وقعُ خُطوات قادِمٌ ناحيتهما جعلهما تتصلّبان في انتظار وصول صاحبها.

«حُبّ حياتي مرّ أمام المحلّ الآن؟! سألحق به سريعا! شكرا جزيلا، ڤان ليسا».
تصنّعت سِيلا نبرة مُتحمّسة وابتسامة تشُقّ وجهها ضاربةً يدها على الطاولة ثم خرجت مُهروِلة لتلحق بحُب حياتها المزعوم.

تنفّست الصعداء حين وقفت في الشارع المُزدحم وشكرت عقلها على ابتكار تلك الكذبة في وقت قياسيّ. لم تُطِل التأمّل حولها وعادت إلى كوخ جدّتها قبل أن يحدث وتلتقي بـخطر آخر.

رائحة القرفة المألوفة التي لفحتها عندما دخلت هدّأتها وأرخت عضلاتها المتشنجة من الخوف.

اطمأنت أن جدتها لم تستيقظ في غيابها ثم ارتمت في غرفتها وزفرت نفسا طويلا.

الآن وقد أصبحت بمأمن بإمكانها التفكير بوضوح ومحاولة معرفة فصيلة الشخص الذي قاطع جلستها مع قارئة الطالع.

لم تلتقط من ملامحه سوى خصلات باهتة، شقراء أو رمادية، هي لم تكن متأكدة تماما. وكذلك ذقنٌ حادّ تعلوه شفتان بـلون ورديّ فاتن تمنّت لو تمتلك أحمر شفاه مثله.

ذئبتها في شبه سُبات، لا تظهر إلا عند اكتمال القمر، لذا لا يُمكنها تحديد ماهيةِ ذلك الشاب.

«آخر مرّة أذهب فيها إلى المدينة».
همست لنفسها بقليل من العزم ثم أغمضت جفنيها مُستسلمة للتعب الذي أصابها بعد نشوة الأدرينالين تلك.

في اليوم التالي، لم يكن بمقدورها العمل في الحديقة بسبب الجو المُشمس والحار أكثر من سابقه. إشارة أخرى بأن الربيع قد حلّ ومعه تفتّحت كل الزهور التي كانت بانتظارها.

وقفت عند النافذة تتأمل اللوحة التي عمِلت جاهدا لتنسيقها، من حيث النباتات التي تحبّ الظل والتي تحتاج ضوء الشمس لفترة أطول، النباتات التي تُزهر والتي لا تُزهر، وحسب ألوان الزهور وأحجامها. عمل مُجهد لكنه يُشغلها ويملؤ وقت الفراغ الكثير الذي لديها.

«تبدو أجمَل هذه السنة».
علّقت جدّتها بنبرة فخورة.

«أجل، وستبدو أجمل السنة المقبلة حين أٌضيف أشجار كمثرى أخرى».
ردّت بابتسامة وانضمّت لـطاولة الغداء.

تناولتا الوجبة في صمت إلى أن تبادر سؤال في ذهن سِيلا.

«نانا، نانا؟».
تكلّمت بعد أن أخفضت ملعقتها.

«نعم، حمامتي؟».
أجابتها لتُكمِل الأسطوانة المتكررة يوميا بينهما.

«هل يمكن توقع المُستقبل؟».
عضّت شفتها مُتذكّرة كل التوقعات التي قصّتها عليها قارئة الطالع، أغلبها أنذرتها باقتراب الخطر الذي تحاول دائما تجنبه ونادرا ما كانت تُبَشّرها بأشياء جيّدة.

لحد الآن تحققت أمور بسيطة فقط كالهدايا التي ستأتيها في عيد ميلادها وتلك المرّة التي زارتها فيها عائلتها، مرّة في الاثنتا عشر سنة... احتياطات لتجنّب كشف موقع سِيلا بينما تظاهروا أنها في مملكة أخرى تُزاوِل دراستها وتعتني بجدّتها.

«بعض الكائنات تمتلك هذه الهِبة، كـ الحوريات وقِلّة من السحرة... البشر أيضا لديهم طُرق غريبة في الاستطلاع عما سيحدث».
ردّت الجدة بعد التفكير قليلا.

«لكنّ المُستقبل في حد ذاته غير ثابت، قرار بسيط كارتدائك لثوب أحمر بدل العنّابي كفيل بتغيير مستقبلك بدرجة كبيرة».
أردفت من منحى فلسفيّ ثم أكملتا طعامهما في هدوء.

انتظرَت سِيلا وقت الغروب لِتبدأ روتينها اليوميّ للاعتناء بحديقتها من سقيٍ وقص أغصان إلى نزع الأعشاب الضارة وجمع بعض الثمار.

بينما التهت بشمّ عبق الياسمين الذي ينتشر بحلول الليل، سمِعت ما بدا كصوت أحدهم يعطِس، صوت ضئيل لم تكن لتلتقطه أذناها لو لم تكونا حساستين فوق الحد الطبيعيّ.

التفتت لناحيته ماسحةً بنظرها كل غصن وورقة إلى أن لمحت شكلا أبيضا بين زهور القرنفل الثلجيّة اللون، المُفضّلة عندها.

اقتربت من تلك المشتلة بخطوات حذِرة فتحرّك الشكل لتكتشف أنه ثعلب. ثبّت عينيه الحمراوتين عليها كأنما يستعد للانقضاض عليها وألصق أذنيه برأسه.

«كم أنت ظريف!».
جلست القرفصاء بينما ضمّت يداها خدّيها في تعجّب من الكائن الصغير أمامها.

«لن أؤذيك! فقط دعني أداعب فروك، يبدو ناعما جدا».
تقدّمت منه ومدّت يدها ببطئ نحوه.

تحرّك الثعلبُ ففزعت وانسحبت خطوة للخلف لكنه زحف إليها بعد أن فقد عدائيته السابقة.

«فتى جيّد... أم أنتِ فتاة؟».
تساءلت غير منتظرة إجابة بحقّ وداعبت فروه بينما خرخر مُعبّرا عن استمتاعه بلمساتها.

«لقد انقضى الشتاء بالفعل، لِم لَم تُغيّر لونك بعد؟ سيتمكّن الصيّادون من إيجادك بسهولة في غياب الثلج لإخفائك...».
حكّت خلف أذنه مُتكلّمة مع نفسها، هي أعلم بأن اللون الأبيض بمثابة مغناطيس لكل من ينوي بهما سوءً.

«سِيلا! مع من تتحدثين؟».
نادت جدّتها فجأة فوقعت على مؤخرتها من الصدمة وهرب الثعلب خائفا.

«لا أحد، نانا. أنا قادمة».
نفضت عن أسفل ظهرها التراب ثم دخلت الكوخ لتتناول العشاء ثم تخلُد للنوم.

لكن حواليّ منتصف الليل أيقظتها رائحة احتراق وصوت حسيس النار.

----
🎴

----🎴

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.
سِيلا ✓Where stories live. Discover now