الفصل الثاني والعشرون

Start from the beginning
                                    

بعد يومين ......كانت سما متمددة على الكرسي الضخم ذو المساند بحيث تستند بظهرها على مسند و تؤرجح ساقيها من على المسند الآخر ....... تتلاعب بخصلاتِ شعرها , شاردة بعيدا عند أسدها الأعمى ........
و حلا متكورة على الكرسي المقابل كجنينٍ صغير في طياته حتى كاد ان يبتلعها و هى الاخرى شاردة تماما و عيناها دامعتان
أما سابين فكانت تجلس على المكتب الضخم واضعة نظارتها الطبية , تدرس أوراقا كثيرة تحاول إعدادها و ترتيبها ......بمنتهى التركيز
... تركيزٍ لم يقطعه الا الرنين المزعج مجددا .......
رفعت سما الهاتف من جوارها بملل وهي تنظر اليه ثم قالت بفتور وهي تعيده مرة أخرى ( احمد .......)
زفرت سابين بحنق وهي تعاود التركيز بأوراقها ...... لكن بعد نصفِ ساعة عاد الهاتف ليرن , فنظرت سما اليه لتقول بنفس الفتور
( ادهم........)
رفعت حلا رأسها عاليا كما كانت تفعل كلما سمعت اسمه .... رنين .... رنين ......
صرخت سابين فجأة بعدوانية
( فلتغلقي هذا الهاتف اللعين يا سما لم أعد أتحمل ..... اليس لديهم ما يشغلهم ؟... إننا في منتصف النهار ؟ أين أعمالهم ؟؟؟؟......)
لم تجب سما حتى لا تستفزها فلو استفزتها اكثر فلربما تأخذ الهاتف و تلقي به من النافذة .... وهي لا تريد أن تدمر أعصابهم اكثر بقطع وسيلةِ الاتصال الوحيدة بينهم وبين حلا وسابين ....
أوووووووف ..... إن سابين أصبحت لا تطاق بالفعل .... دائما متوترة و عصبية .... لم تعهدها متقلبة بهذا الشكل ..... الا إنها تزداد جمالا وبياضا .... هناك شيئا غريبا بها لا تستطيع تفسيره ......
عاد الرنين مرة أخرى .... إنه ادهم ثانية ......رمت سابين الأوراق من يدها على سطحِ المكتب ثانية ودارت بالكرسي الضخم استعدادا للإنقضاض على الهاتف المسكين ...... الا إنها وقبل أن تنهض من مكانها .......كانت حلا قد قفزت بخفة الغزال لتخطف الهاتف من جوار سما و تنطلق به جارية بعيدا , فصرخت بها سابين و هي تجري ورائها باقصى سرعتها صارخة
( حلا ..... اياكِ ..... اياكِ ان تجيبيه .....)
الا أن حلا وصلت بأعجوبة ٍ الى الحمام و تمكنت من إغلاق الباب خلفها على بعد خطوةٍ واحدةٍ من سابين التى أخذت تطرق على الباب ,
نظرت حلا الى الإسم الحبيب المضيء أمامها .....إن هذا الرنين هو الحافز الوحيد الذى يبقيها صامدة الى الآن .......
ضغت على الشاشةِ برفق و رفعت الهاتف بحذرٍ الى أذنها و أرهفت السمع الى صوتِ وحشها الحبيب ....
( سما ؟.......سما ؟..... هل هذه أنتِ؟........كيف حلا الآن ؟....أرجوكِ أجيبيني )
أغلقت حلا عينيها على الدموعِ الناعمةِ الحبيسةِ خلفهما و هي تبتسم بكل ما تحمله من حبٍ بداخلها لهذا القاسي المستبد ..... الرقيق ...
( كيف حالك حبيبتي ؟...........)
فتحت عينيها بسرعةٍ حين سمعت سؤاله المختنق فانسابت الدموع على وجنتيها والابتسامة تحولت الى ضحكةٍ صغيرة مشتاقه وصلت في طريقها الى أذنيه المتلهفتين ....... لكنها لم تر ابتسامته المشتعلةِ بعد ان سمع ضحكتها ...فقال بعنفٍ شغوف
( تضحكين وأنتِ بعيدة عني يا حلا ؟...... ظننتك تتألمين مثلي )
اتسعت ابتسامتها أكثر ....... وازدادت دموعها أكثر وأكثر ..........
قال لها ادهم بعشقٍ و كانه يستعطفها
( أريد أن أسمع صوتك على الأقل حبيبتي ......)
مرت لحظاتِ صمت ٍ طويل .... طويل .... لم يحاول قطعها و كأنه يبتهل في سره أن ترد عليه أخيرا........ الى أن وصلته همسة أحيته من جديد
( ادهم .........)
صرخ ادهم بشدةٍ ما أن سمع همستها حتى أنها أبعدت الهاتف عن أذنها للحظاتٍ الى أن ينتهى
( حلا .......حلا حبيبتي أين أنتِ ..... أخبريني و سأكون عندك في لحظات , أعدك أنني لن أؤذيكِ أبدا ......أبدا .....وسأحاول جاهدا الا أكسر رأس سابين ......فقط أخبريني أين أنتِ )
ضحكت مرة أخرى من بين بكائها الذى بات جليا لأذنيه ليمزق قلبه المشتاق اليها ...... الى قالت أخيرا بصوتٍ مختنق
( سأعود يا أدهم ................)
سمعت صوت تنهيدةٍ عميقةٍ صادرة من أعماقه قال بعدها بصوته العميق الواثق
( أين أنت حبيبتي و سأحضر حالا ؟........)
صمتت لحظة ثم قالت بصوتٍ هادىء وهي تغالب دموعها و ابتسامتها الحزينة
( سأعود وحدي .........)
قال بعد لحظةٍ من صمت و توجس ( لماذا ؟.........)
ردت عليه حلا بنفس الهدوء ( لأنني سأعود حين أعود حلا من جديد .......)
سمعت صوت خبطة قوية وكأنه لكم حائطا او شيئا ما فخافت عليه بشدة و نادته بسرعة ( ادهم .....)
وصلها صوته غاضبا بشدة و كأنه مل من كل هذا العبث
( لماذا تفعلين بي كل هذا ؟ هل تعاقبيني يا حلا ؟........كل هذا لأنني ضعفت قليلا , قد أكون آلمتك ... لكن الم تفكري أنكِ أنتِ أيضا آلمتني بشدة ......)
شعرت بغصةٍ في حلقها وهي تبتلع دموعها المريرة و قالت بضعف وتمزق
( أعلم .....أعلم حبيبي أنني آلمتك بشدة ....... و لم أكن أتصور أن أقوم بهذا , لهذا لن أعود قبل أن أرمم نفسي ...... سأعود حلا التى أحببتها قديما ......أما حلا التى تركتك فهي التى ستبعدك عني و أنا لا أريد أن أعيش اليوم الذى ستتركني فيه ......لن أحتمل هذا أبدا , وحتى إن لم تتركني سأظل دائما أعيش هواجسي و رعبي من أن تتركني يوما ما ........)
حاول الكلام هادرا وقد أحرقته كلمة حبيبي التى صدرت بعفويةٍ من بين شفتيها ( أبدا لن ........)
الا إنها قاطعته تترجاه أن يفهمها ( حتى لو بقيت معي للأبد ..... سيموت حبك لي يوما ما , لأنني لست هي ..... لست حلا التى أحببتها يوما ......)
سمعت صوت أنفاسه الممزقة الغاضبة ثم قال أخيرا
( حسنا ..... حسنا يا حلا , لكن بشرط أخبريني أين أنتِ لأطمئن عليك ِ )
ضحكت حلا ضحكة صغيرة حملت كل حزنها و ألمها ..... حبها و اشتياقها ....ثم همست
( هل تظن حقا أنني سأصدق بأنك ستظل مكانك لو علمت أين أنا ؟...........)
جذب نفسا حادا عميقا ثم هتف بحنقٍ لم يستطع السيطرة عليه
( نعم .....أنت محقة , لن أنتظر لدقيقةٍ واحدة حتى أصل اليكِ و اجذبكِ بين ذراعي حتى تصرخين طلبا للرحمة ......أتوق لتقبيلك يا حلا , أتوق لتقبيلِ شفتيكِ الشهيتين بشدةٍ تجعلني أكاد أقتل نفسي لأني تركتك آخر مرة ...... حلا لقد أصبحتِ تسرين في عروقي )
أغمضت عينيها حين تذكرت اللحظاتِ المخزيةِ لها حين تركها و خرج ..... لكنها تمكنت من الهمسِ أخيرا
( لقد أصبت حين تركتني يا ادهم ...... لم أكن لأحترم نفسي و أنا أستجدي سماحك بهذه الطريقة .......لا أعلم كيف كنت .......)
قاطعها ادهم بقسوة
( حلا توقفي ....أنتِ زوجتي , كان يجب أن أظل بجوارك , اعطِني فرصة أخرى يا حلا و أخبريني أين أنتِ ........)
همست حلا برقةٍ قبل أن تضعف اكثر
( سأعود .......أعدك أنني سأعود , و بأني لن أكون لغيرك أبدا ...........)
صرخ ادهم بشدة ( حلا لا تغلقي الخط ..........إياكِ )
لكنها أغلقت الخط وهي تعلم أنها لو أبقته مفتوحا للحظةٍ وحيدةٍ أخرى لكانت سقطت على ركبتيها تخبره بمكانها و تترجاه ليأتي و يأخذها
اخذت نفسا مرتجفا طويلا و مسحت وجهها بكفيها و هي تنظر الى صورتها في المرآةِ أمامها ....... ثم ابتسمت لها وهي تهمس
؛( اطمئني ......لن أبعدك عنه طويلا , فقط عودي من جديد )
ثم تقدمت وفتحت باب الحمام بهدوء لتواجه مصيرها المتمثل في سابين الشرسة الواقفة أمامها مكتفة ذراعيها تنظر اليها بوحشية ٍ لم تلبث أن أخذت في الإختفاءِ تدريجيا وهي تنظر الى عيني حلا الباكيتين ..... لكن مشعتين ..... وابتسامةِ أمل جديدة تحاول الإرتسام على شفتيها ......قالت سابين أخيرا
( ماذا قررتِ ؟..........)
قالت حلا برقة ( سأظل معكما .......الى أن أصبح جاهزة )
ابتسمت سابين و جذبتها بين ذراعيها بشدة ...... الى أن سمعا صوتِ سما الرقيق من خلفهما
( أنا أيضا أريد أن تحضناني .............)
ضحكت سابين و هي تفتح إحدى ذراعيها لتندفع اليها سما دافنة رأسها في صدر سابي متشبثة بحلا ...........
.................................................. .................................................. ...............................................
بعد أسبوعين ..... كانت تالا تقف في غرفة تغيير الملابس بمدرستها و قد بان الحزن على معالمها الصغيرة الرقيقة , كانت ترتدي ثوبا ابيضا صغيرا منفوشا كراقصاتِ الباليه بجوارب بيضاء طويلة شفافة و حذاءٍ فضي ..... كما أن الثوب مثبت في ظهره جناحي فراشة عملاقان شفافين مزينين بالالماساتِ المتناثرة .......و تاجٍ من ريشٍ ناعم هفهاف يغطي رأسها ......كانت ترتدي زي ملاكٍ صغير و قد بدت رائعة بشكلٍ يسلب العقل ......
لكن عينيها البندقيتين كانتا مائلتين بحزنٍ عميق وهي تفكر بأنها ستحضر حفلة عيد الأم وحيدة ..... بالرغمِ من إنها ظلت تتمرن للاستعراض الذى ستقدمه طويلا ..... كانت تريد أن تفاجىء به أباها .........لكنه نسي تماما , فهو مؤخرا في حالة غريبة .... لم يسبق له أبدا أن ابتعد عنها الى هذا الحد ......تمر أياما بكاملها دون أن تراه حين يعود متأخرا جدا بعد نومها بوقتٍ طويل ...... دائما شارد ....و أحيانا غاضبا بشدة ......لم يعد يتناول طعامه معها و لم يعد يقرأ القصص لها قبل النوم ..... لأنها لا تراه أبدا ......
كم كانت تنتظر عودة سابين من شهر العسل الذى لا ينتهي هذا أبدا ......لكن يبدو أنها لن تعود أبدا ....... الكل يخدعها و يظنون أنها تصدقهم حين يخبروها أن سابين مسافرة و ستعود ....... تماما كما أخبروها بأن لها أما مسافرة و ستعود وهي صغيرة .... الى أن جلس معها والدها يوما و أخبرها أن أمها لن تعود لكنها في مكانٍ أفضل و هي سعيدة لذا يجب أن يسعدا لها............
وقد تقبلت الامر لانها لا تتذكرها ..... لكن سابين .... كانت قد ظنت بأنهما ستكونان صديقتان جدا ...... فهما متشابهتانِ للغاية ......
لكن يبدو أن سابين تركت والدها و لن تعود أبدا ........ حتى دون أن تودعها ............و ها هي جدتها تتأخر عن الحضور , لقد نظرت الى المسرح من خلف الستائر و وجدت الكرسي المحجوز لها فارغا ..... لقد ضاع كل تعبها في التمرين هباءا و لن يراها أحد .....
( كيف حالك يا شريرة ..........)
انتفضت تالا بشدة حين سمعت الصوت المألوف و استدارت بسرعة صارخة
( سااااابين ؟..................)
كانت سابين واقفة أمامها بكامل أناقتها ترتدي فستانا ضيقا رماديا يحدد جسدها الفارع يصل الى ركبتيها و جوارب سوداء ناعمة تغطي ساقيها و حذاءا أسودا أنثويا بكعبٍ عالٍ رفيع و شعرها كان حرا طليقا على ظهرها بشكلٍ يخطف الأنفاس...... كانت تبدو مذهلة و كل الفتيات الصغيرات في غرفة التبديل ينظرن اليها بإنبهار يسألن بعضهن عمن تكون هذه الساحرة ......
قالت سابين و هي تبتسم ابتسامة شريرة رافعة أحدى حاجبيها
؛( بلغني أن هناك حفلا لعيدِ الأم ينقصه أما ...............)
ابتسمت تالا بخبث وهي تقترب منها .....ثم قالت بعد لحظة بمرح و تششك
( ومن هي الأم ؟.....أنتِ ؟.......)
اتسعت ابتسامة سابين وهي تقول ساخرة ( في أحلامك .........)
ضحكت تالا عاليا و قد شعرت فجأة أن الحزن قد غادرها و هي تجد ساحرتها الشريرة..... التى أكتشفتها يوما ..... تقف أمامها بكامل جمالها ......ثم ردت بمرح
( اذن ماذا تفعلين هنا .................)
نظرت سابين حولها الى الفتياتِ الصغيراتِ اللاتي يرتدين فساتين الملائكة و يتهامسن عليها .....ثم قالت مبتسمة ٍ بسخرية
( أردت أن أراك و أنت ترتدين هذه الأشياء السخيفة ........ ستبدين ظريفة على المسرح ...... قد يظن من يراكِ أنكِ طفلة فعلا )
ضحكت تالا عاليا الى أن جائت المُدرسة لتعلن عن استعدادهن للتحرك الى المسرح فتناولت تالا عصاتها السحرية الفضية بسرعة ثم قالت لسابين بلهفة ....
؛( ستجلسين في المقعد المحجوز لجدتي ....... كان من المفترض أن تحضر الا إنها لم تأتِ و حتى إن أتت فلتبحث لنفسها عن مكان جزاءا لتأخرها ..........)
ضحكت سابين من شدة وقاحة تلك المجنونة الصغيرة لكن قبل ان تنصرف تالا كانت قد التفتت الى سابين سريعا و نثرت مسحوقا فضيا لامعا من عصاتها السحرية فوق رأس سابين و هي تهمس
( هذه تعويذة حتى لا تختفي ثانية .........." فلتظلي أسيرة لأبي للأبد "...... )
ثم استدارت جارية مع باقي الصغيرات و هن يضحكن متحمسات .........
بينما ظلت سابين واقفة مكانها تنظر بشرود يراودها شعور غريب بأن تلك التعويذة قد سرت بالفعل و انتهى الأمر ..........
أثناء ذلك الأستعراض كانت سابين تجلس بحنق .... الملل يقتلها ....سابين الراشد جالسة في حفل ٍ مدرسي ..... تشاهد عرضا مسرحيا ساذجا .... لصغيراتٍ يبتسمن بسذاجة ٍ و حماسة , وكأنهن يقمن بمهمةٍ مستحيلة .....
وهي جالسة بين مجموعة من الأمهات يمسكن بأيدي بعضهن البعض و عيونِ بعضهن دامعة و كان صغيراتهن يقمن ببطولةٍ من نوعٍ ما ..........
انحنت الى الأمام تستند بذراعيها الى ركبتيها ........و أغمضت عينيها ..... سابين الراشد تشاهد هذا الاستعراض الساذج بدلا من أن تكون الآن في وسطِ اجتماعِ عملٍ مهم , أو تناقش صفقة ما ....... هل هذا ما آل حالها اليه ؟...... كل هذا بسبب الغبي احمد مهران الذى أفسد كل ما حققته يوما ........لابد وأنه استبدلها بأخرى .........
شعرت فجأة بيدٍ حنونة تربت على كتفها فرفعت رأسها لتنظر الى سيدةٍ متقدمةٍ في السن تجلس بجوارها تبدو عليها الطيبة قالت لها مبتسمة
( أنتِ تفوتين عرض ابنتك ........)
قالت سابين بتردد ( إنها ليست ..........) الا أنها قطعت كلامها و آثرت الصمت
سألتها السيدة بلطف (أيا منهن ابنتك ؟...........)
ظلت سابين صامتة للحظة تنظر اليها ثم قالت أخيرا بخفوت ( تالا .......)
ردت السيدة بابتسامة عريضة (تالا ؟.....لقد تعرفت اليها اليوم , إنها صديقة حفيدتي ..... إنها رائعة , إنكِ محظوظة بها )
أومأت سابين برأسها بصمت وهي تنظر الى تالا وهي تغني وسط الصغيرات
فتابعت السيدة تقول ( لكنها لا تشبهك إطلاقا .........)
ردت سابين بشرود دون أن ترفع نظرها عن تالا المبتسمة ( إنها تشبه والدها .........)
قالت السيدة بابتسامةٍ مرحة ( لابد أنكِ تحبين ولدها بشدة ........)
نظرت اليها سابين بنظراتٍ مبهمة فتابعت السيدة تقول بثقة
( يقولون أنكِ إن أنجبتِ فتاة شديدة الشبه بوالدها فذلك يكون من شدة حبك له )
ظلت سابين تنظراليها وهي تفكر ..... لست أنا من أنجبت تالا ......لابد أن ليال أحبت أحمد اذن بشدة .......
ياالهي..... ما تلك الحماقة التي تفكر بها .........لابد وأنها تلك الهرمونات اللعينة التي تتلاعب بعقلها ..........سمعت صوت غناء تالا واضحا وهي تتقدم لتغني وحدها على المسرح ........تبتسم لعينيها هي وحدها دون الجميع ......فابتسمت لها سابين بشرود وهي تلوح لها دون وعي ..........
و العجيب أن سابين استمتعت بباقي الإستعراض الى نهايته .............
بعد أن انتهى الحفل وقفت سابين مع تالا أمام المدرسة لتودعها فقالت تالا بلهفة
(سابين الن تعودي معي ؟..... هل ستتركين ابي ؟.....هل أغضبك بشيء ؟.....)
انحنت سابين اليها و جذبتها من خصلة من خصلاتِ شعرها ...... كما فعل معها احمد ...... مرتين ...... مرة وهي صغيرة ومرةٍ وهي زوجته ........
عادت لتنفض تلك الافكار من راسها ...... ثم قالت لتالا بصرامة زائفة
( لا دخل لكِ بمواضيع الكبار ........هل فهمت ؟)
الا ان تالا لم تضحك و لم تبتسم حتى فتنهدت سابين هي تخرج مفتاحٍ من حقيبتها الصغيرة و ناولته الى تالا قائلة بصوتٍ خافت
( ابعثي بسلامي الى والدك يا تالا ...... و أعطيه مفتاح السيارة و أخبريه أنها تقف هنا أمام المدرسة ليستطيع أخذها بسهولة)
ثم ابتعدت برشاقة وهي تلوح لتالا التى وقفت تراقبها بعينين دامعتين .........
تلك الليلة دخل احمد متثاقلا متعبا الى غرفة تالا ...... راقبها وهى تنام في فراشها و الضوء الصغير المضاء بجوارها يفضح تظاهرها بالنوم ......إنها غاضبة منه ........لقد نسي حفلها تماما ....... كيف تمكن من ذلك ؟......
اقترب منها و جلس على حافة فراشها ثم انحنى ليقبل وجنتها الناعمة .... لكنها لم تتحرك , فقال مبتسما
( تالا ....أعرف أنكِ مستيقظة ..... افتحي عينيكِ و واجهيني ...لا تهربي )
فتحت تالا عينيها ببطء ثم قامت جالسة لتضم ركبتيها الى صدرها و هي تنظر بعيدا عابسة
ابتسم احمد بحنان لجميلته الصغيرة التى تزداد سحرا يوما بعد يوم .......ثم قال بصوت خافت مشبع بالذنب
( تالا حبيبتي ......أنا آسف جدا لأني لم أحضر الحفل , لقد نسيت تماما ..... لن أكذب عليكِ و أقول أنني انشغلت , لكن الحقيقة أن ذهني أصبح متعبا للغاية فنسيت تماما ........لكن هذا ليس عذرا و لك الحق بأن تغضبي .......لكني أنبت جدتك لأنها لم تذكرني بينما لم تذهب هي )
نظرت اليه تالا عابسة و قالت بغضبٍ طفولي
( ليس من المفترض أن تذكرك ...... كان لابد أن تتذكر وحدك إن كنت تهتم )
اقترب منها ليأخذها بين أحضانه و يضمها الى صدره بشدة وهو يتنهد بعمق قائلا
( طبعا أهتم يا تالا ....أنتِ أغلى شخصٍ عندي في هذه الدنيا )
رفعت تالا رأسها لتنظر اليه ثم قالت وهي لا تزال عابسة
( على كلِ حال الخسارة خسارتك )
ابتسم أحمد بحنان وهو يقول ( بالتأكيد خسارتي لأني لم أرى ملاكي اليوم ......)
ظلت تالا عابسة وهي تخرج شيئا من تحتِ وسادتها و تناوله المفتاح قائلة
( ملاكك يبعث لك بسلامه وبمفتاح السيارة ........تستطيع أخذها من أمام المدرسة)
نظر أحمد بذهول يحاول التأكد من ذلك المفتاح المتدلي من بين أصابعها ثم هتف وهو يمسكها من كتفيها
( من أين أتيت بالمفتاح يا تالا ؟......هل رأيتِ سابين ؟)
ابتسمت تالا باستفزاز وهي ترد عليه قائلة
( نعم سابين كانت موجودة بالمدرسةِ اليوم ........وحضرت معي الحفل كاملا )
ظل احمد ينظر اليها بذهول لا يصدق ما سمعه .....الى أن قام من الفراش و أخذ يركل الحائط بقدمه عدة مرات حتى يفرغ شحنات غضبه تماما
بينما كانت تالا تنظر اليه فاغرة فمها وهي لا تصدق أن والدها من الممكن تصدر عنه مثل هذه التصرفات الصبيانية ......
هدأ احمد قليلا ثم التفت لينظر الى تالا طويلا ثم اقترب منها ليجلس على حافة لفراش مرة أخرى و يعاود احتضانها بقوة .... فقالت تالا بقلق
( ماذا حدث يا أبي ؟.......الن تعود سابين ثانية ؟)
أبعدها أحمد عنه قليلا وهو يمسك بكتفيها لينظر الى عينيها بكلِ قوةٍ قائلا بحزم
( إن سابين تلعب معنا لعبة حتى ترى مدى غلاوتها لدينا ....... لكني سأربح اللعبة أعدك ..... و سأحضر لكِ سابين الى هنا ...... فهي تخصنا أنا وأنتِ .....و سنعثر عليها معا لتكون لنا للأبد .....اتفقنا ؟)
ثم ضم قبضه ومدها لها فأومأت برأسها مبتسمة بمرح وهي تضم قبضتها هي الأخرى و تضرب بها قبضته .........
.................................................. .................................................. ...........................................
( إبتعدن ...... أخرجن جميعا من هنااااااا)
انطلقت هذه الصرخة الوحشية من ذلك المخلوق الهمجي الشرس ذو اللحيةِ النامية و الشعرِ المشعث و العينين الحمراوين من الغضب و السهر .....
ثم لم يلبث أن ضرب يدِ الممرضةِ الواقفةِ أمامه مادة يدها بأقراصِ الدواء لتتناثر بعيدا عنه مصحوبة بصيحة الممرضة المسكينة المرتعبة ....التى ما أن التقطت انفاسها حتى قالت بحنقٍ مرتعش من الخوف
( سيد فارس .... تصرفاتك غير مقبولة بالمرة .... نحن لسنا خادماتٍ عندك , وحتى وإن كنا فهذا لا يمنحك الحق في أن تعاملنا بهذه الطريقةِ المبتذلة )
ازدادت نظراته وحشيةٍ و شراسة حتى أنها شهقت برعب و هي تبتعد هي و زميلاتها الى آخر الغرفة عندما نهض فارس من فراش غرفته الذى كان يجلس على حافته ملتقطا عصاه الخفيفة الرفيعة و هو يطوح بها صارخا
( أنا في بيتي أيتها الحمقاء ..... أنتِ المتطفلةِ هنا و تجرؤي على إخباري كيف أتصرف ؟...... أخرجن من هذا البيتِ حالا لا أريدكن هنااااا )
تجرأت الممرضة و هي تزداد التصاقا هى وزميلاتها بالحائط خلفهن ....... على أن تقول بحزمٍ زائف مرتجف
( السيدةِ أميرة هي من أحضرتنا الى هنا ....... ونحن لن نستطيع مخالفة أوامرها , كما إن حالتك تحتاج الرعاية الطبية مؤخرا..... هذا بالإضافة الى الشؤونِ اليوميةِ العادية , فأنت لن تستطيع التصرف وحدك )
صرخ فارس و قد بدا كالمجنون
( اخرسي ....... اخرسي ..... لا أحتاج الى أي أحد ..... أخرجن ........ أخرجن من هنا قبل أن أقتلكن )
ثم أخذ يدور و كأنه يبحث عنهن ..... فتعالت صيحتهن و هن يتدافعن خارجاتٍ من الغرفة مرعوباتٍ من هذا الأسد الأعمى .... ناسياتٍ أنه ليس سوى أعمى و لن يستطيع فعل الكثير مع عجزه ......
بعد أن خرجن من الغرفة وهن يلهثن و أصوات التحطم العالية تصلهن من داخل الغرفة ......
التقطتت الممرضة هاتفها لتطلب رقما .....و ما أن وصلها الصوتِ المتلهف حتى ردت بغضبٍ وعصبية
( سيدتي ..... نحن لم نعد نستطيع التحمل اكثر ...... اعذريني في هذه الكلمة لكنه شخصا لا يطاق و أنت تستحقين الجنة على تحمله .....أنا آسفة جدا كنت أتمنى الا نخذلك .... لكننا نريد إعفاءنا من هذه المهمة ......)
وصلها الصوت الناعم متضرعا مستجديا حتى شعرت بالحرج الشديد أمام هذا الإلحاح فقالت بعد فترة
( سيدتي .... أنتِ تحرجيني بهذه الطريقة ..... أنتِ لا تعلمين كيف يعاملنا ..... إنه يعاملنا كالعبيد و يتطاول علينا .....لا أظن أن أيا من البشر يستطيع تحمل لسانه الشبيه بالصياط ....)
عاد الصوتِ الناعم ليحثها على البقاءِ قليلا مخبرا إياها أن لا أمل آخر لها..... الا بهن و أن مال الدنيا لن يكفي كمقابل أمام ما يقدمنه لها ......)
ظلت الممرضة تستمع الى هذا المدح باحراج حتى احمر وجهها ثم قالت اخيرا باستسلام
( حسنا سيدتي لكن هناك امرا اخر .... ماذا عن التنظيف ؟.... لم تستطع أخر خادمة على البقاء هنا لاكثر من ساعة ثم هربت من هولِ ما نالها من لسانه ....طاقما كامل جاء للتنظيف غير انه ظل يهددهم الى ان انصرفوا و هو يرفض حتى الخروج من البيت حتى يقوم احد بتنظيفه , كما انه لا يقصر في تدمير كل ما حوله , البيت الان يبدو في حالةٍ يرثى لها .... ونحن لسنا هنا للتنضيف )
أخذت تستمع قليلا حتى قالت في النهاية باستسلام
( حسنا نحن في انتظارك ..........)
فترة طويلة وهو جالس على حافة الفراش يلهث و يتشبث به بقبضتين من حديد .....مغمضا عينيه يتجرع عذابه وحيدا ..... إنه خائف ... خائف جدا .... أيستطيع أحد تخيل ما يشعر به من وحدة و غربة , إنه لا يعلم حتى كيف يحيا يوما بيومه , لا يواجهه الا أناسا أغراب استاجرهم ادهم او عمته ليقوموا على خدمته ..... الا أن الجميع تخلى عنه , حتى ادهم يبدو و كأنه قد نسيه تماما في غمرة ضياعه بحثا عن حلا ......شعر حين وصل الى هذه النقطة بان قلبه طار الى حلا ..... لانها ليست وحيدة بل هي مع روحه , علموا جميعا انها رحلت مع سابين و حلا .......ومن يومها و الكل يبحثون عمن يستطيعون ايجاده ...حلا او سابين او ........ سما ........
كيف كانت له حياة طويلة من ثلاثة عقود بدونها .... كيف كانت هذه السنوات ..... إنه لا يتذكر كيف كانت حياته من قبلها ...... هل فعلا كان لا يعرفها يوما .... تربت في بيته طوال عمرها و هو يدور كالأحمق في بلادٍ بعيدة .... من كان يريد رؤيته كان يسافر اليه دون أن يتفضل هو بالعودةِ اليهم ........منذ وفاة والدته وهو طفل صغير سافر مع عمته الى الخارج ولم يعد أبدا .....و بعد أن شب عنِ الطوقِ قليلا استقل بحياته الحافلة عن عمته ..........حياة طويله من المغامرات و الأعمال و أعظم الناس يبتغي صداقته و أجمل النساء تتمنى صحبته ......
لو كان فقط عاد مرة واحدة خلال هذه السنوات لزيارتهم ......... لكان رآها .....آآآآه لو كان ذهب مرة واحدة لكان نظر الى عينيها .....
كان ليحمل معه الآن ذكرى لعينيها و ابتسامتها ....... وكان ليحفظ تلك الذكرى بقلبه الى آخر عمره ......أين هي الان ؟..... هل هي بخير ؟....... من المفترض أن يكون مطمئنا عليها , فسما تملك من القوة مايجعلها تتحدى جيشا أمامها ........ لكن ذلك لم يمنعه من الاحساس بضربات الخوفِ التى أخذت تضرب صدره .......فهي حتى وإن كانت المسؤولة عنه طوالِ السنواتِ الماضية , الا إنها أيضا كانت معه في منفاه البعيد دون أن تتعامل مع كثيرٍ من الناس , فكيف سترمي بنفسها الآن في غمرةِ تلك الحياةِ القاسية ؟....... كيف ستتحمل ضغوطِ الحياةِ وسرعتها من حولها وهي التى أرق من النسيم ........ياسمينااا.......
من المؤكد ان الكثيرين سيعجبون بها و الاكثر سيحاولون الايقاع بها ......بزوجته ...... الكثير من الذئاب ستحوم حول زوجته ....بينما يجلس هو هنا وحيدا عاجزا ينتظر من سيقوم برعايته ............
لم يتحمل اكثر فانطلقت صرخة متوحشة من أعماق حنجرته ......
سمع وقع أقدامٍ سريعة و هي تأتي الى الباب جريا ..... ثم ساد صمتا طويلا جاؤه بعدها صوتِ الممرضةِ يقول
( لماذا صرخت بهذا الشكل يا سيد فارس ؟.........)
التفت براسه اليها و هو يسمع صوت لهاثٍ خائف ..... ظل صامتا لا يجيب الى ان قال اخيرا باختناق
( لا شيء ...... لم يحدث شيء ..... من معك ؟....)
قالت الممرضة بعد لحظة ؛( إنها الخادمة ستقوم بتنظيف الغرفة ......)
قال فارس بصوتٍ اجش (من أرسلك ؟.........)
قالت الممرضة بسرعة ( أرسلتها السيدة أميرة لكنها ذات ظروفٍ خاصة فهي من الصم و البكم .......لذا لا تحاول ان تتعب نفسك بمضايقتها فهي لن تسمعك )
رد فارس عليها بعد عدة لحظاتٍ بخفوت ( هي لن تسمعني و أنا لن أراها ..... يا لها من علاقةٍ ملائمة )
قالت الممرضة بحزم
( سيد فارس ... من فضلك راعي ظروفها و لا تضايقها لان هذا سيغضب السيدة اميرة جدا ......)
رد فارس بنفس الخفوت المختنق ( و نحن لا نريد إغضاب السيدة اميرة بالطبع ........ )
ثم قال باستكانة غريبة خشنة ( أنا ...... سآخذ الدواء , أحضريه لي )
رفعت الممرضة عينيها الى السماء تطلب الصبر من هذه العنجهية و الغرور الا إنها لم تجد بد من تنفيذ ما طلب فيكفي أنه سيستجيب للعلاج اخيرا ....
لحظاتٍ و كان قرصي الدواء بكفه و كوب الماء بكفه الآخر ......فقال بهدوء
( حسنا يمكنك الانصراف ..... لكن اجعليها تباشر بترتيب أشيائي حتى استطيع الوصول اليها )
ردت عليه الممرضة بعد فترة بالموافقة ثم سمع صوتِ انصرافها .... وبقي هو مع صوتِ الانفاسِ المتهدجة ......ظل يستمع اليها نفسا نفسا , تتحرك خطاتٍ حول اذنيه المرهفتين .... يسمع التقاطِ اشيائهِ المبعثرة .... قلبٍ يدق .... يكاد ان يسمعه .... بل يراه .....
أخذ نفسا عميقا .... يحاول سحب كل نسائم الهواءِ من حوله ...... لكن النسائم كانت خاليةٍ جوفاء ..... باردة .........
كان قرصي الدواء لا يزالا بيده لم يتناولهما بعد .......فاسقطهما على الارض دون أن يحدث صوتا .......توقفت الحركاتِ من حوله تماما ..... فقط الانفاسِ اللاهثةِ تحكي.......
اقتربت منه خطواتٍ ناعمة و وصلت اليه ....... ثم بعد لحظة شعر بملمسٍ كالوردِ على يده ليشعر بعدها بقرصي الدواءِ يسقطانِ في يده التى فتحتها أوراقِ الوردة ...... و قبل أن يغلق كفه عليهما كانت أصابعه تسابقت مع تلك اللحظة لتتلامس مع طول تلك الأصابع الطويلة التى ناولته الاقراص ..... لحظة واحدة فقط ...... لمسة واحدة كانت كفيلة بهروبِ تلك الأصابع سريعا .....و ابتعاد الخطواتِ الى آخر الغرفة .......
جذب نفسا عميقا خشنا بصعوبة ثم همس بعدها باختناق ( شكرا .......)
الا إنه لم يسمع ردا من تلك الخادمة ...... التى لا تسمع ........و التى أكملت عملها بخطواتٍ مرتبكة خرقاء ..........
فقط زاوية شفته ارتفعت قليلا في تعبيرٍ يتيمٍ لانسانيةٍ شاحبة ظهرت بالكاد على وجه هذا الأسد الأعمى ........و هو يرهف السمع لأصواتِ الترتيب و كأنها انغامٍ موسيقية تلاعبت بأوتار قلبه .........

لعنتي جنون عشقكWhere stories live. Discover now