الجزء الحادي عشر

3 2 0
                                    

في غرفة الضيوف كانت جويرية جالسة أمام هارون الرشيد وابنه محمد وأبيها وهم يتحدثون عن أحوال البلاد، وسجاج تقف في نهاية الغرفة تستمع لحديثهم وترفع رأسها بين الحين والآخر إلى جويرية، حتى ابتسم محمد وطلب من أبيه تأجيل الكلام عن السياسة وأن يعطيه فرصة التعارف على جويرية، ابتسم هارون الرشيد وأمر الحراس والجواري بالخروج، رفعت سجاج رأسها إلى جويرية فابتسمت جويرية وأشارت إليها بالخروج.
خرجت سجاج من الغرفة ونظرت إلى الطريق الذي يأخذها إلى الحرملك ثم نظرت إلى الطريق الآخر الذي يقودها إلى خارج القصر، تنهدت ومشت بضع خطوات في اتجاه الحرملك لكنها وقفت ثم استدارت وقررت الخروج.
توجهت إلى الإسطبل لمقابلة كريم أخبرها أنه دائمًا يكون هنا وسط الأحصنة، رفعت سجاج طرف الفستان حتى لا يتسخ من القش وهي تنادي على كريم، سحبها كريم من يدها إلى أحد جوانب الإسطبل فصرخت سجاج بصوت خفيف من المفاجأة:
- كيف جئتِ إلى هنا؟ هل رآك أحد؟
- لا تقلق، جئت من طريق سري كنت أخبرتني به من قبل.
تنهد كريم براحة:
- الحمد لله.. لمَ لمْ أرَكِ الأيام الماضية؟ كنت أفتقدك ألم تفتقديني؟
- كيف لي أن أفتقدك وأنا أراك كل ليلة مع جورية.
ابتلع كريم غصته ونظر في الأرض فضحكت سجاج بسخرية وأردفت:
- أخبرتك أنه عند ظهور الأميرة تصبح باقي الفتيات كالظلال.
- سجاج، إن كنتِ رأيتِني فعلًا ستعلمين أني لا أبادلها أي مشاعر ولا حتى أقول لها شيئًا يدل على ذلك.
- لكنها تبادلك وليل نهار تفكر بك وتتخيلك معها.. كيف يغمض لك جفن وأنت تقابل كل ليلة خطيبة ابن الخليفة الذي وثق فيك وجعلك كبير الحراس رغم صغر سنك.. أعتقد أنك لم تنضج كفاية لتصبح أي شخص جدير بأي شيء!
قالت سجاج كلماتها الأخيرة بنبرة معاتبة وكانت بدأت تتجمع في عينها الدموع، أمسك كريم يدها وقبّلها وهو يعتذر، سحبت سجاج يدها بغضب ومسحت وجهها وهمت بالرحيل فلاحقها كريم: سجاج أرجوك لا تذهبي.. أقسم لك أنا لا أبادلها أي مشاعر.. كيف أفكر بها وأنا كل تفكيري بكِ.
نظرت سجاج إليه وارتسم على وجهها شبح ابتسامة فأكمل كريم وهو ممسك بيد سجاج:
- أعلم أن كلامي أشبه بالجنون وأننا تقابلنا مرة واحدة لكن أنا أريد التعارف عليك أكثر وأريد أن أكون معك.. يمكنني فعل أي شيء.. يمكنني طلب يدك من والد جويرية.. أي شيء صدقيني.
ابتسمت سجاج ابتسامة واسعة وأحاطت كتفيّ كريم بذراعيها وهي تحتضنه ثم ابتعدت عنه سريعًا بخجل. ابتسم كريم:
- أعدك أني سأنهي الليلة كل شيء وسنبدأ أنا وأنت بداية جديدة لحياتنا.
***
في المساء.. كانت سجاج متشوقة لمقابلة جويرية، وكريم أكثر من جويرية نفسها، وتسللت الفتاتان كالعادة إلى المكان الذي يتقابلان فيه مع كريم دائمًا.
ابتسمت جويرية عند رؤية كريم وأخبرته أن والدها تحدث مع الخليفة وابنه حول الزواج وأنها ستتزوج منه قريبًا.
اختلست سجاج النظر وهي تترقب رد كريم لكن جويرية سبقته بدموعها وهي تقول له إنها تريده هو ولا تريد ذلك الزواج.
تنهد كريم وقال بنبرة معتذرة إنه لا يستطيع أن يكمل معها وأنه لا يريدها، فأجهشت جويرية بالبكاء واحتضنت "كريم" بشدة وهي ترجوه بأن لا يتركها. رفع كريم رأسه إلى سجاج التي كانت تشاهد كل شيء وابتعد عنها ورحل، رجعت سجاج إلى مكانها حتى جاءت جويرية وهي تبكي بشدة وارتمت بين ذراعي سجاج، نظرت سجاج إليها وهي بين ذراعيها وهي مثل البركان الموشك على الانفجار
***

في الحرملك كانت سجاج تصنع عقدًا من الخرز، كانت جدتها هي من علمتها تلك الهواية قبل أن يُقتل جميع أفراد عائلتها في أحد الحروب الأهلية.
أصلها مصري وبعد موت عائلتها بقيت مشردة حتى رآها أحد تجار الرقيق فأخذها وابتاعها لجويرية ابنة الوالي على مصر، ولثقة جويرية فيها قررت تقريبها لها وأصبحت تعتبرها مثل أختها، لكن بالنسبة لسجاج لم تكن ترى تلك أخوة؛ كانت تراها مذلة وهي تتحمل الإهانة وخدمة تلك المتعجرفة المدللة والآن تريد أخذ ما هو ليس من حقها.
أفاقت سجاج من شرودها وهي تقطع العقد الخرزي من شدة غضبها، التفتت إليها الفتيات ومن بينهن طروب التي شرعت في لمِّ حبات الخرز المبعثرة ووضعتها في يد سجاج وهي تهمس:
- لا تبدين في حالة جيدة.
نظرت إليها سجاج بحزن وقبضت يدها على الخرز فسحبتها طروب من يدها لتأتي معها، وأخبرتها سجاج بقصتها.

***

دخلت سجاج غرفة جويرية كأنها مغيبة، جلست أمام سرير جويرية التي كانت غارقة في نومها وأغمضت عينها وهي تتذكر كلام طروب.
"بعض الأشياء لا تعوض خاصة الحب فإن وجدتِ الحب لا ينفع الاستغناء عنه بأي شيء فما بالك بك تتركين السعادة لأجل شخص لا يقدر أي شيء تفعلينه لأجله.. أين العدل في ذلك؟"
وقفت سجاج وذهبت إلى الصندوق الذي تحمل فيه أغراضها وأخذت تبحث بين الملابس حتى وجدت الخنجر الذي تحمله معها طوال الوقت وتوجهت إلى جويرية النائمة.
"إن كان اللين لا يفلح يا عزيزتي فعليك بالقوة.. إن تركتِ جويرية لما تريد سوف تخسرين كل شيء، كريم.. منصبك في قصر الوالي، ستعودين مرة أخرى مشردة خسرت كل شيء.. أتريدين ذلك يا سجاج؟"
فتحت سجاج الخنجر ورفعته وهي تنزل من عينها الدموع:
- قدرت ثقتك في وأحببتك مثل أختي.. تمنيت لكِ الخير وكنت أخاف عليك أكثر من روحي.. لكنني لا أتحمل يا مولاتي لا أتحمل احتقارك لي وإهانتك لي.. لم أتحمل أن تسلبي مني ما أريده.
فتحت جويرية عينيها بنعاس فصرخت عند رؤية سجاج بالخنجر:
- آسفة يا جويرية.
غرزت الخنجر في بطنها فسالت الدماء من جويرية وفي عينيها الدموع، بقيت ناظرة إلى سجاج حتى نزلت دمعة من عينها وأغمضت عينها، نظرت إليها سجاج بخوف ونادت عليها على أمل أن ترد جويرية، عقدت حاجبيها وهي تلمس دماء جويرية بأصابع مرتعشة، أخذت ترجع إلى الوراء من هول المنظر حتى وقعت على الأرض وضمت ركبتيها إلى صدرها وصرخت بشدة.
***
فتحت عيني وانتفضت من مكاني وأنا آخذ نفسي بصعوبة، همت تبر سريعًا وهي تجلب لي المياه وتشربها لي وأنا أرتعد خوفا، نظرتُ لتبر والدموع تنزل من عيني بشكل لا إرادي وضممت ركبتي إلى صدري، وتبر تمسح على شعري وتحاول أن تطمئنني، نظرت إلى وضعي وإلى تبر التي كانت تتحدث معي لكنني كنت أنظر إليها ولا أسمع شيئا كأني فقدت السمع، نظرت إلى نفسي مرة أخرى كان وضعي يشبه وضع سجاج قبل أن تصرخ وأفيق.
***

رواية نسيج التبر / للكاتبة يارا سعيدWhere stories live. Discover now