(سيظل عشقك مرادي) By:Noonaz...

By NehalAbdElWahed

68.7K 3.1K 562

أحبها وهام بها عشقًا، انتظرها وانتظرها... ولما طال الإنتظار أقسم ألا تكون إلا له مهما كان المقابل، ولكن... J... More

مقدمة
(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
(7)
(8)
(9)
(10)
(11)
(12)
(13)
(14)
(15)
(16)
(17)
(18)
(19)
(20)
(21)
(22)
(23)
(24)
(25)
(26)
(27)
(28)
(29)
(30)

(الأخير)

3.7K 144 60
By NehalAbdElWahed

#سيظل_عشقك_مرادي

الفصل الواحد و الثلاثون والأخير

بقلم نهال عبد الواحد

تململت في فراشها شاعرة بأصوات بعض الضجة القادمة من الشارع الدالة على اقتراب وقت الظهيرة، لكن الأهم شعورها بهذا الاكتفاء فارتسمت ابتسامة رائعة على ثغرها، فقد رمم كل تصدعاتها خلال الثلاث عشرة سنة في ليلةٍ واحدة أفضل من أفضل مهندس، وداوى جراحًا عميقة غائرة بمهارة فاقت أي طبيبٍ حاذق.

ها هو قد جمع شتات روحها في ضماته لها، لا زالت تشعر بأنامله وشفتيه تتلمس كل إنشٍ في جسدها برقة، أريحية وحميمية بالغة، فكان سكنها وكانت سكنه.

لا زالت مبتسمة متذكرة أحداث الليلة السابقة مادّة يدها جانبها تتحسس مكانه جوارها في الفراش، لكن الفراش باردًا فارغًا!

هبّت من فورها منتفضة تتفقد حولها بعينيها جاذبة هذا الغطاء الثقيل مغطية جسدها العاري، تسارعت أنفاسها وكأن كل الجروح قد فُتحت مجددًا فجأة وتصدعات روحها تشققت كما كانت، وها هو عاودها شعور قطرة المطر الساقطة من أعلى سحابة فوق السماء لكنها هبطت فجأة مرتطمة بسطح الأرض الوعر ولم تهبط برقة على أوراق الشجر كما توهمت.

نادت عشق على مراد بملء صوتها والغصة تزداد اختناقًا وضيقًا حول عنقها، لا زالت تنادي عليه بقهر وهي تنهض واقفة ضامّة ذلك الغطاء الثقيل حول جسدها، وقد بدأت تنهمر دموعها وكأن السعادة أقسمت ألا تزورها إلا لحظاتٍ معدودة.

لمحت ورقة مطوية على لوحة التزيين مدت يدها أخذتها وهي تبكي بحرقة، جلست مجددًا على حافة فراشها وفتحت هذه الورقة، وما أن رأت هذا الخط تأكدت أنه خط مراد، فقرأت:

«زوجتي الغالية وعشقي عشق،
بدايةً إياكِ وظن السوء بي! أنا لم أستغلك كما تأتى لعقلك واحتل فكرك، فقد ذكرتُ إليكِ رأيي الذي لا رجعة فيه، لكن حتى وإن جرت الأمور هكذا دون أي تخطيط، جرت وجذبتنا معها نحو تحقيق السكن الحقيقي بيننا، من المؤكد أنكِ شعرتِ بشعوري الجارف نحوك مثلما شعرت به منكِ، فلو كان الأمر الأمر بالتخطيط ما خططتُ لهذا، لأني بعد كل هذا التقارب لا طاقة لي بأي ابتعاد، لكنها الظروف، انتبهي لحديثي وكفي عن البكاء، فما حدث بيننا هو أروع الأشياء وأجملها، ليتني امتلكتُ مزيدًا من الوقت لأؤكد لكِ ذلك، حاولي التبسّم والسعادة مثلي؛ فقد اقتحمت كل حصونك ووضعت صكي على كل إنشٍ فيكِ، فأنتِ حبيبتي، زوجتي وامرأتي، وستكوني بمشيئة الله أم أبنائي، أشعر أني حين عودتي بعد أن أنال براءتي من أي تهمة منسوبة إلي سأجد خبرًا سارًّا ينتظرني، تحمّلي، اصبري واعتني بنفسك، رجاءً وسأعود في القريب قلبي يحدثني أني موفق، ليتكِ رأيتيني هذا الصباح قبل خروجي ورأيتِ ابتسامتي المختلفة...

كوني بخير وثقي بالله، فهو الذي يسبب الأسباب وهو عند حسن ظننا به...
سأشتاق إليكِ حبيبتي،
إلى لقاء قريب يا حبة الروح.»

قلّصت الورقة بكفها عازمة على تمزيقها لكن إنه خطه ولن تستطيع التخلص منها فأعادتها وطوتها بحالتها المزرية ثم وضعتها داخل أحد الأدراج.

حاولت البكاء لكن عيناها أبت ذلك وكأن احتياطي الدموع قد نفذ من عينيها...

لم يعد بيدها إلا مزيدًا من الانتظار أيامًا، أسابيعًا وربما شهورًا، لكن البعد هذه المرة كان له مذاق مختلف، لا زالت شاعرة بوجوده حولها، مستشعرة حيّزه في فراشها، كلما أرّق مضجعها الوجد أغمضت عينيها مستعيدة أحداث ليلتهما الوحيدة معًا، فتبتسم تلقائيًا متذكرة هذا الجانب الخفي من مراد والذي لها وحدها ولا يعرفه غيرها، مزيجًا من الرقة، الود، العشق والجرأة مع بعض المجون.

عادت الحياة لطبيعتها في مصر فخرجت عشق عائدة لعملها مكملة بقايا الفصل الدراسي وأيضًا عادت لعملها في المجمع الخيري بالإضافة لوقتها مع الطفلين عبد الله ومراد.

أما ياسر فقد بدا تدهور صحته واضحًا لزوجته خاصةً مع إفراطه بالتدخين وخسارته المزيد من وزنه بشكل واضح، لكنه كان دائم الشرود، خاصةً في ذلك اليوم، يوم ذهاب مراد لتسليم نفسه...

فتح ياسر باب شقته خارجًا حسب الموعد المتفق عليه مع مراد وهشام، فوجد مراد خارجًا من شقته هو الآخر حاملًا حقيبة بها أوراق فحوصه الطبية وعلاجه، لكن الغريب أن وجهه مبتهلًا مشرقًا وسعيدًا، ليس وجه شخص ذاهبًا لتسليم نفسه للشرطة.

صافحه ياسر بتعجبٍ جم وود لو سأله عن سر سعادته المفرطة، لكن مراد قد تحرّك متكئًا على عصاه حتى وصل أمام المصعد ثم ضغط على الزر الطالب فتبعه ياسر بتوتر، وبعد لحظات تنحنح ياسر قائلًا:
-كان عندي سؤال يا دكتور.

أشار إليه مراد وقد وصل المصعد، فتح بابه ودخل ثم تبعه ياسر، فأجابه مراد بنفس ابتسامته: اتفضل، أنا بعد ما رجعت من السجن قرأت كتب كتيرة لاستعادة المعلومات، وما تخافش لو ما عرفتش مش هفتي بغير علم.

- السؤال، هو ربنا بيتوب عن العبد ويغفر له ذنوبه مهما كانت.

- لا إله إلا الله يا أخي! إن الله يغفر الذنوب جميعا، يتوب على الكافر بعد إسلامه ألن يتوب على العاصي، لكن بالطبع يلزم شروط التوبة من الشعور بالندم، ترك المعصية وعدم الرجوع إليها، ده كمان يتوب ويغفر الذنوب ويبدل السيئات حسنات، شايف عظيم كرم الله الذي لا حدود له!

فتنهد ياسر براحة، فنظر مراد أمامه وأكمل دون أن يلتفت إليه: هذا بخصوص الذنوب التي في حق الله وليس في حق العباد.

- يعني إيه؟
هكذا صاح ياسر، فأجابه مراد متعمّدًا عدم النظر إليه: الخطأ في حق العباد يلزم مع التوبة مسامحة من أذيته وكونك أخطأت بحقه.

قالها مراد وقد وصل المصعد فتحرّك خارجًا منه تاركًا ياسر في صدمته وهمّه المتأكد من احتلالهما لملامحه لكنه لم يعقب وأكمل سيره متجهًا نحو سيارة هشام وبعدها تبعه ياسر جارًّا رجليه بخزيٍ وقهر...

ومهما طالت فترة غياب مراد لم ينسى هذا اللقاء أبدًا، داخله أصوات متضاربة بين الندم الدافع لمصارحة مراد بالحقيقة ليتبرّأ من ذنبٍ كلّ كتفيه من حمله، وبين نتائج هذه المصارحة وردة فعل الجميع، كم يبدو الأمر صعبًا! فمهما حاول التخلص منه بطريقة غير مباشرة لا زال ملتصقًا به.

وبعد مرور عدة أشهر وقد صاروا في أواخر الشهر الفضيل، كانت عشق جالسة في شقة ياسر على إحدي الأرائك وياسر جالسًا على الجانب الآخر، لكن كان كل واحدٍ منهما قد طلّ من وجهه التعب الشديد، شاردًا في اللاشيء، الرائي أن كل واحدٍ شاردًا وحده، لكن الحقيقة أنهما شاردين في نفس الشيء، بالطبع مراد.

أفاقهما من حالتهما اقتراب زهرة المستاءة بشدة من وضعهما لكنها أخفت استياءها وتصنّعت المرح، ألقت بنفسها على كرسي مجاور لزوجها وأهدرت بتعب: وأخيرًا خلصنا!

فرفع ياسر أحد حاجبيه باندهاش وقال: خلصتم!

فتابعت زهرة: اشبيك سيد زوجي! أشم ريحة تنمر في حكيك.

-أنا! أستغفر الله!

- بتعرف منيح إن عجينة هالكعكات ما بتظبط معي.

- هي الكعكات وبس! دي الكعكات والغريبات و...

- شو شو شو! كأنك رح تبلش بهادل! بعتذر كتير ما رح يصير هيك! أنا متميزة بأشياء كثيرة وما رح ينقلب العالم لو في إشي كام صنف ما ظبط معي.

فضحك منها ضاربًا كفًّا بكف وقال موجهًا حديثه لعشق المتابعة في صمت: شايفة الهنا اللي أنا فيه!

فأجابت زهرة: إي لازم تشوف الهنا اللي إنت فيه، مشان زوجتك المصون بالطبع هي سر كل الهنا.

فضحك بشدة فعقدت حاجبيها بطفولية، أمسك يدها وقال بحب: أيوة طبعًا زوجتي المصون هي سر كل الهنا، ولولا وجودها في حياتي ما كانش هيكون في حياة، ولا هيكون في طعم لأي شيء.

فتنحنحت زهرة متصنعة الخجل وقالت: أديشك مكّار! عارف وين نقطة ضعفي وعم تضغط عليها، بتعرف أديش بحبك وبضعف أدام هالحكي اللي بيسحر.

فنهضت عشق واقفة معدّلة هيئتها وقالت: أسيبكم بأه تحبوا بعض وأروح عشان ألحق أنام شوية وأقوم أصلي قبل السحور.

فاقتربت منها زهرة وسألتها بقلق: شكلك مو منيح، بتشكي من شي.

- شوية إرهاق بس.

فتحدث ياسر: يبقى بكرة هجيب فطار جاهز ما تتعبوش نفسكم في طبخ حاجة.

أومأت زهرة موافقة: إي منيح، أم علي رح تكمل تنظيف الشقة ورح كون معها والولدين رح يروحوا عند الماما ونلتقي أول يوم العيد بكير لصلاة العيد.

- طب وشقة عشق!

- خليتها تبدأ بيها لأنها نظيفة أصلًا...

ثم التفتت لعشق وأكملت: لا تعكلي هم عشق، أنا عبيت الكعك بعلبة ورشيت عليه السكر وكله جاهز فيكِ تاخديه معك إذا بدك.

أومأت عشق رافضة وقالت: لا لا خليه عندك دلوقتي، هبقى أخده بكرة.

ثم تلفتت حولها وتساءلت: هم الولاد فين؟

فأجابت زهرة: الولاد كانوا بيحكوا مع ستي وبعدين ناموا على نفسهم، ما رح أفيقهم ع السحور وبيكفي اللي صاموه؛ رمضان حر كتير خليهم يرتاحوا، وبعدين ستهم أصلًا ما رح تتركهم من دون حلويات وعصائر، كنت كل يوم أجاكرها لتتركهم يكملوا صيام اليوم.

فأومأت عشق وتحرّكت نحو باب الشقة، كانت تبدو مترنحة كأنما أصابها الدوار فجأة، فأسرعت نحوها زهرة وهمست لها: اشبيكِ؟ كأنك مرضانة!

أومأت عشق برفض، فأكملت زهرة همسها: لا تكون شسمها، ولا إشي تاني، هيئتك مو مريحاني من مدة، كأنك مخبية عني شي محدد!

ربتت عليها عشق وألقت السلام وغادرتها، وقفت مكانها زهرة دون فهم لكن التمست لها العذر وإن كانت تريد التأكد من كون عشق حبلى أم لا!

فالتفتت إلى زوجها الشاحب الوجه فتنتابها تلك الغصة الغير مبررة التي تجعل دقاتها تتسابق فلا تملك إلا أن تقترب جالسة جواره فيجذبها إليه مغدقًا عليها أجمل كلمات الغزل ومزيدًا من العناقات والتدليلات وكلما نهضت لتفعل أي شيء يجذبها مجددًا لألا تتركه فتجلس على رجليه فيغدق عليها مزيدًا من التدليل.

أما عن عشق فهي تدري جيدًا أنها حبلى لكنها منتظرة عودة مراد، مصرة أن يكون أول العالمين بالخبر، لكن صوم رمضان قد أرهقها بشدة فآثرت النوم والراحة حتى تكمل اليوم الأخير.

وبعد كل استعدادات اليوم الأخير من رمضان، وكل شيء على أتم استعداد لاستقبال العيد، لكن عشق بالكاد شاركتهم الإفطار ثم اتجهت نحو شقتها وزهرة تقسم من داخلها أنها حبلى لكن منتظرة عشق تبوح لها بنفسها.

وما أن أدارت مفتاحها في الباب حتى أفزعها صوت فتح باب المصعد، التقطت أنفاسها ثم التفتت بتباطؤ فتفاجأت بمراد واقفًا أمامها أشعث الهيئة قليلًا لكن ليس بقذارة وتدهور المرة الأولى.

ابتسم إليها ابتسامته المعهودة وألقى السلام، اغرورقت عيناها أخيرًا بالدمع وما أن فرجت شفتيها قليلًا تهم بالتحدث حتى أصابها الدوار ومالت مغشيًا عليها فأسرع نحوها أسندها قبل أن تفترش الأرض.

حملها ودخل بها متحرّكًا باحتراس بسبب عرجة ساقه، وضعها على الأريكة وحاول إفاقتها حتى استفاقت، وما أن وعيت للواقع حتى بكت بشدة فجذبها نحوه يضمها، ربت عليها أهدأها، أبعدت نفسها أمسكت بوجنتيه تتأمله بعشقٍ وشوق ثم همست: وحشتني.

فأجابها بوله: بس إنتِ وحشتيني أكتر...

ثم اتسعت ابتسامته وأكمل: خلاص، كل شيء اتحل، أخدت عفو، أصلًا ما كانش فيه قضية، لكن مش هينفع طبعًا أرجع شغلي في الجامعة، طلعت معاش بمدة كاملة مع مكافأة وبكدة هتفرغ للمجمع ونكمل مشروع الملجأ اللي كنت بتمناه عشان أكمل منظومة مساعدة الناس، غايتي ومرادي.

فعانقته بسعادة مباركة له، ثم أبعدت نفسها مجددًا قائلة: وفي حاجة كمان، أسعد خبر ممكن تحلم بيه!

أطال النظر إليها مدققًا داخل عينيها ثم أخفض نظره نحو بطنها، رفع عينيه إليها مومئًا فأومأت له هي الأخرى إيجابًا ممسكة بيديه تضعها فوق بطنها.

اتسعت ابتسامته منحنيًا مقبّلًا بطنها وتساقطت دموعه، فربتت عليه عشق، وبعد قليل رفع رأسه فبادرته متسائلة: فطرت ولا لسه صايم؟

أومأ: كسرت صيامي.

فنهضت واقفة وقالت: ولسه واقف!
عبال ما تاخد دش أكون جهزت وجبة سريعة كده، تاكل وتستريح.

فأومأ مبتسمًا ثم انحنى نحوها مقبّلًا جبهتها بعمق، وبعدها اتجه نحو حجرة النوم بينما هي اتجهت نحو المطبخ، وبعدها بقليل تسللت نحو حجرة نومها وقد تأكدت من أنه يتحمم، فبدلت ملابسها لأخرى غيرها تبرز مفاتنها، صففت شعرها وجمعته لأعلى، نثرت عطرها وأسرعت تكمل إعداد الطعام.

وبعد مرور بعض الوقت وكانت على وشك الانتهاء؛ حيث اختارت طعامًا نصف معد لتسرع في انجازه، فوقفت تقطّع بعض الخضراوات لعمل طبق من السلطة وبينما هي هكذا إذ شعرت بخطواته قادمة باتجاهها فابتسمت أثناء تقطيعها، خاصةً عندما شعرت بأنفاسه الدافئة تلفح بشرة ظهرها فابتسمت مجددًا، طوق خصرها من خلفها حتى ألصقها بصدره، شعرت بجسدها يلامس جسده، خاصةً وأنه خرج من الحمام فقط يحيط خصره بمنشفة كبيرة وأخرى على كتفيه، تشمم عطرها بعمق ثم انحنى نحو جانب وجنتها وعنقها ناثرًا قبلاته بجرأة.

وقد انتهت عشق من التقطيع، نظفت المكان ووضعت السلطة في طبق، كل هذا ومراد على وضعه، حتى التفتت إليه وضمته من خصره مستندة برأسها على صدره، مسّد مراد على شعرها بهدوء فمدت يديها تحتضنه متجولة بهما على بشرة ظهره، تلمّست بيدها إحدى الندبات الناتجة من التعذيب الموجودة على ظهره.

بمجرد أن لمسته عشق حتى تشنّج جسده وبدأ يسحب نفسه من بين ذراعيها متعلّلًا برغبته في شرب بعض الماء، تحرك متجهًا نحو الثلاجة ليشرب، فتحرّكت خلفه متنهدة بهدوء، وقفت خلفه مباشرةً ثم احتضنته وقبّلت إحدى هذه الندبات وهمست: إنت عاجبني في كل أحوالك، وبعدين إيه حكاية الندبات دي اللي هتأثر فيك! أنا بحبك زي ما إنت وما يفرقش معايا غير إنك رجعت بالسلامة، فالتفت إليها، ضمها إليه بعشق وبعد قليل همس بنبرة لعوبة وماكرة:
سألتُ حبيبـيَ في قُبلـــةٍ
فما نعنيها بحكم الخجـل
فلازمتُ صبرىَ حتى غفا
وملتُ على خدّه بالقُبــــل
فنضّى عن الجفن ثوب الكرى
وعمـا جرى بيننا لا تســل

[أحمد شوقي]

فابتسمت على استحياء وهمست بغنج: مراد!

احتضن وجنتيها بين يديه منحنيًا مقبّلًا جبهتها بعمق ثم قال: هتاكلي معايا الأول وبعدين أكمل كل الشعر اللي عندي.

قال الأخيرة غامزًا بطرف عينه بمكر، فلم تعقب وتحركت لتجلس معه على منضدة طعام بالمطبخ، وبدأ مراد يأكل بنهمٍ شديد أما هي كانت تتابع كل حركة وسكنة يفعلها بعشقٍ شديد، ثم شردت ذلك اليوم منذ زمنٍ بعيد عندما شردت فيه قبل أن يتقدم لخطبتها...

لكن قاطع كل شيء صوت صرخة زهرة قادمة من شقتها، فانتفضت عشق وزُعر مراد، عقد حاجبيه متسائلًا: لا إله إلا الله!

- هو في إيه؟ استر يا رب!

قالتها بهلع ثم نهض كلاهما مرتديان ملابسهما ومسرعان إلى الشقة تتقدّمه عشق حتى تنبّه زهرة لوجوده معها، ما كانت لحظة حتى فتحت زهرة منهارة تصرخ بشدة، أسرعت نحوها عشق تهزها بقوة وصاحت: في إيه! قولي!

أجابت زهرة بانهيار: ما بعرف والله! فجأة مرأت جوار الحمام وسمعت صوت تقيؤ، وكان ياسر يااللي بالداخل، فتحت الباب عليه لاقيته واقع عل أرض وفي دم ما بعرف من وين.

- طب ما يمكن اتخبط واتعور وإنتِ مش واخدة بالك.

- لا لا، ما بعرف، بس قلبي انخلع فجأة.

- استهدي بالله يا حبيبتي! ووسعي الطريق وخشي استري نفسك؛ مراد رجع وجاي ورايا، هو برضو راجل وهيعرف يتصرف.

فأسرعت زهرة للداخل وبعد قليل أشارت عشق لزوجها كي يدخل فدخل وأخبرته عشق بما سمعته من زهرة، أخذ هاتف زوجته واتصل بهشام ابن عمه ثم تحرك للداخل بصحبة زهرة محاولًا تحريك ياسر من أرض الحمام، كانت ملامحه شاحبة للغاية لدرجة مائلة للإصفرار، صوت أزيز أثناء التنفس المتلاحق وكأنه يعاني من أزمة ربوية حادة، وما أن حرك جسده ليرفعه من الأرض حتى لمح قطرات من الدم تتساقط من بين شفتيه المنفرجتين أفزعت مراد.

وبعد فترة تمكن مراد مع زهرة من وضع ياسر بفراشه، فسألها: هو مريض ولا حاجة؟

أومأت زهرة قائلة: صارله فترة بتجيله نوبات ربو تنفسية وعم ياخد علاج وجلسات تنفسية، والله حكيت ما بيصير تكرر علاجك من نفسك لازم تعرض حالك على طبيب يغيرلك العلاج، لكن رح يروح ع الطبيب ولو بالغصب...

سكتت قليلًا ثم قالت: بعتذر منك دكتور، حمد لله على السلامة، منيح إنك رجعت أخيرًا.

- مفيش مشكلة كان الله في عونك.

وبعدها سُمع صوت همهمات من ياسر وقد انفرجت عيناه قليلًا فأمسكت بيديه زهرة وتساقطت دموعها بغزارة وقالت: شصارلك ياسر؟ هيك تعملها فيّ وتجاكرني! اسمع وبدون نقاش، رح نروح على طبيب ليفحصك ويكتبلك علاج جديد.

مد يده التي بدت مرتعشة ممسكًا بيدها محاولًا مجاهدة نفسه وفتح عينيه، أخرج صوتًا ضعيفًا وسط سعلاته المتكررة: زهرة... أنا بحبك.

اتسعت عينا زهرة فارغة بين شفتيها مستشعرة وجعًا شديدًا يعتصر قلبها، بينما جذب مراد ذراع عشق مومئًا لها لتخرج معه.

وبعد خروجهما كانت لا تزال زهرة على حالتها من الصدمة والبكاء الصامت حتى تحدث ياسر مجددًا بصوته الضعيف المتحشرج: زهرة، أنا بحبك، عايز أقولك، إن حياتي معاكِ، كانت أحلى حياة، وإني عشت معاكِ، أحلى سنين عمري، كان نفسي أقابلك من زمان، كان نفسي أسعدك أكتر، مع إني خايف ما كنش عرفت أسعدك...

فقاطعته زهرة مقربة منه: شو هالحكي! بالله عليك لا توجع قلبي! أنا كمان حبيتك وقضيت وياك أجمل سنين عمري، ورح تفيق وتقوم ونكمل حياتنا وحبنا، رح نضل نجاكر في بعض، ورح تضل تدللني أد ما بدك، ورح ضل أتدلل عليك أكتر وأكتر، لا تحكي هالحكي، ليش؟ ليش تحكي هيك؟ هاد مجرد دور ورح تاخد علاجك وتشفى، بكرة أول يوم العيد، ورح يجو الولدين مع الماما، رح نصلي العيد كلنا، عارف ياسر حتى مراد رجع اليوم ورح يصلي معنا بالغد وعشق رح تفرح، على فكرة عشق حامل وأنا عارفة بس رح تقولي، مؤكد حبت تخبر زوجها أول حدا، شوفت كل شي صار منيح كيف!

- زهرة...

فقاطعته واضحة يدها على فمه: ششش! بليز لا تحكي، إذا بدك تذكر أي شي يخصنا رح أحكي أنا، بلا ما تتعب حالك...

وبينما تحدثت زهرة ويدها تلامس شفتي زوجها، شعرت بشيء دافئ يُسكب على يدها، فانفضت نازعة يدها بزعر فرأت قطرات من الدماء تهبط من بين شفتيه، فصاحت زهرة بجنون: شو هاد! إيش مخبي؟ إنت مريض بشو؟!

مد يده محاولًا أخذ منديلًا، فسبقته هي ومسحت فمه، خده والدماء المتسللة نحو عنقه، وبعد قليل تحدث ياسر بضعفٍ شديد وأنفاسٍ متقطعة: آخر كشف وفحوصات قالت، إنه سرطان رئة في المرحلة التالتة، والورم وصل للكبد...

فقاطعته صائحة بهيستريا: لا تحكي هيك! أكيد خطأ تشخيص!

- لأ، كررت الفحوص، وغيرت الدكاترة، كان عندي أمل، إني آخد جرعات كيماوي ولا إشعاع بعد العيد، بس مفيش نصيب...

-لا تحكي هيك مشان الله.

- هي دي الحقيقة، خلاص، ده آخر الخط، وأكتر شيء سعيد به، إنك بكل صفاتك الحلوة والمميزة، أم ولادي، بس، بس في حاجة، في حاجة كان نفسي أقولهالك، بس ما قدرتش، كنت شايف فضولك إنك تعرفي، لكن ما قدرتش، خفت أفقدك وأخسرك، وأنا ما صدقت لاقيتك...

- مشان الله ارتاح، دكتور مراد اتصل بدكتور هشام وزمانته على وصول، خلي الحكي بعدين...

- مفيش وقت، أنا أذنبت ذنب كبير، وخنت ثقة ناس غاليين علي، بس والله من قبل ما أعرفك، وخفت أقولك تسيبيني...

- كان قلبي حاسس إنك شايل حمل كبير، لكن مافي داعي تحكي، استغفر ربك وهو رح يغفرلك، بيكفي شعورك بالذنب.

- إنتِ قلتِ مراد هنا؟

- إي، لساته راجع.

- طب ناديه أرجوكِ...

- يا حبيبي...

- ناديه بسرعة، وسلّمي على ولادي...

فانتحبت بشدة وتراجعت بضع خطوات ثم اقتربت مجددًا وضمته إليها فأسند برأسه عليها قليلًا ثم همس: مفيش وقت، نادي مراد.

أومأت متحركة جارّة قدميها بتثاقل خارجة من الحجرة، بينما مراد وعشق جالسَين بالخارج في صمت، لكن مراد شاردًا في مكانٍ وزمانٍ بعيدين، وكلمات ذلك الشيطان الرجيم ترن في أذنيه بفحيح أنفاسه اللعين...

«الاتفاق كان مع ياسر زكريا، طبعًا عارفه، ومعاه بنت عمته اللي هي مراتك سابقًا، أو لحد دلوقتي عل أقل، لأن بعد ما كتبتلها كل حاجة ما بأتش تلزمها، ولما واحد يغيب عن مراته بدون سبب واضح فمن حقها تاخد حكم من المحكمة وتبقى حرة، والله بت جنية ولا يبان عليها! وانت وقعت في شباكها بمنتهى الغباء.»

ثم تكرر إسم «ياسر زكريا» في أذنيه مرارًا مستشعرًا مشاعر الانتقام التى احتلته وسيطرت عليه نحو زوجته وياسر، وقد ظهرت براءة زوجته وأظهرت عشقها وولاءها اللانهائي له، فما مصير ياسر وقد أظهر حسن نواياه هو الآخر؟

وبينما هو على حالته المتبعثرة جاءت زهرة في حالة يُرثى لها، فانتفض مراد وعشق بدهشة وفزعة معًا، فأجابت بصوتٍ منهار: إذا بتسمح دكتور، ياسر بده يحكي معك...

فتساءل بدهشة: هو في إيه؟

فأجابت بقهر: أرجوك دكتور احكي معه ع السريع؛ ما في وقت...

قالت الأخيرة في جملة مبتورة وارتفعت شهقاتها، نهض مراد متحركًا للداخل بينما ألقت زهرة بنفسها على الأريكة، فجلست عشق جوارها تربت عليها وتسألها بقلقٍ شديد: في إيه؟

أجابتها زهرة منهارة: ياسر بيحتضر.

- يا شيخة قولي كلام غير ده! مش معقول طبعًا!

- طلع يا روحي مريض ومخبي، حكيت قلبي انخلع وطلع مو من فراغ...

بترت زهرة كلماتها مكملة انتحابها وبكت معها عشق؛ فهو ابن خالها وأخيها الذي لم تنجبه أمها.

أما مراد فقد وصل إلى حجرة النوم، وقف مترددًا لكنه حسم أمره متوكّلًا على ربه متمتمًا بشفتيه داعيًا الله، ولما دخل وجد ياسر في حالة يعرفها جيدًا، اقترب ثم جلس جواره بهدوء ملقيًا السلام بصوتٍ مسموع، حيث كان ياسر مغمض العينين وبمجرد أن سمعه فتحهما ولا زال يسعل بشدة محدثًا صوت أزيز أثناء تنفسه المتلاحق، فهمس مراد مربتًا على يده: شفاك الله وعفاك يا ياسر!

فأجابه ياسر بأنفاسه المتقطعة وصوته الضعيف: مفيش وقت، وأكيد إنت عارف ده...

- الأعمار بيد الله.

- ونعم بالله! قلت لي قبل كده، إن ربنا بيغفر كله الذنوب بمجرد التوبة، إلا ذنب أخ في حق أخوه المسلم، وأنا غلطت في حقك، وندمت، وتبت والله، لكن منتظر السماح...

هم مراد بقول شيئًا ما لكن استكمل ياسر بصوته المتحشرج: من فضلك، ما تقاطعنيش، مفيش وقت، أنا ظلمتك يا مراد، ضيعت مستقبلك إنت وبنت عمتي، عمتني غيرتي واتسلط عليّ شيطاني، وعلاء الزيني منه لله، استغل احتياجي له في ترجيع أرضي، واشترط عليّ أورطك، وملى قلبي من ناحيتك، وللأسف سمعت كلامه، لكن ندمت، روحت استسمحه واتحايل عليه يخرجك، هددني، وهد العمارة وقتل أمي، الحقيقة اللي معذباني سنين، أنا السبب في قتل أمي، أبويا الله يرحمه كان دايمًا يقول، شايف إيدك مليانة دم...

- حبيتها للدرجة دي؟

- لأ، كنت فاهم إني بحبها، وإنك السبب في بعدها عني، رغم إنها عمرها ما عاملتني غير أخ، أرجوك سامحني، خايف أقابله بالحمل ده وأنا مش أده.

- وما فكرتش ليه قبل ما تعمل الذنب ده؟ بسهولة كده ضيعت عمر وحياة ومستقبل واحد عمره ما أذاك!

- أرجوك، مش عايز زهرة تعرف.

سكت مراد هُنيهة مغمضًا عينيه متنفسًا بعمق، لا يسمع إلا أصوات توسلاته المختلطة بالسعلات المتتابعة، ثم تحدث مراد: رجلان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم جثيا (جلسا على ركبتيهما) بين يدي رب العالمين.

فقال أحدهما: يارب خذ لي مظلمتي من أخي.

فقال رب العالمين: فكيف تصنع بأخيك ولم يبقى من حسناته من شيء.

قال: يارب فليحمل عني من أوزاري.

فقال رب العالمين: ارفع بصرك فانظر في الجنان.

فقال: يارب أرى مدائن وقصورًا من ذهبٍ مكللةً باللؤلؤ، لأي نبيٍ هذا أو لأي صدّيقٍ هذا أو لأي شهيدٍ هذا؟

قال رب العالمين: هذا لمن أعطى الثمن.

فقال: يا رب ومن يملك الثمن؟

فقال رب العالمين: أنت تملكه.

فقال: بماذا؟

فقال رب العالمين: بعفوك عن أخيك.

فقال: قد عفوت.

فقال رب العالمين: فخذ بيد أخيك وادخلا الجنة.

سكت مراد هُنيهة ثم قال بهدوء: وأنا بقولك قد عفوت، روح وادخل الجنة تيمنًا بوعد وقول الله، ونحن عند ظن الله، فأنت السابق وأنا إن شاء الله بك لاحق، اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالي يصلح بين المؤمنين، من زمن طويل وأنا قررت إني أخرج من الدنيا زي ما دخلتها لا لي ولا علي، وبدعي ربي بده دائمًا، صحيح في فترة اتغيرت أحوالي، لكن الحمد لله قدرت أستجمع نفسي بفضل الله.

فهمس ياسر بسعادة بصوته الضعيف: الله يباركلك! الله يباركلك.

- يا أخي إن الله يصلح بين المؤمنين، واطمئن ولادك هم ولادي وهربيهم مع ابني ولا بنتي الجايين بعون الله، وزوجتك الكريمة هي أخت...

قالها مراد ونهض واقفًا منحنيًا نحوه مقبّلًا رأسه ثم قال: هخرج دلوقتي أنادي زوجتك، هي الأولى...

ثم رفع صوته مرددًا وهو خارجًا من الحجرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله...

ولما وصل للخارج وجد زهرة تنتحب في حضن عشق فنهضتا واقفتين على الفور فتحدث مراد: اتفضلي يا مدام زوجك عايزك...

فأسرعت مهرولة للداخل بينما جلس مجددًا وجلست جواره عشق متسائلة: في إيه؟

- لا إله إلا الله، الملك والدوام لله، كلنا بنعيش في الدنيا نركض فيها وننغمس بأشياء كثيرة، وبنأجل اللحظة دي، آخر لحظة في الحياة يا عشق، أيًا كانت أهدافنا ومرادنا لازم تساعدنا في اللحظة دي يا إما لا نلوم إلا أنفسنا.

- طول عمرك يا مراد مرادك في الخير.

- بفضل الله، وأحمد ربي على كل شيء، حتى عن وجودك في حياتي يا عشق، هنكمل مرادنا اللي اتحد لنفس المراد ونستعد للحظة الأخيرة.

- طب نعيش الأول اللي قبل اللحظة الأخيرة.

توقفت عن بكاءها فجأة وقالتها، فربت عليها قائلًا بهدوء: هنعيش إن شاء الله ونكمل الطريق الباقي مع بعض لحد ما نحقق مرادنا، ماشي يا عشقي.

- ماشي يا مرادي.

تمت🌷

أشكركم لحسن متابعتكم،
وإلى اللقاء في عمل آخر، لكم خالص تحياتي،

Noonazad 💕💓💕

Continue Reading

You'll Also Like

615K 40.8K 42
انا السَيدُ جُيون ، السَيد الذي اُئتُمِنَ عَلى حَريمِ مَولاهُ و غَضَّ عَلى بَصرِه عَنهُنَّ سِواك ~ آمنتُ بِمقولَةٍ حَللها عَقليَ قَبل القَلب { مَن خَ...
Lelice By جيمي

Historical Fiction

514K 32.6K 57
علاقتنا علاقة زمن طويل روبي اعرفكِ منذ كنتي في الثامنه لقد غبت عنكِ كثيراً هل سوف تسامحيني لغيابي اثنتا عشر عام ؟ جيون جونكوك روبي ماكبرايد
1M 52.4K 36
"كنت بمفردي طوال الوقت" "اهزم" "اتعثر" "اتألم" "دون ان ينتبه احد او يلاحض وكانت هاذه الوحده رغم وحشتها هي مصدر قوتي"
187K 10.3K 107
ترجمة فان لرواية نعمة مسؤولي السماء/ بركة مسؤولي السماء