الجزء السابع عشر

3 1 0
                                    

" هلال "

لم أتحمل أن أبقى داخل المنزل أكثر من ذلك، أخذت أشيائي وملابسي المعتادة وخرجت سريعًا خارج المنزل دون رؤية تبر، دون انتظار اليوم الأخير، كل ما أريده هو معرفة الحقيقة.
ذهبت إلى شقتي وتوجهت إلى الكتب وأنا أبحث عن كتاب كنت قرأته يومًا عن السادات، بحثت وبحثت ولم أصل لشيء، أخذت الكتب كلها وألقيتها على الأرض بحركة عصبية وأنا أبحث عن الكتاب الذي أريده حتى وجدته، فتحته وأنا أفتش عن أسماء الوزراء في فترة حكم أنور السادات حتى وجدت اسم علي مرتضى، علي مرتضى حقيقي إذن كل من رأيتهم حقيقيون.
فتحت هاتفي وبحثت عن قبره على الإنترنت وأخذت العنوان وخرجت سريعًا إلى العنوان المنشود.
دخلت المقابر ووقفت أمام قبره "علي مرتضى أمين الجمال" من ١٩٢٩ ل ١٩٧٧، وقفت أمام قبره وأنا أحاول ربط الأمور ببعضها قدر الإمكان، ناديت على حارس المقابر وسألت عن سبب موته فحكى لي أنه مات منتحرًا في مستشفى الأمراض العقلية التي دخلها لبضع سنوات بعدما قُتلت زوجته وابنته.
شردت في القصة ونظرت إلى قبره مرة أخرى توفي قبل ميلادي بسنة أو بضعة أشهر، شكرت الحارس وخرجت وأنا لا أعلم إلى أين سأذهب، القصص حقيقية أنا علي، ربما أنا يوسف، ربما أنا سجاج أو اديرا، ربما أنا جميعهم!
مسحت على شعري بتعب وقررت الذهاب لفدوى، شعرت أنني أفتقدها وأريد رؤيتها بشدة، ذهبت إلى بيت صديقتها فوجدت الباب مفتوحًا، نظرت إلى الباب وتذكرت علي فابتلعت غصتي ودخلت بحذر وأنا أنادي على فدوى وكلي أمل أن ترد على ندائي، مشيت في الشقة بحثًا عنها وكل ما في بالي مشهد علي حين رأى منى وابنته، خوفي يزداد، قدماي تتحرك بصعوبة، سرت حتى وجدتها واقعة على الأرض فنزلت سريعًا وأمسكتها وأنا أنظر على الدماء على رأسها والدموع في عينيها.
لا لا.. لا يمكن أن تتركيني الآن، أنا لا أملك غيرك، فدوى، ماذا أقول؟ أو على ماذا أطلب منك السماح؟
بدأت أجهش بالبكاء وأنا أنظر إليها وأشعر أنها ستتركني، أشعر أني مكبل اليدين وآخر شيء مني يرحل دون رد فعل مني، وضعت يدها على وجنتي وهي تمسح دموعي وقلت بصوت متقطع:
- شكرا.. على وجودك.. لآخر لحظة.
أغلقت عينيها وأنا أنظر إليها بصدمة، لا أصدق أنني لا أشعر بنبضها، ضممتها إليّ وأنا أنظر حولي بخوف وأنظر إلى كرسيها المتحرك الواقع.
تركتها وأنا أكاد لا أستطيع الوقوف على قدمي وهرولت سريعًا خارج المكان، دموعي لا تتوقف عن النزول، أمشي كالمجنون في الشوارع ودماء فدوى على قميصي، حتى وصلت لبيت تبر، فتحت تبر فقبضت على رقبتها قبل أن تنطق بأي كلمة وهي ترجع إلى الخلف حتى وقعت على الأرض وما زالت رقبتها بين يدي، نظرتْ إلي بخوف وللدماء على قميصي فقلت بغضب وأنا أتمنى أن تموت بين يدي:
- أنتِ.. أنت اللي قتلتِ فدوى.
هزت رأسها نافية وهي تبكِي ثم تكلمت بصوت مبحوح لا يكاد يخرج من ضغطة يدي على رقبتها:
- مش أنا.
- أنتِ السبب في كل اللي حصل ده.
تركت رقبتها ووقفت أنظر حولي وأنا مذعور ثم رجعت بالنظر إليها وهي تسعل:
- برصيصا.. برصيصا أذنب علشان الشيطان وسوس له بكده.. أنت.. أنت شيطان؟!
مسحتْ على دموعها ووقفتْ أمامي:
- معقول تكون لسًّا مفهمتش المعادلة؟ أنا واحدة كل اللي تمتلكه قدرتها على اللعب بالعقول.
- أنتِ دجالة.
- أنا مش زي البشر وكل اللي ورتهولك الحقيقة يا هلال.. الحقيقة بس!
كنت أنظر إليها بذعر وأحاول استيعاب كلامها، اقتربت مني ووضعت يدها علي فابتعدت بخوف، نظرت إلي وتنهدت:
- تناسخ الأرواح.. ده اللي رابطني بيك.. احنا اتقابلنا في أكتر من حياة.. حياة كنت أنت فيها اديرا وأنا اوهانا.. حياة كنت أنت سجاج وأنا طروب.. حياة أنت يوسف وأنا ديبورا.. حياة أنت علي وأنا عائشة.. أنا لما شوفتك حسيت إنه أنت مصدر نجاتي، عملت تجربة وفكرت وخططت علشان أوريك القصص دي.. علشان تفضل جنبي بس واضح إني كنت غلط، وجودك جنبي أذاك وأذاني.
لم تحملني قدماي أكثر من ذلك فارتميت على أقرب كرسي وجدته وأنا أشعر أن مخي سينفجر، جلست تبر تحت قدمي وأكملت حديثها:
- أنا حبيتك يا هلال وما كنتش عايزة أذيك.
ابتسمتُ بسخرية ونظرت إليها؛ كلماتها تقولها بشكل عادي كأني لم أزنِ معها، كأن زوجتي لم تقتل بسببي، كأن تلك الحياة المعتادة، دققت النظر بأعين تبر حتى نظرت في الأرض وهي تبتلع غصتها وقالت بصوت خفيض:
- لو عايز تقتلني تقدر تعملها.
رفعت رأسها بأصابعي وتأملت ملامحها والخوف يتسلل إلى ملامحها وتكلمت أخيرا قائلًا بابتسامة:
- أنت الموت رحمة ليكي.
صفعتها بقوة فوقعت فارتطم رأسها بالأرض ورفعت أعينها لي وهي تبكي، وقفت ونظرت إليها وجسدها الهزيل مستلقٍ أمامي، ضربتها بقوة بقدمي ثم ذهبت.
***
لا أعرف كم بقيت داخل بيتي، لا أعرف الوقت، لا أعرف الليل من النهار، كان بيتي مقبرة فوق الأرض بالنسبة لي مغلق النوافذ ليل نهار، ينخرط رائحة التدخين برائحة الغبار، لا يهم لم يعد يهمني شيئًا، هذه المرة لا يمكن الرجوع، لا يمكن الوقوف على قدمي مرة أخرى، كنت أدخن وأدخن ومع كل سيجارة أدخنها وأنهيها أطفئها في جسدي، مازوخي؟!
لا أظن لكن أكاد أجزم أني لم أكن أشعر بألم جسدي لوهلة، كل ما كنت أشعر به هو روحي المعذبة، السجائر التي تطفأ في جسدي لا تؤلمني، جرح ذراعي وكل جسدي بالسكين لا يؤلم، لا شيء يؤلم بقدر نفسي، نفسي التي أشعر أنها تتغذى على أذى نفسي، صوتها يعلو داخل أذني وهي تذكرني بكل ذنوبي من يوم ولادتي.. الصوت داخل رأسي يكاد يقتلني، أصرخ بصوت عال وأصدم رأسي في الحائط، لا يتوقف، لمَ لا يتوقف؟!
أنظر إلى النافذة وأفتحها فأحجب عيني من الضوء رغم أن الشمس قاربت الغروب.
لعلها هي النهاية
فلتسامحني يا ألله
أنا إنسان ضعيف
غير جدير بعبادتك وطاعتك
نظرت إلى الأسفل وأغمضت عيني
الطيران مسلٍّ لكن النهاية هل ستؤلم؟
***

رواية نسيج التبر / للكاتبة يارا سعيدWhere stories live. Discover now