الجزء الثالث عشر

4 1 0
                                    

البوابة الثالثة
العصر الملكي


" هلال "
حالة الإفاقة في مكان مختلف أصبحت تُخيفني، الغوص في أفكاري أصبح عذابًا أكثر من السابق، واعتقادي أنني سأشفى لم يأتِ بنتيجة، أنا أزداد سقمًا لا أكثر، انتبهت لما يحدث حولي كانت الموسيقى عالية، أعتقد أني في كازينو أو شيء مثل ذلك، النساء والرجال في فساتين وبذلات أنيقة، على المسرح رجل قصير القامة يغني بفن ما يدعى " المونولوج "، أيقنت أنني في مصر الملكية على الأحرى خاصة عندما ذكر " المونولوجيست" الملك فاروق.
نظرت إلى الطاولة التي كانت أمامي مباشرة كان يجلس عليها رجل في بذلة سوداء أنيقة ينظر في ساعة جيبه، وجسده كله متجه إلى الباب وهو جالس أدركت أنه ينتظر شخصًا ما، على الأحرى هي امرأة، أدخل الساعة في جيبه ثم رفع رأسه ووقف وهو ينسق شاربه بأصابعه، فنظرت إلى السيدة التي دخلت لتوها، كانت جميلة في شعرها البني الغامق متوسط الطول، وفستانها الأخضر الذي يشبه فستان الأميرات، ورائحة العطر الفرنسي تفوح منها، أمسك الرجل يدها وقبّلها بلطف ثم سحب لها الكرسي لتجلس:
- متأسفة يا أستاذ يوسف على تأخري.
- مفتكرش إنه له لزوم التكاليف دي دلوقتي يا ناريمان إحنا معاد زفافنا قرب.
ابتسمت ناريمان بخجل:
- أنا أحب أكون محافظة على التكاليف لآخر وقت.
- على راحتك تحبي تطلبي إيه؟
نادى يوسف على النادل وأملى عليه طلبه وطلب ناريمان، وتكلما في عدة أمور منها زواجهما وتكاليفه وأين سيقام، حتى بدأ العرض الراقص فتوقفا عن الكلام لتشاهده ناريمان التي أخبرته أنها تحب الرقص ومشاهدته كثيرًا.
التفت يوسف هو الآخر ليشاهد العرض الراقص من النوع الغربي التي كانت بطلته فتاة بشعر أحمر مجعد حسب تحمس الجماهير لها فهمت أنها معروفة بخفتها وأنها نجمة ذلك المكان، كان الجميع يحيونها وينادونها ب "ديبورا"، نزلت ديبورا من على المسرح وأخذت ترقص بخفة وسط الطاولات حتى وصلت إلى طاولة يوسف وناريمان وهي تقوم بحركاتها الرشيقة وبحركة خفيفة أخذت المنديل الذي كان في جيب بذلة يوسف وأسرعت بالذهاب من أمامه وهي تكمل رقصها.
نظر يوسف إلى ناريمان بنظرة متوترة.
ابتسمت ناريمان ابتسامة صغيرة وتابعت مشاهدة الرقص.
عادت ديبورا إلى المسرح وأنهت عرضها وسط تصفيق الجماهير، التفتت ناريمان إلى يوسف وقالت بنبرة هادئة:
- رشيقة قوي البنت دي وخفيفة.
- أنا أول مرة أشوفها.
نظرت إليه ناريمان بشك وفهمت أنه يقصد موقف المنديل.
- أها وأنا كمان أول مرة أشوفها.
هز يوسف رأسه بابتسامة ونظر إلى المسرح مرة أخرى.
***
في الصباح، دخل يوسف إلى مكتب المحاماة الخاص به، يوسف من المحاميين المشهورين في القاهرة، من يتعامل معه كبار أعيان مصر الذي كان منهم "علي بك صادق" أحد أعيان مصر وجد ناريمان خطيبته.
دخل إلى مكتبه الخاص بعدما حَيّا السكرتير والساعي وطلب منه قهوته الصباحية وجلس على مكتبه فرأى الكارت الخاص بمحل المجوهرات الذي رشحته ناريمان له لشراء خاتم الزواج منه، كان المحل من أكبر محلات المجوهرات الموجودة ولا يتعامل معه إلا أصحاب الطبقة الراقية التي منهم زوجته المستقبلية ناريمان، ابتسم يوسف ووضع الكارت في جيبه ثم أخرج أوراق العمل.
بعد وقتٍ رفع يوسف رأسه لحظة دخول الساعي مكتبه مقدمًا له القهوة وبجانبها منديل كان في جيب بذلة يوسف ليلة أمس، رفع يوسف رأسه ونظر إلى الساعي متسائلًا عن من أعطى له ذلك المنديل.
- ست جميلة منتظرة إذن الدخول منك.
- دخلها فورا لو سمحت.
هز الساعي رأسه بالموافقة وخرج ثم دخلت ديبورا في فستان أسود فوق الركبة وإكسسوار بسيط فوق رأسها باللون الأسود الذي يبرز لون شعرها الأحمر، وقف يوسف وحياها فبادلته ديبورا التحية وجلست واضعة رجلها فوق الرجل الأخرى.
نادى يوسف الساعي لتخبره ديبورا بما تشرب وخرج الساعي وأغلق الباب وراءه ويوسف يتأمل هيئة ديبورا.
ابتسمت ديبورا وقطعت شروده متسائلة:
- تسمح لي أدخن؟
- أكيد اتفضلي.
أخرجت ديبورا علبة السجائر وأشعلت السيجارة وهي تنظر على نفسها ثم نظرت إلى يوسف:
- هو شكلي فيه حاجة غريبة عليك أو مضايقاك؟
- لا إطلاقا العفو.. أنا بس يمكن مستغرب ليه الأسود بالنهار لعله ما يكون سبب محزن.
- لا لا إطلاقا أنا لبساه حبًّا في اللون عادي دا غير إني يومي مش زي باقي البشر نهار وليل أنا يومي عكس عكاس.
- أنت بتتكلمي عربي كويس رغم أن اسمك ما يقول إنك مصرية.
- أنا أرمنية مصرية، ماما أرمنية وبابا مصري ما أخدت شي من الأرمان غير الشكل والاسم لكن كل شي بيا مصري أصيل.
ابتسم يوسف وأزاح ورق العمل واقترب من المكتب بجسده:
- أقدر أعرف سبب الزيارة الكريمة؟
- أرجع لك منديلك.
- وليه منديلي اتاخد من الأول؟
دخل الساعي ومعه العصير لديبورا.
ضحكت ديبورا وهي تتنفس التبغ ثم التفتت إلى يوسف:
- لأنك لفت نظري أكتر من مرة، إحنا ما أول مرة نتقابل.. شوفتك أكتر من مرة في الكازينو يمكن أنت ما كنت بتلاحظني لأنك بتكون مع صحابك لكن أنا كنت بشوفك كل مرة بطلع على المسرح.
- وليه الليلة دي أخدت المنديل؟
- دا كان استعراض اممم أرجو ما أكون عملت مشاكل بينك وبين الآنسة.
- خطيبتي.
- مبارك!
أطفأت ديبورا التبغ في الطبق المقدم فيه العصير وهمت بالوقوف ثم اقتربت بجسدها من يوسف.
- لوقدرت تيجي النهاردة يا ريت تشرفني وتشرب قهوة معايا بعد العرض وأنا هبقى أديهم بلاغ بوجودك.
ابتلع يوسف غصته ونظر إلى ديبورا محاولًا إخفاء توتره أومأ رأسه بالإيجاب، أرجع ظهره على الكرسي، ابتسمت ديبورا ووضعت إصبع السبابة على شفتيها مرسلة قبلة في الهواء ليوسف، خرجت فتنهد يوسف بارتياح ومسح جبينه الذي بدأ بالتعرق ثم فتح المنديل وجد مكتوب عليه بكحل الأعين "هستناك"، طوى المنديل وأدخله في جيبه، كان يتمنى أن يسمع صوت ناريمان أو يراها لتصلح كل العبث الذي أحدثته ديبورا، تنفس بعمق وقرر العودة إلى عمله مرة أخرى.
***
في المساء، ذهب يوسف وناريمان ومعهما والدة يوسف ووالدا ناريمان إلى محل المجوهرات التي ذكرته ناريمان لاختيار خاتم الزواج، في أثناء اختيار ناريمان الخاتم سمع جميعهم ضوضاء بالخارج وصوتًا يقول: "جلالة الملك فاروق هنا".
تركت ناريمان الخاتم الذي كانت تقيسه وعقدت حاجبيها وهي تنظر إلى يوسف ووالديها، حتى دخل الملك فاروق في بذلة مرصعة وهيبته التي تسبقه دائمًا في أي مكان، استقبله صاحب المحل بالتحيات الحارة وجلس الملك فاروق، نظر والد ناريمان إليهم ثم ذهب إلى الملك فاروق يحييه خاصة أن والدها حسين بك صادق وكيل وزارة المواصلات.
- أهلًا يا حسين.. يا ترى إيه سبب وجودك هنا.. إياك والزواج مرة أخرى.
قال فاروق جملته الأخيرة بمزاح فضحك حسين وقال له أنه أتى لتختار ناريمان ابنته خاتم زواجها.
نظر فاروق إلى ناريمان وهو يتأملها من الشعر للقدمين، نظرت إليه ناريمان متعجبة حتى احمرت وجنتاها ونظرت في الأرض، ابتسم فاروق وقال لصاحب المحل:
- ما تعطل السيدة الجميلة خليها تختار اللي بتريده ويا ريت يسمح لي حسين بأن يكون خاتم زواجها هدية مني.
وقبل أن يتحدث حسين أردف يوسف وهو يقول بطريقة مهذبة:
- الشرف لنا يا مولاي لكن أنا أفضل أن يكون خاتم الزواج مقدم مني أنا زوجها.
اتسعت عينا ناريمان وهي تنظر إلى يوسف وفضل فاروق السكوت مع نظرة إلى يوسف بهيبة توضح الفرق بينهما، وجه نظره لصاحب المحل:
- أريد رؤية أفضل مجموعة أسوار عندكم الأميرة فوزية عيد ميلادها قرب وأريد أن أشتري لها هدية تليق بيها.
- الله يطول بعمرها يا مولاي.
نظرت إليه ناريمان نظرة أخيرة قبل أن تلتفت للخواتم وتهمس ليوسف:
- ما كان ينفع تكلم الملك بهذا الأسلوب.
- خاتم زوجتي يكون مني أنا زوجها ما من حد تاني حتى لو كان الملك.
نظرت ناريمان بطرف عينيها على الملك وتنهدت وهي تقيس أحد الخواتم.
***
دخل يوسف بيته مع أمه وأجلسها وقبل صعوده إلى غرفته نادته والدته، عاد يوسف مرة أخرى إلى أمه ليرى ما تحتاجه:
- ما كنت ملاحظ نظرات ناريمان والملك لبعضهم؟
- نظرة عادية يا أمي.. ما بنكر أن نظرات الملك كانت غريبة لكن ناريمان جميلة ومتعلمة ومحترمة تلفت نظر أي رجل.
نظرت إليه والدته باستنكار وسألته مرة أخرى:
- الملك ومفهوم وناريمان شايف انه كان شي عادي؟
- أي حدا طبيعي تكون دي نظراته للملك.
- إلا صاحب العيون الشبعانة.
- ماما لو سمحتِ..
- تضمن منين أن الملك ما هيحدث حسين بك على ناريمان؟
- حتى لو.. ناريمان هتكون زوجتي وأرجوكِ كفاية.
قال جملته الأخيرة بغضب وصعد إلى غرفته ثم أغلق الباب وراءه بغضب، خلع ربطة العنق بغضب وهو يفكر في قول أمه، إن كان الملك أعزب مرة أخرى الآن بعد تطليق الملكة فريدة هذا لا يعطيه حق التحدث على ناريمان، خاصة وهي ستتزوج ووالدها...
والدها لا يمكنه أن يسمح للملك بشيء مثل ذلك وهي مع رجل آخر، تنهد يوسف وألقى جسده بتعب على السرير محاولًا التخلص من تلك الأفكار.
***
بعد يومين تقريبًا ذهب يوسف في زيارة لبيت ناريمان، استقبلته الخادمة وأخبرته أنها ستخبر ناريمان بمجيئه، جلس يوسف منتظرًا ناريمان وهو يتأمل البيت حتى وجد باقة من الورود على طاولة في نفس الغرفة التي كان يجلس فيها، وقف يوسف واقترب من باقة الورد وفتح الكارت المصحوب مع الباقة وقرأه وهو يستشيط غضبًا حتى دخلت ناريمان وهي تحييه بابتسامة، اقتربت من الورد وزادت ابتسامتها:
- الورد ده ليا؟
مد يوسف يده لها بالكارت وقال بلهجة جافة:
- اقرئي.
تعجبت ناريمان من لهجته وأخذت الكارت وقرأت بصوت مسموع:
- أهدي لك باقة الورود، إلى أجمل وردة قابلتها، الملك فاروق.
نظرت إليه ناريمان بتوتر وأردفت:
- أنا ما حدش بلغني بوجود الورد ده.
- الظاهر أن حسين بك هيكون مرتاح مع جلالة الملك.
تركها وخرج من الغرفة وناريمان وراءه تحاول ملاحقته، فتح باب البيت وخرج، نظرت ناريمان إلى الباب والدموع مجتمعة في عينها وذهبت إلى الغرفة وهي تلقي باقة الورود على الأرض.
***
في الكازينو كان يوسف في حالة غضبٍ شديدة جعلته يشرب أكثر من كأس خمر حتى ثمل. صعدت ديبورا على المسرح وهي ترقص بخفتها المعتادة ويوسف يشاهدها وهو يرتشف الخمر.
نزلت ديبورا من على المسرح وهي ترقص وسط الطاولات كما اعتادت لكنها نزلت قاصدة طاولة يوسف الذي مجرد أن وقفت أمامه اختفت ابتسامتها ونظرت إلى زجاجات الخمر وإليه.
ضحك يوسف بصوت عالٍ وهي تنظر إليه بتعجب وترقص حتى لا يشعر أحد بغرابة من تصرفها تمايلت بخفة ومالت بجانب أذنه وهي تهمس: إوعى تمشي لحد ما أجيلك.
نظرت إليه نظرة أخيرة وذهبت من أمامه وهي مستمرة في رقصها.
بعد مدة بدأ الزبائن يرحلون حتى فرغ المكان ولم يبقَ إلا يوسف الذي من الثمالة والانتظار غفا على الطاولة. خرجت ديبورا وذهبت إلى طاولته وهي تهزه ليستفيق، استيقظ يوسف وهو ينظر حوله بتعجب فنظر إلى ديبورا وضحك بتعب:
- أنا هسيب ناريمان.
- خطيبتك؟!
- أينعم.. الظاهر أن ماما كانت صح.
- يوسف أنا مش فاهمة حاجة قوم معايا.
وقفت ديبورا وأسندت يوسف ليقف ودخلت به إلى غرفتها الخاصة، أجلسته وهي تحاول فهم ما حدث ويوسف يتكلم بكلام أغلبه غير مفهوم، توقف عن الكلام ونظر إلى ديبورا التي كانت ترمقه بدهشة وارتمى بين ذراعيها. أبعدته ديبورا عنها ونظرت إليه بتعجب فوضع يوسف يده على وجنتها وابتسم، ابتسمت ديبورا هي الأخرى، أحاطت وجهه بيدها وقبلته...
***
أفقت وأنا أتنفس بصعوبة واعتدلت في جلستي، ابتعدت عني تبر محاولة فهم ما حدث.
- ناريمان.. الزوجة التانية لفاروق.. يوسف وديبورا..
وضعت تبر يدها على فمي لتسكتني، أنزلت يدها من على فمي وتمعنت النظر فيها وأنا أهمس:
- بحبك.
سحبت تبر يدها وهي تنظر إليّ غير مصدقة ما قُلته، هززت رأسي بالإيجاب وأنا أسحبها عليّ وألثم شفتيها.
شعور غريب يتسلل إلي لم أستطع تميزه، أحطتها بذراعي وكل ما يدور في ذهني وقتها هو أنني أحبها.
أنا أحب تبر!
***

رواية نسيج التبر / للكاتبة يارا سعيدTahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon