الفصل السابع

96.1K 2.3K 56
                                    

نظرت اليه وقد علت شفتيها ما يشبه ابتسامة صغيرة , راقبته جالسا امامها على الفراش و قد خلع سترته و شمر كمي قميصه ليظهر ساعديه العضليين الاسمرين , ممسكا باوراق اللعب بين يديه ناظرا اليها وقد بانت على ملامحه علامات التفكير العميق .
انه يبدو الآن اصغربكثير من سنوات عمره الست وثلاثين , انه بالتاكيد لا يشبه ادهم مهران الذى عرفته معظم سنوات حياتها و الذى كانت دائما تلقبه بالشيطان الاسمر من شدة خوفها منه , ولكنها الآن فى هذه اللحظة لا تشعر باي خوف منه
من يراه الآن لا يصدق ان وريث امبراطورية مهران العديم الرحمة قد ترك عمله و هو الآن يجلس امامها و يلعب باوراق اللعب و قد بان عليه التفكير العميق و كأنه يقوم بإحدى صفقاته .
منذ ساعات قليلة انهارت على صدره و هى تبكى , حاولت السيطرة على نفسها الا انها فشلت تماما, كانت تنشج وتسعل وتكاد تختنق .
يا الهى لقد اصابتها الحالة الهيستيرية المعتادة امامه ,لا تستطيع تخيل منظرها عندما تصيبها تلك الحالة.انها تعلم جيدا ان منظرها كان يرثى له بوجهها الاحمر و انفها السائله و شفتيها اللتين تتورمان عند بكائها .
لقد ابقاها على صدره و هى تبكي لا تستطيع التوقف , الا ان ما زاد من بشاعة الموقف هو اصابتها بنوبة الغثيان التى تصاحب انهيارها دائما , و حين احست انها لن تصمد الى ان تصل للحمام , كل ما نجحت فى فعله هو انها رمت نفسها من بين ذراعيه منقلبة على بطنها ثم اخذت تتقيأ بشدة على الارض بجوار الفراش وهى مستلقيه عليه , واستمرت حتى لم يعد هناك ما تخرجه من معدتها , الا ان التشنجات استمرت حتى احست ان روحها تكاد تخرج منها , لم تشعر انه كل هذا الوقت كان بجوارها يدلك ظهرها بيده و يطلب منها التماسك لتهدأ تشنجات معدتها .
استمر يضغط على ظهرها برفق حتى هدأت قليلا و بدأ تنفسها يعود الى طبيعته ,
لم تواتيها الجرأة على التحرك من مكانها و مواجهته بعد هذا الموقف المخزى فظلت مستلقية على بطنها ,احست بعد لحظات بيديه على ذراعيها ترفعانها برفق حتى استوت جالسة ثم رافقها الى الحمام و غسل لها وجهها و كأنه يتعامل مع طفلة صغيرة , وبعد ان جففه لها تركها ليملأ حوض الاستحمام بالماء الساخن ووضع به سائل الاستحمام الخاص بها ثم التفت اليها قائلا
(لقد اعددته لك .....اخلعى ملابسك و استرخى به ..سيفيدك هذا )
احمر وجهها بشدة فنظر اليها مبتسما بالرغم من الالم العميق الساكن بعينيه وقال
(حسنا .. احمراروجهك الان افضل بكثير من شحوبه الشديد منذ لحظات )
صمت قليلا وقد ظهرت فى عينيه نظرة غريبة لم تراها سابقا , نظرة حنان عميقة لم تراها فى عين اى انسان عرفته قبلا .
تحولت ضحكته الى ابتسامه شاردة ثم قال
(استمتعى بخصوصيتك ايتها الخجولة .........لكن لا تغلقى الباب )
ثم خرج من الحمام تاركا اياها تحاول السيطرة على خفقات قلبها.
خلعت ملابسها و دخلت الى حوض الاستحمام و استلقت فيه بهدوء ثم اغمضت عينيها , يجدر بها الشعور بالكره و النفور من هذا الشيطان الاسمر و ليست هذه الراحة الغريبة التى لم تعرفها منذ وقت طويل .
شعرت فجأة بلمسة خفيفة تتجول على كتفها ففتحت عينيها و هى لا تعلم متى غفت , طالعتها عينا الصقر و هى تلتمع بمشاعر عاصفة صارت مألوفة لديها .
انتفضت جالسة و قد عاد اليها وعيها بالكامل ثم كتفت ذراعيها على صدرها و قد احمر وجهها بشدة ,
اتسعت ابتسامته الجائعة , الا انه قال بصرامة مصطنعة لا تتلائم مع الجوع النابع من نظراته
(كنت اعلم اننى لن استطيع الوثوق بك ِ .......... و ها انتِ تنامين فى الحوض بمنتهى الغباء )
اتسعت عيناها لاهانته الصريحة لها ثم عادت فاخفضتهما غير قادرة على الرد و فجأة احست بفمه يلامس اذنها و هو يهمس
(لا تخافى يا حلا ...... لن ادعك تغرقين , و لن اسمح بسقوطك من اى شرفة ولن تغيبي عن نظري للحظة واحدة .....فانا احمى ممتلكاتى بقوة )
ارجعت رأسها للوراء وهى مغمضة عينيها ثم تنهدت بعمق وهى تفكر
انه يحاصرني ......يقيدني .......لا يمنحني الفرصة لانهض على قدمي .......متى سأتحرر
ربما لن اكون ابدا ممن قدر لهم بالعيش احرارا .
عادت من شرودها لتنظر اليه و هو يقول
(دورك.......العبي)
ابتسمت قليلا ثم انزلت ورقتها الرابحة . راقبته بمرح و هو يعبس و يشتم هامسا ثم يرمي اوراق اللعب من يده .
رفع نظره اليها فصدمته ابتسامتها المرحة التى لم يراها منذ ..........يا الهى انه حتى لا يتذكر متى كانت اخر مرة يراها تبتسم .
شعر بقلبه يختلج بصدره كمراهق فحاول السيطرة على انفعالاته و قال لها
(سعيدة انتِ بالطبع لهزيمة ادهم مهران )
اتجفت ابتسامتها قليلا و قالت بعد لحظة صمت
(لا اظن ان هناك من يستطيع هزيمتك)
اه لو تعلمين انكِ قد هزمتِنى من سنوات طويلة يا صغيرة .
لم تخرج هذه الكلامات من شفتيه , بقى فقط يتطلع اليها لا يمل النظر الى وجهها ابدا.ثم قال بصوت عميق يحمل معانٍ اعمق .
(انا لم افعل ذلك لايلامك يا حلا.......)
اتسعت عيناها و هى تسمع ادهم مهران بنفسه يحاول ان يرسل اليها ما يشبه الاعتذار , شلها اعتذاره والجمها.
قالت بعد لحظات بصوتٍ خافت
(كنت اكثر الناس تعايشا مع الألم يا ادهم فلا تهتم )
ساد صمتا قاتلا . صمتا كان كدوي المدافع بأذنيه . قتلته عبارتها ..حطمته تماما الا انه حاول ان يقاوم مشاعره ليتمسك بهذا الخيط و لا يتركه ابدا .
فهى للمرة الاولى تحاول التلميح للماضي و هولن يترك هذا التلميح دون ان يحاول الوصول الى شىء ......اى شىء يستطيع به الدخول الى قوقعتها الصلبة .
قال بحذر و كأنه يسير بحقل الغام
(اخبريني ........)
كلمة واحدة , لم يجد سوى كلمة واحدة وكأنه لا يملك الجرأة لينطق بغيرها , استمر الصمت طويلا ..طويلا و هو يغلى بداخله و هى صامته مطرقة برأسها يشعر انها بعيدة عنه اميالا و اميال .
اخيرا قالت بصوت متقطع بالكاد وصل اليه
(هناك .... اشياء ....حدثت لى ....)
صمتت وهى لا تملك القدرة على المتابعة . تاركة اياه يتعذب بدوي قلبه الا انه لن يسمح لها بالتراجع الآن لكنه لم ينطق بحرف فقد خاف ان سمعت صوته تعود لقوقعتها مرة اخرى .
انتظر و انتظر مقاوما مشاعر شرسة لا ترحم , ثم وصله صوتها الهامس المتقطع
(هناك اشياء......لن تس....لن تسرك ابدا ..معرفتها ..ستتمنى موتى الف مرة ...ان عرفتها )
اتسعت عيناه وظهرت بها وحشية الحيوانات المفترسة و مد يديه الى اعلى ذراعيها يمسكها بقوة يهزها قليلا وهو يقول بهمسٍ شرس
(لقد اخبرتك اننى احمى ممتلكاتى بقوة يا حلا ..وتمني الموت لكِ لا يعتبر جزء من هذه الحماية ,هل فهمتى هذا جيدا)
ظلت صامته و قد انسابت دموعها انهارا على وجهها بصمت مزق نياط قلبه .
ثم همست فجأة مرة واحدة
(يكفى فقط ان تعلم انه ليس هناك اى شىء ..اى شىء ..مهما بلغت بشاعته لم يحدث لى)
سقطت يداه من على ذراعيها وهو ينظر اليها بعينين مذبوحتين و قلبه ينزف دما و قد تلاحقت فى عقله صورا بشعة صورها له خياله دون ان يستطيع ان يمنع نفسه.
جملتها رسمت ماضٍ اسود احاط بها و اغرقها فى بحر من الآلام . ولم يكن هو هناك لينقذها ..ظل يراقبها معظم سنين عمرها و حين احتاجت انقاذه ,كان هو بعيدا يداوي جروحه بمنتهى الانانية .
كانت تحتاجه ..طفلته التى كبرت تحت انظاره ,كانت تحتاجه وهو لم يهب لانقاذها ,تركها تواجه مصيرها الذى اختارته لها الشيطانه ايثار.
الا انها لم تكن اكبر بكثير من طفلة ,حكم عليها بقسوة و تركها لآلامها ,لم يسأل , لم يبحث عنها ,لم يحاول معرفة ان كانت سعيدة ام لا .
شعر فى هذه اللحظة انه هو من ليس مستعدا بعد ..ليس مستعدا لان يسمع ..احس انه لو سمع سيموت وهو يريد ان يعيش , يحتاج لكل قوته , يريد ان يحميها من العالم ومن نفسها ,يريد ان يبقى كظلها ولو اقتضى الامر ان يرهن حياته لهذا .انها حلا....حلا .
افاق من آلامه المبرحة على صوتها وهى تهمس برقه تذيب الجبال وقد ادارت وجهها الى النافذه الكبيرة
( لقد اطل الفجر ....انا احب الفجر جدا )
نظر اليها بحبٍ يهز العالم ثم قام من مكانه ووقف وجذبها من يدها لينهضها على قدميها وهو يهمس
(تعالى ....سنراقب الشروق معا من الشرفة )
خرجت معه ووصلت الى سور الشرفة ووضعت كفيها على السور الحجري البارد وهى تنظر الى السماء الممتدة امامها .
احست فجأه بغطاءٍ خفيف يلتف حولها من الخلف بذراعين قويتين ,لم يبعد ذراعيه عنها بل ظل يلفها بهما و هو يضم ظهرها الى صدره ,دافنا وجهه فى شعرها يتنشق عطره.
اخذت تراقب الألوان الرائعة التى ماجت بها السماء لتعلن عن مولد الشمس الحمراء من جديد.
همست فجأة (ادهم ....)
همهم وهو يدفن وجهه فى عنقها (هممممم.....)
تابعت هى تقول بخفوت
(اعتقد .....ان هذه الليلة كانت جميلة جدا ....)
توقف فمه عن تقبيل عنقها و تصلب وجهه وهو يشعر بقلبه يكاد يقفز من بين اضلاعه ,حتى انه كان متاكدا انها شعرت بخفقاته المجنونة على ظهرها .
قال بصوت خافت خوفا من ان يبدد روعة هذه اللحظات .
(اما انا فاعتقد انها كانت رائعة ...)
ضحكت قليلا وهى تقول
؛(الم اثير اشمئزازك ..بعرضى المخزى )
ضحك هو ايضا وهو يزيد من ضمها اليه وقال متشدقا بتملق
( هيا يا حلا ...ان كل ما يصدر منك هو غاية متعتى )
ضحكت برقة اذابت قلبه بجمالها وقالت
(لا اصدق انك نظفت الارض بنفسك.....)
قال بحزم رقيق وفمه يلامس اذنها
(سأقوم دائما بكل ما يخصك .....لن ادع احدا يتدخل باى شأن من شؤونك )
ارتعشت رغما عنها و اختفت ابتسامتها و قد بدا خوف اعمى يتسرب اليها وهى لا تدرى لماذا اخافتها جملته .

لعنتي جنون عشقكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن