.|28|.

560 101 15
                                    


-" إذن؟ أتحتاجين شيئاً أو أن القطّ التهم لسانكِ كما يقال؟ " قلت لتيا، التي وبشكلٍ غريب أمست صامتة منذ آخر جملة قالتها.

النظر إليها أزعجني، وجودها فحسب أزعجني، جعلني أختنق ! كيف كانت صديقتي المقربة منذ بضع شهور؟ عقلي حاول بين هذه اللحظات الاستيعاب. لم أجد فرضيةً قد تُفّسر انقلابها الفجائيّ عليّ سوى أنها خلال العُطلة قامت بإصلاح علاقتها مع أصدقائها القُدامى، وهم مجموعةٌ كان كل فردٍ فيها من أكره الزملاء الذين اضطررت للتعامل معهم منذ انتقالي لهنا، وهم بدورهم كانوا يكرهونني، غالباً مُنذ اليوم الذي وجدتهم فيه يتنمرون على فتى هنديّ بإحدى الأزقة القريبة من المدرسة أيام الإعدادية. كُنت مارةً يومها مع أبي فأبلغته وهو بدوره أبلغ إدارة المدرسة ليتم عقابهم لفترة.

تيا كانت صديقتهم منذ الطفولة، لم تكن يومها معهم فلم أعرف إلاّ لاحقاً عن صداقتهم، وبأيامها هي كانت مُتشاجرة معهم، لم تخبرني مُسبقاً عن السبب، فتصادقت معي غالباً كي تُغيظهم وكي لا تبقى وحيدة وهي معتادة على التفاف الناس بها، ولم أمانع إذ لم أجد أياً مما يُعيبها أو يجعلني أكرهها وقتها. لم تكن مُتنمرة مثلهم.

بعد مرور ثلاث سنوات، هي وكما يبدو عادت لرفقتهم. لا يبدو ذلك جدّ منطقي، أن تتركني فجأة لأنها عادت لهم حتى ولو كنتُ عدوتهم، لابد أن هناك ما حفّزها. وهي غالباً إشاعة أني ' خطفتُ ' حبيبها الذي لا أدري أساساً من يكون منها.

-" لماذا تنظرُ لي هكذا؟ " تساءلت، لم تكن تسألني أنا، بل سايمون. لم أفهم تماماً نظرته نحوها حتى شرحت هي:" أأنت منزعج؟ لا تُريد رؤيتي؟ ترغب في تجاهلي كما العادة والابتعاد بقدر ما تستطيع إلا أنك لا تقدر؟ " لم يجب. من تساؤلاتها، بدا هذا الجو معتاداً بينهما، وأن يحب سايمون تجاهل شخصٍ محدد عن كل البشر هو أمرٌ غريب. لم أتعامل معه إلا هذه السنة، فلا أعرف الكثير عن ماضيه، ومما يبدو لي فهي كانت جزءً منه. كان هذا مُفاجئاً، لم تذكر لي عنه أيّ شيءٍ طول مُدة صداقتنا.

-" وماذا في ذلك؟ ستُجبرينني على أن أغير طريقة تعاملي؟ بماذا ربما؟ بالتنمر؟ " غرقت آخر كلمة قالها في نبرةٍ ساخرة شديدة.

تبعته هي الأخرى في السخرية:" آه والآن ماذا؟ تحمل ضغينةً شديدةً ضدي من أجلها؟ "

أجابها في هدوء، عكس كلماته:" أنتِ التي كوّنتِ الضغينة مُنذ زمنٍ طويل وأنتِ التي جعلت الأحوال تؤول لهذا المنوال، لم أكرهكِ يوماً وأنتِ تعلمين ذلك، أنا فقط لم أتحمل نفاقكِ الدائم، ولا زلتُ كما لازال مُستمراً. "

رد فعلها كان غريباً. في البداية غضبت، لكن غضبها سرعان ما اختفى خلف موجة حزن اعترتها، بدأت عيناها تدمعان قليلاً، تمتمت:" أعلم أني مُخطئة لكن .. " لا زال سايمون على هدوئه، ويبدو أنها أدركت لا فائدة أيّ مما ستقوله أمامه، رغم أني لا أعرف قصتهما إلا أنني أعرف بأنه وحينما يتمسّك سايمون برأي ما فذاك يعني أنه مقتنعٌ به أشدّ الاقتناع. هزّت رأسها، ثم ابتسمت ساخرة، تقريباً تُحاول جمع شتات نفسها حتى لا تهرب دموعها منها أمامنا، ثم قالت:" ' اربح شيئاً وقد تخسر آخر، الحياةُ عطاءٌ وأخذُ كذلك. ' تتذكر حينما أخبرتني بذلك يوم خسر أبي مهنته مرّة قديماً؟ لم أتفق معك وقتها، ليس لأن القول لم يكن صحيحاً، بل لأنني أحسستُ لكونك تقصدني بكلامك، كنت تقول بأنني متملكة، لكنني لم أصدق، لم أحب أن أصدق، فقط .. " نعم، هي ستخسر معركتها مع رغبتها في البكاء بأيّ لحظةٍ الآن، وهي حالما أدركت ذلك استدارت وابتعدت راكضة.

-" فضلّت الحفاظ على كبريائها المُدعى على أن تعترف بالحقيقة، مُتوقع. " تمتم سايمون ساخراً، ولا يخفى على أيٍّ كان نظرة الحزن التي حملها أثناء شروده مع النهر لاحقاً وتناسيه تقريباً وجودي.

-" مَن تيا؟ " سألت. لم يكن سؤالاً عبثياً، لم أجد غيره يطرح كل التساؤلات التي هاجمت عقلي الآن، تيا التي عرفتها طوال تلك المدة كانت فقط هي السطحية، لم أعرف خلفيتها ولم أعرف حقيقتها ولم أعرف من تكون فعلاً. ويبدو أنه يعرفها.

أجاب ببساطة:" مُجرد فتاة أرادت امتلاك كل شيء لتعويض نقصها الدائم، لتجد نفسها تخسر أكثر فأكثر ومن ذلك ذاتها .. " صمت وهلة بينما كنت أحاول تخمين التفاصيل، ثم تمتم ربما لنفسه:" عسى أن تسترجعها يوماً .. هي لم تكن بهذا السوء. "

توقفتُ عن التفكير بتيا وتساءلت، ما الذي اعلمه كذلك عن سايمون؟ من هو؟ هل من الممكن أن هناك جانباً ما فيه مختلفاً لم أتوقعه مثلما لم أتوقع جانب تيا؟ كيف سأعرف ذلك؟ متى تصل العلاقات لتلك الدرجة من الثقة المتبادلة حتى يعترف من فيها بحقيقتهم للأطراف الأخرى؟ سنوات؟ وهل تتطلب الصداقة الحقّة تلك المعرفة؟ أو هل تدخل في نطاق الخصوصية؟ ولكن كيف تُسمي نفسك صديقاً وأنت ترى صديقك حزيناً ولا تدري ما به أو كيف يمكنك مساعدته؟

في البداية اعتقدت أن التقائنا بتيا سيُشعرني مُجدداً بالاختناق؛ إلّا أنه وبالنظر الآن، سايمون هو الذي يشعر بذلك. سؤاله غالباً سيزعجه والتصرف كما لو أن شيئاً لم يكن كذلك يزعج، والصمت لن يعني إلا تركي إياه ليغرق بأفكاره التي لا أعلمها إلا أنها وما يهم .. تحزنه.

ماذا أقول وماذا أفعل؟ هذا مربك. مفهوم الصداقة بأكمله مُربك مُريب فعلاً.

ـــ

تحديث سريع .. قلت حرام ترك الأمور على نهاية الفصل السابق لمدة طويلة XD

تيهان رُوح.Where stories live. Discover now