- الفصل العشرون

128 11 0
                                    

" أحيانًا ننكر أشياء ما بداخلنا ، كي نبدو جيدين من الخارج ، ولو دققنا في ذلك الأمر لعلمنا أننا لسنا جيدين أبدًا كما ندعي "
| بقلمي |

مستلقية علي فراشها شاردة ، تُطالع السقف في تفكير بات يُلازمها ، بقي لها فُصول قليلة علي روايتها الورقية الأولى وتكون قد انتهت ، تعبت كثيرًا حتي وصلت لتلك المرحلة وسط كل تلك الانشغالات ...

لكنها لـ سبب ما ، ليست سعيدة بها ....
تشعر أنها ناقصة من شيء ما ، ليست كتلك الروايات التي تقرأها دومًا ، وحتي اعتادت كتابتها ....
بها شيء ناقص ....
كـ بناء ينقصه حجر واحد ، يراه الناس كلما طالعوه ، فلا يلتفتوا لجمال البناء ولا لروعة الزخرفة ، بل بالنقص الذي به ....
هكذا اعتاد الناس الحكم ، وهكذا نظر الناس دومًا ، وهكذا بدأوا في إطلاق الأحكام ....

_ روايتك مُستقيمة يا أنسة ، استقامة معنوية بحتة ، عملية بشكل كبير ، وخالية من المشاعر مما يجعلها ليست قصة حُب .....
تتذكر رأي أحد الكُتاب الكُبار الذين تكن لهم المحبة والاحترام والتي استشارتهم خصيصًا كي تُسكت هواجسها بخصوص ذلك " النقص " الذي تراه في الرواية ، ثم تتذكر الحوار بأكمله :
_ يعني ايه مُستقيمة ...

_ يعني فيها جوانب علمية وفلسفية رائعة ، قضايا التفكير الخاصة بالعقل ناجحة ، الأحداث متوازنة ، متتالية ، مترابطة ، مثالية بشكل مُريب ...مع احترامي التام لجميع جوانبها ، بس ناقص فيها روح ..

_ هي مش بني آدم ..؟

_ صحيح هي مش بني آدم ، بس هي عبارة عن حياة بني آدم بشكل متنوع ، في فرحه وحُزنه واكتئابه وهكذا ، حضرتك مطلعة الأبطال مستقيمين و فارغين بشكل كارثي ومثير الاستفزاز ، معنديش مانع أن يكون البطل جامد في البداية، بس مش للدرجة دي ، فين تخبُطه وسعيه للوصول لحقيقة قتل والده ؟ فين حُزنه الكبير والعميق ليلة قتله ؟ وفين حُبه الكبير للبطلة ؟ ، هو مش روبوت ، هو إنسان ، ليه مشاعر وليه تخبطات...

مشاعر ؟
ماذا أخذ الناس من المشاعر ؟ من الحُب ؟ من العاطفة ؟
هي لديها إجابة جاهزة لهذا ....
عملية ومُجربَة ....
والدتها ....
التي طارت بالحُب قدر ما طارت ، ثم كُسر جناحيها وسقطت أرضًا وحيدة ، دون حُب حياتها ....
الذي تركها وراء ظهره ، وكأنه لم يحبها يومًا ....
ولعله لم يحبها أبدًا ....

أريتم ثمار الحب ؟
لم تأخذ منه والدتها إلا وجع القلب ، والشقي والتعب ....
لم تأخذ منه إلا بحور الدموع وآلاف الهموم ....
إذن لماذا تحب هي ؟

الحب لم يعد موجودًا ، في زمن كثرت فيه المصالح والذنوب ، في زمن رمي الجميع الآخرين وباتوا أنانين ....
هي كفرت بالحب منذ زمن ...
ولن تؤمن به أبدًا ....

إذن لماذا تكتب قصة حب ؟
إكمالًا للمعني ؟ للنقص ؟ للصورة ؟
لكنه وحتي وإن كان كذلك ، هي لم تُجد التعبير عنه ....

وكيف يعبر عن الحُب كارهيه ؟ فاقديه ؟ والكافرين به ؟
كيف تعبر عنه ؟ وهي لم تحظي به ؟ هي لم تراه ؟ ولم تصدق وجوده ....

لكن في نقطة ما ، في أعمق أعماق قلبها ، تشعر بشيء غريب يكذبها ، شيء ينافي العقل والمنطق ، ويُخرجها من تلك الحالة من الجمود .....
شيء مثل .....

_ ده لما السماء تمطر كفتة إن شاء الله ، أنا وزعفرانة ؟

= اسمي ريحان ...

_ الاتنين بيتجابوا من عند نفس العطار ...

ابتسمت فجأة بخفوت ، وهي تستوعب أنها دُعابة مضحكة فعلًا ، ثم عبست لتخليله أفكارها الخاصة وفي تلك النقطة تحديدًا ....

_ هو حضرتك بتتضايق من الصوت ده ؟

= امم ...

_ الصوت ده ؟

= ريحان ... بلاش !

_ بلاش ايه ؟ أنا مش فاهمة حاجة ، أنا بقولك الصوت ده ... ده .. بيضايقك ؟

اتسعت ابتسامتها ، ثم عبست مرة أخري ...
ما الذي قاطع تفكيرها الهام .... بعض من الذكريات التي لا داعي لها ؟
لا داعي لها ؟
لقد استحضر ذهنها تلك الذكريات في ذلك الوقت تحديدًا فـ هل من سبب ؟
لا تعتقد ذلك ....
لكنها شعرت بالحماس فجأة ...
حماس يَدب في أولئك المجانين الذين يمتهنون الكتابة عندما تأتيهم فكرة رواية ، فيدب الحماس في صدورهم ، ويستقيمون مُسرعين كي يكتبوا عنها الكثير والكثير ...
حتي أنهم من الممكن أن ينسوا الزمان والمكان ....
ينفصلون عن الواقع ، ويكتبون عما دار في خواطرهم ...
هكذا هي فعلت ...
فـ استقامت مُسرعة وهي تمسك ورقة وقلم ...
وتخط الشخصيات ....
تسجل بعض الأحداث ...
ثم تضع بعض النقاط التي جالت بذاكرتها حول الأبطال ...
ومن ضمن تلك النقاط كتبت :
اسم البطل : ياسر ...
لقبه : الطاووس ذو " الكحكة " المميزة ...
صفاته : مغرور ، يري نفسه الوحيد في الكون ، وسيم ، مشهور ، وغيرها من الصفات التي تُشابه التكبر والتعنّت ...

ابتسمت فجأة ابتسامة شريرة ، وهي تمسح اسم البطل " ياسر " وتكتب بدلًا عنه " عُقاب " ...
وانحنت تكمل الكتابة بروح متحمسة ...

ربما لو رأت وجهها للمرآة ، لعلمت أنها ليست كافرة بالحب ...
ربما بدأت تؤمن به .... قليلًا ؟

....................................

" تفنن الناس علي مدار سنوات حتي أجادوا تقمص دور الضحية ، ولكن هل جربت يومًا أن تكون الجيد السيء في رواية أحدهم ؟ "
| بقلمي |

" هل كان اختلافها هو السبب الذي جعلها ملفتة جدًا لقلبه ؟ أم أنها جاءت عادية جدًا في زمن بات يتصنع الاستثناء ؟ "
_ بقلمي _ كادر ....

" دربت قلبي طويلًا حتي حفظ الدرس المناسب ، أخبرته أن التجمد في إحدي الزوايا أفضل بكثير من الوقوع في الحُب ، صممت علي وضعه في ثلاجة أبدية حتي لا يلتفت ولا يشعر ، لكنه التفت .... شعر .... وكسر قوانيني لأجلكَ "
_ بقلمي _ ماريتا ....

~ منذ أشهر .... ~

جالسة في حديقة المشفى ذات الطبيعية الساحرة ، يداعب الهواء وجهها ، بينما هي مغمضة العينين ، تنساب الدموع من أسفل جفنيها ، بينما هي لا تُبالي .....
هي تريد التحرر ...
تريد النسيان ....
لكن ، كيف تفعل هذا ؟
كيف تفعل هذا وقلبها معلق بشخص مُجرم ؟ بشخص قاتل ؟ بشخص كاذب ....

سمعت صوت خطوات من خلفها ، واشتمت عطر قوي الرائحة ، عرفته فورًا ...
لقد كان هديتها له ....

جلس في المقعد المقابل لها علي نفس الطاولة ...
فـ فتحت عينيها أخيرًا ...
وما أن فعلت ، حتي قابلت وجهه ، واصطدمت بعيناه ...
لكنها ...
وبعد أربعة أشهر من العلاج النفسي في تلك المشفى ...
لم تتعرف عليه ....
فأمامها ، كان شخص بلحية طويلة وعينين حمراوين ، الإجهاد ظاهر من مقلتيه ، والعذاب يضخ من وجهه ...
شخص بات غريب الملامح علي قلبها .....
_ مـاريتا ....

اسمها الذي خرج منه أعادها إلي رُشدها ...
إنه منذر ...
الذي صدم جدتها وهرب ...
إنه النذل ...
الذي كاد يستغل اسم والدها في أعماله المُشينة ...
إنه الكاذب ...
الذي كذب عليها بقصة مزيفة تحمل توقيعه بجدارة ....
إنه الخائن ...
الذي حنث بقسم قسمه بأن يحمي الجميع ، وأن يساعدهم ، فكان أول المسرعين لإيذائهم ....
إنه الضعيف ...
الذي لم يصمد أمام إغواء الشيطان ثانيتين ...


مئات ومئات الأوصاف التي جالت بذهنها ، تنبهها وتسكت قلبها المشتاق ، وهواها الضعيف ...
وتصفعها صارخة بها أنه لم تحب رجلًا كهذا ....
بل أحبت رجلًا عصاميًا مُجاهدًا ...
أحبت رجلًا عاش بشرفه وكان علي استعداد الموت للدفاع عنه ....
لكن .... كل ذلك بات سرابًا ....

_ سـامحيني ...

كلمة باهتة تافهة ، وقفت أمام كل أفعاله ، فسحقوها ، لم يعد يفيد الاعتذار ، ولن ينفعه السماح بشيء ...
إنه مدنس ....
نجس ...
وحرام عليها أن تدنس نفسها مثله ....

_ بُصي ، متسامحينيش ، اسمعيني بس ....

ظلت أمامه ترمقه بلا تعبير ، لم تبد إشارة لاستعدادها لسماعه ، ولم يكن لديها صبر لذلك ....
لكنها تحاملت علي نفسها بقسوة ....
لأنها تريد أن تسمع .... تريد أن تفهم ....
لمــاذا ....؟
كي تعفو ؟ كي تصفح ؟
لا .... العفو والصفح بعيدان عنها ....
هي لن تسامح ، ولن تعفو ....

لكن من حقها أن تفهم ....

ظلت ماكثة أمامه وهو يحكي ويثرثر ، يذكر أخاه الميت فيبكي ، ثم يذكر والده فتشع عينيه بكره وغضب ، ثم والدته ثم هي ، فيبتسم بحب لم تعد تتأثر به ....
باتت تشمئز من حب مريض كذاك ....
أعاد حكاية القصة من وجهة نظرة هو ، أعاد صياغتها حتي أصبح هو الضحية ، وباتت الدنيا هي الظالمة ...
بات هو مسكين الحكاية ، والحياة هي من جارت عليه ....

هي تعرف الحكاية كلها سابقًا من الضابط كادر ، ذلك الذي اختفي بعدما فشل في القبض علي منذر ، وآخر ما قاله لها كانت جملة بغضتها توحي بهزيمته ....

_ أنا اتهزمت ...
_ أنا اتهزمت ....
_ أنا اتهزمت ....

لكنها لن تُهزم ....
لن تنحني ....
لن تعفو ، ولن تصفح ....

_ بُصي ، أنا مقصدش ، أنا مش وحش ، والله وأنا مش وحش ، بس أنا ناوي أبطل ، أنا ناوي أخلص من كل القرف ده ، وأخد أمي وأمشي ، وساعتها أنتِ تسامحيني ، و نعيش مع بعض ....

فتحت ثغرها أخيرًا كي ترد ، ثم ردت بصوت هادئ ، قوي قصف في الأجواء :

_ بقالك كام سنة بتقول كده ؟

سؤالها أخرسه ، بان الهوان في عينيه ، و انحني كتفاه في هزيمة ، ثم تمتم :

_ كتير ، بس هانت ، و كل حاجة هتبقي أحسن ...

_ ازاي ؟

_ هبطل ، صدقيني هبطل ....

ابتعلت غصة مؤلمة من حلقها ، ثم ردت بهدوء بينما داخلها يشتعل :

_ وبعد ما تبطل ، هتروح تسلم نفسك ؟

_ أسلم نفسي ليه ؟ هو أنا مجنون ؟

_ أمال الحكاية هتنتهي كده ؟ هتخلص علي كده ؟ الرواية ده آخرها عندك ؟ خيالك ماجبش أوسع من كده ؟ لـيه ؟ مش رقبتك فيها ذنب ناس بالمئات ؟ مش ايديك اتدنست بدم ناس ملهاش ذنب ؟ مش رفعت مسدسك وقتلت ؟ مش استغليت مهنتك وحنثت بالقسم ؟ كـل ده مش هتتعاقب عليه ؟ أمـال الحقوق تترد امتي ؟ هـا ؟ إذا كان القاتل طموح لدرجة أنه نفسه يعيش وكأن مفيش حاجة ! فين الحق ؟ ولا أنتم بتعملوا ميزان حسب مزاجكم عشان يناسب رواية تافهة في بالك ! هو أنت فاكر أنك ضحية ومسكين ؟ لا يا بابا فوق ! أنت المذنب في القصة كلها يا منذر ....
ربك مقالش كده ! ولو كل بني آدم استسلم من أول قلم ، يبقي الناس هتختلف عن بعضها ازاي ؟
أخوك اتقتل ؟ وزعلان عليه أوي ، المفروض تزعل أنه مات قبل ما يتوب !
أبوك ظالم ؟ خد منك مصروفك ؟ خليك راجل وبات جعان علي أنك تمد ايديك للقمة حرام !
يا أخي دا أنت سرقت وخدعت وقتلت وزنيت وشربت خمرة ، ناقص ايـه ؟ هـا ؟ ناقص ايـه معملتوش عشان تقنع نفسك أنك مش ضحية !


_ بس أحنا نقدر نكمل يا ماريتا ! نقدر نعيش ، أوعدك هاخد أمي وأبطل وأبعد عن أبويا ، إن شاء الله نسافر برا ، مش مهم ، الفلوس موجودة .....

_ فلوس ايـه ؟ الفلوس الحرام ؟ وبعدين ثواني ، هو أنت فاكر أنه بعد ده كُله أنا هبص في وشك حتي ؟ يا أخي هأمن علي نفسي ازاي أصلًا معاك ؟ سيبك من كل ده ، هحط ايدي في ايد واحد حياته كلها مدنسة ؟ أوشم ولادي بلطخة أنهم يكونوا ولاد بني آدم زيك ! أنت مقرف عارف ؟ مقرف ومثير للاشمئزاز ...
وعارف المشكلة فين ؟ أنك مكونتش هتقولي أبدًا ، كنت هتعملني زي أمك ، الزوجة المختوم علي قفاها من جوزها ، الزوجة الي جوزها قاتل وهي متعرفش ، وبعد كده ؟ كنت هتشغل ولادي معاك زي أبوك ولا ايه ؟ مـا كُله حرام فـ حرام !


_ أنا مكنتش هعمل كده !

_ وأصدقك ازاي ؟ أصلًا عملت ايـه كويس عشان أصدقك ! فين عمايلك الحلوة ؟ شوية وعود تافهة بالحُب ؟ وشوية بالجواز ؟ شوية ورد تافة علي هدايا أتفه منها ؟ ده عملك الكويس ؟ دي خيبتك ! حتي الهدايا أصلًا جايبها بفلوس حرام ، لما كنت بتعزمني عشان ناكل بره كنا بناكل بفلوس حرام ، باختصار ، أنت حياتك كلها حرام !

وقفت وهي تلهث أخيرًا ، وصل الصبر لديها لتحت الصفر ، فأشارت إليه بأن يذهب دون كلام ....
لكنه استقام واقفًا ببطء أمامها ، وهو ينظر لها بغرابة ، ثم تقدم منها وهو يمسك كفها قائلًا بهدوء غريب :

_ أنتِ مش هتسيبيني ...سامعة ؟ أحنا هنكمل حياتنا عادي !

سحبت كفها منه سريعًا ، ولكنه شد عليه بقسوة ، فشعرت بالخطر ، لكنها لم تمنع لسانها من أن يخيب أماله :

_ ده في أحلامك المريضة بس ، أنت هتتسجن وهنشوف !

ضحك بقسوة مفاجئة وهو يقول :

_ ماري ، مين عرف حتي الآن يسجني ؟ هو أنت فاكرة أن الضابط العبيط الي معاك ده يعرف يعمل حاجة ؟ ولا عرف يعمل حاجة ، وحتي لما حاول فشل ، وأنا ردناله محاولته بهدية قيمة سكتته تمامًا ، وبعدين هو أنت فاكرة أنهم هيسيبوني أتسجن كده ؟ طبعًا لا ، هي شبكة ، لو وقع حد منها الباقي بيتجاب ، عشان كده أول ما حد فيهم بيقع بيعملوا حاجة من الاتنين ، لأما ينجدوه ؟ أو .... يقتلوه ....


اتسعت عيناها بصدمة ناظرة إلي القسوة المتمثلة علي وجهه ، فـ شعرت بالنفور ، أرادت منه أن يصمت ، لكنه لم يفعل ، بل تابع قائلًا :

_ أنت عايشة في عالم وهمي يا ماري ، الحق مش ديمًا بيكسب ، والشرير مش ديمًا هو الوحش !

_ ده في ميزانك الباطل ، مش فـ ميزان العدل الي عمله ربك ! القاتل قاتل حتي ولو مختل نفسي ، ايده اتدنست ، نفسه اتدنست ، وكفه الميزان اختلت ، بقا في روح في رقبته حتي ولو هو مش واعي ، حسابه عند ربك ، لكنه لازم يتسجن ! واسمعها مني يا منذر ، أنت الي عايش في عالم وهمي مش موجود ، مفيش واحدة تقبل تعيش مع قاتل في بيت واحد وهي عارفة بده ، ولا حتي ولو كانت بتحبه ، ملعون أبو الحب الي يعمل في البني آدم ده يا أخي ! مش عايزة أنا حب زي ده ! أنا عايز بني آدم نضيف ! ودي صفة مش موجودة عندك للأسف !

_ أنت فاكرة أني أنت الوحيدة الي كده ؟ ما ناس كتيرة شغالة معايا فنفس الهباب ده ومراتتهم موافقة !

_ بس أنا لا ! أنا مش موافقة أحط ايدي في ايدك ! أنت اتدنست يا منذر ، وحرام عليا أني اتدنس نفسي معاك !

_ أنت أنانية ، أنانية عشان بتضعي حبنا لمجرد حجج تافهة !

_ حجج تافهة ؟ أنت بتسمي أنك قاتل حجج تافهة ؟ وبعدين يا سيدي أنا أنانية ! في دي بقا أنا أنانية ، هي حياة واحدة هعيشها يا منذر ، ومعتقدش أني بعد ما أموت هيبقي عندي مبرر قدام ربنا أبرر بيه ضعفي قدام حاجة تافهة زي الحب ، وتضيعي لآخرتي بسببها .....

_ الحب دلوقتي بقا حاجة تافهة ؟

_ تافهة جدًا لو هيبقي معناه أني أضيع دنيتي وأخرتي عشان واحد زيك ! تافهة جدًا لو ضيعت حياتي المطمئنة وحطيت ايدي في ايد واحد مش عارفة امتي هيخش عليا وهو مقتول ! تافهة جدًا لو اتحطت في نفس الكفة مع راحة بالي ونقاوة نفسي .... صدقني تافهة جدًا ....
هتعب شوية ؟ هعيط شوية ؟ هكتئب شوية ؟ بس هفوق في الآخر ! هرجع حياتي في الآخر ! لكن طريقك يا منذر نهايته ضلمة ، وأنا متعودتش أمشي إلا في النور ، فطرقنا بقت موازية ، مُختلفة ، وعمرها ما تتقاطع ، لكن هفضل موازياك يا منذر ، هبص عليك من زواية ديمًا مستنية اليوم الي هتتسجن فيه وتتثبت أن روايتك باطلة ، وأن كان عندي حق لما دوست علي قلبي وبعدت عنك ! عشان ولا مليون راجل ممكن يعوضني عن نقاء فطرتي و صفاء روحي ....


_ بس أنت ممكن تاخدي بايدي ! ممكن تساعديني أتوب !

_ أنت ليه مستني من حد ديمًا يساعدك ؟ ليه بتحط اللوم علي غيرك عشان مبيعملوش حاجة واجبة عليك أنت !؟ ، ليه ديمًا بتحب تلعب دور الضحية ؟ وكأنه قالب سهل ومُناسب عشان أعلق عليه ديمًا أخطائي ، وأرجّع إليه كل ذنب ؟! هو أنت عاجز ؟ ما تساعد نفسك ! خد ايدك واقسي علي نفسك لحد ما تبقي أحسن ! حتي ولو أنا قبلت أساعدك ، هترجع تاني للمعصية ، مش عشان السوء طبع فيك ، بس عشان الضعف بيسري في دمك ! طول ما أنت ماعملتش الحاجة عشان نفسك ، يبقي ملهاش لازمة ، أنت مينفعش تتوب عشاني ، لأما هترجع للذنب بعدها كتير ! توب عشان نفسك ! عشان تنضف ! عشان يبقي ليك وش تقابل ربك !

_ أنا ضعيف ؟ دلوقتي بقت أنا الضعيف ؟ قولي أنك أنت الي مش عايزة تساعديني !

_ عايز تقول كده ؟ قول ، عادي جدًا ، اقلب الأدوار كعادتك و أعمل نفسك ضحية ! وخليني أنا الوحشة ، بس أنا حقيقي وبكل أمانة ، معنديش مانع أبقي الوحش في القصة دي ...


_ بس أنا حبيتك ...

_ ايـه هو الحب يا منذر ؟

صمت لوهلة ، ثم سألها :

_ ايـه السؤال الغريب ده ؟ حد ما يعرفش ايه هو الحب ؟

_ آه ، ايـه هو ؟

أجفلت ماريتا عائدة من ذكرياتها وهي سائرة برفقة كادر ساحبة معها ذراعه ، لا تعلم لما تذكرت تلك الذكري في تلك اللحظة تحديدًا ....
خصوصًا أن ذكرياتها مع منذر ، حاولت نسيانها قدر الإمكان ، لكن لما طفت تلك الذاكرة وسط الأخريات متمردة ؟
أيعقل لأنها كانت الأخيرة قبل أن يحاول الاعتداء عليها ؟

سرت في جسدها رعشة مرتعدة ، وهي تهز رأسها مستعيدة نفسها ، تشد ذهنها إلي أرض الواقع ، لكن كادر لاحظ الرعشة التي سرت منها إلي ذراعه ، فسألها مُبتسمًا :

_ بردانة ولا ايـه ؟ لسه الدنيا مش شتا أوي ...

هزت رأسها مبتسمة ابتسامة لم يفته فيها عدم طبيعيتها ، لكنه آثر تركها علي راحتها ، ثم تطلع إليها وهي تسحبه ورائها مسرعة في طريقها ، متجهمة الوجه غامضة العينين ، ترتسم في عينيها ابتسامة ساخرة كعادتها المازحة ، كتفيها مرفوعان ، وسيرها في خطوات واسعة سريعة ....

لا تهوي التدلل في المشي وكأنها في عرض أزياء ، ولا تسير بتمايل تفاخرًا بحذائها الجديد ...

احم ... بالحديث عن الحذاء ، إنها لا ترتدي حذاءً من الأساس ، إنها ترتدي مركبة فضائية تدعي بـ " الكروكـس " أسود اللون ناسب بنطالها الواسع الذي يحمل نفس اللون ، في حين ترتدي سترة سوداء بغطاء رأس ، وفوقها جاكيت أسود من الفرو الثقيل يحيط بجسدها ....

ملابس بسيطة ، لا تحمل طابع صارخ ، ولا أناقة مفرطة ، كأنها تريد أن تسير بشكل غير مرئي بين الناس ، فلا يلتفتون لها ، ولا هي تلتفت لهم ....
بـاختصار شديد ، تلك الفتاة تفعل كل ما يخالف أفعال الفتيات المدللات ، المرفهات ، العابثات ، التافهات ....

التفتت له فجأة ، ف التقطت نظرته الشاردة بها ، فرفعت حاجبيها في استفهام ، وهي ترد بصوت حاد :
_ بُص علي قدك ...

ابتسم وهو يتمتم :
_ شخصية ميئوس منها ....

_ وصلنا ....

هز رأسه غير منبهًا لوهلة ، ثم رمش بعينيه بعدم فهم وهو يسأل :
_ وصلنا فين ؟

_ المطعم الي هنجيب منه أكل ...

_ ده ... محل كشري ؟؟؟؟

_ آه ، ما أحنا هناكل كشري ...

ظل يطالعها غير مستوعبًا ، ثم ردد بصوت غريب :

_ كشري ؟ أنت عارفة بقالي قد ايـه ما كلتوش ؟

_ فعلًا ؟ وأنا كمان ، من ييجي أسبوعين كده ...

ضحك وهو يقول :
_ أنا بقالي يجي خمس سنين ماكلتوش ...

طالعته بتعجب ثم ردت :
_ ده أنت حالتك صعبة فعلًا ...

ظلت ابتسامته علي وجهه ، وهو يدلف ، ثم التفت لها يقول :

_ تحبي تاكلي الكشري ازاي ؟

هزت رأسها بحماس مُجيبة :

_ اختار علي ذوقك ، أنا باكل كل حاجة ، ما فيش أكل ما بحبوش ...

_ إجابة منطقية ....

ابتسمت وهي تتجه إلي طاولة نائية قريبة من النافذة غير لافتة للأنظار ، ثم جلست وهي تنظر من خلالها منتظرة الطعام ، في حين أنه أملي طلبه ، و الرائحة الزكية تعبث في فمه تيقظ شهيته ...
ليكتشف فجـأة ، انه يشتهي الأكل حقًا ....
منذ متي لم يستشعر مذاق شيء ؟
كم بات ليالي مخاصمًا الطعام ، زاهدًا فيه ، غير مستشعر بطعمه ....
ربما لأن طعم الصدئ كان مصاحبًا لإحساس الخيبة لديه ، فلم يكن لديه شهية كي يأكل ....

لكنه الآن ، يشعر بأنه جائع ، جائع جدًا ....
توجه إليها وهو يتطلع إلي ما تنظر إليه ....
إنه البحر ....
صديقه وكاتم أسراره ....

نسمة شتوية خفيفة ، داعبت وجهه ، وتطاير معها خصلات شعرها القصيرة التي تساقطت من ربطتها علي عنقها ومقدمة جبهتها ، سحب كرسيه وجلس مقابلها ، ثم قال مُداعبًا :

_ مستنتيش ليه أشدلك الكرسي زي الأفلام ؟

رجع بظهره للوراء ، و الابتسامة تتلألأ في عينيه ، متوقعًا ردًا غير متوقع ، وبالفعل جاءه في صورة فظة ، حيث قالت :

_ لما اتشل !

ضحك ضحكة قصيرة فـ تعمقت غمازة خده اليمني الأثيرة ، التي أحدثت فراغًا وسط لحيته الشقراء ، فـ ألقت هي نظرة خاطفة عليها ، قبل أن تشيح بوجهها عنه ناظرة من النافذة ....
لحظات وجاء النادل ، ثم وضع أمام كلاهما طبق فيه المطلوب ، وانصرف بهدوء .
فشمرت هي عن ساعديها ، وهي تشتم رائحة الطبق بتمعن ، ثم أردفت باندماج :
_ هو ده الأكل ولا بلاش !

رد وهو يمسك المعلقة ويبدأ في الأكل :

_ ده أنت كنت جعانة جدًا علي كـد ....

لم يكمل جملته ، حتي تغلغل مذاق الطعام إليه ، تشعب بداخله ناشرًا السعادة في الأركان ، فاتسعت عيناه بتأثر ، وتوقف عن المضع لثانيتين ، وهو ينظر لها ، أشعة شمس خجلة تطل من النافذة سقطت علي عينيه ، فعكست لونها العسلي الجذاب ، لون دافئ ، ويبعث الحياة في الأركان ، توقفت هي عن المضع مثله ، وهي تنظر لـ عينيه ، ولكل منهما سبب تأثره المختلف ....

ثانيتين فقط ، عادت فيهم إلي رُشدها ، وهي تبتسم ابتسامة خفيفة منتصرة ، محاولة التغلب علي الارتباك الذي دهاها فجأة ، ثم قالت بصوت خافت :

_ طعمه عظيم ، مش كده ؟

بصوت أخفت منها رد قائلًا :

_ جدًا ...

_ تنقيتي ...

_ وأنا شاكر ليها جدًا ...

بدأ كل منهما بالأكل ، فساد الصمت ، لكن سرعان ما تخلله ثرثرتها تارة ، ثم ردوده تارة أخري ، لم يتركا رائدًا واحدًا من رواد المطعم ، إلا وجذبا أنظاره ، بعفويتهما المطلقة ، وانسجامهما الظاهر ، وطال الأمر علي ذلك الحال ، حتي دلف للمطعم صحفي نشط جدًا علي صفحته ، تعرف علي كادر ، واتسعت عينيه وأشتعل حماسه ، استعدادًا للخبر الجديد ......


..............................................
" الغيرة تُلغي العقل ، وتجعل الإنسان يقوم بتصرفات غير منطقية .... بالمرة "
| بقلمي |

~ في اليوم التالي ~
دلف إلي مقهي الجامعة كي يطلب قهوته الصباحية ، فـ ضرب الانزعاج بئرًا عميقًا في داخله ، فهمه قلبه ، وجحده عقله ، عندما رأي سماء تجلس علي طاولة قريبة منه ، وأمـامها يقبع جاسر الذي كان ينظر إليها وهو يشرح لها شيئًا ، نظرها كان مرتكزًا علي الورقة التي يشرح منها جاسر ، بينما مازال جسدها متوترًا ....
متوترًا من قرب الناس الغُرباء منها إلي تلك الدرجة بينما هي لم تعتاد بعد كليًا ....
غرباء ....
غرباء ....
هل تتوتر كذلك وهي معه ؟ لا ...
إذن هو ليس بـ غريب عنها ...
جاسر غريب .... وبيجاد ليس بذلك ...
بل جاد ....

ارتاح الانزعاج بداخله قليلًا عندما تعمق بالتفاصيل ، وفهم الأمور من مكنونها ....
جاسر يجهزها للامتحان العملي ....
لكنه لايزال منزعجًا ....
هناك شعور خاص بداخله ، يتولد لديه عندما يكون الأثير لديها في كل شيء ....
في المساعدة .... في الشرح .... وفي إعطائها النصائح .... في كل شيء ....
كل ما يخصها يهمه إلي درجة مهولة ....

أخذ نفسًا عميقًا ، واتجه إليهما ، وهو يقول بصوت هادئ يحمل انزعاجًا مكبوتًا :

_ صـباح الخير ....

استدارت إليه علي الفور ، ضحكت عيناها له ، بينما ارتاح التوتر عن جسدها ....
عيناه المتفحصتان لها ، أخبرته بالتفاصيل ...
تلك الفتاة ترتاح في حضرته ، كما هو مهووس بحضرتها ....
سحبت له مقعدًا بجوارها ، وابتسمت له وهي تشير له بالجلوس ، فـ ارتاح الانزعاج أكثر فـ أكثر ....

شعور طفولي سيطر عليه ، وهو ينظر إلي جاسر بـ شبه انتصار متوارٍ ، وكأنه يخبره أنها لا تفعل ذلك إلا معه ....
لكنه أفاق من كل ذلك ، شاتمًا نفسه ...
ماذا دهاه ؟
أين عقله ؟

_ صـباح النور يا جاد ...

جاد ...
جـاد ....

اسمه جميل أليس كذلك؟ ، فقط عندما يخرج منها بذلك اللفظ ....

_ جـاسر كان بيشرحلي بعض الحجات قبل الامتحان ....

هز رأسه لها ، فأعادت سؤاله :
_ عايز قهوة ؟

نظر بطرف عينه إلي جاسر الذي لم تسأله أبدًا عما يشربه ، وللمرة الثانية ، شعر بذلك الانتصار الطفولي الغبي ...
أعاد نظره لها ، ثم ابتسم وهو يشير إليها بالإيجاب ....
كادت أن تشير إلي النادل كي تطلب منه ، لولا أن حذرها بعينه ، وهو يستدير ويرفع يده بتهذيب كي يأتي النادل ، أملاه طلبه ثم طلب لها قهوتها التي يحفظ عن ظهر قلب مكوناتها ، ثم سأل جاسر عن ما يشربه ، فرفض بتهذيب ....
حينها تسلل إليه هاجس أراقه ...

ماذا إذا كانت قد عرضت علي جاسر شرب شيء ولم يوافق ؟
هذا شيء ليس يمكن معرفته بسهولة !
عاوده الانزعاج ، وهو يرمق جاسر بطرف عينيه مغتاظًا ، بعد عدة دقائق ساد فيهم الصمت ، جاءت القهوة ، فمد يده لها بالقهوة بعدما أخذها من النادل ، فشكرته بتهذيب ، و وضعتها جانبًا ...
في حين أن بدأ بشرب خاصته ، فأجفل من طعمها ....
كان طعمها ..... أشبه بحياة جديدة ....!

ومن هنا عرف أنها ليست قهوته .... بل قام النادل بتبديل خاصته مع خاصة سماء .....
لأن قهوته مُرة ، تفتقر للحياة ، وتوحي ببيئة رمادية فاقرة للحُب ....
أما خاصتها .... فـ كانت ... لذيذة بشكل لا يُصدق ....!
هو الذي اعتاد قهوته المُرة ، تقبلها كـ واقعه المماثل ، وأجبر نفسه علي التلاؤم معها قسرًا ....
يجد صدره يتلاعب حلاوة ، بقهوتها الفرنسية المسكرة ..
وكـم باتت القهوة شبيهتها ....
في الحلاوة والجمال ...... وفي سكرها الداخلي .....

مدت هي يدها ، كي تأخذ كوب قهوتها ، كي ترتشف منه رشفة ، فعلتها ، ثم أنزلت الكوب عن ثغرها مقشعرة قائلة :

_ مرّ أوي ....

ابتسم جاد كما ابتسم جاسر ، ولكن لسب بما لم تعجب ابتسامة جاسر جاد ، وما كاد جاسر يمد يده كي يأخذ منها الكوب يتذوقه منها بعدما قالت معترضة :

_ أنا بتاعتي مسكرة !

حتي خطف منها بيجاد الكوب قبل أن يصل إلي يد جاسر ، وهو يقول بنبرة ضيق :
_ عشان دي بتاعتي ، الظاهر أنهم اتبدلوا ...

ثم مد يده بالقهوة خاصتها ، وأخذ خاصته ، لكن ..... المذاق لم يعجبه ......!

~ بعد فترة ~

تحت ظِـلال الهوي Where stories live. Discover now