كاتب|| دهشة

17 5 1
                                    


تساءل أحدهم عن طريقة المحافظة على الدهشة مع الأشياء المألوفة، ولأكون دقيقا فقد استخدم مصطلح «شحن» وصاغ سؤاله باستخدام «كيف» ولقد استوقفني ذلك، أعني أليست جميع الأشياء تبهت مع الوقت؟ وفكرت بأنني افترضت مثله تلقائيا بأنه يجب إعادة شحن الأشياء بالدهشة، ولكن ماذا لو لم يكن يجب ذلك من الأساس؟ إن كانت الأشياء ستبهت على أي حال في مسيرة حياتها الطبيعية فمن الذي قال بأنه -يجب- إعادة شحنها كل فترة؟

قبل أن أكمل الخوض في فكرة ما إن كان يجب أم لا يجب؛ تنبهت إلى أنني أواجه منذ مدة مشكلة يمكنني وصفها على ضوء هذا الموضوع بأنها -استثقال الدهشة- أو بمعنى أصح -الرغبة في تجاوز الدهشة- ونعم هذا غريب ربما وغير مألوف، فالمعظم يفضل لحظات البدايات المليئة بالسحر على الرتابة والخفوت اللذان لابد منهما مع مرور الزمن.

ولكنني بصراحة أفضل الرتابة والخفوت على الدهشة عند المقارنة بالميزات التي ترافق كلا من الحالتين، فالرتابة تعني أن الأمور تمضي على وتيرة واحدة وهذا يعني شيئا من الاستقرار، بعكس الدهشة التي تظل تأتي بأشياء جديدة، والتعامل مع الأشياء الجديدة مرهق أحيانا.

أشعر بأنني عجوز في التسعين وأنا أكتب هذا، ولا أدري أهي حالة عابرة أم مرحلة شعورية فاصلة، أم ربما ردة فعل للسرعة المجنونة التي يتحرك بها العالم، والتي تجعلك غير قادر على اللحاق بأحداثه عوضا عن أخذ نفس عميق واحد قبل معاودة الخوض في معاركه مجددا.

يذكرني هذا الشعور بمفهوم الاحتراق الوظيفي وأعراضه التي تتضمن الشعور بالقلق، ويجعلني هذا أفكر بأنه يجب أن أظل على أهبة الاستعداد وكأن شيئا ما سيحصل في أي لحظة، ونعم هذه هي الدهشة، وما أقوله هنا أن مجاراتها أمر مرهق، أعني هل تستحق فعلا كل ما سيدفع في سبيلها من عناء؟ قد تكون ممتعة للحظة، وقد تبعث إحساسا رائعا طويل الصلاحية، ولكن من يضمن بأنه خلال مرور مدة الصلاحية تلك لن يحدث ما يخطف ذلك الشعور الجيد ويمحو الدهشة تماما؟

أظن أن الناس تخاف الرتابة، أو أصبحت كذلك مع تزايد وسائل الراحة والرفاهية والحرص على تجديدها كل فترة، الأمر اقتصادي بحت، فالشركات تريد أرباحا والتجديد يكسبها المزيد من المال، وتحويل البشر إلى كائنات مستهلكة يجعلهم مستعدين للشراء دائما بغض النظر عن الحاجة والمنطق، والمنتجات هنا ليست ملموسة بالضرورة، بل هي مرئية ومسموعة ومقروءة وحتى يمكن الشعور بها، وتلك الأخيرة هي الأهم، وهنا يمكننا اعتبار الدهشة من هذا الصنف.

لم يعد استهلاكنا مقتصرا على الماديات، بل تطور ليشمل المشاعر أيضا، نريد تجديدها كل فترة، وإعادة شحنها بالدهشة بشكل متواصل، وإن سئمنا منها؟ فعلينا استبدالها ببساطة فحسب.

العيش بهذه الطريقة مرهق، مرهق جدا وأنا لا أستطيعه، ومقابل كل الميزات التي تأتي مع الرتابة أنا مستعد لمقايضة الدهشة بكل عنفوانها وروعتها، ولن أندم على ذلك أبدا.

كاتب مشوشWhere stories live. Discover now