الفصل الثاني والعشرون

98.5K 1.9K 57
                                    

كانت مشاعرا مجنونة تسود هذا المكان ....... في هذه الليلة التي بدت من أطولِ الليالي على أصحابها ........غضب مدمرا يهدد بإحراق المكان , قلقا مريعا , خوفا يائسا,..........كان كلا منهم يشعر بانه على وشكِ ارتكابِ جريمة ......
كان ادهم يتطلع من النافذة المظلمة أمامه ينظر الي البعيد وقلبه يكاد يحترق بين أضلعه لا تطالعه سوى صورة حلا بعينيها المجروحتين المتوسلتين عندما نظرت اليه آخر مرة وهو خارج من الغرفة ........يا الهي .... لقد كان قاسيا معها و هي لا تتحمل القسوة أبدا .....إنه يشعر دائما أن حلا بالذات لا يصح أن يعاملها أيا من البشر العاديين بل هي تحتاج الى معاملة كلمساتِ أجنحةِ الفراشات ..... و ها هو عند أول ضعفٍ له كإنسانٍ يغضب و يتألم ......ضاعت من بين يديه للمرةِ الثانية ..........
تأوه بصوتٍ مخنوق و هو لا يدري حقا من أين يبدأ البحث ..... شعر فجأة بشللٍ في تفكيره ........من أين يبدأ ......
قال أخيرا بصوتٍ أجش ممزقٍ من التعب
( فارس ...... أخبرني مرة أخرى .... ما معنى أن سما تركتك و رحلت للأبد ....... هل هذه صدفة أن ترحل في نفسِ يومِ اختفاؤهما )
ثم التفت لينظر الى فارس الذى كان جالسا هو الآخر صامتا بملامحٍ من حجر رسم الألم زواياها فبدا كتمثالٍ لليأسِ بعينه ....قال ادهم فجأة بثورة
( لم يخبروني في القصر أن سما كانت معهما ..... بالرغم من أنك تقول أنها رحلت منذ الصباح و هى لا تملك أي مكانا آخر لتذهب اليه بما إنها ليست عند ايثار ..... فأين ذهبت بالله عليك ؟...... أشعر أن الكل يتآمرون ضدي ..... الكل يعملون على توسيع دائرة البحث حتى لا أجد حلا ...........)
كانت آخر كلماته تبدو كصراخٍ عنيف كسر حاجز الصمتِ المحيطِ بهم .......ثم عاد لينظر الى احمد و قال بصرامة
( أنا لا أراك تكلم سابين أبدا ......فلتكلمها فربما ترد عليك أخيرا )
لم يرد احمد لعدة لحظاتٍ و هو جالسا دافنا رأسه بين كفيه ..... لم يتحرك..... لكنه تمكن من النطقِ أخيرا بخفوتٍ و يأس
( هاتف سابين ليس معها ........ لقد أخذته منها منذ أول يومٍ في زواجنا )
صرخ ادهم و هو يضرب زجاج النافذةِ بقبضته ( يا الهي ........ ما العمل الآن ؟......إننا اذن لا نملك سوى هاتف سما ....لكنها لا ترد منذ اكثر من ساعة على عشراتِ المكالمات التى وصلتها مني ..................على الأقل تركت الهاتف مفتوحا , وكأنها تطمئننا عليهن بهذه الطريقة ...... أنا أفهم سما جيدا انها تعطيني اشارة بانهن سالمات)
عبوس طفيف كسا ملامح فارس المتحجرة و قد طعن الالم فؤاده و هو يسمع من ادهم بأنه يفهم سما جيدا .....الكل يفهم سما فهي شفافة كنسيم البحر .....لكنه الأعمى الوحيد الذى لم يفهمها يوما ......بل لم يشعر بها أبدا ..... بكلِ حماقةٍ وغرور ظن أنه أعطاها كل ما حلمت به .......لكنه اليوم وفي هذه اللحظة يعلم أنه لم يعطها الا ما تستطيع الريح أن تبعثره في طرفةِ عين ..... بينما هي أعطته كل حياتها الفتية ..... ضحت من أجله بكل ما استطاعت ......لونت حياته و أدخلت اليها الابتسامة التى كانت قد نسيت طريقها الى شفتيه ......
و ها هو الآن يجلس أمام ادهم صاغرا مستسلما بينما يعلم ان صغيرته هي الأمل الوحيد في العثورِ عليهن ...... وها هي تعلمهم بهذا......فقط رنات هاتفها هي الصلة الوحيدة بينهما ......هي موجاتٍ تصل من قلبه الى اذنيها ...... حتى وإن كانت من ادهم .....فهو لا يملكِ الجرأة الآن لمكالمتها فقد تغلق هاتفها ...... الأمل الوحيدِ لديهم .......و لديه على وجه الخصوص ........
مرت هذه الليلة بسوادها الخالي من ضوءِ القمر الى أن أطل الشروقِ عليهم و هم غارقين باتصلاتهم على كافةِ المستويات.......و العمل على تعطيل أي احتمالٍ أحمق لسفرهن خارج المدينة ........لكن دون جدوى .........
مرت ساعتِ الصباحِ الأولى و انطلق كلا من ادهم و احمد ليبحثا في كلِ مكانٍ دائرين بنفسيهما على أملٍ واهي في العثورِ عليهن ......
و لكن مر اليوم بطيئا شاقا طويلا دون أن يعثر لهن على اثر ....... لو كانت حلا و سما وحدهما لما استطاعتا الابتعاد بعيدا .....لكن و بما أن سابين معهما فإن فرصة العثورِ عليهن تكاد تكون شبه مستحيلة ........
و حين حلت الليلةِ الثانية كانو مجتمعين صفر اليدين بعد بحثٍ طويل .............لم يستطع أيا منهم الكلام أبدا ..... كلا منهم جلس في زاوية بعيدةٍ عن الآخر ...... و كأنه يلوم الاثنين الآخرين قبل أن يلوم نفسه .......
عاد ادهم مرة أخرى الى مكالمة سما ..... رنين ..... رنين ...... دون رد .......أخيرا بعث بالحلِ اليائس الوحيد متمثلا في رسالةٍ صغيرة
( سما .....صغيرتي , أرجوكِ دعيني اسمع صوت حلا ...... لم أرجو أحدا من قبل , لكن من أجل أن أسمع صوت حلا في هذه اللحظةِ أنا مستعدا للتوسل .........إنها متعبة للغاية يا سما و أنا الوحيد الذي يعرف كيف يتعامل معها ....... إن كنتِ حقا تخافين عليها دعيني فقط أسمع صوتها .......)
بعث برسالته وهو يعلم أن لا فائدة مما يحدث ......بالطبع العشراتِ الآن يبحثون عن سيارة احمد مهران ....العشرات يبحثون عن سابين .... أما حلا و سما فليستا بنفس المعرفةِ بين الناس ...... لذا فليس هناك الكثير مما يستطيع فعله ......فقط البقاء هنا منتظرا أن يرق قلب سما عليه ........
عاد ليرن لسما مرة اخرى و هو يبتهل ان ترد عليه هذه المرة ..... رنين ....... رنين .......ثم فجأة سمع صوت فتح الخط .......
قام من مكانه صارخا باسم سما فارتفع رأسي احمد و فارس بحدة و قام احمد اليه جريا يحاول أخذ الهاتف منه الا إن ادهم استدار الى الناحية الأخرى وهو يتشبث بالهاتف و يهدر بكل لهفة للصمت المقابل من الطرف الآخر
( سما ...... سما صغيرتي أين أنتن ........سما أجيبيني هل حلا بخير ؟..... أريد أن أسمع صوتها على الأقل يا سما أرجوكِ صغيرتي )
لم يسمع أي رد لكنه حين صمت من هذه الثورة الجامحة تمكن من سماعِ صوتِ أنفاسٍ لاهثة تخرج بصعوبة مع نشيجٍ صامت ......
سقط ادهم بكل ِ قوته على الكرسي خلفه وهو يهمس مغمضا عينيه
( حلا .........)
لم سمع ردا ....فقط أنفاسها التى كاد يشعر بدفئها يلامس اذنه ...... كيف يخطىء أنفاسها .... إنه يحفظها عن ظهرِ قلب .....
للحظاتٍ طويلة ظل يستمع اليها .... الى أنفاسها التى لامست وجهه و شفتيه من قبل حتى أنه يعرف مذاقها ....... أناتها الضعيفة الآن تبدو و كأنها كلماتِ عشقٍ و غرام بعد أن اطمئن أنها بخير ........
ظل مغمضا عينيه يتذوق كل نفسا يسمعه و على شفتيه طيفِ ابتسامةٍ حزينة .... بينما احمد و فارس يكاد نفاذ الصبر و القلق ان يقتلهما .........
أخيرا همس ادهم دون ان يفتح عينيه
( هل أنتِ بخير يا حلا ؟............)
لم يسمع ردا مرة أخرى لكن تنهيدة حزينة أعطته الجواب فابتلع ريقه و فتح عينيه و تابع هامسا
( هل هنت عليكِ يا حلا ؟......... كيف استطعتِ الرحيل عني بهذه السهولة ؟...... من يتحملني حين أصبح مجنونا غيرك حبيبتي ؟ ......أخبريني أين أنتِ حبيبتي حتى آتى و آخذك .......)
تعالت التنهيدات حتى اصبحت شهقاتٍ خافته فحاول باستجداءٍ اكثر حتى لا ترتعب و تغلق الخط
( حلا ......صدقيني لن أمسك بسوءٍ أبدا صغيرتي , فقط أخبريني أين أنتِ ؟........ يكفيني فقط أن تعودي الى أحضاني سالمة ......فقط أخبريني لا تتركيني أعاني هكذا ............)
فجاة سمع صوتا صارما من الطرف الآخر يأتي من بعيد ثم أختفت أنفاس حلا الباكيةِ و حل محلها صوتا صلبا هدر في اذنه
( ماذا تريد منها بعد الذى فعلته ؟........ الا يكفي الحالة التى وصلت لها بسببك , حذرتك مرة من قبل يا ادهم مهران الا أنك لم تهتم .....الآن و قد ضيعتها من يدك للمرةِ الثانية فلا تلم الا نفسك ........ حلا ... لن ... تعود اليك )
شددت سابين على آخر ثلاث كلمات مما جعل ادهم يقوم من مكانه صارخا كالمجنون
( سااااابين ..... اقسم ان اقتلك ......ان لم تخبريني أين أنتن حالا ........ , لو كانت لديكِ ذرة شجاعة لكنتِ انتظرتي حتى تواجهيني بدلا من ان تخطفي حلا و انا غير موجود ............)
لكن قبل ان يسمع حرفا و احدا كان احمد قد اختطف الهاتف من يده بعنفٍ و وضعه على اذنه ليسمع صوتِ ساحرته الشريرة التى دمرت العالم من حولهم جميعا ....فوصله صراخها الشرس الذى اشتاق الي جنونِ نبرته
( فلتفعل اقصى ما عندك يا ادهم مهران ...... لو كنت انت الذى تملك الشجاعة لواجهت ندا يماثلك قوة بدلا من التجبر على حلا التى لم تخرج من محنتها الى الآن ...... لكن ها أنا ذا خير ندٍ لك ..... و لتخبر المجنون الآخر أن سما لن تعود اليه ولو على جثتي.......لقد تركتكم تعبثون كثيرا يا آل مهران .......و كان خطأ كبيرا منكم أن تمسو شيئا يخصني ...... فإن لم تعلمو بعد .....أنا ..ساااابين ...الراااشد )
( أنا أحبك .......)
قاطعت هذه الكلمة الهادئة صراخها المجنون لتصمت تماما و هي تتحقق من الصوتِ الغادر ....فتابع احمد قائلا بشغفٍ لم تسمعه منه من قبل
( لم تعطيني الفرصة لأقلها لكِ من قبل ...... كنتِ كشوكةٍ في خاصرتي في كلِ مرةٍ أراكِ فيها ....... لقد ذكرتي لي في ورقتك السخيفة أنكِ اكثر شراسة حين تحبين ....... لكنك لا تعلمين بعد كيف أكون أنا حين احب ........و بالأخص حين تهرب مني حبيبتي .......لذا فسأخبرك بكلِ هدوءٍ يا سابين ......فلتتعقلي و تعودي انتِ و شقيقاتك بكلِ أدب قبل أن أعثر عليكِ ... ووقتها ستعرفين كيف أكون شرسا حقا حين أحب )
وصله بعد فترة الصوت الناقوسي المذهل وهو يقول بكل إغراء العالم
( يال غرورك يا احمد مهران ......تقف مكانك ولا تملك أي ورقةٍ لتلاعبني بها , ومع هذا تأمرني بكلِ ثقةٍ أن أعود )
ظهرت ابتسامة شيطانيةٍ على شفتيه و هو يهمس
( ستعودين يا سابين .... وبنفسك ....قبل أن أصل اليك ِ )
ردت سابين بهدوءٍ ينافس هدوءه ( في أحلامك .......يا زوجي العزيز ) ثم أغلقت الخط .......
نظر كلا من ادهم و فارس الى احمد و اعصابهما تكاد تحترق انتظارا فقال اخيرا (؛ لقد أغلقت الخط .........)
استدار ادهم صارخا و هو يغرز أصابعه في خصلاتِ شعره بعنف بينما عاد فارس ليرتمي على الكرسي خلفه و هو يشتم .....
رمى احمد الهاتف و قد غادره هدوءه الزائف و عاد الغضب ليملأ كيانه بعد أن كاد يستسلم لرفرفاتِ صوتِ الشريرة و هو يداعب اذنه ..جالبا اليهِ ذكرياتٍ ليست في وقتها أبدا .........
عاد ادهم لينظر اليه مرة أخرى نظرة اتهام و هدر فيه ( هل يمكن أن تخبرني كيف سنتصرف الآن ؟........من المؤكد أنها ستأخذ الهاتف من سما أيضا ........)
نظر اليه احمد بوجوم لا يعرف ردا لسؤاله و اقسم بينه وبين نفسه أن سابين ستتلقى منه ما لم تره في حياتها ....... فقط حين يجدها ....
أغمض ادهم عينيه بيأس وهو يحني برأسه و يستند بكفه على الحائط و همس بتعب
( إنها لا تعلم حالة حلا ...... لا أحد يعلم كيف يتعامل معها غيري , ماذا لو انهارت من جديد ؟.........قد تؤذي نفسها عن قصد , أنا أعلم ...... يالهى لقد أغلقت عليها كل ما استطعت أن أغلقه , وها هي تتسرب بعيدا مرة اخرى .........)
اقترب منه احمد ببطء ثم ربت على كتفه و قال بصوتٍ مهزوز يحمل في طياته الكثير
( لا تخف عليها .........إنها مع سابين )
نظر اليه ادهم بوجوم ثم قال بغضبٍ مكتوم ( ومتى كانت سابين تعلم عنها أي شيء ؟.. متى كان أي أحد يعلم عنها أي شيء أو يهتم لها )
نظر احمد الى عمق عينيه و رد بثقة مختنقة في صوته المكبوت و ابتسامة شاردة ترتسم على شفتيه
؛( اذن فقد جاء الوقت لتتعلم من سابين ...... أنت لا تعلم سابين جيدا ....إنها قوية كنمرة , محاربة لا تهزم , شجاعتها لم أرها على غيرها ........... رقيقةٍ كطفلةٍ مشاغبة .........ناعمةٍ كوردة بيضاء , مجنونة كساحرةٍ تطير على مكنستها ..........)
نظر اليه ادهم وقد عقد حاجبيه وهو لا يصدق أن احمد مهران هو الذى يتكلم ...ثم قال أخيرا بغضبٍ يكاد أن ينفجر
؛( آآآآآ.......أكره أن أقاطع لحظات عاطفتك الجياشة ...... لكني الأن أبعد ما أكون عن الحاجةِ الى سماعِ غزلٍ يخص تلك ال ........يخص سابين ....... لو تكرمت )
نظر احمد اليه نظرة مريرة و قال بحزم
( ما احاول قوله أنك ستكون محظوظا لو استطاعت حلا التقاط بعضا من قوة سابين ........وهذا على ما يبدو ما فشلت أنت في تقديمه لها ......)
لمعت عينا ادهم بوحشيةٍ ومد يده بقبضةٍ من حديد ليمسك بذراع احمد و هو يقول هادرا
(كيف تجرؤ على انتقاد تصرفي ...... وماذا عنك و عن تصرفك الحقير مع سابين .......اذا أتيت للحقيقة فإنك أنت السبب الرئيسي الآن فيما نحن جميعا فيه )
ابتعد احمد عنه وهو يزفر بعمقٍ و قال بعد فترة و الغصة في حلقه
؛( هناك أشياءٍ .........لم أستطع تجاوزها )
صمت ادهم ولم يجد القدرة على الرد فهو يعلم جيدا ما يقصده احمد , فهو أيضا لم يستطع تجاوز الكثير من الحواجز بينه و بين حلا ...لذا فليس من حقه أن يضغط على احمد اكثر من اللازم .......خاصة و أن تحت واجة الهدوء الظاهرة عليه , يكمن بركانا على وشكِ الانفجار ........فهو احمد مهران و هو يعرفه اكثر من الجميع .......
.................................................. .................................................. ..............................................
كانت حلا مرتمية على فراشٍ تبكي بشدةٍ بعدما انهت سابين المكالمة بينها و بين ادهم بكل ِ قسوة ......يا الهي ما أقساها ......الم يعرف قلبها الحب أبدا ........
كانت ستموت حين سمعت صوت ادهم الحبيب يتسلل الى اذنها ....حبيبها الوحيد و حصنها الدائم ........شعرت بأن الروح قد دبت فيها من جديد حين سمعت صوته ... يالهي لم تكد تمر ليلة وها هي تكاد تموت بدونه ......
أخذت تشهق عاليا وهى تتكور حول نفسها , حين شعرت بقبضةٍ كالحديد على ذراعها ومخالبٍ مؤلمة تتشبث في لحمها لتجذبها حتى أجلستها .....ثم اتاها صوت سابين يهدر في اذنيها
؛( الم امنعك من مكالمة أيا منهم .....اليست لديكِ ذرة من كبرياء ؟......الم تكتفي بمافعله بكِ بعد.......لقد تجاوزت شعوري بالشفقة ناحيتك حتى أصبح اشمئزاز من ضعفك المخزي )
أسقطت حلا رأسها مغمضة عينيها بشدةٍ وهي تبكي و تشهق بصوتٍ عالٍ تحاول التلوي من بين يدي سابين حتى تفلت منها وتغلق اذنيها بكفيها , لا تريد أن تسمع رأيها ...... رأيها الذى تعرف بداخلها انه حق اليقين .....
لكن سابين لم تمنحها الفرصة للهرب من الحقيقة وظلت متمسكة بها بوحشية وهي تعلو بصوتها فوق صوتِ شهقاتِ حلا
(كم من الذل يجب أن تتحملي حتى تنتفض روحك رفضا لما تلاقيه من هوان ......في المرةِ الاولى كان لكِ عذرك نوعا ما فقد كنتِ صغيرة و كانت ايثار تسيطر عليكِ بشكلٍ ميؤوس منه ..... أما الآن فما هو عذرك ؟..... أنتِ امرأة ناضجة في الخامسةِ و العشرين , والى الآن لا تستطيعين اتخاذ قرارا يخصك بمفردك ......تتحملين ذله لكِ من أجل أن تظلي تابعة لظلِ أحد .... أي أحد ..... كما تعودتِ دائما )
صرخت حلا بشدة و وجهها يكاد ينفجر من شدة احمراره و تورمه ( كفى ..... كفى ..... لا أريد أن أسمع )
الا أن سابين ظلت على اصرارها و هي تصرخ اكثر
( الم تتعلمي من زواجك الفاشل الاول ؟..........لتبيعي نفسك مرة ثانية )
صرخت حلا بشدةٍ و هي تدفع سابين في صدرها حتى تمكنت من الافلات من بين يديها ثم استمرت في دفعها و قد فقدت السيطرة على نفسها تماما وهي تصرخ بلا توقف
( و ما أدراكِ أنتي بزواجي ......ماذا تعرفين عنه ..... كلا منكن سارت في طريقها دون أن تسأل عني ...... كنت أغيب لفتراتٍ طويلةٍ و أنا أنتظر أن تظهر أيا منكن لكن دون جدوى .......لقد ذقت كل أنواع الألم , ألما لم تكوني لتتحمليه أبدا و انتى تكلميني بكل هذا الاشمئزاز الآن ......هل ذقتي طعم الضرب مرة ؟...... الضرب بحق حتى تتذوقي طعم دمك ....... حتى سمعين صوت إحدى عظامك وهي تكسر .......حين تجبرين على الانحناءِ لتقبيل قدمي الذى يفعل بكِ كل هذا .......و الآن تأتين بكل ثقةٍ و تسأليني إن كنت أمتلك ذرة كرامة ؟...... لقد نسيت معنى هذه الكلمة أصلا .......)
صمتت حلا وقد هدها البكاء فدفنت وجهها بين كفيها لتفرغ كل آلامها بينهما , بينما أخذ جسدها يرتجف بشدة
ظلت سابين نظر اليها بصمتٍ للحظاتٍ ثم لم تتمالك نفسها فجذبت حلا من شعرها لتدفن وجهها المتورم من البكاء في صدرها وهي تحاوطها بذراعها الأخرى بشدةٍ كادت أن تحطم ضلوعها ........ استمر ارتجاف حلا طويلا بينما سابين تشدد من احتضانها اكثر واكثر و دموعٍ غادرةٍ بدأت في التجمع بعينيها المتوحشتين.......
الى أن سمعت صوت حلا ينفذ من صدرها مختنقا و هي تقول من بين عاصفة بكائها
( لقد آذاني كثيراااااا...... لقد كنت أنتظر أيا منكن كل ليلةٍ حتى فقدت الأمل فلم أعد انتظر الا شروق الشمس .........لو .... لو كان ادهم يعلم ما يحدث لي لكان طار الي و انتزعني منه .......فقط لو كان يعلم .........لم يفعل لي أحدا مثلما فعل هو أبدا .........)
استمر بكائها طويلا الى أن نشجت عدة مرات , بينما سابين تشعر بأن نشيجها ينفذ كخنجرٍ الى صدرها وهي تتذكر كلماتِ عماد الراشد الذى أوصاها بحلا بالذات .... و كأنه كان يشعر بما سيحدث لها .......لقد ارتاح بالا يرى ابنته وقد أصابها كل هذه الفظاعة و ال...... .......سقطت دمعتان خائنتان على وجنتيها لم تستطع منعهما ........أين كانت ؟......أين كانت وتركتها ؟...... شغلت نفسها بالنجاةِ من أسرةٍ مختلة ........وتركت حلا تواجه مصيرها مقنعة نفسها بأنها هي من اختارت طريقها فلتتحمله اذن .........تعاقبت الدموع على وجنتيها اكثر ..........
شعرت فجأة بأن حلا تشهق بشدة ٍو كأنها تلتقط أنفاسها بصعوبة فرفعت سابين وجهها وهي تمسكه بين كفيها لتربت بقوةٍ على خدها و تقول بصرامة ٍ مختنقة وراء دموعها
( خذي نفسا عميقا ..........هيا مرة أخرى , اهدئي )
نفذت حلا ما تقوله سابين تلقائيا الى أن خف ارتجافها قليلا و باتت أنفاسها تخرج كشهقاتٍ ممزقة من التعب
بعد لحظاتٍ طويلة ٍ وهما على هذا الحال تمكنت حلا أخيرا من رفع عينيها الى عيني سابين و همست بضعف و دموعها تجري كالانهارعلى وجنتيها
( أنا احبه ....... أنا أحبه يا سابين ولا أستطيع الحياة بدونه ......... أرجوكِ أعيديني اليه ..... لا أملك القدرة على الخروجِ وحدي )
صمتت وقد خنقها بكاؤها من جديد فاحنت رأسها ......لحظة واحدة و سحبتها سابين من ذراعيها و هي تقول بصرامة
( تعالي ......)
جرتها خلفها حتى وصلت الى المرآة أمامها ثم وقفت خلف حلا و قالت بنفس الصرامة
( انظري الى نفسك ....... ارفعي رأسك يا حلا و انظري لنفسك قبل أن أفعل أنا رغما عنكِ .........)
رفعت حلا رأسها ببطءٍ شديد وكأنها تشعر بالخزي مما ستراه ...... لكنها تمكنت من فتح عينيها أخيرا ...... ونظرت الى نفسها .....لم تحتج سابين أن تشرح أي شيء قبل أن تتفرس حلا في منظرها .......
كانت ...... كانت كشبحٍ هزيل ..... بوجهٍ متورم و شفتين انتفختا و احمرتا بشدة ...... عينين حمراوين واسعتين مذهولتين لا تعيا أيا مما يحيط بهما .......شعرها مربوط على هيئة ذيل حصان ....... منذ أن ربطه ادهم لها بالأمس ..... لكن خصلا كثيرةٍ الآن انسابت حول وجهها الشاحب الهزيل ......
لا تزال ترتدي قميص النوم الطفولي و الذى خرجت به من القصر .......يا الهي إنها تبدو بائسة للغاية ...... هل من المعقول انها تنظر الآن الى زوجة ادهم مهران ....... ما الذى وجده فيها ...... كيف تقبلها و هي تبدو مخزيةٍ الى هذه الدرجة ..........إنها تبدو كأطفالِ الشوارع المشردين ...... ليس في ملبسها فقط ..... بل في نظرة عينيها ...... نظرة عينيها لا تثير الشفقة ..... بل تثير الاشمئزاز كما قالت سابين ......نظرت الى وجه سابين الواقفة خلفها ...... إن الفرقِ بينهما كالفرقِ بين شعلةِ النار المتقدة .... وبين الرماد المتخلف عنها ......... انحنى حاجبها على هيئة رقم ثمانية فبدت كالجراءِ الضائعة ..... وعادت لتبكي من جديد .......
أمسكت سابين بذراعيها وهزتها بقسوةٍ وهي تقف خلفها ..........و قالت بصلابة
( انظري الى نفسك ..... هل هذه هي حلا ؟...... هل هذه هي أنتِ منذ ما يقرب من ست سنوات ......كيف وصلتِ الى هذا الحال .....بسبب ماحدث لكِ ؟؟؟...... لكنك نجوت ..... وهذا وحده انجازا يجعلكِ مجبرة على الوقوفِ على قدميكِ من جديد ......غير مسموح لكِ بالتخاذل بعد أن نجوتِ يا حلا ........هل تفهمين ؟......هل تفهمين ؟......)
كانت تهزها عند كل سؤال ...... فتتراقص خصلاتِ شعرها من حولِ وجهها و ترمش عينيها بسرعة ......... وينتفض قلبها بشدة ......
الى أن التقت عيناها بعيني سابين في المرآة ..... فسكنت الاثنتانِ تماما ......كان هناك اتصلا غريبا بين عينين مكسورتين خضراوين ممتزجتين بالعسل و أخرى تبدو كحجرين كريمين ليسا فقط في لونهما الأزرق الغريب بل في صلابة الأحجار ......
وكان عينا حلا كانتا تخبران عيني سابين بالكثير .........وعينا سابين كانتا تتلقى منها و كأنها تعرف جيدا .....
قالت لها سابين بعد فترة صمت طويلة قالتا فيها الكثير
( اذا أردتِ الذهاب فلتذهبي ....... أنا لن أحتجزك كما فعل هو , لكن بشرطٍ واحد أن تكوني راضية تماما عن حالك الآن ......ولتذهبي وحدك, أنا لن أعيدك بنفسي ..... إن أردت اختيار طريقك فلتسيري به بمفردك )
تركت حلا عيني سابين و اتصلت بعينيها هي و كانها تسالها عما تريده حقا .......أو عمن تريد أن تكونه ...... حلا الراشد .....أم زوجة ادهم مهران ............
اغمضت عينيها لتنساب دمعتان مرهقتان على وجنتيها وهي تفكر ....... ومن التي أحبها هو ...... حلا الراشد ......أم زوجة ادهم مهران ............
تركتها سابين بعد أن طبعت قبلة على قمة رأسها و خرجت بهدوءٍ الى سما التى كانت مستندة على الجدار المجاور لباب الغرفة و تستمع الى كل ما يحدث دون أن تجرؤ على التدخل .......
كانت محنية رأسها تبكي بصمت على ما وصل اليه حال بناتِ الراشد جميعهن ........
الكل يبحث عن زوجته كالمجنون ...... الا أنت يا فاس ..... الهذه الدرجة كنت رخيصة عندك ......الهذه درجة كنت أعيش وهما بنيته بنفسي .......يا الهي كم اشتقت اليك ...... لم أعتد البعد عنك لسنين طويلة ...... كيف سأتمكن من الإبتعاد عنك ..........
ترى حبيبي كيف تستطيع التصرف من دوني الآن ........ كنت تعتمد علي دائما , فماذا ستفعل الآن و من سيهتم بك .........كنت على استعدادٍ أن أبقى معك , لكنك رفضت عند أول بادرةٍ لخروجي عن الطوق ........
لم أكن الا مسكنا لك يا فارس ........ولم تكن الا ألمي دائما و أبدا .........

لعنتي جنون عشقكWhere stories live. Discover now