- المُقـدمة

1.7K 40 1
                                    

" الذكريـات ، تلك اللعنة التي حلت علي الانسان لتمنعه من النسيان ، كـلما عاهد نفسه علي تـرك الماضي ، لاحقه مُصرًا ، مُتمثلًا في بضع ذكريات بسيطة ، تحوي ألمًا عظيمًا .... "
| بقلمي |

صـراخ يعم المكان ، ينظر حـوله في تيه كبير ، أخوه الذي ذهـب باتجاه البحر لم يـعد حتي الآن ...وأمه تجلس علي الرمـال صارخة ، باكـية وكأنـها تنعي ميتًا ، والـده يُقاوم الدمع وتحوي مُقلتيه قهرًا ظاهرًا قاتلًا مع سبق الاصرار ...
صوت سيارات الشرطة والاسعاف أصابه بالصُداع ، وصراخ أمه الجميلة أشعل بداخله صراع ...
حـاول التوجه لـها ، فلفـت نظره مشهدًا أصـاب قلبه في مقتل ، جثة يحملها شخصان علي ظهورهم خارجين بها من أعماق البحر ، ومع تلاطم الأمواج ، تلاطمت المخاوف في داخـله ...

تُري من فقد أيضًا ... ؟
لقد اعتاد علي فكرة الفقد بشكل مُوجع ، بداية من أرنبه الصغير حتي صديقه المُفضل ...
لم يكن لديه شخص ليشكو له أوجاعه إلا أخيه ...

فوالداه هم أبعد ما يكون عنهما ...
ليس بعدًا جسديًا ... ولا حتي بعد بالمسافات ...
بل هو بعد أرواح ...
لم يستطع والداه في يوم ما أن يفهما مخاوفه وشعوره كطفل صغير ، ثم كمراهق عابث ...
وحده أخاه الذي شعر معه بمعني الانتماء ...
وكـأنهما وُجدا وحيدين في تلك الدنيا ، فزاد ذلك من تمسكهما ببعض ...

لكنه كان مُخطئًا أشد الخطأ ...
لـم يعتد الفقد بعد ، ولن يعتده ...
فجثة أخيه التي خرجت من النهر ، أفقدته وعيه ... نفسه ... وسنده في تلك الحياة ...

انتفض عُقاب من نومه وهو سابح في بحر من العرق بفعل حُلمه المُعتاد ... والذي لن يعتاد عليه أبدًا ....
مسح وجهه بكفه وأطرق برأسه مُغمضًا عينيه يستجدي الراحة ، ثم فتح عينيه مُضطرًا و نظر للساعة فوجدها مازالت السادسة صباحًا ...
أمـامه ساعتان فقط حتي موعد جامعته ، فاستقام من علي سريره مُتجهًا للمرحاض ، وارتدي ملابسه القاتمة مُتجههًا لحديقة المنزل الواسعة ، حيث يتواجد ملعب كرة قدم قديم كان يتشارك اللعب فيه مع أخيه ...
وبدأ يتدرب لأجل موعد المُبارة القادمة لكرة القدم ...
تحـت النجوم اللامعة والتي لم تختفي بعد ، وسجادة السماء والتي تتراوح ألوانها بروعة وإبداع ...
بدأ يُخرج كبته ... ألـمه ... ومخاوفه في تلك الكرة ، والتي تفهمت مخاوفه ، وأيقظت حماسه ، فانسجم في تدريبه ، غير مُدركًا نظرات أمه والتي تُراقبه من شُرفة غرفتها بعيون لامعة كسيرة ...كما اعتادت نظراتها أن تكون ... منذ سبعة سنوات ....

...........................................

" الذكريات ... هي كـنز ثمين لمن يُقدره ، مُخزون فعَّال من المشاعر والمواقف ، وبطارية مَشحونة ملِيئة بدفعات من القوة ، قـليل من يُفكر بها علي تلك الشاكلة ، ومُعظمهم يُفضل أن يدفنها حيث لا رجعة لها ، غير مدركًا الفائدة الكامنة بها .. "

|بقلمي |

تحت سطوة القمر وفي حضرة النجوم ، مع نسمات الهواء العليلة ، كانت تجلس ريحان في رُكنها الخاص ، علي سطح البناية ، تجلس علي أرجوحتها الزرقاء ، ذات الوسائد الريشية ، تُمسك هاتفها تُسجل به مخطط عن روايتها الورقية الأولى ، والتي ستبدأ في كتابتها بعدها ، بعدما قضت ثلاث سنوات تكتب إلكترونيًا حتي اشتهرت إلي حد ما ، واثنا عشرة سنة من عمرها تتخذ من الكتابة هواية ...

تتخذ من ذكرياتها الأثيرة سدًا منيعًا كلما تذكرت فجيعتها الحديثة ، والتي لم تستطع تخطيها بشكل تام ، كحال والدتها وشقيقيها ...
فقـد فقدت زوج والدتها ووالد شقيقها أطـلس ، ذلك الذي يبلغ من العمر ست سنوات ... فقدته منذُ ثلاث سنوات ...
وعلي الرغم من مرور الوقت علي وفاته ، لم تتعاف بشكل تام ...
صحيح أنها لم تكن تضعه في مكانة والدها ، ولكنه كان دومًا صاحبها الوحيد ، بعد أخيها فاهد ...
كما مَثّل الكثير لأخيها فاهد ، فقد شب فاهد مُتخذًا منه مثلًا أعلي ، حتي التحق بكلية الشُرطة مثله وأصبه مُقدمًا مُحنكًا ...
أخوها فاهد ... ذلك الذي يَقترب من الثامنة والعشرين من عمره ، بينما تصغره هي بخمس سنوات ...
لم يعيشا مع والدهما سوي القليل ... ليرحل هو أيضًا ... ولكن بشكل مُختلف ...شكل مُوجع ...
وعلي الرغم من قلة ذلك الوقت ، إلا أنها اختزنته جيدًا في عقلها ، كحصن منيع تجاه الألم ...
أضافت إليهم لاحقًا سنواتها مع أخوتها وزوج والدتها مُجاهد ...
صديقها مُجاهد كما تُحب أن تدعوه ، كان يدللها دائمًا باعتبارها فتاته الوحيدة ...
لـم يعترض يومًا علي قرار لـها ...
وعلمها كيف تصبح قوية ، وكيف تتخذ قراراتها ...
كيف تدير الأمور ، وكيف تُدافع عن نفسها إذا لزم الأمر ...
كان له فضل كبير في حياتها ستظل تحفظه حتي مماتها ...
وذلـك وعدٌ منها ... والوعـد دين ...

...........................................

" أنا شخص لامُبالي إلي أقصي الحدود ، لا أترك أعصابي علي حبل مشدود ، شخص ملّ من الوعود ، شخص تربي تحت رحمة القيود ، شخص أدمن الوحدة حتي باتت حلمه المنشود .."
| بقلمي |

ضرب الكرة مرة بعد مرة ، وقطرات العرق تتساقط من جبهته بغزارة ، ثم قفز بمهارة ليُسدد هدفًا في السلة وعـقله يعمل في كافة الاتجاهـات ...
يُفكر في حل لمعضلة ما مُتواجدة في شركة والده ، تلك الشركة التي يعمل بها منذُ فترة ، وشجعه والده علي ذلك فخورًا فرحًا ....
إنسـان مثلـه لا يُحب الراحة ، ولا يستهويه الخمول ، ينزعج من الدلال الزائد ، ويمقت الميوعة والتسويف ...
يـعلم أنه من المُتعب لشخص طبيعي في كُلية الطب أن يعمل بجانب دراسـته ... ولكـنه تحدي نفسه ... واستطاع الفوز بذلك طيلة ثلاث سنوات ...

ثلاث سنوات من الست الذين قضاهم مع عائلته ....
تلك العائلة التي لـم يعرفها ، ولن يعرفها ....

كانت عائلـته مُمثلة في جدته ، تلك التي اعتنت به مُنذ صِغره ، ثم زارتـه كثيرًا أثنـاء دِراسـته في إحدي المدارس الداخلية الفاخـرة التي تُناسب آل دويدار ....
والتي تُعتبر تابعة تحت سُلطتهم ....
انتهت العائلة بالنـسبة له مع وفاة جدته مُنذ ثلاثة سنوات ...
أما والداه وشقيقه وشقيقته ، فأولئك لم يعرفهم ....
حيثُ يكبر خالد شقيقه الصغير بست سنوات...
ويكبر شقيقته صبا بتسع سنوات ...
شقيقاه تربيا في قصر دويدار ، تحت كنف الوالدين ، وفي رعاية الأُسرة ، بينما هو قد تربي بعيدًا ... بعيدًا جدًا ....
نظر في ساعته فوجدها السابعة صباحًا فتحرك ليتجهز لجامعته ، وفي غضون نصف ساعة كان في منتصف طريقه إلي وجهته ، يـقود سيارتـه بينما عقله ينبض بالتفكير ، وقد وجد معظم الحلول السهلة ستولد مشكلة أُخري وأخري ....

وصل لجامعته ، وترجل من سيارته مُتجهًا نحو مقهى الجامعة حتي موعد المحاضرة ، طلب قهوته المرّة ، وبدأ في تفحص حاسوبه وهو يُفكر ....

وعلي طاولة أُخري ...
نقلت سـاندي نظرها بين بيجاد الجالس أمام حاسـوبه ، ومـايا صديقتها الجالسة بجوارها وهي تقول بـهيام :
_ يخرب بيت برودك يا جدع ! مفيش ( دم ) blood خـالص !

ابتسمت صديقتهـا مايا بإعجاب مُردفة :
= كـينج الجليد لازم الواحد يصطبح بيه عشان يومه يحلو ...، ولا عينيه الخضرا ....آه ، آه ،آه

أصدرتا صوتًا جماعيًا هائمًا ، فزجرتها سـاندي هامسة :
_ بـس يا بت ، دا بتـاعي ...

اعترضت مـايا بغيرة قائلة :
= أمـال كنت بتحبِ في ابن عمه عُقاب ليه امبارح ؟! ولا هو اي حد مشهور وجذاب والسلام ...

ابتسمت سـاندي بهيام مُردفة :
_ و عُقاب ... وآه من عُقاب ....

حـذرتها مـايا قائلة :
= اثبتِ علي واحد يا دودي ، بيجاد ولا عُقاب ؟

رسمت سـاندي الحزم علي وجهها ثم قالت :
_ بيجاد ...

ثم انشرحت ملامحها فجأة وهي تقول متراجعة هامسة :
= لا عُقاب ...

نظرت لبيجاد مرة أخري ثم اعترضت قائلة :
_ خلاص بيجاد ....
ثم أعادت التفكير بحيرة وهمست :
= لا يا ستي مش عارفة ...

نظرت لبيجاد مرة أُخري ، ثم لمعت في عينيها فكرة شيقة ، فاستقامت واقفة فأمسكت مايا بيديها تسألها بحيرة :
_ رايحة فين ...

= رايحة أشوف قلبي وقع فين ...

_ دودي !

= رايحة اتكلم مع بيجاد شوية ، واهو أجرب حظي ، إن نفع هاخده وأسيب عُقاب ، وإن منفعش ... بصي مش عارفة ، نبقي نشوف ساعتها ...

تحركت ساندي باتجاه طاولة بيجاد ، وجلست عليها ، ظلـت مايا تراقبها حتي وجدت ريحان تجلس بجانبها مُمسكة بهاتفها ، رمت السلام ، ثم أعادت قراءة خاطرتها الجديدة ، والتي ستقوم بنشرها علي حسابها بمواقع التواصل الاجتماعي ثم قالت ناظرة إلي هاتفها بتركيز :

_ ايه الجديد ؟

= ومضة من العشق بين ابن دويدار الأول وزميـلته سـاندي من الجامعة ...

_ ايـه ...؟!

تسمرت ريحان أمام هاتفها لثوانٍ ، ثم صاحت مُعترضة مُغلقة هاتفها تنظر للطاولـة والتي تجلـس عليها سـاندي ... وابـن دويدار الأول ...
فتحت ثغرها إلي آخره ، ثم رمشت بعينيها غير مُصدقة ...

عـلي طاولـة ابن دويدار الأول ....

كان مازال يُفكر في حل لمعضلته المُتشابكة حينما داهمه عطر كثيف أصابه بالإختناق ، فسعل مشمئزًا من كثافة الرائحة والتي تصيب الإنسان بالدوار ...
ثم جـلوس جسد ما أمـامه بكل وقاحة وصلف ، فزم شفتيه بلا اهتمام ، بعدما لمع في عيناه الغضب لوهلة ، تجاهل الانسان المُستفز والذي يجلس أمامه وكأن الأمر لا يعينه ، ثم عاد لحاسوبه بلامبالاة ، لكن الشخص الكامن أمامه لم يكتف إلي هذا الحد ، بل سمع صوتًا مائعًا ضاق به صدره يقول :

_ هـاي ...

تجـاهل الصوت كما تجاهل رغبته في القيء ، ثم ضرب علي لوح المفاتيح يكتب بعض الأشياء ...

_ هـاي ؟؟؟

لم يلتفت لها ولكنه أجاب بلامبالاة مُردفًا بهدوء:

= سمعـتها ...، عايزة حضرتك تقولـي حاجة تاني ؟

_ حضرتك ايه ، أحنا قد بعض علي فكرة ....

لـم يأتيها الجواب ، فقالت مصرة علي الحديث :

_ وأنت بتعمل ايه ؟

= ملـكيش فيه ...

استغرقت عدة ثوانٍ ، كي تستوعب ما قال ، فلمعت عيناها بغضب ، لكنها تمسكت بمحاولتها الأولي قائلة :

_ عـامل ايه ؟

= المُعتاد ...

زمت شفتيها بغيظ ، ولكن اعتبرت إجابته إجابة علي الأقل فردت :
_ أنـا ساندي ...

مدت يدها في الهواء ، فلم يحرك رأسـه حتي قائلًا بلا ترحيب :
= بيجاد ....

_ اتشرفـت بمعرفتك ...

= أنـا لا ...

ردت من بين أسنانها ، وهي تحاول التزام أقصي ما تملك من التحمل :
_ عـامل ايه في الكلية ؟

رد مُتجاهلًا سؤالها :
= محتاجة حاجة حضرتك ؟

_ حضرتك ايه مش اتفقنا ؟

= عايزة حاجة ؟ .... حضرتك ؟

ازداد لمعان الغضب في عينيها ، فردت بتعجرف :

_ عـايزة قهوة ...

أومأ برأسـه ، ثم أشـار للنادل ، أملي طلبها إليه ، ومـا أن أحضره ، حتي وضعه النادل أمامها مباشرة ، فتحرك بيجاد ، ململمًا أغراضه مُتجهًا خارج المقهى بعجرفة وتجاهل شديد ....

ناظرته بذهول مُغتاظ ، ثم أمسكت قهوتها واتجهت لصديقتيها مُردفة :

_ لـو اجتمع برود القطبين في الراجل ده ، مش هيبقي بالطريقة دي يا جدع ...

وبـعد أن قصت عليهم سـاندي ما حدث ، اعترضت ريحان بضراوة قائلة :
= لـيه كده يا ساندي ؟ ، ليه ترمي نفسك عليه بالشكل ده ؟
ده حتي طلبلك القهوة وسابك ومشي وكأنك بتتسولي ، أنت مش قليلة بردو يا بنتي !

أشاحت سـاندي بوجهها قائلة بغيظ :
_ مش ناقصاك يا ريحان بجد !

= وايه الي جابرك علي كده ؟

_ بـحبه يا ستي ، بحبه !

= ساندي ، أنت بتحبي كل خمس دقايق واحد ....
لم تُكمل ريحان جُملتها إذا دخل من باب المقهى زميل لهم سوري الجنسية يدرس بمنحة في تلك الجامعة ، فأردفت مـايا بحماس :

= جـاسر وصل !

ضربت ريحان علي جبهتها في يأس ، ثم هزت رأسها في أسف ، وأمسكت بهاتفها متجاهلة ما يدور ...

.................................

" سلام لأولئك يحافظون علي صفاء روحهم رغم مصابهم ، سلام لأولئك الذين يصرون علي المُقاومة علي الرغم من نُدبهم الحديثة والمؤلمة ، سلام لهم حـتي يفني السـلام "

| بقلمي|

تحت ظِـلال الهوي Where stories live. Discover now