ورغماً عنه وجد نفسه يرهف السمع لتصدمه إجابتها:
_فتون!
ارتسمت ابتسامةٌ ساخرة على شفتيه وهو يكمل خطواته مبتعداً عنهما ...
لو كان لكل امرئٍ من اسمه نصيب فهذه المرأة أخذت نصيبها كاملاً دون نقصان...!!!!
لو كانت الفتنة حقاً تتجسد في امرأة لكانت هي بلا جدال!!
تنهد بحرارة وخطواته تحمله خارج المحل ليطالع الطريق بشرود وهو يشعر بثقلٍ جاثم على صدره...
مع إحساس مبهم -بالخطر- بدأ يتسلل لنفسه ببطء...
وحدساً ما بداخله يخبره أن أيامه القادمة ستحمل له الكثير من المفاجآت...
الكثير!!!!!!
==========
جلس أمامها على طرف فراشها ليوقظها ككل يوم عندما فوجئ بابتسامتها الواسعة في نومها مع همهماتٍ ناعمة لم يتبينها فأدرك أنها تحلم...
ابتسم بحنان جارف وقد تراجع عن فكرته بإيقاظها مكتفياً بتأمل ملامحها بهذه الابتسامة الخلابة التي قلما يراها في صحوها...
ثم امتدت أنامله ببطء تتحسس ملامح وجهها باشتياقٍ -لا منطقيّ- فهو تقريباً لا يتركها منذ أسبوعين...
ومع هذا يشعر أن قربها كالماء المالح لايروي ظمأه بل يزيده !!
استمرت أنامله في تبتلاتها الطائفة على بشرة وجهها حتى وصلت لشق ذقنها الذي هو أكثر ما يأسر عينيه في ملامحها...
وكل ملامحها له آسرة!!
لتجذبه ابتسامتها من جديد قسراً إلى شفتيها اللتين تزينتا بابتسامتها الحالمة فوجد نفسه دون وعي يقترب منهما ببطء مسحوراً حتى كاد يمسهما بشفتيه...
لكنه تراجع في آخر لحظة وهو يجاهد نفسه في الابتعاد بوجهه...
وإن بقي قلبه على عميق قربه ...بل تشبثه!!!
تنهد بحرارة وهو يسحب أنامله بعيداً لكنه عجز عن منع عينيه من ملاحقة ملامحها الملائكية التي بدت له الآن كأروع ما تكون !!!
يقولون أن المرأة الجميلة تفقد الرجل عقله ....وليتها تفعل!!!
ليتها تحرره من قيود عقله وكبريائه حتى يستطيع مسامحتها...
حتى يستطيع التجاوز عن فعلتها التي طعنته غدراً!!!
انعقد حاجباه عند هذه النقطة وهو يرى بعين خياله رجلاً غيره رآها هكذا لينال منها ما حرّمه -هو -على نفسه!!
فشعر بنيران قلبه تستعر من جديد ليشيح عنها بوجهه وهو يستغفر الله بخفوت....
لكنه عاد بعد دقائق يختلس النظر لوجهها وقد غلبته عاطفته نحوها من جديد....
لتتحول نظراته المختلسة إلى تأملٍ عميق وكأنه يرتشف سحر ملامحها...
قطرة... قطرة!!
لكنها قطعت عليه سحر تأمله عندما فتحت عينيها أخيراً لتفاجأ بوجوده ...
فقامت من نومتها بارتباك لتقول بصوت لم يغادره النعاس بعد:
_صباح الخير...هل تأخرتُ في الاستيقاظ؟!
ابتسم بحنان وهو يلتقط أشعة عينيها النقية ثم هز رأسه نفياً ليقول بصوته الخشن:
_لا أبداً...خشيتُ فقط أن تفوتي ميعاد دوائك.
أطرقت برأسها مخفيةً ابتسامة امتنانها لكل هذا الحنان الذي يغرقها فيه مؤخراً بعد انتقالهما للعيش هنا...
والذي كانت تحتاجه بحق لتعبر كل ما كانت تعانيه منذ شهور ...
وبالتحديد منذ كارثتها الأخيرة مع فهد...
وعند ذكرى فهد تغضنت ملامحها ببغض وهي مندهشة من تغير حالها الجديد...
فالآن عندما تستحضر في مخيلتها ملامحه لم تعد تراها وسيمة كالسابق...
بل صارت تراها-للعجب- شيطانيةً منفرة !!!
وحتى ذكرياتها القصيرة معه والتي كانت تعتبرها حصاد عمرها الثمين...
الآن تطردها من رأسها كلما جالت فيه كأفعى سامة!!!
لقد تكفل الزمن بإزالة الستار كاملاً عن اللوحة القديمة...
لتبدو حقيقتها الكريهة ...
مجرد ألوانٍ صارخة متداخلة على قطعة قماش مهترئة بلا إطار...
فبئست اللوحة...وبئست الحقيقة!!!
بينما قاطع هو أفكارها ليسألها برفق حنون ولازالت نظراته المتبتلة على طوافها العاشق:
_يبدو أنني قاطعتُ حلماً سعيداً ...كنتِ تبتسمين في نومك!
اتسعت ابتسامتها وهي تومئ برأسها لتهمس بشرود مستعيدة أحداث حلمها :
_لقد رأيت أبي في الحلم يضمني بقوة...ويربت على رأسي بالدعاء كما كان يفعل رحمه الله...لكنه تركني بعدها ليذهب بعيداً وعندما رجوته أن يأخذني معه التفت نحوي مبتسماً ليقول لي بفخر إن طريقي لا يزال طويلاً !
ربت على كفها بحنان وقد أسعده حلمها مثلها ليقول بنبرة مطمئنة:
_إن شاء الله ستحققين كل أمنياتك.
نفضت عنها غطاءها وهي تقوم من الفراش لتقول له ببعض الانطلاق الغريب على تحفظها معه:
_أنا أريد أن أعد أنا الإفطار اليوم ...لقد صرتُ بخير!
قام بدوره وقد بدا على وجهه الاعتراض لكنها توجهت نحوه لتقول بوداعتها البريئة:
_حسناً...لا تعترض...نعده سوياً!!
ابتسم رغماً عنه وهو يجذبها من كفها ليقول بحزم رفيق:
_اغسلي وجهكِ أولاً والحقي بي.
أومأت برأسها في طاعة لتلحق به بعد قليل فتعاونه في إعداد الطعام وحمل الأطباق نحو المائدة...
ثم جلست جواره لتقول بهدوء:
_هيام كانت مختلفة جداً عندما زارتنا بالأمس...لقد اعتذرت لي أمام والدتك عندما غادرتنا أنت.
أومأ برأسه وهو يسألها باهتمام:
_وهل قبلتِ أنتِ اعتذارها؟!
نظرت إليه بتردد وهي لا تدري بماذا ترد....ثم همست بخفوت:
_ماذا تريدني أن أفعل؟!
ربت على كتفها برفق ثم قال بحزم وهو ينظر في عمق عينيها:
_افعلى ما تريدينه أنتِ!!
خفضت بصرها عنه للحظات ثم همست بطيبة واضحة:

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن