الثالث والعشرون

27 4 0
                                    

يامثقلة الجفنين..

أختاه ميسون.. ماذا يسعني أن أقول ليطلع أخوانك وأبناء وطنك على آلامك؟! فالمشهد كان مفزعاً مهولا والقلم مازال عاجزاً ينوء بجراحات الروح.. رباه، كيف لي أن أصف تلك الجريمة البشعة؟! لقد أحالت الكهرباء خذيها المتوردتين الى خشبة صفراء.. كانت تجود بنفسها، تئن بطريقة تُذكرك بأنين الحوراء يوم عاشوراء! تصفد جبينها الزاهر عرقاً، سيطر الوهـن على جسدها شيئاً فشيئاً فكأنها شمعة ذابت روحها رويداً رويداً، ولسوف تنطفىء بعد حين.

میسون صبراً.. لم يبق إلا القليل. إبك يا أخي.. إبك ياأخي، إبك ياوطني الحبيب، فلميسون كل الدموع.

حاولت رفع جفنيها فعجزت، غير أن الرموش مازالت تتحرك والشفاه مازالت تتمتم تنبض ببقايا حياة.. فروحها لم تزل تصارع الموت البطيء..

بقيت العينان ساكنتين بينما راح الجسد المقيد ينتفض وينتفض، ثم صار يتراخي.. يتراخي بعد أن حركته رعشة الموت.. وهكذا ذوث ميسون وخبا نورها شيئاً فشيئاً حتى انطفأت وساد الظلام.

القاتل يبكي قتيله!

نادراً ما تتعاطف الرقيبات مع ضحايا النظام، وحتى ولو بقي في قلب إحداهن بقايا إنسان تراهن يكتمن ذلك ولم يصرحن به إما خوفاً من عيون النظام أو عزة بالاثم.. بيد أن الأمر مع ميسون كان يختلف تماماً.. فقد وصفت الرقيبة المرافقة (إيمان/ أم سفیان) مشهد الاعدام وقالت:

«أثناء فترة تنفيذ الاعدام على الكرسي الكهربائي، فتحث ميسون فمها عدة مرات.. كان لسانها جافاً كالخشبة، لانها كانت وقبل توصيل الكهرباء بالكرسي قد طلبت قليلاً من الماء ولم يسمحوا لي بتوفيره لها! وقد كررت الطلب أثناء جولات التعذيب.. كنت استشعر أنفاسها، كانت ناراً مستعرة.. إستغرق وقت التعذيب والأعدام قرابة الساعة أو أكثر بقليل!».

الرقيبة (إيمان) التي كان عملها ومرافقتها للضحايا صورة رتيبة متكررة، قد قسى قلبها، فهو كالحجارة أو أشد قسوة.. لكنها مع ميسون كانت تختلف.. لقد بكت من أعماقها، وشاركت الأقسام السياسية -الغارقة بالحزن- بالدموع والنحيب المـر.. وهكذا تجلت حكمة الخالق عز وعلا إذ ساهم الجلاد في نشر بطولة الضحية!

سألتها إحدى الأخوات من القسم الثالث : - كيف ستقابلين ربك وأنت واقفة كل هذا الوقت  میسون تشاهدين ما يجري عليها؟!

- وماذا باستطاعتي أن أفعل؟! إنها وظيفتي!

- أي وظيفة هذه.. إتركي الوظيفة.

- وأنتم لم لاتتركون السياسة!

نظرت إليها الأخت بسخرية لاذعة وأشاحت بوجهها ولسانها

يحوقل.

علت.. فتصاغروا

كانت تلك الرقيبة التعيسة تقسم بالله الذي لم تعبـده قـط أن ميسون كانت وحتى قبل إرتحالها بدقائق معدودة، منشرحة الصدر منبسطة الوجه متمتمة مع ربها.. لقد رحلت والصلاة على

شفتيها.

وهكذا قتلوا ميسون.. قتلوا الربيع والجمال.. استأصلوا وردة الجوري بهذه الطريقة البربرية فتلاشى عطرها وشذى عبيرها.. إنطفأت ميسون.. تلاشت جسداً لم يبلغ ربيعه العشرين، وبقت روحها مجداً فـوق جبيـن عـراق الفراتيـن.. إستشهدت ميسون وتحت أقدامها دنيا خضراء.. إرتحلت فعلت، وقتلوا فتصاغروا.

طائر الشمس |حقيقية|Where stories live. Discover now