لا تحملني خطا ما هو خطاي..لو...

By rw_suhad

1.2M 11.9K 249K

وعيونك هذه جمر، لابد ستنطفئ. فهيَّا غادر الآن. غادر وأنت مشع. غادر وأنا أبكي غادر قبل الغروب، قبل أن يحل اللي... More

المقدمة
الفصل الأول
الشخصيات
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون (الجزء الأول)
الفصل العشرون (الجزء الثاني)
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون (الجزء الأول)
الفصل السابع والثلاثون (الفصل الثاني)
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الاربعون
الفصل الحادي والاربعون
الفصل الثاني والاربعون
الفصل الثالث والاربعون
الفصل الرابع والاربعون
الفصل الخامس والأربعون (الجزء الأول)
الفصل الخامس والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل السادس والاربعون (الجزء الأول)
الفصل السادس والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل السابع والاربعون
الفصل الثامن والاربعون (الجزء الأول)
الفصل الثامن والاربعون (الجزء الثاني)
الفصل التاسع والاربعون (الجزء الأول)
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون (الجزء الأول)
الفصل الحادي والخمسون (الجزء الثاني)
النهاية

الفصل التاسع والاربعون (الجزء الثاني)

30.5K 221 2.7K
By rw_suhad



تبرق السماء بنجومها النوّارة.. لوحة هائلة تذب فيها الحياة في هذه الليلة المميزة بالنسبة لـ تاج التي قضت يومها برفقة زوجها في مخيمه الخاص.. حيثُ كان يعكس الحس الأنيق والمترف، تحيط بها مناظر من قلب البيئة الصحراوية الجميلة.. كان ملاذًا فخمًا ومثاليًا لقضاء ليلة رومانسية بطابع مختلف عن الاعتيادية. تطغى على الغرف درجات من الألوان الترابية والطبيعية ومنسوجات بتصاميم تشتهر بها منطقة الخليج العربي.
كانت اقدامها حافية تسير فو ق الرمال الذهبية بنعومة.. ترفع ثوبها "مخور امارتي" حتى يصل الى منتصف ساقيها القمرية.. يطوقهما خلخالان من الذهب.
كان ثوبها يوضح تمايل خصرها وبطنها التي بدأت قليلة الانتفاخ بطريقة ناضجة مثيرة ومغرية.
يتهاوى شعرها الاملس الثليل مع هبوب النسيم.. تتوقف للحظات وكأنها تراجع شيئًا ثم تكمل مسيرها.. كانت تفكر وتفكر في حياتها القادمة.. كل شيء بدأ في غاية الجمال والسرور.. مشرق ومبهج.
متأكدة بأنهما سيصبحان والدان مثاليان.. فهي تعرف شخصه.. أنه صارم.. عنيد في مبدئه لا يطيق الانحراف.. وإن هدوءه في القول والتفكير لأبلغ دليل على رجاحته واتزانه.. لا سيما حبه الشديد وتقديره لعائلته.. يشبه والده في هذا الجانب.. ولكنه أكثر صرامة وانضباط وهذا ما أشادت به. وهي أم لديها فائض من الحنان والدلال سيوفر اتزان وبيئة صحية لأبنائهم.
التفتت صوب المخيم.. فتراجعت عائدة.. أخبرها مسبقًا بأنه سيأخذ غفوة قبل وجبة العشاء.. قد بدأ منهك ومجهد.. انه كثير السهاد والسمر.
اخفضت نظرها ببسمة تحنانه.. حينما وضعت كفها على معدتها.. حيث كفها معانق لساعة مميزة من مجموعته الأولى والتي سيفصح عنها نهاية السنة.. كانت أول ساعة يتم صنعها من قبل علامته التجارية.. وأول معصم حواها.. فقد اهدائها إياها قبل أربعة أيام.
وبينما تطوف بنظرها تترقب هذا المكان الخرافي المفضل له.. يتعبها أحساس دمث.. لم يساورها من قبل سوى هذه الأيام.. يطوف ويجوب الفؤاد فينشرح ويحبر.
اشرقت معالمها ناتجة عن بسمة طوت على كل تعابير جاثية.. ووميض عجيب يقدح من عيونها حين ران اليها وقوفه بطوله الفارع الملفت للنواظر.. يتحدث بهاتفه.. كان مظهره عشوائي.. بثوبه الأبيض، مشمر عن ساعديه.. فاتح ازرار ياقته وأول زر من ثوبه.
أساريره المشدودة قاسية مدهشة. وجهه، الذي يعلوه شعر أسود قد خففه وحدده حتى برزت شراسة معالمه العنيدة الطاغية.. وضيء مشرق، كأنه جديد. شاربان سوادهما عميق، متهدلان بعض الشيء، يظللان فمه الأحمر الحارّ، الظافر، وكأنه جرح طبيعي جميل.
خففت من سرعة خطاها وهي في نجوة تأملها.. المحب لشخصه.
قبل بوقت.. شد على مقبض يده..  محرر ما كتمه من أنفاس ملهبة.. بشيء حز بصدره.. مما عُلم في إمكانية الوصل الى النقيب.. بسبب قبضهم والتحقيق المستمر مع الخونة الفاسدين، المتسببين في تسريب المعلومات الأمنية لجواسيسهم.. للنظم الإرهابية المنتشرة في البلاد.. عقب أن شكل هو وفريقه -ذوي الثقة، والكفاءة، والخبرة- هيكل عسكري قوي في المراقبة والترصد لأي يد غادرة.
ضيق النظر.. وهو يرفع هاتفه.. ينتظر رد الطرف الآخر.. ولم تمر ثلاثة دقائق حتى أتاه صوت احدى عاملي السفارة السعودية في دولة استراليا.. بنبرة إجلال.. واحترام: آمرني طال عمرك؟!
-وصلتك المعلومات!؟
أجاب بعلم: ايه معاليك.. اعتمد ما راح أطول...
قاطعه بصرامة القول وهو يركز في مدى البيداء الواسعة: لو ما اني معتمد عليك.. ما كنت وكلتك بها يا مقرن.. هذي المهمة شخصية جدا.. البحث الّي بتقوم به ابيه يكون سريع وسري.. وبنتائج دقيقة.. الميزانية المالية مفتوحة لك.. أي شيء تحتاجه خذه.
رفع رأسه قليلًا.. مزفر.. ويحرك أجفانه بتفكير وتثاقل: زين خالد آل مسفر.. وذياب سلطان آل جلوي.. حدد لي مكان إقامتهم.. وانقل كافة تحركاتهم.. وتأكد لي بعد من شغل ذياب.. تعمق في ادق تفاصيل حياته واعماله.. خبري ان له اعمال كثيرة بسدني.
جاءه الرد حاسم ومقدام: بمجرد ثقتك فيني.. يجعلني اكثر احتراز وكفاءة.. كل الّي طلبته راح ينفذ بالكلمة الوحدة.. أوامر ثانية معاليك!؟
-سلمت.. أنت لها قول وفعل.
أغلق جهازه الخاص.. معيده الى جيب ثوبه.. بدل سحنته ذو السلطة.. والسيادية.. الى معالم أقل حدة واستحكام.. وكأنه خلع قناع ليلبس آخر. حين استشعر بوجودها على بعد منه.. التفت ناحيتها.. متعمق النظر فيها.. وهي تتقدم صوبه وبسمة غانية بسيطة قبّلت ثغرها.
خفض جفونه لساقاها العذراوان وترنّحاته.. وكأن الأرض تمور بها لا تهجع عن سرد خطاها.. وقرع الخلخالان تزيد من عبثها.
-مساء الخير.. تو جايه.. بشوفك بعدك نايم! شلون نومتك عسى بس ريحت؟!
مدّ كفه ليسهل عليها الاقتراب منه.. فـ احتضنت كفها كفه.. رفعت اهدابها فوازته بالوقوف والنظر.
هز رأسه مستحكم كفها.. وسار بها: الحمدالله.. احسن.
مشت إلى جانبه بخطوات كلاسيكية كعارضة أزياء في استقامتها وتبختر بثقة.. كأنما هناك خيط لا مرئي يعلقها من عمودها الفقري حتى أعلى رأسها.. وكفها موثوق بكفه.. يسيران فوق السجاجيد الفاخرة.. على طول الطريق وسط الكثبان الرملية الذهبية.. وتحت السماء المزينة بمصابيح الدنيا.. والبدر في عليائه يتربع على عرشه في السماء والنجوم تحيط به.
أمر أن تمد الطاولة في الهواء الطلق.. المفتوح على شساعة السماء.. حال سيرهم جهة تلك الطاولة ذات الشكل البيضاوي.. الحاملة في وسطها زهور وشمعدان ومقبلات رفعت على قواعد ذهبية.. واطعمة بكميات قليلة، في صحون بورسلين كبيرة وثمينة.
تم تجهيز الطعام من قبل أفضل الطهاة بالنسبة لذائقته في الأكل.
بدأت غير راضية فيما تراه.. لم ترغب بعشاء مجرد زينة على طبق مضاعف لثمن الاكل.. صحون تغذي جوعك قبل أن تتذوق زادها.
تقفا نادلتان في كامل قيافتهن.. على بعد مسافة من الطاولة.. تلبية لأي امر او مساعدة.
وحين استوت ماكثة فوق الكرسي على طرف هذه الطاولة.. وقد جلس مقابلها على الطرف الآخر.
سألها: ودك بأكل معين!؟
هزت رأسها بالنفي.. وهي تتفحص الاطباق ذات المكونات الغريبة الغير اعتيادية. أشار بيده للنادلتين فابتعدتا.
حلّ صمت لثواني.. عدا صلصقة الأواني تتموج على المسامع.. بتره بقوله: بتكملين هالترم؟!
-ايه أكيد.. ليش وش تشوف؟!
أعاد آنية الماء بترفق.. ومسح فاهه بالمنديل الحريري.. فأجاب بتباطء: الّي تشوفينه.. بس لو تبين شوري اسحبي.. وجهك مصفر كلما رجعتي من الجامعة.. وعاد الاختبارات قادمة مهب مقصرة بتجهدك.. أنا أقول الجامعة مهب طايرة.. خذي وقتك الين ما تولدين.. بعدها كملي.
قالت بـ إصرار: ما ابي اتأخر في الجامعة.. يكفي الّي فاتني بعد وفاة اخوي.. باخذ هذا الترم وبوقف عقبه...
اقتطعت كلماتها حيثما شاهدت.. اهتزاز رأسه بلا رغبة من مواصلة النقاش.. وعيناه على طبقه: الّي تشوفينه سويه.. دام كل هالاصرار.. على العموم انتبهي على حملك.. ترفقي بالّي في بطنك قبل كل شيء.
كانت تتوقع رد أكثر عطاء وجود.. أن يكون أكثر تودد وولع.. ولكنه كعادته يفاجئها بحسم موقفه.. بالغموض الآسر المستفز.
عُجبت، فـ استتلت بقنوط: مشعل وش فيك الله يهديك!! انا ما قلت شيء يزعل.. كل الّي قلته ابي اكمل هالترم دام اني داومت.. وتوني في بدايات الحمل صح احس بدوخه.. بس موب لدرجة اضيع ترم.
ثم أكملت بنزعة غيرة: بعدين كل كلامك فيه اهتمام لحمودي أكثر مني.. ترفقي بالّي في بطنك.. انتبهي على حملك! ما فيه انتبهي على نفسك.. اهتمي بصحتك! كله حمودي.. كله حمودي.. حتى السواقة طلعت عيوني الين ما وافقت اتعلم...
بتر حديثها معترض، مشير بسبابته: وموب راضي.
-صح موب راضي.. ولا عمرك بترضى علي.. لو اعطيك عيوني بتطلب قلبي! هذا أنت يا مشعل ما يعجبك شيء.
هدأت الأجواء من صخب الحوار فلا صوت يعلو على أصوات الأواني.. ومرت الدقائق خالية الفواض من أي حديثٍ قد يدار.
تبصرت فيه.. فكان في سلوة عنها.. وعالم غير العالم.. زفرت أنفاسها.. متلقفة المنديل الحريري.. ومسحت فاهها.. ثم وقفت تميس لمكانه.. ورنين خلخالاها يضيف من أنثوية مشيتها المتهادية.
وضعت يديها على عوارضه.. ووجهت وجهه ناحيتها.. اخفضت رأسها قليلًا لآثمة جبينه.. قالت وهي على مقربه منه: وش فيك يا حبيبي! صاير عصبي على ايش شيء؟
تهاوت بجسدها على جسده.. فمكثت فوق فخديه.. ويدها منفرجه على صدره.. بينما الأخرى امسكت يده فجعلته يتحسس بطنها ورسمت بسمة حانية على معالمها.. فحواها بذراعه.. وأخذ انفاس من شداها.
أكملت بتناغم أكثر عذوبة.. لكنه عميق أيضًا.. والنواظر قد ازلفت على بطنها المستحكمة من قبله: عشان ولدنا لا تعصب.. موب قلت ضروري نفسياتنا ترتاح قبل لا يجي حمودي!! أنا معرف وش يشغل بالك هالايام.. ووش معصبك ومخليك ما ترقد زين!! واعرف انك منت بقايلي لو سألتك.. بس تذكر البيبي بيهون عليك كل شيء.. هالايام يا حبيبي ضروري نستغلها ونفرح وننبسط ما نترك شيء يكدر خاطرنا.. صح مشعل.. تتفق معي ان ايامنا صار لها طعم أكثر من قبل.. ما حسينا بها حتى في بدايات زواجنا!؟
أطرق برأسه وعيونه فقط تديم النظر فيها بنظرات عميقة مفكرة.. وكان واضحًا من جملها المسرودة.. أنها تتوصّل إلى ذلك، بكل عفوية، ودون تمهيد.. لشدة ما تحس وتآنس.
تابعت بحماس يتوهج من منتصف صدرها: كل المشاكل الّي مرينا فيها.. كلها مشعل كلها.. أصبحت عندي ذكرى من الماضي طويتها.. والحين أعيش واقعي ومستقبلي بكل حب وفرح.. أنا مؤمنة ايمان قاطع ان القادم مشرق وحيل.. حيل جميل.
كان يصغي إليها. تطوف على وجهه ذي التقاطيع الدقيقة، ابتسامة طفيفة من اشراقها كُل اردفت بكلمة.. فهي تعني ما تقول وتقصد.
أعاد خصلت شعرها التي سقطت على ملامحها خلف أذنها.. ثم أمسك غمازة ذقنها المحمرة.. قال: فرحانة هالكثر يا أهلي!!
أفرجت عن بسمة حتى بدت ضواحكها: ايه.. فرحانه وفرحانه وفرحانه.. وأنت مشعل منت فرحان مثلي!؟
بلل شفته وكأنه يراجع قوله الذي لم يقوله يومًا لنسائه.. كان رجل كثير المتطلبات والمعايير.. للذته وشغف رجولته.. لا لمشاعر واحاسيس، واحتياجات عاطفية.
ولكنه بدأ أكثر هدوء.. واستحكام.. وبدأت أصابعه تتحرك بخفة على بطنها: بطلب منك طلب.. ما قد طلبته من شخص.. لاني ما احتجت له حتى في الشدايد والثقال.
بلعت ريقها.. وهي ترمقه متفرسة متفحصة.. فارتعدت فريصتها: بسم الله مشعل لا تخوفني!!
تراجع بظهره بأريحية أكثر.. وبات أكثر استكنان: ما فيه شيء يخوف عشان تخافين.. مجرد طلب وابيك تنفذينه.. ان كان عندك القدرة الكافية له.
سكت لبرهة.. وعيناه قد ثبتت بتعمق في سوداويتها.. ثم واصل بعد شيء من الصمت: الأيام المقبلة شداد.. أمور متعسرة معي.. ونا ما ابي شيءٍ منك غير تدارين وضعنا.. وتقدرين الّي بينا.. لا تعصبين.. لا تعاندين.. لا تتحسسين من أي كلمة اقولها.. وان صار فيه مشكلة.. أو سوء فهم.. مرريها.. تساهلي معي يا تاج.. تساهلي لأقصى درجة.. أعرفك عصبية وما تضبطين نفسك.. بس عندي أمور كثيرة معقدة.. عشان كذا ابيك تدارين الّي بينا وموب كل شيء تزعلين منه وعليه.. أي تصرف اتصرفه معك ما يجوز لك فهو ناتج عن ضغوط عمل.. فهمتي!؟
طأطأت رأسها بفهم.. ليتابع: زين.. بس تقدرين على مزاجي!؟
عضت شفتها السفلية.. ممسكة بشحمة أذنها.. عاقده حاجبيها.. ثم أجابت: صراحة انا حيل عصبية ومقدر اتمالك نفسي.. وازعل بسرعة منك.. بس عشانك بحاول أوصل للي تبيه.
ضيق عينه: ما سبق وطلبت من يعاوني.. علميني سرك يا بنت مساعد.. وش مسويةٍ لي؟!
أجابت بسطوة وتلاعب.. وتحرك أصبع سبابتها على صدره: يقولك دعوة المظلوم مستجابه.
ضحكت فاستبانت نواجذها.. حين قرص خصرها: راعية لسان طويل وأنتِ الصادقة.
ثم أحنى رأسه بتقدير.. ممسك كفها مقبله: شكرًا.
تبسمت بحرج: العفو.
لاحقًا فقط ستسبر كم كان صادق في قوله هذا.. وكيف كان متعلق بشخصها، وهو الذي ما اعتاد ان يختبر هذا الشعور يومًا. ولكنها لا تمعن كثيرًا في ما يطرحه وما يُفضح على مرأى منها. كان لها من المباهج والسعادة ما يشلّ تفكيرها. لم يحدث أن كان أكثر تلقائية وصدقًا ممّا هو اليوم، ولا كانت أقرب مما هي هنا. لكأن الطبيعة الصحراوية وازت بينهما.. هو الآن مثلها في بساطته وعفويته.. يتقاسم معها بالتوافق الهواء النقي.. كما يتقاسم معها المشاعر والاحاسيس.

****

يبدو أنها مناسبة لأمرٍ ما! أفواج السيارات المتجمهرة في فناء المكان تعلن عن اقامة ليلة ساهرة لمناسبة عظيمة. هذا ما استبقه مما يراه.. وهو يوقف سيارته في المواقف. رغم عدم تحبذه لكشف وجوده في أراضي المملكة لسبب تهريبه.. الا أن أيامه معدودة فيها.. لا يمتلك الوقت الكافي للزيارات وإنما إتمام اعماله ثم الاغتراب الى موطنه الجديد. كان لابد من هذه الزيارة لإسكان جزء من روحه الحاملة لآثار ماضيه اللزج.
هبط من مركبته.. متخذ الجانب الاخر من المنزل طريق للوصول الى والدته.. لا يريد أي احتكاك أو اجتماع مع أي انسي.
ها هو يشق طريقه إليها رغم الخذلان والخيبات المتتالية والمتواترة والتي ساهمت بشكل أو بآخر في تكوين هذا الإنسان الذي أصبح عليه.. الا أنه عاد!
لطالما آمن بأنها تكرهه.. حين يراقب سلوكها وسلوك أمهات الغير من الأقارب والجيران.. لكم تمنى أن تعلمه أمه الحياة بدلًا من أن تعلمه الحياة كيف هي أمه!
والدته امرأة انانية، قاسية لا تجيد غيرهما، لا تفقه في الحنان شيئًا ولا تجيد في التضحيات، ولا يضن أنها حاولت مجرد المحاولة.. في تقديمه على نفسها.
ولم يبرر لها كونها عاشت طفولة بائسه يتيمة الأبوين، ولا زواجها من والده وهي بعمر صغير.. ولا كونها أحبت شخص وارتبطت بـ أخيه! كان كل ذلك غير شفيع لها.. يرفض عقله وقلبه التقبل والتعذر.
ولا يزال في قرارة نفسه متيقنا بأن والدته ليست كسائر الأمهات في أقطار العالم.. من قال إن الأمهات متماثلات؟ من قال إن كل الأمهات سواسية في التضحية والاهتمام والحنان أو حتى في مقدار الحب الذي يغدقن به على ابنائهن؟! فوالدته خير دليل ومثال.
خرجت من غرفة الضيوف وابتسامة الاغتباط تزين معالمها.. السمراء المليحة.. تلاشت الابتسامة مستبدلتها بعتب وتقريع.. حين توجهت لمكان تواجده.
كان لايزال واقف.. في تلك الغرفة الفسيحة.. يأخذ أنفاسه بتروي من الصداع الضاغط على جمجمته.
توقفت عيناه، واقعه على والدته والتي تبدو عاسفة الملامح.. اقترب منها.. ولم يقل سوء: شلونك!؟
تلقته بنظرات مشدوهة من رأسه لساسه.. فيها من الملامة والتوبيخ.. ردت وقد احتضنت يدها بالأخرى.. ناطقة بصرامة وسخط: وشلوني!! هذا الّي ربي قدرك عليه.. قاطع كل هالمسافة عشان تقول لي هالكلمة! وش جابك ذياب.. وش تبي؟!
زمّ شفاهه.. متعمق النظر فيها.. هذا هو السؤال الذي جاء باحثًا عن إجابته؟ ولم يتمكن سبر غورة، لأن يراها مرة أخرى مثل آفة انصرم، وظلت جرثومته في مختبر العواطف الحية التي تعيد للجسد روح المقاومة، جاء لـ يراها، ويدسها في حياته مرة أخرى. كان يسأل نفسه: حقًا لماذا رجعت، هل اشتقت لوجودها في حياتي؟ لا زالت تلّج بسؤالها مثل مكنة لتوقف تدويرها منذ طور.
أجاب بتباطء: جاي اشوفك.
ببسمة طفيفة متخاذلة وسمتها على تعابيرها: جاي لجل تشوفني!!!!! غايب كل هالفترة.. حتى ما اتعبت نفسك ورفعت سماعة التلفون لا أنت ولا مرتك تسألون علي!! وجاي الحين واقفي لي هالوقفه.. لا حبيت رأسي.. ولا نطقت حتى بالسلام! وتقول جاي لجل اشوفك! منت بملزوم ذياب.. ربي كتب لي نصيب امومتي في عزام ووجدان.. الله يحفظهم.
بلع ريقه بمرارة.. وكان قد كتم كل ما طفق على لسانه.. كعادتها تعلق كل أسباب فشل أمومتها عليه.. وتدفعه دفعًا بكل ما اوتيت من قوة لفطمه عنها.
منذ سابق العهد وهي تلعق على والده كل خيباتها وسوء تصرفاتها.. تتذرع بكرهها له، ومعيشته البسيطة التي لا تتناسب مع متطلباتها، وكونها صغيرة لا تفقه في الحياة الزوجية شيئًا.. دومًا كانت تبرّر قسوتها عليه في طفولته بسبب يتمها.. وكأنها تقول بشكل غير مباشر، كنت أنفس عن غضبي وألمي وقهري من خلالك، لأنك ثمرة ارتباطي الفاشل من رجل ابغضه.. هكذا! ببساطة كانت هذه الحجة، وكان هذا هو المبرر.
أخرج من جيب ثوبه محفظة نقوده.. سحب بطاقة بنكية.. ثم مدّها لها: خذيها.. واي شيء تبينه علميني عنه.
تدرجت عيناها متفرسه في سماته المائلة بشكل ملحوظ لوالده عدا حدة النظرات فهو مقتبس منها.. تلقفت ما ناولها.. واستتلت: مشكور.. ما قصرت.
وحررت ثواني صمت.. فصمتها بقولها: ادخل داخل.. احضر كتاب أختك.. اليوم كتب كتابها على ولد خالتك أحمد.. وجب عمك وضيوفه يا ذياب.. يكفي انك الوحيد الّي ما حضرت عرس اخوك.. اقلها احضر كتاب اختك.
زفر أنفاسه بتجلد.. وقد برز عزفه وسأئمه: أنا موب جاي عشان اوجّب.. انا جاي عشان اشوفك وامشي.
-بسك عاد ذياب.. محدٍ يعرفك ولا يشوفك! وترا عمك للحين زعلان منك.. ما حضرت لا عزيمتك ولا عرس اخوك.. والحين جاي بيته وفي كتاب أختك ولا حتى دخلت وباركت له!! موب عيب تدخل بيته ولا تسلم عليه وأنت جاي من سفر!؟
أردف بشراسة الحروف.. وهو يصرف بأسنانه: قلت لك مانيب جاي اشوف احد.. جاي عشانك غير كذا موب ملزوم اجامل فلان وعلان.
-فلان وعلان!! هذا عمك واخو ابوك.. في حسبته.. قدره من قدر ابوك...
بتر قولها بـ احتدام ووغر.. وهو يشد على أعصابه بتصبر.. حتى برزت عروق رقبته بجلاء ظاهر: يخسى الا هو.. محدٍ في حسبت ابوي.. ولا عاد تقارنين رجلك فيه.
انفعلت من مظهر ابنها الحانق وقوة وقوع كلامه على زوجها، ردت بانفعال لا يقل عنه: احترم نفسك.. هذا عمك الّي رباك وصرف عليك.. لولا الله ثم هو ما وصلت للي وصلته.. كل هالخير الّي بدنيتك ما جاك الا عقبه.. ليكون تحسب سفرتك لكندا والحياة الّي كنت عايشها من ورث ابوك! ابوك ما ترك لنا شيء غير الخرابة الّي يسميها بيت.. وسيارة قرمبع.. ومكتب عقار ما استفدنا منه شيء!!
قطب حاجبيه، ورمقها بنظرة قاسية: على شحم.. محدٍ وصلني للي أنا فيه غير نفسي.. أنا ضحيت بكل شيء.. بكل شيء.. بس عمرك ما راح تذكريني وتذكرين ابوي بالزينة.. ولسانك لا عاد تجيب طاريه.. يكفي ماخذاه منك!!
اهتزت نبرتها لنبرة بكاء راجف: ونا وش قلت! ما غير قلت الحقيقة الّي تنكرها من سنين!! رجلي الّي موب عاجبك ماخذاني الا عشانك وتنفيذ لوصية أخوه...
اشتدت عيناها ولجم لسانها من ضحكته المغلظة الساخرة.. كانت تقاسيمه أكثر عدوانية وشيطانية متجاسرة.. كان ممن يكتمون الغيظ ثم يوعثون فسادًا وشرًا.. وزادت صخب ضحكاته حين استرق نظرة اليها.. ثم قال بتثاقل من بين قهقهته: للحين تحسبيني متغافل عن فعولك!!
فقطاعته محتدمة: ليش وش شايفني!! شايفني ****.. عشان تقول لي هالكلام.. وتحاسبني!!...
ردّ بلهيب ضارم وحروف متأججة تندلع من لسانه كما نيران صديقة: اشوفك كل شيء سيء في حياتي! لو افقد ذاكرتي.. هم ما راح انسى كلامك لـ ابوي وهو في عز مرضه.. لا احترمتي كونه رجلك.. ولا قدرتي تعبه.. زدتي ولا قصرتي.. لو تعرفين كمية الكره الّي في قلبي عليك.. هو اضعاف كرهك وبغضك لـ ابوي.
ارتجفت اوصالها من سوداوية القول.. انقبض قلبها كما لو أن يدًا قوية تقبض عليه بشدّة وعمد.. وقد اضطربت لديها الرؤية.. وهي ترى هيئة -سلطان- تتشكل تمامًا أمامها ولكن بملامح أكثر قسوة ورهبة.. رفعت إصبع سبابتها المرتعشة تمدّها اليه.. وعيناها تلونت الى نيران حارقة، متأججة.. فقالت لاهثة: اطلع برا ولا عاد اشوفك تعتب بيتي.. حتى لو مت ما ابيك تحضر جنازتي.. روّح يا ذياب يا ولد سلطان الله لا يردك.. ولا يسامحك على كل كلمة قلتها لي.. كانك جاي تخرب علي فرحتي ببنتي! حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل.. منت محلل ولا مسامح.
هز رأسه بتوقع النتيجة.. لم يفته انها لازالت تزيحه بكل ما أمدت من استطاعة وجسارة عن نبذه.. فبات كل شيء ينقلب الى اشمئزاز، بل إلى احتقار، بل إلى كراهية ومقت. هما هكذا نار وبنزين حينما يجتمعان يزدادا اشتعالًا.
قال معيد طرف غترته للخلف.. متأهب للخروج: بخرج يمه.. بخرج موب بس من بيتك من حياتك.. مثل العادة.. بس لا تنسين تدعين علي.. ادعي بكل سوء سببته لك في حياتك.. ولا تقصرين بنقص العمر.. وقريب بتشوفين نتايج دعاويك.. حيل، حيل قريب ان شاء الله.
واثناء قطعه لخمس خطوات مبتعد عنها.. سمع صوتها من خلفه رادفه: أوقف.
التفت صوبها.. وما كان يتوقع منها!! سوى انها امدت له بالبطاقة البنكية وهي تقول بتقبيح: خذ ما ابي فلوسك.. الله يغنيني عنها وعنك.
اشتدت قبضت يده على البطاقة.. بما جال في فؤاده من سحقٍ ومحقٍ.. ومع ذلك لم ينبس بكلمة عدا انه استمر بالسير. فلم يعد الألم والحزن كما السابق يضني ويهرس دواخله.. بات مجرد خدوش سطحية.. لا تصل الى عمق الماضي تلك الطعنة النجلاء في حامضتها.. التي شوهت الروح من شدة غورها.
صمّ كل ما حوله وهو يخرج من المكان.. يتنفس بانتظام متماسك ثابت الخطى.. إستحال المساء أكثر عتمة وكأبة.. لربما الروح هي من صنعت غيهب مساءه.. كان كمن لم يرا الضياء بتة، كما لو أن يغطيه ويتخطفه الظلام الشامل كلّ مساء، كان الليل يتصبب منه وكأنه يتصبب من جرح غائر.. كان دمه الحيّ، دمه المراق أسود، الذي يرجْس حلمه المدلهم كلّ ما يلمسه.. وأعينه، الفارغة السوداء، عمياء، مطفأة من كل حياة وأمل.
بجانب السيارات.. كان يقف مع ابنه ذو الثانية عشر خريفًا.. متحدث مع أخيه غير الشقيق.. الا انه صغر ناظريه متنبه لهيئة يميزها تمامًا ويعرفها.. قادمة نحوهما.. ويبدُ أنه قادم من الشق الآخر للمنزل.. قال بإعلام: هذا ما كأنه اخوك!؟
التفت عزام بمثل مسار النظر للمهنا: ايه.. هذا ذياب.. غريبه وش جابه!!
تقدم ذياب لمكانهم فقد كانت سيارته على ذات مسار وقوفهم. واضطرب المهنا اضطراب الاشمئزاز حين رأى ابن عمه.. إذ شعر بالنفور الشديد من هذا الفاجر.
ولم يكن ذياب أقل منه نفور بل وضحت من سمات الذيب وحدة العيون ولمعانها.. ونظر إليه شزرًا.. أن شحنات من مجافاة وبغضاء قد تولدت في المكان.. وخيمت.
قال عزام بترحيب: يا هلا ومسهلا.. اسفرت وانورت.. شلونك ذياب.. وحمدالله على السلامة.
كانت حروب النظرات قائمة بينهما.. لقد تلاقا ندان متكافئان، وقرنان متعادلان.
تنبه ذياب على حركة المهنا الحقيرة.. وهو يسحب ابنه للخلف خشية عليه منه.. ولم تكن حركة استفزاز فحسب بل كانت احترازية وحذر حقيقي.
رسم بسمة جانبية للمهنا ساخرة ممتهنة.. ثم حول نظره الى أخيه: الله يسلمك.. بالمبارك يبو متعب.. السموحة كان عندي شغل ما قدرت احضر زوجك.
-معذور يا خوي.. وما قصرت.. حياك اقلط..
قاطعه وعيناه تطوف في كل الوجوه الموجودة.. وكان يرسل رسائل تهديدية بطانية للمهنا مفادها ابنه.. فنفر هذا من ذاك: الله يحيك.. مرةٍ ثانية.. ما جيت الا عشان اشوف الوالدة وتيسر.. يالله من رخصتك.
-في أمانة الله.
وحين أراد أن يمر.. اتخذ المسار الأقرب للمهنا.. وقد جعل كتفه يرتطم بكتف الاخر فصدمه.. وهو يهمس بنبرة وعيد طاغية: انتبه على الورع.
جحظت اعين المهنا ولمعت كمن يتلهب غيظه.. وصاح ناعت: اشباه الرجال.. لعنة الله عليكم.
ناوله بسمة حقيرة فيها من الخبث ما يرهب النفس.. ودخل سيارته منتشي من منظر ذاك الخسيس الذي لطالما كان يذكره بماضية الدنيس.

****

قصر خالد آل مسفر
في صالة الألعاب التابعة للقصر والتي تقع خلف فلل زوجاته وبالقرب من صالة السينما والنادي الرياضي.. تواجد خالد مع أحفاده في هذا المكان وقد حرص على استقطاع الوقت لتمضية اليوم مع أسرته مخبرًا أبنائه، بناته وزوجاته للانضمام إليه.. الغى الجميع ارتباطاته بالفعل عدا تركي الذي قد سافر منذ يومين، أما مشعل لم يصل بعد إذ أنّ الكثير من الأحداث العصيبة تتوالى في عمله.. حقائق تُكشف وبحث مستمر.. وعلى عكس هذه الاضطرابات ساد الجو العائلي الحميم في الصالة الواسعة ذات الطابع الأمريكي.. يجلس خالد متوسطًا أحفاده وفي حضنه نجد ابنة أسامة وحوله بقية الأطفال بعيدًا عن المربيات.. لم يكن تجمع مخططًا له بل كانت فرصة للجميع إذ أنهم سيحظون بوالدهم وجدهم رغم انشغاله الدائم.. تبسم على كف نجد الذي التف حول إبهامه وتحاول قضمه.. علقت سحاب باستلطاف: يسلم قلبها تبي تعضك.. ياحظك يا خالد.
تبسمت رفيف بانبساط إذ أن ابنتها هي الوحيدة التي حظيت بحضن جدها ونالت التعليقات من الجميع.. تجلس بجانب زوجها وعلى محياها ابتسامة راحة فالأمور تسير وفق ما تخطط وقريبا جدا ستنقل إلى منزلها الجديد الذي فاق توقعاتها من حيث التصميم والمساحة.. بيت سيجمعها بزوجها وابنتها.. ستسعد باستقبال ضيوفها وعزل أسامة عن عائلته قدر الإمكان، لطالما لم تحبذ احتكاكه بإخوته وأبناء أخوانه.. تحرك أسامة متناولا ابنته من والده لما اومأت سحاب له، إذ أنهم يخشون عليه من أي جهد.. قال خالد متسائلًا: وينه أخوك؟
تخطفها بحرص وقال بين قبلاته الخفيفة: جاي عقب يخلص شغله بس ما حدد متى.
تراجع بجانب زوجته التي ردت بنفور: ويع أخوك الغثيث بيجي!
رد بلا اهتمام: وش عليك منه؟
تمسكت بيد ابنتها بلطف وردت باشمئزاز واضح: يجي وش نبي فيه؟ غثيث ودمه ثقيل وما يضيف شي للجو.. ثم أكملت بابتسامة على شفتيها وضحكة ساخرة تسربت منها ولم تقمعها: الا بصراحة عشان ما اظلمه.. حريمه يضيفن نكهة للجلسة يارب يجيبهن معه.
تجاهلها أسامة بالوقوف حاملا ابنته فتغيرت تعابيرها بسخط وحرج من تصرفه وقد لفت هذا الوقوف المفاجئ أنظار البعض.. سرعان ما قالت الأميرة باستغلال للموقف: أبو نجد ياروحي تعال اجلس عندنا. كان تصرف بسيط افتعلته الأميرة بعمد قد أشعل نيران رفيف ولم تستطع إخفاء انفعالاتها.
جلس في دائرة أخواته وتهافتن على نجد بغية حملها عدا الأميرة التي تحدثت بشغف وهي توجه هاتفها صوب أسامة: وش رايك بفستان الملكة؟ يجنن صح؟
تبسم بسعادة متناولا الهاتف واسترسلت تسرد له محاولاتها في اختيار تصميم الفستان المخصص لملكتها.
انضمت هتون إليهم والتقطت حديثهما وعلقت حين تبادلت النظرات مع أسامة: ما تستحي صح؟
قهقه بعفوية.. فردّ بنفي: لا عادي حقها.
زادت ابتسامتها وهي تتعلق بذراع أخيها وتخفض صوتها: يقولون ولد خالتك حياوي يحليله.
هز رأسه بتأكيد وقال بجدية: ايه حياوي وهادي يا ميمي انا داري كل العلوم عندك بس اقولك عشان اذكرك.
التفتت صوب والدها واعتلى صوتها تحاكيه بين صخب المحيط: ابو بندر قول تم.
اكتنزت البشاشة ملامحه وأشار على أنفه بتأكيد: تم وعلى ذا الخشم وش تبغى أميرة أبوها.
قالت بخجل استضاح قليلا خاصة أن زوجات والدها وأخوانها اعاروها اهتمام: عزيمة رائد وبجاد في بيت أمي.
تأفأف عبدالإله واتكأ بشدة على العصا التي يحملها معه.. حافظ على هدوءه كيلا يثير غضب والده.. ولكنه رمق أخته نظرات حادة وكأنما يهددها لقاء جرأتها التي لم يستحسنها.. استجاب خالد لمطلبها: ابشري ومن يحصل له ضيافة أم بندر! ولا قصور في عماتك. نظر صوب العنود الهادئة وليان بجانبها.. تحدث بخفوت لبندر: علامها ليان؟ يابو مشاري ليكون بنتي مغصوبة على هالزواجه؟!
مسح وجهه بتحفظ وأرخى بحديثه كون ابنته شيخة تجلس بأحضانه: ماهيب مغصوبة اسألها.
رفع خالد كفّه مشيرا لليان بالقدوم.. تنبهت العنود فلكزت ابنتها: ناظري أبوك.
رفعت ناظريها عن هاتفها ووقفت متوجهة إلى أبيها.. تزحزح بخفة يمينًا ليترك لها متسع الجلوس بجانبه.. وأحاط ظهرها بذراعه بحنو أبوي يفيض ولم ينضب رغم تعدد أبنائه.. همس لها بصوت كله عاطفة: تشكين من شي؟
هزت رأسها بنفي وابتسامة بسيطة خضعت لرسمها ونبرة صوته تقسرها على الابتسامة.. تابع سؤاله بمغايرة: استخرتي الله في بجاد؟ قريب بنملك لك أنتِ وأختك.
نزفت بجراح غائبًا عن مرأى العينين: ايه استخرت وخلاص وافقت.
هز بندر رأسه بتأكيد: شفت شلون؟ تشيل هم يا ابوي الله يهديك بس.. يعني اختي بزوجها بالغصيبة!
ربّت على كتفها: ولو يابو مشاري محدن بيحن على خواتك أكثر مني.. أكبرهن أم عبدالعزيز اللي زوجت بنتها وانا والله باقيه بعيني بزر. التفت إلى شذى التي تتحدث إلى هتون دون انتباه لهم فهم يبعدون عنهم مسافة تذكر: حتى بنت أخوي عادها من صلبي وافكر فيها واشيل بخاطري لامن زعلها ولدي.. إلا وينه الأثول؟
سرعان ما ارتكز سياف بجلسته التي كان متكئًا فيها على أمه: معاك الأثول شخصيا.. هلا يبه سم آمر.
أكمل وصاياه لابنه وهذه المرة لم تذهب شذى منزلها إذ أن عمها لم يأذن بعد ولكن باتت الأمور ستعود نصابها بعد قبول شذى لعودة زوجها وزياراته المتكررة إلى جناحها.. تابع خالد كلماته التي ذكر فيها أخته نورة وحرصها على راحة ابنة أخيها.
وفي هذه الآونة سُمع صوت نورة التي ألقت بالتحية على الحاضرين.. همس سياف لوالده: لو إنك طاري شي عدل.
نظرت نورة إليه بشيء من الاستخفاف.. ناولها نظرة باردة: هلا بالنور كله.. تو اقول لأبوي يازين طاريها.. الواضح أن عمرك طويل يا عمه الله يجعله بس في طاعته.
حدقت إليه وإلى شيخة التي تهز رأسها كناية عن عدم إعجابها بقول ابنها.. ردت بعجز عن مجاراته: لا تهلي بي ولا أهلّي بك.. حتى أمك ناقدة عليك.. محدن يتقبلك إلا الدلخة بنتي.
حبس ضحكته وهو يعلم أنه يستطيع أن يوصلها إلى أقصى مراحل الجنون: تعالي اقعدي مب زينة لك الوقفة. وقف ليجر معصمها ويجلسها بجانبه رغم ممانعتها.. تحدثت إليه بانزعاج: ادري فيك ما تواطني وش تبي مجلسني يمك.
طبطب على ذراعها بتعابير بشوشة ماكرة.. وقال باستنكار: افا من قال ما اواطنك.....
قاطعته بلا مبالاة: أجل أنا اللي ما اواطنك.. ها وش تبي؟
ضم شفتيه كناية عن اليأس.. وراح يرقق صوته كي يستعطفها: أنا أبو تميم.. أبو حفيدك الغالي.. ليش كذا متحاملة علي.. بس تمونين يالغالية.
امتنعت عن إظهار ابتسامتها التي تلقاء ما ارتسمت على شفتيها.. وقالت بعفوية: يا وجه الله أجل كذا تخرفن بنت أخوي!
حرك حاجبيه بموافقة: أجل وش تحسبين! حنا ذيابه ما ينخاف علينا.
كشرت بملامحها: اي بالله ينخاف منكم.. اخلص يا ولد شيوخ وش عندك.
حك ذقنه بتوتر.. فتراجع عن الحديث لتجبره عمته واضعة يدها على ظهره: قول اللي بخاطرك عشان اردك.
ضحك بخفوت ثم واصل يطرح مبتغاه: بخاطري مرتي وعيالي.. وقبل لا ترديني تذكري محدن دايم بهالدنيا يمكن يجي بكرا وانا تحت التراب وش بيكون شعورك وانتي رافضة لي طلب؟ رديتي المرحوم وهو بخاطره يشوف مرته وعياله في بيتهم.
قهقهت بسخرية لما انتهى من حديثه: والمرحوم لا شاف عاقبته بيعرف ليش رفضت طلبه.
تدخلت شيخة بانزعاج: فالك ما قبلناه يا أم فيصل.. وأنت اسكت لا تفاول على نفسك.. استغفر الله العظيم.
ومرت فترة الغروب على هذا التجمع العائلي بتناغم وصخب الأطفال.. كان سرورًا يشع على المكان.. احتواء وألفة.. أُنس ومسرّة.. وغابت شمس النهار فحضر القمر المنير ليشع بنوره على الأرجاء.

****

وبينما تقود سيارتها.. كانت غارقة في مشاعرها النازفة المتألمة والمستشاطه. كُل شيئًا قد ازِف وتدنى.. لم يعد يأتيها.. لقد هجرها، وتركها كالمعلقة أو اشد قسوة.. يوفر لها كل المتطلبات بسخاء دون أن تراه.. إنه عازب عنها.. لقد استحال لها كاره نافر.. فحزنت.. وغضبت غضب المكلوم.. وأصبح ديدنها في تلك الأسابيع الفائتة تقلبًا وتبدلًا وقلقًا داخليًا.
استحوذت عليها الحيرة، واستولى الاضطراب على مشاعرها، فلهفت نفسها، وزاغ حلمها. فاشتدت قبضتها على المقود.
أنه هايم بخليلته متنعم بقربها.. معجب في كينونتها الانثوية الخصبة.. مغرم بتحركاتها.. ولفتتها المدلّة.. واستنتجت وهي تترمض على نيران فكرها.. إنه متيمًا بها، مكتفي.
على أن للنفس دومًا منفذًا من اليأس، ولكن قرارة النفس ترفض تحريرها.. لقد حُطم داخلها وبُعثر.. من بُعده غير المستساغ والآسن.. فغادرها مغادرة القالي. وجثمت تترقب عودته والأمل يتلهى صدرها. فلما أحنث حدسها، لوت نفسها على نفسها، وكان ذلك نذيرًا بتحول خطيرًا في حياتها.
تباطأت عجلات سيارتها.. مخترقة بوابة القصر المهيب.. لقد علمت من محادثات شريكتها في المجموعة -المكونة من اناث العائلة- إنها قادمة هي وزوجها لـ منزل سحاب.. لقضاء إجازة نهاية الأسبوع.. برفقة العائلة.
توجهت الى المواقف الممتلئة بالسيارات الفارهة والاغلى ثمنًا.. رُسمت بسمة جانبية غائلة.. حين وقعت عيناها على سيارة "بوغاتي تشيرون" التي تحمل لوحة مميزة بحروف " ت.. ا..ج"، ورقم "4".
حادثت نفسها بوغر: جعلها مهيب مباركة.
أوقفت السيارة.. وترجلت، تسير بخطوات عنيدة، عاتية، ومتمردة.. إنه لم يترك لها مجال.. لقد بدأ غير مكترث تمامًا بحياتهما التي تتدهور وتنهار.. حارَ متقاعس.. متخلٍ.
ما الذي حل به! لقد شغفها عشقًا.. قد أحبته لشخصه المقدام.. واهبته الساطية.. شخصه العادل.. محكم مستحكم.. لا عجب فيما كُلفت.. فهو ذو مكانة عظيمة يتمنى كل إنسان أن يحظى بقربه، ويفوز بنظرة من عينيه. ولقد أحبته ايضًا لابتعاده عن عبث أبناء الطبقة المترفة، وبالتالي لصدوفه عن التبذل والاستهتار.
وكان حبها شاملًا لـ حواسها، ومشاعرها، وأحاسيسها كلها، حتى انتهى به الأمر أخيرًا الى النظر إليه.. كـ زوج، وصديق، ومساعد، واب، واخ. لقد أضحى لها كُل شيء، كل شيء له قيمة وقدر.
فلما ظهرت الحقيقة عن سدفتها القاتمة، تلفتت في ما حولها، فلم تر شيئًا. وتلفتت ثانية حولها فما وجدت ذاك الصديق الذي تشركه في همّها.
وانطوت على نفسها، تئن وتزفر، وكأن قلبها يرزح تحت ثقل من مضض النفس والروح.
قد سبق السيف العذل في حبهما.. فبدأ أكثر قسوة.. ولم يترفق بما يعتمل بصدرها من مشاعر خُلقت له عن سائر العالمين.
دخلت الى قسم سحاب.. فلم تجد أي شخص في البهو.. ولكن أصوات النسوة تطرق على مسمعيها في الجانب الاخر.. راحت تخلع عباءتها وترتب مظهرها أمام مرآة المدخل.
مرتدية الفستان الأحمر من نوع كريب.. بحمالات رفيعة، مع ديكولتيه تكشف عن عظم القفص.. بطريقة مثيرة، مزموم في منطقة الخاصرة ثم يأخذ التوسع سمةً له.. ويحير على ساقيها.
التفتت لما رأت العاملة قادمة.. قالت وهي تحرك يدها: تعالي هينا ابيك.
اخفضت نبرة صوتها: Where is Mr. Mishaal?
‏-in his suite
أكملت بتملق: and Taj, where is she?
‏-in the guest room
هزت رأسها أثناء رفعها لحاجبها الايسر.. وبسمة خفيفة اشبعت معالمها.. ولكن كانت نوع آخر من الابتسامات.. تشابه تلك الابتسامة التي تضمر خبث ولؤم.. لربما انتقام ومجازاة.
تعجلت في دخول المصعد.. تنظر الى مظهرها المنعكس على المرآة.. بنظرة تحدي ومواجهة.. وهمست فيما بينها بنبرة قهر: يالله انك تعين.. ويالله ان تجازى.. وانصر الّي عيّا الوقت يعطيه حقه.
وأخذت تضع على عاتقه مسؤولية قلقها واضطرابها. وحين وقف المصعد للدور المطلوب.. خرجت بخطوات ثابتة لا رادع أو اختلال فيها.. فهي حين تقدم على شيء.. ولو كان مدمر ومهلك لها، ستمضي دون تراجع أو انسحاب.
وقفت أمام الجناح.. وحين شرعت بفتح الباب.. كان كُل شيء محفوف بسكينة وهدوء.. اضاءات خافتة.. رائحة البخور والعطور الفرنسية مقرونة بـ عبق العود.. ميّزت رائحة عطره من بين خليط الروائح الشذية.. كانت عيناها تجول بشَنَف ونفور.. افلتت حقيبتها فوق المدخل.. تعيد طلاء شفاهها.. وحين انتهت من تفحص خلقتها.. أخذت اقدامها الى غرفة النوم ببابها المسيف.. أكملت ردّه.. ودخلت كانت خالية الا بصوت انهمار الماء الصادر من الحمام.. يبدو أنه يستحم.. هذا ما وردها.
راحت تتمخطر أمام المرآة تزيد من تسريح شعرها جاعلته يرتدّ للخلف ليبرز جمال نحرها الصافي.
شخصت البصر في مقتنياته الرجولية ممتزجة بمقتنيات انثوية راقية رقيقة.. واخذت عيناها متنبهة على انعكاس المرآة للأريكة الفردية التي تحمل على ذراعها ثوبه يعلو فستان حريري خربزي متدلي بنعومة.
شبّ شرر في منتصف الصدر يُنبأ بحريق جاحف.. مجتاح لكل ما فيها.. رغم طبيعية ما تراه.. وما توقعت أن تجده.. ولكن وقعه أشد وطاءة مما تتوقع دون أن تبصره.
أخذت انفاس عميقة، تتجرعها بإسكان حفيظتها النافرة الوغرة.. التفتت مباشرة إثر سماعها لخطوات قادمة.. تبسمت تدس مشاعر الغضب والحنق.. حين تلاقت العين بالعين.. فتسمرتا.. ببريق يخالف بريق!!
كان عاري الصدر.. يلتف حول جزءه السفلي منشفة الاستحمام.. وبيده أخرى صغيرة يجفف بها شعره. كانت ترنو إليه، وتعجب لقده الممشوق، وبنيته القوية، ونظرته الواثقة النافذة. 
أسرعت بقولها المنمق والذي اعتادت ان تردفه بطريقة لا تتماثل في غيرها.. بينما كانت تتقدم ناحيته بأقدام متمايلة بشيء من الاختيال والسمو: مسا الخير والنوير.. حيّ من شافك يا نور العين.. وش سالفتك يا ولد خالد!.. هو كل مرة بركض وراك من مكان لـ مكان لجل اشوفك! هذا هو لا قالوا "تدلل ولك بأمر الهوى شافع عندي".. آثاريك تعرف بأنه عقاب بنت الدماح هو غيابك عنها! وفوق ذا تزيد قسوة وتجبر ولا تبالي ابد!!
ولم يفتها احتداد عيناه فيها.. وما حوم من انذار ووعيد.. لقد هاله منها استهتارها بما وضع من جذم وفصم.. لحياتين متوازيتين.. منذُ قرّر أن يجمع بين امرأتين.. أقضى في أن يعطي كل شيء وقته وحقه.. ليخلق سعادة ترضي غروره وتحرك أمواج حياته الراكدة.
وزادت اقطرار.. مما فطنت على تفاحة آدم المتهيجة من احمرار قربها.. لذا تأملته.. بأنفاس أواره، أوامه.. ولم تتخاذل بإلقاء نظرة بنظرة.. كلمة بكلمة، الشر بالشر والبادي اظلم.
سمعت فحيح النبرة الساخطة المنددة والمحذرة.. وقد وضح على امائره الساطية الهايجة: أنتِ وش ما توبين! ناويه على خراب بيتك.. تبيني ارميها عليك.. لجل تعرفيني شلون تلزمين مكانك وحدودك الّي وضعتها لك!! اطلعي دام النفس للحين صابرة ومتجلدة عليك.. اطلعي!
لمحت بريقه الذي تعرفه جيدًا.. وتعلم ما يعني بريقه حينما يبرق! ترغب بقهره وإغضابه كما يفعل بها.. رغم ما أغدقته وأنالته ومنحته.. باستطابة منها لا رغمًا عنها.. ولم تندم على ما أعطت وما وهبت.. مثلها يكرم بلا إفضال وإرفاد.
ولم يفصل بينهما سوى خطوة.. قطعتها باقترابها.. وهي تقول بنبرة خافضة ولكنها حادة شرسة: أي بالله.. وضعت لي مكان وحدود.. ومقادم رجولي ما توطئ مكان مهب لي.. لكني مكرهة ومضطرة عشان حضرتك منت تارك لي سبيل.. ممكن تعلمني يا رجلي الفاضل وين هالمكان الّي يناسبك عشان أقدر اتفاهم فيه وياك!!
-اطلعي.
بكل برود ونزق ذكرها كما لو أن النقاش قد حسم وانتهى عند هذا الحدّ.
ونعق البوم في أعماقها إشعار بحلول الطامة الطارقة. واستلتها غيرتها من كل سلوان واصطبار، وأفعمتها بالشراسة والغيظ.. واستطردت بتهجم: حسبي عليك.. كنك بايع وقاطع الوصال وترمي السبايب علي!! والله ما شفت جحودٍ مثل ما شفته فيك.. أجل أنا تقول لي اطلعي! أنا أحلام يا مشعل.. أحلام مهيب حيّ الله مره!
حددت النظر فيه.. فوضحت رسمة عينها الباسلة الموروثة من سلالة عُرفت بقوة النظرة الجسورة.. وأكملت بنبرة اهتزت مخارجها لبحة الحزن الذي غشاها ولكنها غلّظت القول حتى لا تظهر هزائمها: هذي المرة الثانية الّي تتخلى فيها عني.. بس هالمرة عشان وشو..
بزر!! بزر ما تعرف تهرج بكلمتين على بعضها!! افاااا ما هقيتها منك ونا الّي عادتك فوق فوق!!!! -ذكرتها بطفيف بسمة ساخرة، مشمئزة-
-هالبزر غدت مرتي، وام ولدي.. ومهيب أي مره يا أحلام.. ولا عاد تطرينها بالشينة.. عُلم.
ماج كُل ما فيها.. وهاج كما عاصفة عاتية ضارية.. كان يتحدث كمن يوضح لها حقيقة هذه الفتاة التي تنعتها.. فهو واقع لا مرأى منه.. كانت كلماته تصلها كما سكاكين تمزق احشاءها بلا حولٍ لها ولا قوة.
ولكنها بلعت ما تكور على لسانها الثائر المنفعل.. مستبدله بنبرة متهكمة مستصغرة.. وأصبع سبابتها يتحرك على منتصف صدره: كل هذا عشان البيبي!! اويلي عليك يا حبيبي.. وش بلاك يا مشعل.. ترا كل مره تقدر تحمل.. الشطارة عليك.
افلتت بسمة مائعة.. حين قبض على ساعدها باشتداد.. وتوازى النظر.. وامتزج النفس بالنفس.. رد مؤكد: موب أي مرة تولد نسل طيب اصيل.. وهالحين توكلي.. ولا اشوفك تعتبين مكان مهب لك.. الزمي حدودك لجل نفسك.
وعلى كل ما قاله واغضبها، الا أنها تداركت ما ستقوله.. وردت بزمهريره تنافي لهبان تشتعل داخلها.. لقد حرصت ألا يقطن إلى ما تضمره لكي لا تفضح أمر انفعالها: دامه منك فهو طيب اصيل اعتمد يبو محمد.. لا تتأخر علي.. انتظرك في البيت.. عسى باقي مذّكر دربه.. ان نسيت أدلك.. بالإذن اشوفك على خير.
انسحبت بمرارة سحيقة.. وألم وشقاء.. فالنفس البشرية لا تتحمل أكثر من طاقتها. وكبكبت في كنف الحيرة ساعة تأكد لها ما شاهدته وما سمعته.. وعلمت أن المطلوب منها أن تنفصل عنه.. وتُطلق سراحها وتوهب ذاتها كامل حريتها.
وحين خرجت من الجناح تسير في الممر.. مستغرقة الفكر، أنها تتألم ألمًا شديدًا لم تذق علقمًا بهذه المرارة كما الآن.. كان صادرًا من ألمٍ دفين يدمي قلبها.. اخرجها من نجوتها الكئيبة.. صوت ضحكات أنثوية يبدو انها تحادث احداهم على الهاتف.. يرافقها نقر نعال.
توسع الحدق بـ ذحلٍ ولم تأخذ وقت مديد.. وهي تهمّ متراجعة من حيثُ جاءت، مُعجلة.. دخلت الى الجناح تبعد شعرها عن نحرها.. وتزيد من فتحت ثوبها المسعور حول نهديها.
وضعت حقيبة يدها فوق المدخل، مخرجة طلاء شفاهها تاركته ظاهرًا.. تناولت عطرها تنشر رداده بغزارة حتى امتزج مع مركبات الهواء.. معيدته في الحقيبة.
دلفت الى غرفة النوم.. فعلمت بديهيًا بتواجده في حجرة الملابس.. تابعت في مشيها بوعيد.
كان يرتدي بنطال بلون "البيج" مناولها ظهره.. منشغل بتفحص ركن السترات.. تبسمت مفرجة كفيها على ظهره القويم العاري.. التفت برأسه.. فعقد حاجبيه.. ولاح على ناظريها اهتياجه وحنقه.. تأوهت بألم حين امسك معصمها باشتداد.. مفلت نبرة ممتعضة وساخطة: وش جابك! موب قلت لك لا عاد اشوفك في مكان مهب لك!!
عضت طرف شفتها بوجع مما ينال معصمها من ألم.. ردت بتغنج متألم: جابني الشوق.
أطلقت تأوهات متقطعة حين جرها خلفه.. ولكنها سحبت يدها تتلمس مكان قبضته.. لما وصلا لغرفة النوم.
رفع إصبع سبابته بأمر نافذ: اذلفي.
هزت رأسها بتفهم.. بينما كانت تترقب دخول الأخرى.. قالت بمجاراة.. وهي تقترب منه.. ويدها تتلمس كتفه: ابشر بذلف.. بس تعوّد بيتك!
اخذت انفاس عميقه ثم زفرتها في ذات اللحظة حين تناهى لها خطوات قادمة.. وعلى حين غرة رفعت ذاتها.. واستولت كفيها على عوارضه.. لتمنح شفتاه قبلة عميقة بمكيدة دسيسة.
....
قبل بوقت
خرجت من الصالون المتواجد فيه بعض من نساء القصر، حين رنّت صديقتها مبدية اعجابها بالعزيمة، التي اقامتها تاج لهن.. في احدى أرقى المطاعم الموجودة في محمية الرياض الصحراوية، لتناول وجبة العشاء في الهواء الطلق.
تشعر هذه الأيام بسعادة لا مثيل لها.. تحلق في سماء حياتها. كانت أفكارها شبيهة بأحلام جميلة عذبة، وكأن الدنيا كانت تتمخض لها عن سعادة لم تسبر لها غورًا من قبل.
توجهت مباشرة ناحية جناحها.. بعد أن أغلقت هاتفها.. ولا تزال الابتسامة معلقة على فاهها.. تضيف حُسنًا على حسنٍ.
توقفت حركة أقدامها أمام ما يحمله المدخل من أغراض ليست لها.. وتنسمت رائحة عطر انثوي -لا تمتلكه- يخالط مكان إقامتها.. فاستحالت معالمها بلمح البصر.. وتلاشت الابتسامة الى تخاذل ونائبة.. وخامرها شعور سام مقيت.. كمن يرجع الى منزله فيلقى الباب موصدًا محكم الرّتاج.
بلعت ريقها بصعوبة.. وأحست للتو بشيء يضغط على فؤادها من التفجع.. واستحوذت عليها فكرة المبارزة.. فسارت رغم الرجفة التي هزت مواطئها.. وخفقان قلبها من وقع المشهد على فؤادها الحساس.
ثوت على عتبت الباب.. يبدو أنها الحقيقة التي لا مراء فيها.. فيا لوطأة ما رأته! وثار شجنها وتلعج حزنها.. لكن الجمود غلب هتّان العيون.. فساحت بداخلها منهمرة كفيضان غير رحيم.. مهلك لكل ثابت ولازب.
وﻗﻔت حياتها كلها ﻓﻰ هذه اللحظة.. اسودت الدنيا في عينيها، وغام نظرها، واقشعر جسدها. ﻣن شدة ارتباكها وما حل عليها من جرح كامد.. مرّت جميع اﻟذﻛرﯾﺎت أمام ﻋينيها.. ايعقل ان ينتهي ما بينهما بهذه الطريقة!!
هي الحزن الذي يمتد كالسماء بلا نهاية.. هي المطعون في الحشايا.. هي المكسورة في حبها، المنتفضة الثائرة.. المعذبة، المتألمة، ونار الجرح في عمقها.. يلهب دواخلها وقلبها.
ودوى صوت حطام قلبها المرهف.. وارتفعت يدها تكتم شهقة قد تنسل بلوعة.. تراجعت اقدامها لا اراديًا.. منسحبة بهدوء.. دون أن تثير أي شيء أو يلاحظا وجودها.. كنسمة عبرت وارتحلت.. لا ترغب بفضح ما اعملها.. وتتمالك صوابها فلا ترخي العنان لانكسارها وألمها، أمام ضرتها.
فهل تتكلم؟ وما جدوى الكلام؟ ما فائدته؟ لقد انقضى كل شيء، ونفذ المقدور، وغدر بها الدهر في موطن الحساسية من حياتها!
ومضت خارجة من الجناح بأكمله.. تجر غنائم صبرها وتجلدها.. لقد كرهت كل شيء.. كل شيء في هذه اللحظة.. ما عادت تشعر بذاتها وهي تتحرك بعجل مفرط.. كما لو قوى غاشمة تحركها.. كانت في حالة ذهول وصدمة.. لا ترغب برؤية أي كائن.
كانت تتنهد من كبدٍ وحرى.. وترجف أوصالها ولا تشعر بها.. وتعض شفتها حتى دمت.. واستحلت بالنوى، هزة جاعلته يدوي دوى.. وكفها على هذا الجزء النابض.. مما يسكنه من حزن فظيع.. وألم قويم.. من صور في قعره يصبغ مرآها النجيع.
سريعًا ما انسلت أحلام عنه.. وكأنها لا ترغب بـ اثارة كارثة.. والقت نظرة عليه.. فكان في معزلٍ تمامًا عن أي مشاعر قد يوضحها.. كان كل حواسه جامدة من قبلها.
رجف جدعها رغم ثبوت قامتها.. حين امسكها من ذراعها.. همس بفحيح غاضب مزلزل لكيانها وهي تشاهد اشتداد المعالم.. ودجانة العيون الكحلاء: اطلعي من هينا.. ولا عاد ابي اشوفك.. توصلين الدمام بالسلامة...
والتمعت عيناها بذهول وصدمة خذلان.. قاطعت بدهشة عاتبة: بس أنا...
تعالى صوته بسخط وهو يفلت ذراعها باشمئزاز.. واضع إصبع سبابته على فاهها بإسكات: أنتِ وش!! وش أنتِ هالحركات ما تصدر الا من وحده مهيب محترمة.. خسيسة.. وكلمتي ما تتثنى وأنت ادرى.. علمتك تحترمين المكان وراعيته.. لكنك تحومين على خراب بيتك.. اطلعي والله معك.
وهذه المرة لم تكن نظرته جامدة، بل انطوت على شيء يفوق الجمود والبرود، شيء يتعداهما ويبذهما، انطوت على كراهية انسان لآخر، كراهية منشؤها الاضطهاد والإسراف في الاضطهاد... بل منشؤها التنكيل بالمشاعر والأحاسيس.
ورأت عينيه، رأت ما انبثق منهما، فالتاعت وارتاعت؛ وفهمت أن الحظّ ولى إلى غير رجعةٍ، وأن الحب مات، ولن يبعث في قلبه مرة أخرى.
وأخذ صدرها يعلو ويهبط مما كسبته.. وهزت رأسها بثبات وبنبرة حرداء ناقمة: تبيها من الله يا مشعل.. على الشرقية والحافظ الله.
فاستدارت خارجة.. وقد تأجم ألم روحها.. وتفاقم حتى كادت أن تهوى الا انها تمالكت نفسها.. وتروضها.. وقرأت في وجهه شيئًا خطيرًا محفورًا.. حتى شعرت بالرابطة الوثيقة تنحل عُراها، وبالعلاقة الوطيدة تنقطع حلقاتها.. فهاجت كوامن حزنها وماجت.
....
ومرت الساعة تلو الأخرى.. وهو في معزله بحجرة مكتبه.. منكبًا على عمله.. أخذ انفاس عميقه متراجع بظهره للخلف يمسح معالمه بجهد واضح.. أخذ هاتفه متصل على هاتفها.. يمسح طرف فاهه.. عقد حاجبيه من اغلاق هاتفها.. حاول ان يتصل على جهازها الأخر ولكن كما الاول -مغلق-.. زمّ شفته بتصبر.. وما هي الا ثواني حتى اتاه صوت الخادمة.
قال:where is the Taj?
‏Miss has gone ..Mr. Mashal-
رفع حاجبه.. مصغر عيناه بتركيز: Where did she go?
‏-I don't know but she was in a hurry
أغلق هاتفه.. ونهض خارج من الجناح على عجل.. مستقل المصعد ومحاولات بائسة لردها على الاتصال بجميع أجهزتها.. اشتدت معالمه أكثر حين لم يحصل على إجابة شفيعة تخفف من هواجسه.. زمّ شفاهه متصل على الحارس.. وحين أتاه خبر مغادرة سيارة "البوغاتي" القصر بلا سابق انذار منها.. أو اعلامها بذهابها.. وخاصة أنها بدأت في أخذ دروس لتعليم القيادة الأيام الفائتة.. رغم رفضه بسبب حملها.. الا أنها أصرت على ذلك. لربما قدرها اوحى لها بضرورية التعلم. دائمًا ما كان يفكر في ما يتواجد داخل عقلها. دماغها، وكل تلك التلافيف وكذلك الافكار التي تسري فيها بسرعة البرق.
ولم يأخذ وقتًا طويلًا في اكتشاف أسبابها.. فقد علم بديهيًا برؤيتها لكل ما حصل. أغمض عيناه مرفقها بتنهيدة مبتئسه، حردانة.. لعن أحلام وتماديها.. لقد تفاقم الغضب يسيل من مسامه.. ويشد على قبضة يده.. خرج بخطوات سريعة من القسم بأكمله.. وقد كانت سيارته القديمة والتي دائمًا ما تكون مصفوفه في مواقف منزل والده.. جاهزة أمامه.. قد قام الحارس بجلبها كما طلب منه.
استقلها.. وكل حذر واحتراس قد صبّ عليها على زوجهِ وابنه الراقد في احشائها.. تنقل بين مكالمات عديدة اجراها مع الحراس والخدم في منزلاهما.. ولا أثر لها.. راح يستشف بطريقة استخباراتية مع بنو عمها.. في أسئلة قد وضعت مبهمة مدسوسة في كلامه.. لا توضح المعنى الحقيقي لاتصاله.. ولكنه حصل على نتائج سلبية عن مكان تواجدها.
ضرب على المقود بغضب عارم.. فقد صبره وتجلده.. وهو يجول في شوارع الرياض بلا هوادة.. كل ما به يموج ويهيج.. لقد اختفت، تبخرت، توارت.. مُحي كل أثر لها.
زاد ضربه على المقود وبدأت عيناه تشدد احمرار.. ومعالمه تحتد بغضب متلهب، ساخط.. وهتف متأجمًا محتدمًا شاتم بعالي الصوت.

****

رائحة الردى تعبر هذا الفناء المنار بالكامل، كما لو انها ليلة فرح.. لا أحد يشتمّها غيره.. طبول الموت تنقر لحن الفراق.. لا أحد يسمعها عداه..
لون الحياة أسود مشع، ومعناها الوحيد الموت.. لا أحد يراه سواه!
أحس بخدر يحبو في عقله وقلبه قبل بدنه.. ران اليه.. والدته تبكي بكاءً مريرًا وتنهار، أخوته.. يرى المشهد كأنه يشاهده فيلمًا مكررًا، يراه بوضوح جلي.
يكمن السر في كيفية الموت.
منذُ الازل، كان السر يكمن دومًا في كيفية الموت.
ها قد جاءت اللحظة الحاسمة، الضربة القاضية، إنها النهاية بلا شك.. وسط المقابر رأى قبره هناك مفتوحًا من بعيد.. سكنه، وملاذه الجديد. وهذه الافكار نابعه عن حدس ضليع منذُ ايام.
اخذ انفاس عميقة ولربما اخيرة.. رفع ذلك الجهاز الذي بحجم حبة البازلاء بالقرب من فاهه.. زم شفتيه بثبوت، ثم تفوه بنبرة نقية ثابتة رغم انخفاض درجتها إلا إنها تشعرك بأنها راضية مرضية.. مسلمة وقانعة بمصيرها من شدة قوة مخارجها المقدامة المؤمنة: هذا التسجيل الأخير من النقيب الحسن بن زيد الدماح.. هذا يومي وحان موعده.. وإن ربي كتب لي شهادة في سبيله.. انهيت المهمة المطلوبة بإذن الله تكون على أكمل وجه ولا ينقصها الا سحقكم لـ أعداء الدين والوطن..  كل شيء مثبت في الشريحة الموجودة داخل عقيق خاتمي.. بلغوا أمي واهلي اني مت موتة الشهداء والشرفاء لحماية وطني.. وكلي فخر واعتزاز بأن روحي ودمي فداه.. فلا يبكون ويحزنون بل يعتزون ويدعون لي بالمغفرة والرحمة.. ويخرجون الصدقات باسمي.. اطلب من معاليكم ان تدفنوني في مقبرة ***** بالدمام.. قريب من قبر والدي رحمة الله عليه ويرحمني إذا صرت إلى ما صار إليه. أنهى وصيته القصيرة بنبرة انخفضت تدرجيًا.. وعزف بشجن اوتاره في كلمات النشيد الوطني الذي ردده "سارعي للمجد والعلياء" بين حشرة الانفاس وضيقة صدره من ويل الموت على يدي سطام.. وآهٍ من جحيم يسعر على أي عدو يخالف هذا الطاغية.. فهو لا يهرب من الموت بل يرجو الهروب من سعير سطام وبغيه.
اسقط الجهاز أسفل موطئة، مهشمه الى فتات.. ثم تناول مخلّفاته الى القمامة.. يمحي بذلك أي أثر قد يجلب الشبهة.
اعدل ترتيب لباسه.. ينظر بتفحص لأمائره يدرسها ويرهبها من ان تخشى المنية..  لقد أزفة الآزفة فليس لها من رادع وحائر سوى الرب.
وصله صوت من جهاز التحكم للحرس: 216.. عليك التواجد في الجانب الآخر من القصر.. أسرع.
كتم الشهادة الملازمة للسانه.. فخطى خطوات للخروج واثناء فتحه للباب.. كان هناك سبعة من الحرس المسلحين بالكامل.. ذوي البنية الضخمة.. يرفعون السلاح الكاتم للصوت.. صوبه.. في كل جزء قد ينزع الروح من جسده.
....
بالأعلى
تهبط الدرجات في عجلة، بقميص نومها الأبيض.. وشعرها المتهادي بعشوائية يغطي كتفيها.. حافية القدمين.. كل شيء يوحي بأنها خرجت من جحيم حجزها في الجناح الذي أصبح منفاها.. ومكان سجنها.
كانت تسمع بوضوح صوت خطى الخادمة خلفها وهي تركض. تُريد ارجاعها حيثُ كانت.. فقد ماكرتها.. لتستطيع البزوغ.
اندفعت مباشرة للجهة المغايرة.. تنظر وراءها ثم تزيد من سرعة أقدامها.. ناحية الباب الخلفي للمبنى.. عبرت الممر الطويل الذي يخرج للفناء الخلفي.. وحين دفعت البوابة بكلتا يديها.. أطلقت شهقة مفزوعة مدهوشة قد التقطتها الأذان.. توسعت عيناها من كثرة الأسلحة المصوبة نحوها.. تراجعت للخلف بخطوتين.. وعيناها متوسعة بذهول وارتياع.. من الحشد الواثب أمامها، وتلف حول أذرعهم.. الشارة الحمراء -تابعون لـ "رشاش"-...
....
تعانق السلاسل معصميه، وساقيه.. موثوقة بإحكام حولهما.. يسير في البهو.. مخفور بسبعة من الجنود عظيمي البنية.. كحاجز منيع.
نداء الموت حل.. يشق العروق يهز المشاش.. يثور الدماء.. ويرهب الروح. شعر وهو يقاد برهبة هذا الموقف فجأة إلى ذهنه.. كان قلبه يخفق بقوة.. وريقه قد نشف.. واشتدت عروقه فبرزت زرقتها.. رغم ما يسوده ويلاذعه.. الا أن رأسه باسق.. لا ينحني أو يخنع.. جامد التعابير، مستحكم بها.. يروّي النفس الجزوعة.. بما تيسر له من الاذكار.
بلع ريقه بصعوبة.. وباتت الرعشة تتفشى على كامل بدنه.. برهبة الموقف وبشاعته.. وهو يغوص في ذلك الممشى الضيق والمظلم، تحيط به من الجهتين جدران عالية.. إنه بمثابة مكان منعزل ملائم وممتاز لارتكاب جرائم القتل والتعذيب.
راح النفق يضيق عليهم، ما اضطره إلى تباطئ سرعته في التقدم. كان يشعر بصعوبة في التنفس وفتور في كامل جسده.. وما أن انعطف الحائط يسارًا حتى انفتح النفق على فجوة دائرية. والغريب في الأمر كان ذاك النور الخافت هناك. فإذا بـ باب خشبي ضخم.. على نهايته.
احتدت عيناه بلهيب تعشعش في كُل خلية من خلاياه.. فبقيت تبرق وترعد.. وتتهيء لما سيقام عليها.. اخترق الباب فإذا بـ صالون فسيح يعاكس الطريق المؤدي اليه.. وكأنه قصر افراح مصغر. كما لو أن هناء واجتذال ترافق سطام في هذا المكان.. كُلما أقيمت عقوبة تأدبيه.
سطع سُعار من النواظر وهو يضيقها على منهم أمامه.. ويبعدون عنه مسافة تذكر.. عبد الملك، سطام، مجهول!!
ترقبه بحدة النواظر المتفحصة.. قد كشف الستار عنه.. وكأنهم يعرضون له جميع اوراقهم.. لأن مصيره قد بانَ.. وعرفَ. ها هو يجلس أمامه بلا تعابير.. رجل في عقده الثالث.. بملامح منمقة ولكنها وحشية لئيمة.. تعطيك انطباع من يرتكب الفحشاء والمنكر.. بصمت رهيب.. ومخيف.
وجه انظاره الى سطام.. الذي قام من مكانه.. يسير ناحيته.. بينما أسرع الحرس بجره ليختصروا المسافة على سيدهم.
قال وهو يقف أمامه ببسمة نزقة، وعيناه تقلبه باستحقار: وش وعدوك فيه! لجل تقط نفسك للموت يا خبل الخبول!  ترقية.. ولا فلوس.. ولا شارع باسمك!!
اعتلى صوته بغضب داوي على المسامع.. وهو يشد على ياقة الحسن بوغر وسخط: ما علموك منهو أبو ماجد.. منهو ال فياض.. لجل تطق الصدر وتنفذ مهمة مهب على مقاسك ولا على مستوى رتبتك.. يالرخمه! تحسب نفسك ذكي.. بتمشي علينا حركاتك! ما شفت مصير رجالكم وش يصير فيهم لـ عتبوا مواقعنا! ننسفهم نسف.. ونرميهم رمية الكلاب الجربا.
وإذ ذاك ردّ بخبث مقصود، ما يزال لا يملك شيء.. فما الخوف مما سيخسره، هادئًا ولكنه ساخرًا: الرخمه وصل للّي ينهيكم يالحثاله!
وأحس الحسن ذراعيه مسمرتين على جنبيه، وميز قبضة سطام الضخمة ترسم قوس دائري في الهواء، وحاول أن يتخلص، ولكن القبضة أدركته في اعلى الوجنة. وانفجرت قنبلة في رأسه فامتلأ فمه بالدم وبعظام صغيرة قاسية. وفهم أنها كانت اسنانه وأحس جانب رأسه ينتفخ كطوق من مطاط ينفخ بمكبس. وكانت ساقاه مرتخيتين. ولو لم يتواجدا الرجلان لسقط.. من قوة اللكمة وشدة السلاسل. ولكنه كان ما يزال مالكًا وعيه.
رفع عيناه للأخر وبسمة متشفية شقت محياه.. فبدأ الاخر له مغتاظ ومهتاج.. كما لو أن كلماته قد اوقعت صداها، جعلته يفكر باحتراس.
رفع سطام كفه بسلاسة مستحكم عنق الحسن المثبت من قبل الحرس وكأنهم جدار يصلبون جسده.. ويشد بنفود حتى برزت عروق رقبة الحسن من استفحال قبضته.. صرخ بعالي الصوت: اجل خلهم ينفعونك يالسفيه.. هالّي شاد الظهر بهم.. رموك رمية بنت كلب.. ما عليهم منكم جالسين مريحين خلف المكاتب.. ما يسمعون الا سمعًا وطاعة.. وأنتم تفدون بأرواحكم.. وما ترجعون من عندنا!! يا جثث هامدة أو فريسة لـ هالكلاب! صدق ان أهل العقول في نعمة.
قبض الحارس من ذقنه موجه رأسه جهة الكلاب السوداء بعددها الست.. والمستحكمة من قبل ثلاثة رجال.. موجودة نهاية الغرفة.
أكمل بهمس فحيح قرب أذنه: ينتظرون عشاهم.. الخير كثير. ضرب على كتف الحسن.
وهو يتراجع لمقعده.. ويعود جالس.. ثم أكمل بنبرة احتقار متمرسة بسخرية وانتقام.. وهو يضع رجل فوق الأخرى: تبي توصلنا وحنا شبكنا الحكومة يالدلخ! ثور أنت تبي تلعب علينا وحنا لاعبين على رئيسك!! طلعتم كلكم هطوف.. واحدٍ معرسين على شقيقته.. والثاني يبي القرب منّا!!
زمجر بضحكة فيها خسة واستخفاف وطنز.. وأكمل مشير الى ذياب الجامد: اعرفك بنسيب معالي اللواء.. رشاش.
صدمة شلت تركيزه.. وعيناه قد توجهت مباشرة صوب الاخر.. وكلمات غزل تتكرر عليه "حتى أنت نسيب اللواء!" ضاق عليه النفس، والدنيا بما رحبت.. كان تغير وجهه قد بلغ الحدة ما جعل عرق جبهته يبرز.. كان يبدو وكأنه يشع خطرًا. امتقعت عيناه وفقد وجهه ألوانه.. صخب زئير بباطنه.. من غضب مغلول تولد وانرسم على مأثره.
صدح صوته بنبرة متجلدة كاتمة الغيظ.. وقد استشعر بثقل سحيق على روحه قبل الجسد: كلها مسألة وقت ونقطف رأسك وراس الفروخ الّي حولك..
رد عبدالملك باستهجان: يا كثر الهياط.. أقول اترك عنك.. كلام منت بقده لا تقوله.. ناظر نفسك وينك فيه! فتح عيونك زين يا سيادة النقيب وبتعرف منهو ربح ومنهو خسر.. روحك رخيصة حيل.. حيل رخيصة.. ما تسوى ثمن بالنسبة لربعك.. لأنك مجرد عبد مأمور تحت خدمة اسيادك يالسلقة.
احتدت نواظر النقيب في المتحدث.. محذق بشيء حطه في نفسه.. واشتدت معالمه بنشوة عارمة بما اسره.. لم تتناهى تلك البسمة المتحدية المدلهمة على سماته عدا وضحت للذيب القانص لتحركات وإماءات النقيب.. عقد حاجبيه مصغر عيناه مستفهم مما يقصده الاخر في بسمة انتقامية مؤكدة.. وهو مقبل على الموت!!
تناهى صوت سطام وهو يشعل سيجارته، ببرود: يلاه قدك بتشوف اخوياك الّي سبقوك.. مثلك مثلهم.. يرمونكم رمية الكلب تحت مواطئ الاقدام.. هذا هو الشرف والعز الّي يغسلون مخكم به!! انشهد انكم ***** و ****.
عقّب عبد الملك بهزء: يبون الحور العين.. طال عمرك!
ضحك وقد بات أكثر انتشاء.. رد من بين ضحكاته.. مستخف مستحقر: هذي علومهم!! صـحونـ### ما تدري شلون تشتغل عقولهم.. لعنة الله عليكم!
نطق ذياب بهدوء الارداف.. فهو لا يحبذ ضياع الوقت.. بل انتهاز الفرص بالقضاء على كل متسبب خائن، جاسوس.. ليسفك دمه أمام ناظريه متشبع.. منتقم.. ومنتشي..  فهو من وضع مصير الحسن.. ليرتوي وهو يرى الاخر طُعم للكلاب المسعورة.. ويوفي بوعود أطلقها في ازمة تسريب معلوماته.
-أبو ماجد!!
هز رأسه بفهم مطلب الاخر في تعجيل الأمر: ابشر يبو السلاطين.. يلاه الساحة لك.. دربك خضر.. اقدم.
ثم تفوه سطام موجه كلامه للحسن: تبي تقول شيء قبل ما ناخذ روحك!؟
بزغ أسفل قامته بـ امتهان إليهم جميعًا.
اشتدت قبضات الحرس على كتفيه.. ولكن سريعًا ما رقّت.. حين سماع صوت رشاش يأمر وهو يتأهب للوقوف: اتركوه.. وابعدوا.
نفذوا كما أُمروا.. مبتعدين.. مشتتين في زوايا المكان.. تقدم بخطوات تشابه خطوات الذيب المنقض على فريسته.. بلباسه الأسود " بنطال أسود.. وقميص بلون الليل يحدد عضلات صدره وكتفيه" ويقبع فرده في محزم الكتف الجلدي.. تصلب إزاءه.. كانت حدة النظرات من الاثنين توضح الاشتعال القائم.. ضرب على كتفه بـ أخمص فرده. وقدمه تركل ساق الحسن.. خفضت قامته على الأرضية بألم وتهالك.. واثناء ذلك كان يتكلم ببرود ولكن حدة الحروف توضح جدية رغبته: وثقوه بفيديو وهو يلتقط أخر أنفاسه.. عشان الكل يشوف مصير كل خائن وجاسوس.. ويعرفون وش مقدمين عليه لاطلبت منهم مهمة.. ابي الفيديو ينتشر على النت.. وننكس رؤوس من خلفهم.. على رجالها الّي نتلهم تل بلا رحمة أو شفقه.. ونجعلهم طُعم للكلاب المسعورة.
تراجع ذياب للخلف قرابة الخمس خطوات.. نظر الى الحارس الذي يمسك بـ آلة التصوير.. رمش بإيجاب.. لتتوجه الكاميرا على الحسن ولا شيء سواه.. على الرغم من الألم الذي يشعر به.. ولكنه رفع رأسه بشموخ واعتزاز كناية عن ثبات ولاءه لوطنه وحكومته الرشيدة.. ولسانه يهمس بالشهادة.
ومن غير مقدمات أطلق عيارين ناريين.. أصاب احداهما معدته، والأخر فخذه ليسقط بصرخة قد كتمها من بين نزيف دمه الذي ساح وأهرق.. واهتزاز جسده الذي يتلوى بألم مضني.. وأنينه المبحوح الذي يكتم بعضه وتارة يتعالى رغمًا عنه بلا قدره على حبسه.. صرخ ببحة عميقة معذبه وبقوة بأس وإقدام: ا..ر..مي.. ارمي.
ولكن لـ رشاش نظرة أخرى كان يريده أن يستشعر الموت البطيء.. أن يذرف المزيد من الدماء.. ليخلف بركة من الدماء الجارية.. فيشبع بها غليله.
حرك ذياب فرده للحرس فأفلتوا الكلاب المفترسة صوب جسده.. وبدأت في نهشه حي.. فتعالت صرخاته الرجولية تضج المكان.
ظل ذياب متصلب في مكانه.. عاصب يديه خلف ظهره.. يحدق في عملية الافتراس القائمة.. بذلك اللحم الذي يتاكل وينقشع الجلد عن العظام.. وتزداد صرخات رجولية ونباح الكلاب.. كل ذلك لم يحرك فيه ساكن.. بل شيء من حالة اللذة والنزعة المشتهية.. تكونت في مكنونه.
القتل لا يقتصر على نزع الروح من جسدها، ولا على المعارك الحربية، هناك قتل يومي يحدث بصور مختلفة، وفي أماكن تنتشر بها الورود، والابتسامات، قتل متكرر يميت النفس، ويبقى منها الحركة فقط.. كما موات الضمير.. والإنسانية.
وبدأ سطام وعبدالملك اكثر لا مبالاة وهم يتجرعون المشروب الأخضر.
....
صرخت بحسها الأنثوي مستنكرة مما يُعامل معها.. متقدمة ناحية الدروع البشرية.. والأسلحة العديدة الممدودة جهتها.. وتتحرك باندفاعية ناحيتهم: من أنتم عشان تتعاملون كذا معي..  ما تعرفون مين أنا.. هااه!
نطق احدى الحرس الواقع في المقدمة.. وقد كانت ضرباتها توجه إليه: حذرتك تبعدين عن طريقنا! تراجعي.
وحين لم يجد أي استجابة منها.. سوى عناد وشراسة.. حاول دفعها.. إلا أن سريعًا ما منعه حارس من حرس سطام كان قادمًا من الداخل بعد أن علم باشتباك مع "العمة".. صرح باشتداد: هذي العمة بنت طويل العمر.. لا تمد يدك عشان ما تفقدها.. ارخوا اسلحتكم وتراجعوا للخلف.
-هذي أوامر كلفنا بها رشاش.. عندك أي اعتراض!!
صاحت باندفاع حانق وساخط لهذا الاسم الكريه المقيت.. جال في خلدها مظهره الذي تبغضه: أي عندي اعتراض.. يا ***** و*****... يا زباله أنت وهو.. انقلعوا عن طريقي....
انخفض صوتها تدريجيًا وهي تسمع نبرات رجالية تعرفها قادمة ناحية البوابة.. فخفضت الأسلحة وابتعدت الأجساد عن الامتزاج.. وشيد الطريق أمامها.. فسيح لأن تخترقه.. فتقدمت وحين أراد ذلك الحارس منعها.. الا أن حارس سطام أبعد يده.. فتقدمت بعد أن ركلته في ساقه.
ليلة مدلهمة.. نفوسٌ مشركة.. كنوده، وموحشة تقطن هذا المكان.. رائحة الخساسة والضمائر الكفيفة.. الباغية.. تسوده.. الليل الشامل.. كل شيء يحيطها.. قد تهالك في الظلمات.. في قلب هذا الغيهب.
توقفت في منتصف البهو.. حين رؤيتها لهم قادمون.. كانت نظراتها متسائلة.. مستفهمة.. ومعالمها تزيد بهتان.. ومقت.
موجهة قولها لـ عمها.. بنبرة منخفضة: وش سويت فيه!! وش سويت فيه يا سطام.. قتلته!؟
اشتدت معالمه بقسوة.. وتلاشت ابتسامته الساخرة.. ويده تغوص في خصلات شعرها.. ليشده بعنف.. ويرفع رأسها مستوى نظره: ايه قتلته يا ****.. خليت الكلاب تنهش لحمه هالّي محتزمه به.
كانت نظراتها الباسلة لا تلين كما السابق.. تبادله جبروت بـ جبروت.. ردت بغيض وابتسامة حاقده رسمتها بضغينة.. وأسنانها قد رجفت مما سمعته: انهيته وقريب بتنتهي.. تأكد من هالشيء.. وقتها بتفرّج شامته وكلي فرح وسعادة فيك.. وفي الّي معك...
بترت كلماتها، متأوهة حين ناولها صفعه دامية.. حتى سمعت صرير أذنيها.. وأحست بأن الدنيا تطوف من حولها.
صاح عبدالملك: طال عمرك!!...
بلع ما تبقى من الكلمات.. لما سمع عقيرة سطام المنفعلة ويزيد ضغط على فروة رأسها مستشعرة بصداع فتّاك: تهددين عشان واحدٍ سافل.. واطي.. ****.. ملعون والدين.. ارخصتيني لجل نفسك.. ولجل ولد الحرام الّي ببطنك يالجحوده!! عاملتك أحسن مما عاملت ولدي.. بس **** بنت **** وش ارجى منها!!
صاحت بعالي صوتها نافرة.. غاضبة وساخطة.. وهي توجه لكماتها على صدره بانفعال متوحش: لا ترجى مني شيء.. غير نزع روحك يالـ *****.. اكرهك.. اكرهك...
قذف بها بقسوة.. فصاحت متوجعة متألمة.. حين ارتطم ظهرها بصلابة الأرضية.. وأزداد علو صراخها وهو يوجه ركلاته على جانبيها: مثل ما خذيت روح الكلب الخسيس.. باخذ روح ولد الحرام... يا ****....
وانهال عليها بالشتم والركلات العنيفة على جسدها.. الا أن سرعة تدخل ذياب أوقفه.
ارتفع صوته في تهديد ووعيد: ابعد من قدامي.. لا اثور فيك!
صرح بتهدئة للأخر الثائر بتجهم: ولدها بيفيدنا.. ركز معي!
اشتدت معلمه بلا استيعاب لما يقوله الاخر: وش تقول أنت.. اذلف!!
-بيفيدنا يا بو ماجد.. لا تتسرع.. الحكومة ما راح تتركه.. هذا طوق النجاة لنا.. اتركه يعيش.
توقفت عدستيه بتفكير فيما يقيل.. حتى لمعت عيناه باسوداد قاتم ودهاء صارم.. ونظراته تقع عليها ثم في عيني الذيب.. شد قبضة يده في اخماد لنار السعير التي تتشعب بمنتصف صدره.. ابتعد وقد أعطى الأوامر للخدم بمعالجتها على الفور.
لم يبقى سواهما.. هي وهو.. لا تزال ملقيه على الأرض وتنزف الدموع نزف كل ما فعلوه بها وما سيفعلونه.. أيها القساة.. يا جبابرة الأرض.. وتجار الدم.. وسماسرة الخراب.. يا من شوه الإنسانية وعوضها بشيطانية دنيسة.
اخفض قامته مُمدد يده لمساعدتها.. الا أنها ابعدتها.. باصقه في وجهه.. وهي تردف حروفها بحنق لاذع: خسيس ونذل.
مسح وجهه.. متصلب.. ينظر الى شرار عيناها.. كان فيها شيء من الانتقام الذي لم يعهده منها من قبل.. لقد تبدّلت، ولم تعد كما كانت من قبل، لم تعد كما كانت غانية بسامة الثغر.. ألم يرَ وجهها ساعة غضبت؟ ألم يشهد تقاطيعها تتقلص عن كره وحقد؟!
وبقيا يتبادلان النظرات حتى اختفت عن نواظره محمولة من الخدم.

****

دوريات الأمن تحف المشفى.. ركائز بشرية تقف في كل حدبٍ وصوب.. بلثام أسود، شبيه بجوارب صوفية تخفي رأسهم. فلا يذر من وجوههم سوى ثلاثة ثقوب يتحدثون ويرون بها، دون أن يُعرفوا. في حين قدمت شخصيات من كبار مسؤولي أمن الدولة.. فور وصول خبر استشهاد "النقيب" بطريقة اقل ما يقال عنها شيطانية دنيسة.. بشعة.
اصطفت المراكب في المواقف المحروسة من أي دخيل للنظم العسكرية.. وها هو قد قدم.. توقفت سيارته أمام المشفى والتي تقاد من قبل احدى أفراد الامن.. خرج سريعًا دون أن يرد بالتحية العسكرية لذلك المسلح الذي قام بفتح الباب له.. كانت خطواته حثيثة.. تتبعه اقدام رجاله.. الموثقين بأسلحة مجهزة لأي انطلاقه أو اشتباك قد يحدث. كانت معالمه خالية تمامًا من أي تعابير.. جامدة جمود يذيب الصخر.. حدة عيناه القاتمة يغشاها احمرار فيه من القهر ما يفتك كل صبرًا قد تحلى به، ومن الغضب ما يذهب كل حلمًا قد تجمل به، ومن الحزن ما يفيض ويزيد على همّاج العينين.
رجف خفاقه رجفة الرهبة.. تمزق القلب وتفطره، وتغلغل في مسام الجلد منفجرة.. أشبه بحشرجة مكتومة.. تبعثر أي كلمة قد تعبر عما دوى من شعور. وهو يعبر ذلك الممر المهيب المؤدي لغرفة التشريح.. استقبلوه الرموز الأمنية ذوي الرتب المرموقة.. يتبادلون معه التحية العسكرية.. ويقومون بواجب العزاء بينهم: عظم الله أجرنا في شهيد الوطن.
فيرد باشتداد الكفوف.. وبأعين ثابتة لا تومض.. وبنبرة مغلظة: البقاء والدوام لله وحده.. جزاك الله خير.
بعد أن أنهى السلام.. أكمل سيره وكل ما فيه ينزف بكاءً عميقًا ويصرخ صرخات الألم.. وتقف غصة متكورة سحيقة تلذع بلعومه.
صادف رائد الذي خرج من غرفة التشريح.. مرتدي الكمام الطبي.. كانت معالمه توثق ما رآه.. تغشى عيناه الدموع الشديدة التي يصعب إخراجها بلا انتحاب.. انهار داخلهما تمامًا، لم يدور في خلدهما بتاتًا أن يجتمعا في تلك الغرفة تحديدًا.. وأمام جثمان أخيهم الروحي.. تبادلا نظرات الانكسار وصهال الروح تصهل، وتذوي.. تعبر سنين الانس والصعاب.. الضحكات والاحزان.. السفر والرحلات.. فتزداد عملية التعذيب عسرة.. وبكاءهم بكاء الكليم يواصل نحيبه، ويفيض عن حاجتهما.. يفيض عن كل شيء.. ليروا لياليهم تبحر في مسامهم كما لو كانت مراكب تسابق بعضها بحثًا عن شاطئ قريب، وترتد لعمق البحر حين تجد أن الشاطئ محاصر بالصخور العملاقة.
اقترب رائد.. يمسح محاجره بطرف شماغه.. ثم شدد على كف مشعل ويطبطب على كتفه: البقاء لله.. عظم الله أجرك في أبو زيد.
بلع ريقه بصعوبة.. واحتدت عدستيه بوجل ومهابة الكلمات الملقاة.. ولكنه أردف بهدوء رصين الا أن حروفه يكسوها سواد غاشم وطاغي على المخارج: لله ما أخذ، وله ما أعطى.. بارك الله فيك.
انسحب بعدم رغبة بتبادل كمية من كلمات الفقد المريرة.. وقد تناول الكمام من حارسه.. ولما ذلف للمشرحة.. ترقب ببريق العين وحدتها.. ونبضات القلب الصنديد تزداد خفقها.. هيئة عديمة مغطاة ببياض.. شد على كفه في استجماع شتاته.. أكمل مشيه وكل ما فيه ينفر من حقيقة تضاربت بباطنه.. تصلب أمام الجثة اللامرئية بسبب غطاء يكفنها.
تراعد كل ما به.. وزاد الفؤاد من الضخ.. وهو يبعد الغطاء بوجْد عن مرأى العين ليكشف عن جثمان مشوه بالكامل. توسمت ناظريه بصدمة هلكت روحه المتجلدة.. فرجفت شفاهه.. واشتدت معالمه لتسقط دمعه اهتز لسقوطها كيانه.
ارتمى على رأسه لاثمه.. أغرق وجهه ودموعه فيه، وكأنه يسدي شيئًا من الحياة.. وكأنه يشاركه معه حياته ما دام لم يشاركه معه موته.. هو الذي جاء به الى هنا!!

Continue Reading

You'll Also Like

7.1M 72.4K 93
" اما غرام يشرح الصدر طاريه ولا صدود وعمرنا ما عشقنا " للكاتبه / صدود ..
956K 16.3K 39
اللي اشوفه ظلام بوسط انوار ، مااسمع بس اللي حولي يتراقصون ع انغام اغنيهه مفرحه ، امي وصديقاتي وبنات عمي وخالي حولي بس مو قاعده احس فيهم خالي وخالتي ي...
406K 19.2K 32
احبك مو محبه ناس للناس ❤ ولا عشگي مثل باقي اليعشگون✋ احبك من ضمير وگلب واحساس👈💞 واليوم الما اشوفك تعمه العيون👀 وحق من كفل زينب ذاك عباس ✌ اخذ روحي...
5.6M 44.8K 83
لمحت في شفتيها طيف مقبرتي .. تروي الحكايات ان الثغر معصية ( للكاتبه : طيش )