الفصل الثامن عشر

103K 2.1K 49
                                    

ظلت سابين مكانها طويلا .... طويلا ....تمشي بضع خطواتٍ ثم تقف , ثم تعود للسير مرة أخرى , رافعة رأسها الى أعلى السلم بين الحين و الآخر .... و كأنها ستراه بهذه الطريقة , .....كانت العاصفة المجنونة تضرب جدران هذه القلعة منذ وقتٍ طويل .. تقفز من مكانها كلما قصف الرعد , تريد الجري على السلالم و الدخول الى ذلك الفراش الضخم المغطى بالستائر الشفافة .... و الذى بدأت تعتاده في الليالي الأخيرة .....الفراش وحده يبدو كحصن وهى تتمنى في هذه اللحظة الصعود اليه ودفن نفسها بين أغطيته السميكة ........ إنها ترتدي ملابس خفيفة كالعادة ... فهى لا تهتم أبدا ببرودة الجو , لكن الآن الجو في هذه المنطقةِ البعيدة يبدو وكأنه يلسع بشرتها الناعمة بسياطٍ باردة .......
هل هو البرد ما يلسعها بهذا الشعور المؤلم ..أم وجوده هو بالأعلى ... في نفس الغرفة التى بثها فيها أشواقه المجنونة ...
و يجرؤ الآن على النوم هنالك بمنتهى التبلد و البرود .... ماذا كانت تمثل له حقا ؟.... الهذه الدرجة كانت مجرد نكرة بالنسبة له ..... استغلها فقط ليداوي جروح ماضيه الصدىء .....الا يشعر بقليلٍ من الشوق اليها ....
حتى ليلة أمس حين ضعف أمامها ..... لم يتطلب الأمر سوى بضع كلماتٍ ليبتعد عنها تاركا إياها وحيدة بعد أن كادا يذوبان شوقا لبعضهما ......
ابتسمت ابتسامة مريرة و هى تتذكر رجالٍ أشداء كادو ان يخروا أمامها طلبا لنيل كلمة منها او حتى نظرة .... والآن ها هي تقف وحيدة , بالأسفل ..تتساءل ان كان يتمنى ان تصعد اليه .....
لكن سواء تمنى ام لا .... فستصبح ملعونة وتستحق كل ما يصيبها ان استسلمت له ........ليست هي من تسلم لعدوها بهذه السهولة ..مهما بلغت سطوته عليها .......
وضعت يدها برفق على جيب بنطالها تتحسس الظرف المخبىء به ...... تحترق لتخرجه و تكمل ما به , الا انها لن تجرؤ على ذلك الآن ......
عادت للتفكير مرة أخرى بهذه الرسالة الآتية اليها من الماضي ..... كيف وصلت الى هنا ... او كيف عرف والدها انها ستكون هنا يوما ما .......
هل قرأه احمد ..... لكن الظرف كان مغلقا باحكام مما يدل على ان يدا لم تلمسه من قبل.....لكنه كان يعلم بالرسائل الأخرى بالتاكيد , ومن المؤكد قد قرأ اسمها على هذا الظرف في وسط الأظرف الأخرى .... فكيف لم يغلبه فضوله ليفتحه ........
شعرت فجأة بالارهاق من كل ما مرت به اليوم ... وأشدها رسالة عماد الراشد المهلكة لها ......فجلست بتعب على الكرسي الضخم المذهب ذو الفرش المخملي الوثير و رفعت ركبتيها الى صدرها و هي تتنهد مسندة رأسها على ركبتيها .......... وسرعان ما سحبها النوم بعيدا وهى تعلم ان لا شيء ممكن ان يقلقها الآن ....... طالما هو موجودٌ بالأعلى ........
داعبت اشعة الشمس الدافئة وجهها بنعومة لتدغدغها و هي تشعر بجسدها مسترخي بشكلٍ رائع خرافي ....ما أجمله من حلم .... كانت ذراعاه محيطتان بها و لمساته تحرق بشرتها الناعمة ..... صوته الهامس يتسلل اليها ضاحكا بنعومة
ساعديني قليلا سابين .......
ثم شعور رائع بالدفء ملأها بهجة خالصة ........فتحت عينيها ببطء وهى تتمطى باسترخاء ممتع ....فجأة و بعد ان عاد اليها وعيها بالكامل , تذكرت انه هنا معها في القلعة في نفس الوقت الذى أدركت أنها تنام في الفراش الضخم .........
استقامت جالسة فجأة و هى تنظر حولها فوجدت نفسها وحيدة في الفراش...... لقد نامت الليلة السابقة على الكرسي الضخم بالطابق السفلي هى متاكده انها لم تصعد الى هنا ....... انعقد حاجباها و لمعت عيناها بوحشية وهي ترى أمامها الاحتمال الوحيد المطروح .... كيف جرؤ ........كيف جرؤ ان يلمسها بل و يحملها الى هنا .......عديم الاحساس ....... عادت اليها فجاة صورا من حلمها الناعم ..... ثم تساءلت بهستيرية ان كان حلما بالفعل وهى تكاد تشعر بلمسات يديه تجري على بشرتها بينما هى تتنهد باستسلام لتسمع صوت ضحكته الصغيرة ......نظرت الى أسفل الغطاء برعب و هى متوجسة مما ستراه ...الا ان الرعب كان مصيره لحظة واحدة قبل ان تدرك بدون ان تنظر الى أنها ترتدي منامتها الفضفاضة و المفضلة لديها ....والمضحكة بشكلٍ مخزي.. فهى سوداء ومنقوشة من أولها لآخرها بصور ساحراتٍ يطِرن على مكانسهن السحرية ...تحول الرعب في لحظةٍ واحدة الى طوفان من الغضب الأعمى ...... لقد أبدل لها ملابسها ....... لقد أبدل لها ملابسها .....نقلها الى الفراش ثم أبدل لها ملابسها كما يفعل مع ابنته ...........
لا تعلم ما الذى أشعل فتيل الغضب بداخلها الى هذه الدرجة الخطيرة .......اهو تجرؤه على ان يلمسها بهذه الوقاحة و هي ليست في كامل وعيها .......ام ...... ام استطاعته ان يختار لها مثل هذه المنامة بالذات من بين ملابس نومها الحريرية الشديدة الاغراء .....ثم ينام بجوارها بمنتهى البرود دون ان يتاثر بقربها منه و كأنه ينام بجوار ابنته ......لكن هل نام بجوارها فعلا ........آخر ما تتذكره هو همسته الضاحكة ثم ....... الآن تذكرت ...... ملمس شفتان ناعمتان على شفتيها وهمسه باسمها بكل نعومة وهو يقبلها ........و بعدها تذكرت انه لمس شعرها وهو يهمس باذنها ( لا تخافي ..... انه الرعد ....سأظل هنا فنامى ولا تخافي )
أرادت ان تعيد مرة اخرى أنها لا تخاف من اى شيء الا ان سحر النوم شدها بعيدا .......أفاقت من شرودها على صوت جريان الماء في الحمام الملحق بالغرفة و الذى لم تنتبه اليه الا الآن ........فقفزت من مكانها و اخذت تتلفت بحثا عن ملابسها حتى وجدتها مطوية على الكرسي فالتقطت بنطالها تتحسس جيبه , ثم شعرت بالراحة حين وجدت الرسالة لاتزال بمكانها ......القت البنطال من يدها و هى تشعر بالحنق يتزايد بداخلها من تحكمه في كل ما يخصها في هذا المنفى الذى اختاره لها ...........
ثم حانت منها التفاتة فأبصرت بدلته مطوية على الكرسي الآخر .......فلمعت عيناها وهى تتجه اليها بكل سرعة لتفتش جيوبها ....لا تعلم عن ماذا كانت تبحث تحديدا , فهو بالتأكيد ليس من السذاجة ليترك المفاتيح في أحد جيوبه حيث تستطيع ايجادها بكل سهولة .... التقطت أصابعها محفظته و على الفور فتحتها ........كانت تحتوي فى قلبها على ثلاث أغلفة شفافة لوضع الصور بها .........و قد كانت بالفعل هناك صورة فى كلا منها ........
أول صورة كانت لتالا وهى تضحك بأقصى اتساع لشفتيها ,ابتسمت سابين قليلا وهى تنظر الى هذه الصورة المضحكة , ثم قلبت الغلاف الثانى .....لتختفي ابتسامتها ويلمع غضبا مجنونا بعينيها ....فقد كانت هناك صورتين متقابلتين , الاولى كانت لوجه امراءة مبتسمة جذابة , شديدة النعومة بعينيها اللتين تشبهان بندقتين ..... و قد انسابت موجات شعرها البني الناعم حول وجهها و كتفيها و قد تطايرت بعض خصلاته مع الهواء ...... كانت امراءة عاشقة ..... هكذا فكرت سابين بغضب , من نظرة عينيها الى من التقط لها هذه الصورة فهى بالتاكيد امراءة عاشقة ........و في الصورة المقابلة كانت هناك نفس المرأة تنظر ضاحكة لكن الاختلاف الوحيد انها لم تكن وحيدة في هذه الصورة .... بل كان هو واقفا خلفها يحيطها بذراعيه وهى تميل عليهما من شدة ضحكها بينما اختفت معظم ملامح وجهه داخل موجات شعرها المتطاير ............
اذن .....هذه هى ...... وهو لا يزال يحتفظ بصورتها ملاصقة لقلبه أينما ذهب , ألما مفاجىء ضرب صدرها , لم تعرف له سببا .... قد تكون رغبته يوما .. واستسلمت لجنون مشاعره ذات ليلة ....قد تكون مشتاقة لقبلاته احيانا ......لكن هذا لا يفسر الألم الحارق الذى يكاد يعصف بها الآن من مجرد رؤيتها لامرأة لم تعد موجودة معها فى هذا العالم .......
لم تعرف يوما شعورا اطلق عليه الناس اسم الغيرة ..... رأت امامها أشد النساء سحرا و نسبا و ثراءا .....الا أنها كانت تنظر اليهن بإستهزاء مشعلة هذا الشعور المجهول بالنسبة لها في قلوبهن ...... لتأتى الان مجرد صورة عمرها عدة أعوام لتعطيها فكرة واضحة عن هذا الشعور الذى اذاقته لمن عرفنها من النساء ......
رفعت رأسها وهى تلقي المحفظة بعنفٍ على الكرسي .... لم تتخيل انه أحبها أبدا , لكنها و بالرغم من ذلك كانت واثقة من سلطانها عليه , لكن الآن تشعر باختلال في جميع موازينها ........
لم يحتج الامر منه سوى ليلة واحدة ليكتفي منها تماما ......ليلة لم تكن كافية لتجعله يخرج هذه الصورة من قلبه الى الآن ......وها هو الليلة الماضية حيث كانت مستسلمة مغيبة بين ذراعيه مكشوفة له .....لم يتطلب منه الأمر سوى ان يلبسها منامتها الحمقاء التى لم تعرف بأى عقلٍ جلبتها معها فى حقيبة ملابس شهر عسلها البائس بكل معنى الكلمة ..........
فجأة شعرت ان سيطرتها على نفسها بدأت فى التداعي وعرفت أنها ستقوم بعملٍ أحمق الآن...............
خرج أحمد من الحمام وقد لف منشفة كبيرة حول خصره وهو يقوم بتجفيف شعره بأخرى صغيرة ....ليفاجىء بسابين تقف امام النافذة توليه ظهرها .......تفاجأ تماما بهذا الهدوء الخادع فقد كان يظن أنها ستثور محطمة كل ما حولها ما ان تستيقظ , لكن ما ان وجدها واقفة أمامه بهذا الهدوء و ضبط النفس حتى ازداد توجسه ...... لكن ذلك لم يمنعه من ملاحقة خطوط جسدها الفارع و التى لم تستطع منامتها الخرافية ان تخفي سحر معالمه ....... تذكر نفسه ليلة أمس حين نزل في وقتٍ متاخر من الليل ليبحث عنها فوجدها جالسة على الكرسي الضخم رافعة ركبتيها الى صدرها دافنة رأسها بينهما , بينما انسابت موجات شعرها السوداء لتكاد تبتلعها كلها حتى لم يكد يظهر منها سوى كومة الشعر الحريري وذراعين بيضاوين ناعمتين تحيطان بركبتيها ..... عرف من قبل ان يخاطبها انها راحت في سباتٍ عميق من صوت تنفسها المنتظم .....
لم يستطع مقاومة الاغراء القاتل الذى حثه على التحرك اليها ثم أحاط كتفيها بذراعه و هو يدس الأخرى أسفل ركبتيها ليرفعها الى صدره الذى ارتمى عليه رأسها و هى في عالم غير العالم ....... استمرت رحلته في الصعود عبر السلالم دهرا .... او قد يكون هو الذى اخذ يتلكأ عند كل درجة ليستمتع بدفء جسدها الملقى على صدره .......و ما ان وصل الى الغرفة حتى اتجه الى الفراش لكنه لم ينزلها على الفور بل ظل يتمايل بها قليلا كما كان يهدهد تالا وهى رضيعه لتغمض عينيها وتنام ........وحين استشعر برودة ذراعيها اللتين صارتا كالرخام اضطر الى انزالها للفراش على مضض ...... واتجه الى الدولاب الضخم ففتحه ليبتسم من رؤية ملابسها معلقة و أخرى مطوية بترتيبٍ و انتظام و كأنها عروس صفت ملابسها في بيتها الجديد على استحياء ......
اخذت أصابعه تمر على الأقمشة الحريرية لقمصان النوم المهلكة التى جلبتها معها .........ثم تركها ليجد شيئا أسودا ثقيلا مطويا عرف بعدها انه عبارة عن منامة منقوشة بالكامل كالتى ترتديها تالا في الشتاء ......لكن منامات تالا كانت وردية ذات قططٍ او ارانب , أما هذه في سوداء ذات ساحراتٍ يطرن على مكانسهن ......كادت ضحكة ان تفلت من بين شفتيه وهو لا يتخيل ان يناسبها شيئا اكثر من هذة المنامة التى شعر بالجنون يقتله ليراها على سابين صاحبة السحر الاسود ..........
وكانت الطريق أمامه ليلبسها لها صعبة للغاية وهى تتلوى بين ذراعيه الى ان قبلها وهو يهمس لها بأن تساعده وتكف عن التلوي بهمسٍ أجشٍ مما يهيج في صدره.. فاستسلمت بعد لحظة لتتنهد بنعومة .......
ولكن الأصعب هو الاستلقاء بجوارها طوال الليل دون ان يحاول ملامستها ..... كان هذا كحرقٍ متعمد لأعصابه , و الآن وهو ينظر اليها في منامتها المغرية تلك.. يتساءل ما الذى منعه عنها الليلة الماضية ؟... هو ليس متأكدا من أى شيء بعد الآن ......
الى متى ستظل ساكنة على هذا النحو المريب متى ستنفجر بتلك الإنفجارات المجنونة ...... والتى بدأ يتسلى بها , ....قرر هو أخيرا استفزازها فقال بتهكم
( صباح الخير يا زوجتى العزيزة .........أرجو ان تكوني قد نمتِ جيدا ليلة امس )
التفتت سابين اليه ببطء بعد ان وصلها صوته السمج ..و ظلت تتطلع اليه قليلا بتحدٍ سافر رافعة أحد حاجبيها بطريقة زادت من ريبته ..الا انه أخفي ما بداخله ليطغى عليه شعوره بالتسلية .... تحرك من أمامها ليلتقط بدلته لكنه وجدها مكومة على الكرسي بشكلٍ غريب فمد يده ليمسكها ليصعق بأنه ممسكا بجزءٍ صغير منها ..... شعر بأن عينيه تخدعانه فمد يده الأخرى ليلتقط كومة من الاجزاء الصغيرة الممزقة التى كان يطلق عليها هذا الصباح بدلة ..........
أقفلت قبضتيه بشدة على الكومتين من القطع الممزقة حتى ابيضت مفاصل أصابعه و هاج غضبا شرسا في أعماقه و هو يصرخ بصوتٍ رجرج الغرفة
(ساااااااابين ........)
لم يهتز لها رمش من صرخته الحيوانية المتوحشة ودفعها التحدى المجنون لأن تبتسم باستفزاز وهى تقول بصفاقة
( كان يجب ان تخفي المقصات .......)
رمى القطع من يده على الأرض ثم هجم ناحيتها في لحظةٍ واحدة كنمرٍ يثب لاقتناص فريسته ...حاولت الهرب منه وهى تجري الى الفراش لتقفز من عليه لتتجه الى باب الغرفة , الا انه أمسك بها من ذراعيها وأدارها لاويا ذراعها خلف ظهرها الملتصق بصدره ....أخذت تصرخ به ان يتركها وهى تقاومه بشراسة , الا انه شدد من قبضته عليها حتى تأوهت و صمتت فهمس فى اذنها بصوتٍ كالفحيح
( ستعتذرين الآن و حالا عن فعلتك الحمقاء سابين ..اتقاءا لشري ) قالت وهى تحارب الألم النابض بذراعها من جراء ضغطه الشرس عليها
( لن اعتذر و لو قتلتني ........)
ترك ذراعها ثم أمسكها من أعلى ذراعيها ليديرها ناحيته و هو يصرخ بها
( الن تتعلمي الإحترام أبدا ....ستظلين وضيعة طوال عمرك )
لمعت عيناها بشراسة وهى تنظر الى عمق عينيه.......ثم همست بقسوة
( من أنت لتنعتني بالوضيعة ..... أيها المنافق ...ال ......)
أمسك بشفتيها بين أصابعه ليغلقهما ثم همس بتهديدٍ خطر
( لا تزيدي من رصيدك السيء لدي يا سابين ......فأنتِ بالتاكيد من ستخسر )
صمتت تماما وهدأت تحت ضغط أصابعه على شفتيها و بدا وكان عينيها فقدتا وحشيتهما الا انهما لا زالتا تبرقان لكن ببريقٍ مختلف و يبدو ان هذا البريق قد نفذ مثل السهم الى عمق عينيه ..... لحظاتٍ ثم رفع أصابعه عن شفتيها المكتنزتين و التى زاد من احمرارهما ضغطه عليهما .......كم بدت في هذه اللحظة ........لا يعرف تحديدا , متوحشة ......طفلة ......امرأة مغوية شديد الإغراء ......وقد تكون كل هذا .......ما يعرفه انه يشعر الان انه يقبض على شيءٍ نادر لم يره من قبل ........
همس همسا أجشا ( هل تعرفين انه من المفترض ان أقتلك الآن ........أنا لم اكن مستعدا و ليس معى ملابس غيرها )
ارتفعت زاويتي شفتيها قليلا ثم همست هى الاخرى ( اذن هذا خطؤك .......لقد فعلتها معي من قبل وتركتني بدون ملابس )
عبس قليلا ثم قال بتجهم ( لم أكن أنوي ذلك ......نسيت ليلتها ان حقيبة ملابسك داخل السيارة حين غادرت )
ظللت غيمة من الألم عينيها لتطفىء من اشعاعهما .... ورأى هو لمحة الألم لكن الغريب انه لم يشعر بأي لذة انتصار ....بل شعر بثقلٍ فى صدره جعله يزداد عبوسا ........ثم قال اخيرا بصوتٍ عميق يظلله لمحة من التسامح
( اذن فقد اصبحنا متعادلان الآن ...... وهذا فقط ما رحمك من غضبي )
ثم اكمل بعبوسٍ زائف ( هل تخبريني كيف اتصرف الآن ...........) اخذت ابتسامة شيطانية ترتفع تدريجيا على شفتيها حتى همست أخيرا ( ليس لك سوى حلا واحد ....... يا زوجي الحبيب )
توجس من نبرة صوتها التى لم تستطع اخفاء الشر بها ........فتابعت بعد لحظات
( ما أجمل ما ساشعر به حين أرى زوجي حبيبي يرتدي ملابس والدي ........... وانا أعرف كم كنت تحبه )
تجلت الوحشية بكل وضوح في نظراته و قد أوشك ان يبطش بها الآن انها لم تشعر باى ذرة خوف منه وهى تكمل بتحدي قاتل
( ليس هناك حلا اخر الا اذا أردت الاتصال باي أحد ليأتي الى هنا محضرا معه بعض الملابس لك .......)
شعر انه على وشكِ خنقها او رميها من النافذة من شدة الغضب الآن و لم ترحمه هى بل اكملت
( المشكلة ان عمر ملابسه قد تعدى العشرين عاما ........ لكن ليست مشكلة ضخمة ستبدو ظريفا بداخلها بلا شك )
أمسك بذقنها بين أصابعه بشدة .......لكن عدة لحظات من النظر الى عينيها المشتعلتين ببريق الهزل جعله يبتسم قليلا .... ثم قال بهدوء
( بإمكانك ان تكوني مرحة يا سابين .......لم أعرف هذا الجانب بكِ من قبل )
همست من بين اصابعه
( انت لم تعرف اي جانب مني أبدا ... احمد مهران , لقد اخترت ان تعرف ما أردت ان تعرفه )
نظر الى عمق عينيها الحادتين ثم قال بعد لحظة
( لهذا أنتِ هنا يا سابين ..... لأعرف ما لا أعرفه عنكِ و أرى ان كنتِ تستحقين عناء المحاولة )
انتزعت ذقنها بشدة و هى تكمل بشراسة نمرة
( نعم ... نعم .... عناء محاولة تطهيري اليس كذلك ؟؟ اذن أخبرني احمد ان كنت لم تتزوجني لتنتقم مني بسبب الماضي و بسبب دارين فلماذا تكلف نفسك مثل هذا العناء ........ ما الذى ستستفيده من كل هذا ؟..... لا بد انك تعتقد أنك تخاطب طفلة لتقنعها بما تقول )
لم يجد ردا لها ..... لم يستطع ايجاد حلا لما هو فيه ....... و ماذا بعد ؟.... الى متى سيظل مغلقا عليها ابواب قلعته ؟........
أخفض نظره امام نظرها للمرة ِ الاولى ...... متهربا من سؤالها و قبله متهربا من نفسه ......ثم قال أخيرا بصوتٍ منخفض
(بالمُناسبة .....إن تالا تسأل عنكِ كل يوم .........)
لم يكن هذا الرد الذى تنتظره ..... تالا ؟؟ ..... ما دخل تالا فيما تقوله الان ؟.......فقررت مجاراته و هى تقول هازئة
( وماذا تخبرها ؟.........بالطبع لم تقل الحقيقة ....لن تدعها تعرف ان والدها يتصرف كرجال العصابات فحبس زوجته فى مكانٍ بعيد بعد خطفها ليلة زفافها )
عبس وهو يتظاهر بالتألم قائلا
( هيا الآن يا سابين ...... الا ترين نفسك أصبحتِ درامية للغاية ...خطف و حبس ؟.......لم تكن ليلة زفافك خطفا على ما اتذكر ) احمر وجهها لملاحظته الوقحة لكنها رفضت ان تظهر له ارتجافها و ظلت واقفة أمامه بوجهٍ متحجر ثم قالت أخيرا بتصلب
( و ماذا عن الأميرة والدتك ؟..... هل كانت تعرف بمخططاتك منذ البداية ؟.........هل اتفقت معك على الانتقام أولا بسبب زواج دارين الفاشل وثانيا ان الفرصة سنحت للانتقام من ابنة ايثار الراشد التى خطفت حبها قديما )
يا الهي لكم هى معقدة حياتهما معا ...... وها هى تتهمه بنفس الاتهام الذى رماها به ....... وتظل لعبة الانتقام تدور من حولهما كحلقة ٍمفرغة .......
قال لها بكل وضوح ( أمي ايضا تسأل عنكِ سابين تكاد تنهار من شدة قلقها عليكِ ............على ابنة عماد الراشد و ان كنت قد تجرأت و آذيتك )
اهتزت قليلا حين سمعت ما قاله و رمشت مرة بعينها ........ لقد صدقت ما قاله فقد قاله بكل ثقة لكن ما ادهشها هو شعورُ بالخواء قد نبت في داخلها ...... منذ ان رأت هذه المرأة في حفل زفافها و هي تشعر برابط خفي يجمعهما ..... من المفترض ان تكرهها الا ان هذا بداخلها لم يحدث ابدا....... حتى بعد قرأتها لرسائلهما التى تقطر من جروحِ حبهما ..........لم تستطع ان تكرهها حقا و ها هى تسمع بقلقها عليها و رغبتها في معرفة مكانها ............
هل من الممكن ان تكون ايثار خائفة عليها الآن .......خوفا , قلقا , رغبة فى الاطمئنان ....... أى شىء من هذا الذى يسمى أمومة ..... ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتيها و هى تسخر من هذا التفكير الغبي الذى طرأ على ذهنها المشوش .........
نظر احمد الى نظرتها الشاردة و ابتسامتها الحزينة فسألها بخفوت
( ما معنى هذه الابتسامة ؟.............)
أفاقت على صوته العميق فقالت وهى تسترد انفاسها
( لا شيء ......... تذكرت شيئا محبطا )
اقترب منها اكثر ليهمس في أذنها و قد اشعلته نعومتها التى لم يعرفها الا لحظاتٍ قليلة
( و انا لا أريد ان تشعري بالإحباط يا زوجتى .......زوجة احمد مهران لا يجب ان شعر ابدا بالاحبإط وهو موجود )
نظرت اليه بغيظٍ و أوشكت على النطق بردٍ سفيه من ردودها المجهزة الا أنه لم يمهلها فقد التقط شفتيها لتضيع كلماتها المتهورة بين شفتيه الدافئتين المتطلبتين .........
لحظاتٍ أعادتهما معا احمد و سابين ...... اللذان يملان الجو من حولهما بشراراتٍ و العابٍ نارية متوهجة ...........
امتدت يداه لتحاوطان ظهرها بتملكٍ سافر اقوى من اى تحدي كان بينهما يوما و ازدادت قبلاته عمقا لتغيب عن واقعها المؤسف و ترفع ذراعيها لتحاوطا عنقه و تغيب به و فيه عن كل ما حولهما .............
دفن وجهه في موجات شعرها المجنونة و أخذ يستنشقها عله يهدأ من جنونه الا أنها زادته جنونا وهوسا وهو يهمس في اذنها
( ماذا تفعلين بي أيتها السابية .......أيتها السابية التى سبيتها في قلعتي بعيدا عن كل البشر )
ارتجفت قليلا فشدد من ضمها اليه حتى كاد ان يحطمها وهو يكمل بعاطفةٍ وحشية
( هل تعلمين مقدار ما أشعر به من سحرٍ وانا في طريقي الى هنا كل ليلةٍ ......... متشوقا لرؤية تلك الهمجية ذات الشعر المجنون كليلةٍ سوداء )
حملها بين ذراعيه بعنفٍ و هو يتجه بها الى الفراش ... لكنها استجمعت بعضا من تركيزها المشتت و هى تقول بوهن
( هل ستأخذني من هنا و نرمي كل الماضي بعيدا ؟..............) توقف تماما و ظل ينظر الى عينيها المتحديتين و هى محمولة بين ذراعيه .......ثم قال وصدره يصعد و يهبط بصعوبة
( لن تخرجي من هنا الآن يا سابين ...... ستخرجين من هنا عندما تصبحين كما أريدك ان تكوني )
لم تصدق ما سمعته ...... اشتعل غضبها في لحظةٍ ليطغى على اي مشاعرٍ اخرى فاخذت تتلوى صارخة بين ذراعيه بينما هو يحاول التمسك بها الى ان افلتت منه في النهاية لتسقط منه على الارض بشدة آلمتها ........
مد يده اليها لتنهض الا انها ضربته على ظاهر يده بشدة لتبعدها و هى تنهض متألمة ......ثم قالت بشراسة
( تقصد كما كانت حبيبتك الوديعة التى لم تستطع مفارقتها الى الآن ...........تريد ان تجعل مني صورة لها , سيكون ذلك افضل من صورةٍ تحتفظ بها قرب قلبك منذ يوم ان رحلت )
لوهلة شعرت أنه سينقض عليها ليقتلها من الجحيم الذى ظهر بعينيه و قبضتيه اللتين انقبضتا بشدة ....... ظل صامتا طويلا ثم قال أخيرا بصوتٍ هادىء لكن أوجع روحها
(هل فتحتِ محفظتي ؟..........)
ندمت للحظة على تهورها و تطرقها الى موضوعٍ من المفترض الا يهمها بشىء ..... لكنها اضطرت ان تجيبه بثبات
( نعم فتحتها الست زوجي ؟............كم احزننى الا أجد صورة لي بجوارها )
أجفل بشدةٍ من السخريةِ الواضحة في لهجتها فقال بهدوء
( انتِ لا ترقين لأن تكوني بجوارها..............)
لو ان احدا لكمها في معدتها لن يكون ذلك اشد الما مما شعرت به في هذه اللحظة .... ارادت ان تجرحه بشدة , ارادت ان تصيبه في مقتل بجرح حبيبته الغالية , الا انها لم تستطع ..... طالعتها الابتسامة الحانية لصاحبة الصورة و النظرة التى تبدو وكانها تنظر اليها لتوجه اليها رسالةٍ ما .........فلم تجد سوى ان تهمس بتحدي
( سنرى ...... سنرى يا احمد مهران )
( سنرى .......سنرى يا سابين الراشد ) أعاد جملتها بلامبالاة زادتها غضبا
ابتعد عنها و هو يتجه ناحية الدولاب قائلا بهدوء
( اذن بما انكِ لستِ في مزاجٍ جيد للحب ........فاسمحي لي بالاستعداد للذهاب )
مزاج جيد للحب ...... لم تشعر في هذه اللحظة انها كرهت شخصا اكثر مما تكرهه الان , تماما كما تكره جسدها الخائن الذى يضعف امامه باستمرار
نظرت اليه وهو يلتقط احدى البدلات القديمة ذات اللون البني المحروق و يتجه بها الى الحمام مرة اخرى دون ان يلقي عليها نظرة واحدة
اخذت انفاسها الساخنةِ تلهث من شدة غضبها من نفسها قبل ان يكون منه .........اتجهت الى النافذةِ مرة اخرى لتتطلع منها و لم تعلم كم ظلت تنتظر الى ان سمعته من ورائها يقول باستهزاء
( ما رأيك يا زوجتي ؟..........)
التفتت لتنظر اليه .....شعرت فجاة بالدوار , للحظةٍ شاهدت عماد الراشد أمامها , نفس الحجم والطول , نفس الهيبة و الاتزان , نفس الجاذبية القاتلة .......نفس اللون الذى اعتاد ارتداؤه ........
تزايد احساسها بالدوار فتراجعت خطوة لتستند على النافذةِ خلفها و قد زاغت نظراتها ليختفي وجه احمد ويحل مكانه وجه عماد الراشد ...لحظة واحدة وعاد وجه احمد مرة اخرى وهو ينظر اليها مقطب الجبين و يسألها بقلق
( سابين ..... سابين هل انتِ بخير )
رمشت بعينيها اكثر من مرة وقاومت هذا الدوار لتنظر اليه بثقة وهي تقول بثبات
( للاسف انتما من نفس الحجم ..... كم كنت اتمنى ان تخرج من هنا ببنطالٍ قصير و اكمامٍ تكاد تصل الى مرفقيك )
عاد الهزل يتلاعب بشفتيه وهو يطمئن الى انها سليمة ٍ كالهررة ثم قال لها
( اذن فقد خاب ظنك .......)
ظلت تنظر اليه دون ان ترد ..... ما أشد وسامته , انه يبدو كابطالِ الافلامِ القديمةِ المتانقين ......جاذبيته مهلكة في الماضي والحاضر أفاقت على صوته وهو يقول باتزان
( سأذهب الآن ....... لا داعي لأي حركاتٍ متهورة يا سابين )
( متى ستعتقني يا احمد ........الا ترى انك بالغت , الا تخاف ان انتحر مثلا )
التفت ينظر اليها للحظة ثم قال اخيرا
( أنتِ لستِ ضعيفة لتفعلي ذلك ..... ولوكان لدي شكٍ واحد بذلك لما كنت تركتك هنا )
لمعت عيناها وهى تقول بعنف
(لكم سيسعدني ان افعل ذلك فقط لأمحو ثقتك )
ابتسم هازئا ثم قال ( لكنك لن تفعلي .......)
استدار مرة اخرى ليغادر فنادته دون تفكير ( احمد ....)
توقف مكانه دون ان يلتفت لندائها الملهوف فقالت بتردد ( ذاك اليوم ...... عندما رأيتك و أنا صغيرة .....ماذا كان هذا ؟...أنا لا اتذكر )
ظل صامتا لا يلتفت اليها ......ثم قال أخيرا بخشونة وجفاء
(كنتِ في بيتنا ..... جئت مع أمك , والتى تكرمت يومها بالصراخ في وجه أمي و طعنها باتهاماتٍ بشعة , وحين دخلت الى المنزل كانت أمى على وشكِ الاغماء من هول ما سمعته )
ابتلعت سابين ريقها بصعوبة ثم سألته هامسة
( وما كان سبب ما فعلته ؟............)
ظل صامتا لحظاتٍ طويلة ثم تنهد بتعبٍ اخيرا وقال
( كان هذا اليوم بعد فترة وجيزة من موت والدك سابين ......وكانت هى قد تزوجت من خالى بالفعل الا إنها حين علمت بموته صارت كالمجنونة )
همست سابين بلهفة ( هل حزنت عليه ؟........)
ضحك احمد ضحكة خاليةٍ من اى مرح ثم قال بمقت
( نعم بالتأكيد لقد حزنت عليه بشدة ..... خاصة حين علمت انه لم يترك لكن أى شىء ...... حينها جاءت من عند المحامي الى بيتنا مباشرة وكنتِ انتِ معها ....لتصرخ بأمي انها هي السبب فى ضياع كل ما كان يملكه ......بالرغم من اننى أعلم انه ترك لها الكثير قبل ان يتركها .....الا أنها كانت تتخيل وجود المزيد )
أغمضت عينيها من كلِ ما سمعته ...... كيف تستطيع التعامل مع كل هذا ....... كيف ........
لم تفتح عينيها الا بعدما سمعت صوت اغلاق باب الغرفة لتجد نفسها وحيدة في الغرفة فالتفتت الى النافذةِ من خلفها لتستند بجبهتها الباردة على زجاجها ......الى ان رأته خارجا متجها الى سيارته لكن قبل ان يدخلها رفع رأسه اليها تماما كما فعل المرةِ السابقة .......
لكنها لم تبتعد هذه المرة ....ظلا يتبادلان النظر طويلا الى ان شدت الستائر الناعمة ببطء لتخفي بها وجع قلبها ..............

لعنتي جنون عشقكWhere stories live. Discover now